أفكار شقيّة

فلسطين أفق حضاري

بريطانيا انتزعتنا من فلسطين؛ التعليم الرسمي انتزع فلسطين منا، انتزع فلسطين الأصالة واستبدلها بفلسطين الوهم مما أوصلنا إلى طريق مسدود نعيشه الآن. فلسطين الوهم صممها ‘سايكس’ و‘بيكو’، ويتابع البنكُ الدولي بناءَها بشكل ممسوخ منذ 1993. حدّدوا جميعا إدراكنا لفلسطين إذ أصبحت الحدود التي وضعوها هي الحدود التي ندعو بطول العمر لها.

الفكرة الأساسية في الرؤيا التي أقترحها لإدراكنا لفلسطين تتلخص في الجمع بين الجذور وأفق حضاري واسع، بين فلسطين الأفق وفلسطين الأصالة، بين فلسطين الأهالي وفلسطين الجيران باللسان والجغرافيا. يصف ‘الرومي’ العيش بفرجار حيث أحد ساقَيْ الفرجار ثابتة والأخرى دوّارة. فلسطين الحضارة تعني ساقٌ لنا في فلسطين وساقٌ تحلّق بالأفق. ‘الرومي’ نفسه ينتمي إلى الأفق الحضاري لفلسطين. انتزاع أنفسنا من فلسطين الوهم واستعادة فلسطين الأفق الحضاري هو التحدي الأكبر الذي نواجهه حاليا. وهذا يعني التوقف عن العيش بين الأغصان، والغوص مرة أخرى في الجذور – صورة أخرى رسمها الرومي.

الأفق الحضاري هو نقيض العولمة؛ هو باحة مضيافة رحبة منعشة مغذية حاضنة، فيها محبة وألفة ولا توجد فيها مقارنات على خط عمودي. السر في الأفق الحضاري يكمن بالخلطة. العولمة، في المقابل، تعني سيطرة مركزية احتكارية على العالم. الأفق الحضاري نقيض ‘الدولة الوطنية’ nation state لأنها مصنّعة مركّبة تخدم بنهاية المطاف هيمنة رأس المال. سلاح أساسي في الأفق الحضاري استعادة مقوّمات حضارية طمسَتْها فلسطين الوهم. جزء هام من المقومات يتمثّل بكلمات حيّة مغذية متنوعة وغنيّة في معانيها؛ معانٍ بطبيعة الحال ليست أحادية ولا عالمية ولا نهائية ولا دوغماتية ولا محدودة. في المقابل، سلاح أساسي بِيَد العولمة كلماتٌ مؤسسية لعل أخطرها التصنيفات الأكاديمية. تشمل الكلمات النابعة من الحياة: تأمُّل، اجتهاد، حكمة، عافية، كرامة، مجاورة، تناقُش، مثنى، كما تشمل المقومات مقولات حبلى بالحكمة والعافية مثل، قيمة كل امرئ ما يحسنه، أنت ما تبحث عنه، المعرفة بيان وتبيين، ما بعد الصواب والخطأ يوجد حقل لنلتقي هناك، ليحب بعضكم بعضا، لا فضل لغربي على أعجمي إلا بالتقوى. في المقابل، كلمات ترتبط بالعولمة ونمط الاستهلاك في العيش وتحكم معانيها مؤسسات ومهنيون وخبراء تشمل: نجاح، فشل، تقدم، تخلف، إبداع، تميز، جودة، تمكين، تفكير علمي، كتاب مقرر، كما تشمل ادعاءات عالمية كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعلوم التي تدعي الأحادية والعالمية.

‘بيت الحكمة’ في بغداد مظهر رائع لمعنى أفق حضاري. ظهر هذا أيضا في الأندلس. الوحيد بين حكام أوروبا الذي أُلْهِمَ بروح الحضارة العربية كان ألفونصو الحكيم الذي حكم طليطلة وما حولها من 1252 وحتى 1282. عندما دخل طليطلة كان مصمما على طرد المسلمين واليهود منها، إلا أن ما رآه أبهره: رأى مجتمعا حيا تتفاعل فيه الأديان الثلاثة بشكلٍ جميل، فما كان منه إلا أن غيّر خطته ودعا نفسه ‘ملك الأديان الثلاثة’ وحَكَمَ بحكمة وكتب عن تجربته تلك عدة كتب. يا ليت إيزابيلا أُلهمت به، لكان وضع العالم حاليا غير ما هو عليه الآن. إيزابيلا اختارت النقاء الديني بدلا من التعددية كقيمة جوهرية، مما أدى إلى إخراج كل من رفض من المسلمين واليهود التنصر، من اسبانيا. ذهب عدد من اليهود إلى شمال أفريقيا وآخر إلى دول أوروبية كهولندا حاملين في جعبتهم تجربة الأندلس. كان اليهود من القرن 16 وحتى 19 من أكثر الفئات ذات أفق حضاري بأوروبا. تصوروا لو اتبعت الحركة الصهيونية روح الأندلس التعددية بدل الأيديولوجية الفرنسية الانكليزية! لو فعَلَت ذلك، لكانت فلسطين اليوم حالة ملهمة لعالمٍ غاطس في وَحْل الفكر الأحادي العالمي الذي هو وليس الدين مصدر الأصولية السائدة حاليا.

