تاريخ التعليم الرسمي

تاريخ التعليم الرسمي المركزي المؤسسي

قصص على صعيد الجذور حول نشوء وجوهر “التعليم الرسمي المركزي المؤسسي”

لا أمل للبشرية دون استعادة الحكمة في تفكيرنا وأفعالنا. لعل أول خطوة في تكوين رؤيا تساعدنا في توضيح سيرنا هي معرفة جذور الواقع الذي نعيشه. التاريخ معلِّم أساسي في الحياة. التاريخ في الكتب المقررة يلهينا عن معرفة التاريخ الذي يضئ لنا الطريق ويعمق وعينا وفهمنا لما نشهده حول العالم. معرفة ما يُغَيَّب أهم مما يُعْرَض. تاريخ التعليم الرسمي مغيّبٌ من وعي الطلبة والمعلمين والعاملين في التعليم والناس عامة. من الصعب إيجاد كلية تربية تذكر تاريخ التعليم الرسمي. سأذكر فيما يلي بعضا من التاريخ المغيب. سأبدأ بكلمة education، كلمة لا رديف لها بالعربية. كلمة ‘تعليم’ التي نستعملها كرديف هي رديف teaching. لا نقول بالحياةI am educating him to ride a bicycle  بلI am teaching him. إذا أردنا أن نشير إلى educationبالعربية، أدق تعبير: ‘تعليم رسمي مركزي مؤسسي’ والذي يحتاج لمؤسسات ومهنيين عكس التعلم والتعليم اللذين لا يحتاجان. إدراك البعض بأن اللغة العربية غير متطورة كفاية يعكس إدراكا لا علاقة له بالحياة. العربية أبيّة وعصيّة أن تكون كالانكليزية عبدا لقيمة السيطرة وللمؤسسات والتصنيفات الأكاديمية والتكنولوجيا والعلوم التقنية وتراكم رأس المال. قصف كلمات أخطر من قصف طائرات لأنها تقصفنا من الداخل؛ قصف لا نعيه بل نحتضنه ونعتبره تقدما. feedbackالتي نترجمها بسذاجة ب‘تغذية راجعة’ ونستعملها في الحياة، هي مصطلح برز مع اختراع صواريخ بمعنى إرسال رسالة إلى صاروخ إذا حاد عن المسار المرسوم له لكي يعود إليه. استعمالها مع إنسان يعني نعامله كآلة: ارجع إلى المسار المرسوم لك… احتقار ما بعده احتقار! مثال آخر: كلمة brainstormingالعنيفة ‘عصف ذهني’… في لقاء بقبرص اقترح يمني كان من بين الحضور تعبير ‘استنارة أفكار’ الدافئة والرقيقة؛ ما أجمله من تعبير! نتكلم عن خرافات بمجتمعاتنا ولا نلاحظ خرافات مدنية القبيلة الأورو-أمريكية مثل إعطاء رقم لقيمة الإنسان، وحشر المعرفة في كتب مقررة لا يوجد فيها جملة واحدة عبارة عن بيان يبيّن ما بداخل الكاتب. نَصِف التعليم عندنا بالتقليدي وننتقد التقاليد لدينا بينما ننسى أن أخطر تقليد كان وما زال هو تقليد القبيلة المذكورة

القصة الأولى: أرسلت الحكومة البريطانية ‘ثوماس ماكولي’ ليضع إستراتيجية حول كيف يمكن للانكليز حكم ملايين الهنود. قدَّمّ ‘ماكولي’ اقتراحه يوم 2 شباط/ فبراير 1835 والذي جاء فيه (أضعه أولا بكلماته الأصلية):

“I have conversed both here and at home with men distinguished by their proficiency in the Eastern tongues. I am quite ready to take the Oriental learning at the valuation of the Orientalists themselves. I have never found one among them who could deny that a single shelf of a good European library was worth the whole native literature of India and Arabia. The intrinsic superiority of the Western literature is, indeed, fully admitted by those