البحث في الجذور

أود أن أتابع التفكّر في قول ‘الرومي’ (الذي ذكرته بمدونات سابقة) لأهميته القصوى كبوصلة في وقتنا الحاضر: ‘ربما تبحث بين الأغصان عما يظهر فقط في الجذور’. قرأت الكثير من رسالات الماجستير والدكتوراه في التربية، لا أذكر أيا منها بحَثَ في الجذور! بقاؤها بين الأغصان كان برأيي سبب فشل محاولات تحسين التعليم على مدى سنين. المزارع الذي يهتم بأغصان أشجاره ويهمل جذورها لا يلبث أن يجدها تذبل وتموت. إذا استمرينا في سعينا لتحسين الكتب المقررة وتطوير المناهج وتحديث أساليب التدريس، وأمور مثل الحق في التعليم وجودة التعليم والتركيز على حشر المعرفة بكتب مقررة، وتقزيم قيمة المرء إلى رقم، وتغييب التأمل والاجتهاد والسياق والفعل في بناء معنى ومعرفة وفهم… أي إذا أهملنا الجذور، سنجد أنفسنا في نفس حال المزارع الذي يهمل جذور اشجر، حيث نذبل كبشر ومجتمعات وطبيعة ويصبح من الصعب استعادة حيويتنا وقدرتنا على توليد ذاتنا وتوليد الحياة. معظم الدول حول العالم تعمل على تغيير التعليم على صعيد الأغصان. يكمن الحل في العمل على صعيد الجذور والذي يبدأ باستعادة إدراكنا للتعلم كقدرة بيولوجية، واستعادة ما يحسنه المرء كمصدر قيمته، واستعادة التأمل والاجتهاد كنهجٍ في تكوين معرفة وفهم. تدريس الرياضيات عبر رموز ونظريات وبراهين، دون سياق وفعل، سيبقي معرفتنا مقتصرة على معلومات ومهارات آلية ضحلة متفرقة، نعيدها كالببغاوات ونمارسها دون دلالات ودون صور في الذهن ودون القدرة على رؤية تداخل الأبعاد ووعي العلاقات. ما تعكسه العلامة هو مدى استعداد الشخص على القيام بما يملى عليه دون سؤال ودون معرفة لماذا، أي على مدى عبوديته الفكرية ومدى افتخاره بها! كتبت أكثر من مرة حول إنشاء جامعات حول عبارة ‘الإمام علي’ كرؤيا، لكن المسار الذي سلكناه بمنطقتنا منذ ‘محمد علي’ تمحور حول أن نكون نسخا وببغاوات للقبيلة الأورو-أمريكية؛ ما زلنا نضع جهدنا ووقتنا وأموالنا في تحسين الأغصان وإهمال الجذور.

خرافة التطور

عام 1870، لم تكن مصر محتلّة عسكريا بعدْ؛ احتُلَّت من قبل بريطانيا عام 1882. لكن كانت عقول حكامها محتلة بما هو أخطر من الاحتلال العسكري ألا وهو الاحتلال الإدراكي. بإمكان المراقب الذي يبقى بين الأغصان أن يرى التحديث الذي أدخله إسماعيل (خديوي مصر آنذاك) كقصة نجاح وأن يأخذ قوله التالي مأخذ الجد: ‘إن بلدي لم تعد في إفريقيا، نحن الآن أصبحنا جزءا من أوروبا’. في نفس الوقت تقريبا أُنشِأت الجامعة الأمريكية في بيروت (عام 1866). بإمكان المراقب الذي يبقى بين الأغصان أن يرى ما أدخلته الجامعة كقصة نجاح بانين ذلك على تطور وتقدم على صعيد الأغصان.

كفلسطيني تحيط به منذ بداية السبعينيات مستوطنات من كل الجهات، بدأْتُ منذ سنين ألاحظ وجه الشبه والعلاقة القوية بين المستوطنات العسكرية والمستوطنات المعرفية. أعرف الجامعة الأمريكية في بيروت معرفة جيدة. درست فيها من 1958 وحتى 1962 وحصلت على بكالوريوس بالرياضيات (وتخصص فرعي بالفيزياء). درست ما أُملِيَ علي بكل إخلاص، معتقدا أن ما تقدمه هو طريق التطور. أنظر إليها الآن كأول مستوطنة معرفية إذ شكّلت البيئة التي حولها (بلاد الشام) على أصعدة عدة أخطرها وأقلها وضوحا الصعيد الإدراكي المعرفي. حدّدت ما يُعْتَبَر معرفة وما ليس بمعرفة، كما حدّدت من له الحق أن يدخلها ومن هو مرفوض. حددت الوسيط المقبول للتعلم، والمعيار المقبول لقيمة المرء. غيّبت معارف لا يمكن السيطرة عليها من قبل مؤسسات ومهنيين مرخصين، مثل معارف تنبع من خبرات وتجارب وتأملات واجتهادات وقراءات متنوعة. لم تسمح للحكمة بدخولها، رغم أنها (أي الجامعة) موجودة في منطقة كان اسم أول جامعة فيها قبل ما يزيد عن ألف سنة ‘بيت الحكمة’. ولعل أسوأ ما أدخلته تلك المستوطنة هو الإدعاء بأن معرفتها أحادية عالمية، والتي تتمثل بوجهٍ خاص بعلوم القبيلة الأورو-أمريكية. كمثال، رفضت اللجنة المشرفة على رسالة الدكتوراه بجامعة هارفارد أن تقبل أمي مرجعا معرفيا كما رفضت اعتبار الانطلاق من خبرات وتجارب بأوضاع حقيقية، وتأمُّلٍ واجتهادٍ فيها لتكوين معنى ومعرفة وفهم. أصرّت اللجنة على ضرورة إتباع منهجية ‘علمية’ لتكوين معرفة إذ يمكن عندها السيطرة عليّ بينما لا يمكنهم السيطرة على تأملي واجتهادي. منذ عام 2006، بدأنا نرى مستوطنات سكنية ومعرفية فلسطينية في الضفة الغربية. كان عدد طلبة جامعة بيرزيت خلال عقد السبعينيات بالمئات؛ كانوا يقلقون سلطات الاحتلال أكثر من ربع المليون الموجودين حاليا في الجامعات! ماذا يقول هذا لنا؟

زهرة اللوتس مقابل رمزالفاسسيز

شكّلت الرموز عبر التاريخ عاملا قويّا في تصرفات الناس والحكومات. سأختار رمزين: ‘فاس-سيز’ (الرسمين الأولين) و‘زهرة اللوتس’:

شكّلت ‘زهرة اللوتس’ شعار حضارات عديدة كالمصرية والفارسية والهندية؛ بينما شكّل رمز “فاس- سيز” [ fascesوتُقْرَأ fas-ces ، اشْتُقَّت منها fascism] شعار الإمبراطورية الرومانية، وتستعمل حاليّا في دول أوروبية (كفرنسا وإيطاليا والسويد واسبانيا)، واختارها موسوليني شعاراً له. كما نجد الرمز حاليّا ضمن شعارات في الولايات المتحدة (كالتي تظهر في الرسمين على اليمين). لعل أروع ما يميز زهرة اللوتس، إضافة إلى جمالها، أنها تنبت بتربة طينية عكرة، تخرج من وسطها دون أي أثر للأوساخ فيها وكأنها تطهّر وتنقّي الأوساخ فتظهر فوق الماء نظيفة جميلة وباعثة للأمل. أما ’فاس- سيز‘ فهي عبارة عن رزمة عيدان مربوطة معاً، وعلى رأسها بلطة. ربط العيدان معا يكوّن وحدةً بالقوة، ودور البلطة معاقبة كل من يحاول الخروج من الرزمة؛ أي عمل بلطجي بامتياز.

أول مرة انتبهت للزهرة كان في معبد الكرنك بالأقصر بمصر. ثم انتبهت إلى وجودها في آثار ‘بيرسيبوليس’ قرب شيراز بإيران. ثم في معابد للبوذيين في الهند وماليزيا. وكانت أول مرة انتبهت للفاس- سيز في Memorial Church بجامعة هارفارد. ثم رأيته على الكرسي التذكاري لأبراهام لنكولن، وعلى الختم الرسمي للولايات المتحدة (المبيَّن بأعلاه).

من أحلى ما جسّد روح ‘زهرة اللوتس’ هو ما حدث في ميدان التحرير بالقاهرة: ما حدث خلال ال 18 يوما (ثورة 25 يناير) شبيهٌ بما تفعله زهرة اللوتس بطبيعتها. خرج المصريون بطبيعتهم، دون مساعدة من أحد، من مستنقع مليء بالوحل والأوساخ، خرجوا نظيفين دون أي أثر للتلوُّثات التي انصبّت عليهم عبر الأيديولوجية الحديثة. أبهروا العالم وألهموه وحرّكوه بجمالهم وروحهم. أَلَمْ تكن تلك الأيام تجسيداً واستمراراً لروح مصر عبر آلاف السنين، تجسيدا لأفق حضاري انتعش من جديد وملأ عبيقه الدنيا، في نفس مصر التي ما زالت زهرة اللوتس تزيّن آثارها وطبيعتها حتى الآن؟ أهي صدفة أم قدر؟ أم أن روح مصر لم تمت أبداً في العمق؟ مصر التي كانت منارةً للحكمة عبر مكتبة الاسكندرية قبل أن يحرقها أتباع أباطرة روما. نشهد الآن أباطرة روما الجديدة (واشنطن) يحاولون حرق مصر. التاريخ يعيد نفسه بشكل مذهل. ضروري قراءة ذلك التاريخ بعيون مصرية شابة. جدير بالذكر أن رافعي شعار ‘فاس- سيز’ شعروا بخطورة الزهرة مما جعلهم يضعوا مقوماتهم العسكرية والمالية والإعلامية لطمس روح الزهرة وقتلها. ربما تُطْمَس لفترة ثم تعود إلى الغليان كفوهة بركان. هنا تكمن أهمية الأمل كقوة اجتماعية يملكها الناس… نحتاج إلى تجنب أي شيء يسعى لطمس الأمل فينا.

* * *

سهولة خداع العقل

منذ بداية السبعينيات وأنا أتأمل في أمر لاحظته وحيّرني كثيرا: سهولة خداع العقل. هناك أمثلة كثيرة ذكرت بعضها في مدونات سابقة. في هذه الخاطرة أود أن أذكر مثال عشناه في بلاد الشام منذ مائة عام وما زلنا مخدوعين به!

اجتمع ‘سايكس’ و‘بيكو’ عام 1916 وقسّموا بلاد الشام إلى أربع دول. اجتمعوا سرّا لعلمهم أنهم يقومون بعمل مجرم. الآن، بعد مائة عام، نجد أنفسنا ببلاد الشام نحتفل بالجريمة! نتكلم في فلسطين عن الهوية الفلسطينية متناسين فلسطين قبل سايكس-بيكو كانت ذا أفق حضاري واسع متنوع عميق جمع بين أديان ومذاهب وأنماط عيش لا تجدها عادة إلا في قارات! كذلك، يُرفَع في الأردن شعار ‘الأردن أولا’ متناسين أن سر حيوية وعافية أي مجتمع يكمن في علاقاته مع من وما حوله. كذلك، يشعر بعض من في لبنان بأنهم جزء من فرنسا متناسين أن فرنسا كانت أول دولة وضعت حدودا قاسية حولها وخلقت مشاعر فوقية سممت العلاقات بين الشعوب… تجدنا نفتخر ونحتفل حاليا بما لم يجرؤ سايكس وبيكو على إعلانه جهارة!! كان التداخل والتفاعل في بلاد الشام عبر التاريخ لا حدود له، ومتجدد باستمرار. كيف نفسر الانحطاط الحالي حيث نفتخر بوضعٍ صمّمه مجرمان – سوى سهولة خداع عقولنا؟ أكثر ما ميّز بلاد الشام هو روح الضيافة. كان الأهالي يتزاورون ويُرحَّب بهم. أصبحنا منفصلين عبر شرطة حدود تمنع الحركة وتسيطر على الدخول والخروج، وندعو ذلك تقدما ورقيا واستقلالا! حتى ‘محمود درويش’ وقع مثلنا جميعا في مستنقع سايكس-بيكو إذ قام بصياغة وثيقة ‘استقلالنا’ عام 1988 وفق الخريطة التي وضعها مجرمان. جدير بالذكر أن الحدود التي رسماها جغرافيا شملت فيما بعد حدودا اجتماعية فكرية ذهنية اقتصادية روحية ثقافية!

في نقاش بين ‘غاندي’ و‘نهرو’ (أقرب تلاميذه له)، احتدّ النقاش فسأل نهرو غاندي: ‘أليس هدفك إخراج الانكليز من الهند؟’ ردّ غاندي: ‘خوفي الأكبر أن يخرج الانكليز وتبقى مؤسساتهم’. المشكلة في العمق لا تكمن في الأشخاص بل في المؤسسات. خرج الانكليز والفرنسيون من بلاد الشام وبقيت مؤسساتهم تعيث فسادا: يسلبنا التعليم الرسمي الذي جلبوه قدرتنا البيولوجية في التعلم؛ يسلبنا السيفون الماء والفضلات والتربة ويلوث البيئة؛ وتسلبنا فكرة الدولة الوطنية أفقنا الحضاري الواسع الذي كنا نجدل فيه أنسجة على أصعدة شتى؛ تسلبنا البنوك مقدّراتنا بما في ذلك مستقبلنا. خرج الانكليز والفرنسيون من بلاد الشام وبقيت أوهامهم وخرافاتهم تعشش داخلنا وتهزمنا في العمق دون وعي منا. أهملنا الجذور وانصبّ همّنا على الأغصان. نتكلم عن التفكير النقدي وننسى أهم ما يميزه: التفكير ضمن سياق ترافقه أفعال ويهدف إلى جدل أنسجة لا إلى تمزيقها.

العقل الذي لا ترافقه حكمة، من السهل خداعه. الحضارات التي سبقت القبيلة الأوروبية كانت الحكمة رفيقة للعقل. ما فعلته تلك القبيلة وضعت العقل على العرش وسجنت الحكمة. العقل عضو قوي جدا، يستطيع فِعْل الكثير، لكنه غير محصّن. المعدة محصنة، إذا دخلتها سموم تتقيّأ. العقل لا يتقيأ مهما دخله من سموم. لهذا علينا استعادة الحكمة كرفيقة للعقل؛ هي بوصلته.

عام 1947 تمّ افتتاح نقل أول حمولة من النفط من الكويت إلى أوروبا. عندما قصّ أمير الكويت عندئذ الشريط قال ‘هذا خير، كفانا الله شرّه’. قولٌ حكيم، إذ جزء هام من الحكمة هو النظر في العواقب وليس فقط في المكاسب. حكمة فقدناها نتيجة انغماسنا بنمط الاستهلاك في العيش. لا أمل للبشرية في البقاء والاستمرار واسترداد العافية دون استعادة الحكمة.

مستوطنات معرفية

منذ 1967 أَنْظُرُ إلى فلسطين كمجهر يساعدنا على رؤية ما يجري حول العالم، كما أنظر إلى الرياضيات (بعد تحرري من مفهومها المهيمن والقيم التي تخدمها) كقدرة على ملاحظة وجه شبه بين ظاهرتين مختلفتين (أو أكثر) يتمثّل في أغلب الأحيان بالمنطق الخفي الذي يحكمهما. هذه الصفة للرياضيات مغيّبة من المدارس والجامعات التي تسير وفق قيم السيطرة والفوز. بناء على هاتين الملاحظتين أرى الجامعات في بلادنا (سواء أكانت أجنبية أم ‘وطنية’) كمستوطنات معرفية، يشبه منطقُها وفِعْلُها المستوطنات العسكرية. عشت عن قرب، وما زلت، عبر عقود، مع النوعين من المستوطنات. ليس بالإمكان التحرر من الاحتلال العسكري بدون التحرر من الاحتلال المعرفي. عندما نضع اللوم على سياسيين وحكام فقط فإن ذلك يفقدنا الانتباه إلى الاحتلال الأعمق ألا وهو الاحتلال المعرفي الذي نعمّقه كمتعلمين دون وعيٍ منا، والذي يبدأ من الصف الأول ويستمر حتى بعد الدكتوراه. أنا كمثال: كنت مجنّدا في ‘فيلق الرياضيات’ وبليت فيه بلاء حسنا في ترسيخ الاحتلال المعرفي. فعلت ذلك بنية حسنة وقناعة تامة بأن ما كنت أفعله خير. نرى إسهام حاكم في تعميق احتلال عسكري مرئي، بينما لا نعي ما نفعله كمهنيين وأكاديميين ومستشارين وخبراء من تعميق احتلالات خفية، على صعيد الفكر والإدراك والأفعال والعلاقات. عندما نتكلم عن الرياضيات والعلوم وغيرهم وكأنهم نعمة، معتقدين أنهم معارف عالمية، يكون الوضع أخطر بكثير، إذ عندها نكون جميعا مجندين لتعميق الاحتلال دون أن ندري! ما يجعل العلوم والرياضيات المهيمنة وغيرهما معارف ضارة أكثر مما هي نافعة هو تغييب الحكمة كرفيقة لها. تغييب الحكمة هو في رأيي أسوأ مساهمة للمدنية الأوروبية في المجال المعرفي.

أرى بوادر حيوية في منطقتنا شبيهة بالحيوية التي ترعرعت في منطقتنا قبل ألف سنة، والتي ارتكزت على روح وبيوت الحكمة التي امتدت بين أصفهان وقرطبة. خطوة أولى في استعادة مثل هذه الحيوية تكمن في مقاومة المستوطنات المعرفية في دواخلنا. الحيوية لا تحتاج إلى تخطيط بل إلى بوصلة. شكلت الحكمة بوصلتنا في الماضي ويمكن أن تشكل بوصلتنا في الوقت الحاضر. المستوطنات المعرفية أخطر من العسكرية لأنها تستوطن داخلنا بينما العسكرية تستوطن حولنا. التخلص من المستوطنات المعرفية أصعب، لكن لا مفر لنا من التحرر منها في سعينا لاستعادة عافيتنا.

المستوطنات المعرفية في بلادنا سبقت المستوطنات العسكرية ومهّدت لها الطريق. أول مستوطنة معرفية في بلاد الشام كانت الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1869، تبعتها مستوطنات معرفية أخرى شبيهة، ثم أصبحت مع الوقت مستوطنات ‘وطنية’ تحمل أسماء عربية مما خدعنا وجعل إدراكنا لجوهرها (المتمثّل بأن مرجعيتها القبيلة الأورو-أمريكية) أمرا صعبا. تستوطن المستوطنات المعرفية العقول والإدراك والأفعال والعلاقات، وتختلف عن العسكرية بأنها تجعل خريجيها يفتخرون بعلاقتهم معها! ما غيبته الجامعة الأمريكية غُيِّب من جامعاتنا “الوطنية”. لا أعرف جامعة عربية مثلا تهتم بتصميم طريقة لمعالجة الفضلات بحيث لا تحتاج إلى ماء. السيفون اختراع علمي مذهل، لكن في معظم بلاد الشام كارثي غير حكيم بسبب شحة المياه.

خبِرْتُ النوعين من المستوطنات عن قرب. أرى من بيتنا برام الله مستوطنات في شتى الاتجاهات، وعندما أخرج من رام الله إلى أي مكان بالضفة الغربية أصطدم بمستوطنات يمكنها وضع حواجز تمنع مرورنا أو تؤخر حركتنا مدة تصل أحيانا ساعات. كذلك خبرت المستوطنات المعرفية إذ كنت جزءا منها: كنت مستوطنا معرفيا كمدرّس للرياضيات. أغلبنا لا يرى وجه الشبه بين النوعين من المستوطنات رغم التوافق في مهمتيهما: جسمان غريبان يُزْرَعان بمجتمعات تمتد جذورها في المكان والتاريخ والطبيعة والحضارة، وتعملان على تغيير الواقع عبر إلهائنا بالأغصان بحيث لا نرى التخريب الذي يحدث في الجذور.

تشكل المستوطنات اللبنة الأساسية في البناء الاستعماري الكولونيالي (على الأرض كما في المعرفة). المستوطنة فِعْلٌ مستمر من السيطرة التي من خلالها يسيطر نظام مركزي يملك أدوات قوة وقهر وإخضاع على من وما حوله. المستوطنات العسكرية تسيطر على الأرض والناس من حولها، بما في ذلك معاقبتهم إذا لم يفعلوا ما يملى عليهم. كذلك بالنسبة للمستوطنات المعرفية التي تضع حولها أسوارا تحدد من يدخل، وما هو هام ومقبول وتؤثر على من وما حولها حيث تصبح المدارس والجامعات ‘الوطنية’ نسخا عنها وتحوّل مَن فيها ومَن حولها إلى ببغاوات يعيدون ما يقرؤونه ويسمعونه دون سؤال ودون معرفة لماذا.

جدير بالذكر هنا أن أول ما اهتم به ‘البنك الدولي’ بعد السماح له بدخول الضفة الغربية وقطاع غزة (1994) هو إنشاء قوى أمن (للسيطرة على الأجسام) وإنشاء جامعات (للسيطرة على العقول) وإنشاء بنوك (لامتلاك المستقبل). يتوافق هذا مع ما رآه ‘نبريها’ مصمم فكرة التعليم الرسمي قبل 500 سنة والتي اقترحها على إيزابيلا. ما اقترحه باختصار هو عقد ميثاق بين اللغة والإمبراطورية. اللغة المصنعة التي كوّنها نبريها وقدمها لإيزابيلا (والتي نعرفها الآن بلغة الكتب المقررة) هي أنجع وأخبث أداة ‘سلمية’ للسيطرة والغزو والاستيلاء. قبل نبريها، كان هناك ميثاق بين البابا والإمبراطور، بين الدين والدولة، ونُشِرَت قوائم بكتب ممنوعة. فكرة نبريها أعمق وأنجع وأخبث: تكوين ميثاق بين الإمبراطورية ولغة رسمية مما جعل وضع قائمة بكتب ممنوعة غير ضروري لأن اختراع كتب مقررة كان أكثر نجاعة في منع قراءة كتب وصفها الجاحظ ببيان وتبيين، كما قلّل اختراع كتب مقررة من التحادث والنطق والإصغاء (سوى الإصغاء لسلطة) وغيّب الحكايات والأدب والشعر كبيانات هامة تجدل أنسجة مجتمعية على أصعدة شتى. أضيفَ إلى ذلك الميثاق فيما بعد، رأس المال. هذا ما خبرناه في فلسطين عندما أصبح البنك الدولي الحاكم الشرعي والوحيد. دخوله إلى مناطق السلطة الفلسطينية (1994) وضّح لي العلاقة الحميمة بين السيطرة على الأجسام والعقول والمستقبل، بين السلاح والمعرفة والبنوك. في المقابل، اللغة الحية التي تنبع معانيها من الحياة والتأمل والاجتهاد وفق حكمة وعافية هي أنجع ‘فن’ سلمي لمقاومة التخريب والسيطرة. حوّلت المستوطنات المعرفية اللغة من منطوقة ومسموعة إلى لغة صامتة ومشاهَدَة. القراءة التي تعتمد على الصمت والمشاهدة هو اختراع جديد نسبيا. التحادث والقراءة المنطوقة والمسموعة أدوات أساسية في حياكة وجدْل نسيج فكري اجتماعي. الكتب المقررة لا تهدف إلى أن يصبح الطلبة قراء بل لمنعهم من قراءة ما يغذيهم! اللغات الرسمية المصنعة أدوات ناجعة للسيطرة على الرعية في ‘دول قومية’. لغة الأم مثل حليب الأم استُبْدِلا بلغة مصنعة (اللغة الأم) وحليب مصنع (حليب شركات). تمّ ‘الزواج’ بين المواطن واللغة الأم – اختراعان متلازمان. التعليم الرسمي هو إعلان حرب ضد العقل الفطري والتعلم كقدرة بيولوجية (بمعنى لا تحتاج إلى تدريس)؛ حرب ضد كل ما يمكن أن يتم دون مؤسسات؛ ضد كل ما يستطيع توليد ذاته وتوليد الحياة. التعليم الرسمي جريمة ضد الحكمة. الزواج بين ‘الدولة القومية’ ولغة مصنعة زواجٌ لا طلاق فيه، إذ لا تستطيع دولة الاستمرار دون لغة رسمية تغزو عقول الرعية، ولا تستطيع لغة مصنعة من الاستمرار دون دولة تفرضها. أي تحرر لا يشمل التحرر من هيمنة اللغة المصنعة، لا يلبث أن يتبخر.

قولٌ لجلال الدين الرومي قبل 800 سنة: “ربما تبحث بين الأغصان عما يظهر فقط في الجذور”. ما أصدق هذا القول في وقتنا الحاضر. قرأت عشرات، إن لم يكن مئات، من رسالات الماجستير والدكتوراه في التربية بالجامعات العربية؛ لا أذكر أيا منها بحث في الجذور بل بقي بين الأغصان؛ وهذا صحيح بالنسبة لكلية التربية في هارفارد. تركّز المستوطنات المعرفية على معارف ومهارات تقنية، بما في ذلك العلوم والرياضيات، التي تنطلق من مقولات وقناعات مثل ‘العلم إخضاع الطبيعة’ و‘المعرفة قوة’ و‘البقاء للأصلح’ و‘أنا أفكر فأنا موجود’ كما ترتبط بمراكز السيطرة والمال. حتى النظرة للمجتمع كمكوَّن من ثلاثة قطاعات: مدني وحكومي وخاص، بدلا من أنه يتغذى من أربعة أنواع من التربة: تربة أرضية، تربة معرفية-ثقافية، تربة اجتماعية-اقتصادية، وتربة روحية. كذلك، هناك تركيز على أمور مثل تغيير المجتمع، وإهمال التركيز على صقل الذات بمعنى تعميق الفهم والعيش وفق الحكمة وعدم القيام بأي عمل ضار مهما كانت المغريات والمكاسب. التركيز على الذات ضمن الأيديولوجية المهيمنة يتعلق بنمط الاستهلاك في العيش، مثل اكتساب مهارات ومعلومات ومعارف تقنية أو مالية أو إدارية أو دعائية تزيد من سعر الشخص في السوق، أي على اعتبار الشخص ومعرفته بمثابة سلع مطلوبة في سوق الاستهلاك.

لا يوجد شيء احتقر البشر وخرّب الحياة في العمق أكثر من الاعتقاد بوجود مسار أحادي عالمي للتقدم. أي، ليس المضمون بل ادعاء الأحادية والعالمية والعلمية والموضوعية هو المشكلة والخطر. أعود لأوضح إعجابي بعقل السكاكيني الفطري الصادق عندما وصف التعليم بأنه إذلال واحتذاء بحذاء الغير، حيث يسعى الشخص أن يكون نسخة عن الغير، وببغاء يعيد ما هو مكتوب في كتب مقررة ألّفها من يعبرون عن مصالح من هم في مواقع سلطة. المعرفة الجاهزة تسلب الإنسان من أهم ما يميزه ألا وهو أنه مصدر معنى وفَهْم، أي أن كل إنسان شريك في تكوين المعنى. هذه الشراكة هي قدرة بيولوجية (إذ كل ما تحتاجه هو تأمل في خبرات حياتية واجتهاد في تكوين معنى لها)، وهي واجب على كل إنسان (لحماية عقله من غزو أوهام وخرافات وأمراض حديثة). هذه الشراكة ليست فقط حق بل أساس كل الحقوق (حق مُغَيَّب من الإعلانات العالمية للحقوق!). الشراكة في تكوين معنى تجسد مساواة وتعددية وحرية وصدق وربط القول بالفكر والواقع والفعل. هذه الشراكة تتضمن كرامة واحتراما مغيبين من الإعلانات والادعاءات العالمية ومن الجواب الجاهز. مقولات تتوافق مع الكرامة والاحترام تشمل “قيمة كل امرئ ما يحسنه” و”أنت ما تبحث عنه” و”ربما تبحث بين الأغصان عما يظهر فقط في الجذور” و”ليحب بعضكم بعضا” و”لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى” و”من عرف نفسه فقد عرف ربّه” و”يا مرائي، أَخْرِجْ أَوَّلا الخشبةَ من عينك، وحينئذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عين أَخيك” – هذه المقولات تترك القرار للشخص، لا يشكل أيٌّ منها جوابا جاهزا؛ أي، تعكس حكمة، التي تتناقض مع الجواب الجاهز، الذي يحوّل الإنسان إلى كسول وعاجز وعبد… (والذي ينطبق على أي ادعاء أحادي عالمي).

بدلا من هذا الاحترام، نقع جميعا في المستنقع الذي جلبته معها المستوطنات المعرفية الأورو-أمريكية والذي يتمثل في ما يسمى بال CV )والتي نترجمها خطأ بالسيرة الذاتية التي فيها كل الاحترام للإنسان). من الصعب التفكر بشيء أكثر ضحالة واحتقارا للإنسان من تعريف من هو عبر سرد المؤسسات التي كانت له علاقة بها… المستوطنات هي الوسيط الرئيسي للاستعمار العسكري السياسي الاقتصادي والذي تشكل قاعدته الأساسية المستوطنات المعرفية.

بعثتُ عام 2010 اقتراحا للجامعات الفلسطينية حول إنشاء ‘كلية’ باسم ’بيت الحكمة‘، كخطوة لاستعادة روح البيت الذي بناه العرب في بغداد وغيرها، ونُشِر الاقتراح في صحيفة ‘الحال’ بجامعة بيرزيت؛ لا حياة لمن تنادي إذ ما زلنا كما رآنا السكاكيني قبل 120 سنة ‘نحتذي بحذاء الغير’.

تاجر بضائع وتاجر معرفة

التاجر هو شخص يُحْضِر شيئا جاهزا من مكان ويبيعه في مكان آخر. لا يهمّه أي شيء سوى ما يدخله من مكاسب، مالية وغير مالية. كل ما هو مطلوب منه أوراق رسمية تشهد بأنه اشتراها ودفع ثمنها وأنه مرخص لبيعها. الأكاديمي المؤهل (سواء أكان حاملا شهادة ماجستير أو دكتوراه، وأنا منهم لسنوات عديدة)، في أغلب الحالات، تاجر يحضر مصطلحات مؤسسية مهنية وتصنيفات أكاديمية ومعارف ومهارات تقنية جاهزة ومرخصة ويبيعها ل‘زبائنه’؛ لا يهمّه شيء سوى ما يدخله من مكاسب مالية واجتماعية. مطلوب منه فقط أوراق رسمية (شهادات) بأنه مرخص ل‘بيعها’. إذا تأملنا في الأمر نلاحظ أن تجارة الكلمات أخطر بكثير من تجارة البضائع فهي تجارة ناجحة جدا للسيطرة على العقول. اختراع ‘كتاب مقرر’ وإنسان فاشل بشهادة رسمية، واللتين جاءتا عبر ‘شركات’ أجنبية (مدارس وجامعات) واستمرت عبر ‘شركات وطنية’ تحمل نفس الأسماء، مثالان صارخان لكلمات مستوردة عاثت فسادا داخل الإنسان والمجتمع. بعبارة أخرى، هناك فرق أساسي بين تجار بضاعة وتجار معرفة. تاجر البضاعة يراعي رغبات زبائنه؛ بينما تاجر المعرفة لا يحتاج إلى ذلك، إذ هناك قوانين في كل الدول وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تُلْزِم ‘الزبائن’ على قبول بضاعته وما يصاحبها من ملحقات دون سؤال. وفي حالة رفْض ‘زبون’ لبضاعة تحددها السلطة التعليمية الأكاديمية، يعاقَب ويوصَف بهامل أو متسرب أو كسول أو فاشل! تجار الكلمات والمعارف في الوقت الحاضر مخدوعون ويخدعون، وفي أغلب الأحيان لا يدرون. تاجر المعرفة هو أول تاجر في التاريخ يحسب المكاسب دون أن يطرح المخاسر! لا يوجد مثلا في أي بلد في أي كتاب مقرر في العلوم والرياضيات ما خسرناه بسبب العلوم المهيمنة، رغم أن المخاسر تفوق المكاسب أضعافا مضاعفة. هذا ما حدث معي: حصلت على شهادات أني أقتني رياضيات وفيزياء القبيلة الأورو-أمريكية والتي ‘بعتها’ للطلبة دون أن تكون جزءا من حياتي ودون أن أعرف لماذا درستها ودرّستها. تجار بغداد كانوا يعودون بكتب (إلى جانب بضائع ومواد) لا ليبيعوا معرفة بل ليضيفوها إلى مكتبة ‘بيت الحكمة’ كمصادر لمن يرغب بتعميق فهمه وحكمته. جدير بالذكر أن تجار الكلمات في العصر الحديث سبقوا الآخرين ومهّدوا الطريق لهم. جدير بالذكر أيضا أن ما تنتجه مصانع المعارف غير قادر على توليد ذاته (تماما كالبذور المصنعة). تجار الكلمات يستوردونها من مصانع ضخمة مثل أكسفورد وكامبردج والسوربون وهارفارد وبيركلي و MIT تماما مثل التجار الذين يستوردون البذور من مصانع ضخمة مثل ‘مونسانتو’. الكلمات والبذور تقتل المناعة الداخلية في الإنسان: الأولى تقتل مناعة العقل والثانية تقتل مناعة الجسم. لهذا أقول: ‘اللهم إنا نعوذ بك من مصانع الكلمات ومصانع البذور التي لا تستمد مضمونها من الحياة وليست قادرة على توليد الحياة’.

تنمية مستدامة

من بين الكلمات المستوردة حديثا ‘تنمية مستدامة’؛ تعبيرٌ يتناقض مع الطبيعة والحياة. لا توجد ناحية في الحياة تنمو باستدامة. الاستدامة في الحياة ترتبط بدورة الحياة، لا في التنمية. الأمثلة الوحيدة على تنمية مستدامة ترتبط بتخريب الحياة. ما نما باستدامة خلال ال 200 سنة الفائتة: الأسلحة؛ تخريب الحياة في الجوهر (كالهواء والماء والتربة)؛ التراكم الأسي لرأس المال (جدير بالذكر أن تنمية رأس المال تطلبت نمو أسلحة وتخريب الحياة، فهما مصدرين أساسيين لتراكم رأس المال بشكل أسي).

جوهر الرياضيات

رؤية وجه الشبه بين ظواهر مختلفة تشكل جزءا أساسيا، ربما الأهم، فيما نسميه بالتفكير الرياضي، مثل ملاحظة وجه الشبه بين سقوط تفاحة ودوران القمر حول الأرض وصعود بالون وظاهرة المدّ والجزر، والذي أطلق عليه نيوتن اسم ‘الجاذبية’. جزء آخر أساسي وهام في الرياضيات يكمن في ملاحظة المنطق الخفي لظاهرة ما، مثلا المنطق الخفي لظاهرة التعليم الرسمي هو سياسة ‘فرّق تسد’. ملاحظة وجه الشبه بين عدة ظواهر، وملاحظة المنطق الخفي لظاهرة ما، مغيبتان من مناهج الرياضيات، لأنهما أولا لا يمكن السيطرة عليهما، ولأنهما ثانيا يفضحان ما لا يرغب المتسلطون أن يراه الناس.

المواد المدرسية والتصنيفات الأكاديمية

لعل أخطر الجراثيم الفكرية التي صُدِّرَت في البداية إلى بلادنا كانت المواد المدرسية school subjects والتصنيفات/ التخصصات الأكاديمية disciplines /academic categories والتي أَوْحَتْ لنا بأنها موضوعية وتعكس الواقع بينما هي في الواقع غيّبت الواقع. مثلا، بدلا من المواد المدرسية للصف الرابع في المناهج الفلسطينية (لغتنا الجميلة، رياضيات، تاريخ، جغرافيا، فنون، تكنولوجيا، علوم عامة الخ، يمكن وضع الطبيعة كموضوع رئيسي في المرحلة الابتدائية (والذي يشمل تربة الأرض وما ينبت فيها ويسير فوقها والمأكولات المغذية والزراعة والمياه والتعامل مع الفضلات وتجنب الكيماويات السامة التي تضاف إلى التربة والمأكولات – حيث يصبح مثلا هدف العلوم هو تجنيب الأطفال للسموم التي اخترعتها العلوم الأورو-أمريكية بهدف الربح، ومعالجة ما تخربه العلوم التي نمت ضمن تلك القبيلة؛ كما يمكن وضع التربة الثقافية-المجتمعية كموضوع آخر، يشمل الأدب والذاكرة الجمعية وصقل المعاني والفهم والعلاقات والتعامل. (جدير بالذكر أن اللجنة التي قررت المواد المدرسية شملت عشرة رجال لم يكن بينهم أُمّ أو مزارع أو شاعر أو حكواتي… جميعهم كانوا أكاديميين يعرفون الحياة من خلال ما يسمونه تطبيق لنظريات ذهنية بدلا من الحياة! كانت الرياضيات قبل تشويه القبيلة الأوربية مرتبطة بسياق وفعل وفهم الكون والعيش بحكمة؛ أصبحت رياضيات بحتة لا ترتبط بسياق وفعل ولا بطبيعة ولا بكون، بل أداة ناجعة في السيطرة وتخريب الحياة، وادعوا أن ذلك يعكس تفوقا ذهنيا! يوجد في كل جامعة فلسطينية دائرة رياضيات فيها 10 أساتذة على الأقل ليس لديهم سبب شخصي لتدريس مواضيع كتحليل عددي، متغيرات معقدة، جبر مجرد، توبولوجيا، معادلات تفاضلية جزئية، أنظمة ديناميكية… الله يستر! وفي نفس الوقت لا يوجد مساق واحد حول حكيم كابن عربي. التخلف ليس عدم اللحاق بالغرب بل في سعينا لنكون نسخا عنه. سعر لوحة المونا ليزا بالملايين؛ سعر أفضل نسخة لا يتعدى ثمن الورق المطبوع عليها. فما بالك عندما يكون الأصل، كهارفارد وأكسفورد والسوربون، موبوءا ومحكوما بقيم السيطرة والفوز والتراكم الأسي لرأس المال بدلا من الحكمة التي جسدت بيت الحكمة وأشخاصا مثل ابن عربي وجلال الدين الرومي؟

المناعة الذاتية هي الأساس

سواء بالنسبة لبناء بيت أو لشجرة أو لجسم إنسان أو لعقله أو لنفسيته وعلاقاته الاجتماعية، المكوّن الأهم هو المناعة الذاتية. الفلاح الفلسطيني يزرع شجر اللوز المرّ ثم يركّب عليها ما يحلو له من فاكهة، فساقها منيعة وعصيّة على أي حشرات يمكن أن تدخلها وتخربها. بالنسبة للبيت، يكون الأساس المنيع صخر أو اسمنت. وبالنسبة لجسم الإنسان مناعته تكمن في أطعمة عضوية غير مطبوخة وتجنُّب أطعمة جاهزة مصنّعة، كما تكمن في حركته (ففي الحركة بركة). أما بالنسبة لعافيته النفسية والاجتماعية فعلاقاتٌ تتضمن احتراما متبادلا ومحبة بمن وما حوله تشكل مناعته الذاتية، والوسيط الأنجع لهذا هو المجاورة. أما بالنسبة لعقل الإنسان فمناعته تكمن في التربة الثقافية الحضارية المجتمعية كما تكمن في كلمات تستمد معانيها من الحياة؛ والمكوّن الأساسي لهذه المناعة هو تجنّب استهلاك معانٍ جاهزة بل أن يكون الشخص شريكا في تكوين معنى وفهم. أسوأ ما يخرب مناعة العقل هو أن يكون الشخص بمثابة ببغاء يعيد ما يسمعه أو يراه أو يقرأه دون فهم.

عام 1993/ 1994

كان عاما زلزل كثيرا من مقومات الحياة على صعيد الجوهر والجذور، وأوهمنا بتحسينات على صعيد المظهر والأغصان. حوّلنا من أهالي علاقتنا الأساسية فيما بيننا، وبيننا وبين الأرض والذاكرة الجمعية والثقافة والحضارة والتاريخ، إلى مواطنين علاقتنا الأساسية مع مؤسسات وأجهزة رسمية. تحولنا من أناس نعيش وفق أمل إلى أناس نعيش وفق توقعات، مما أدى بنا إلى حالة مستمرة من الشعور بيأس وقلق وإحباط.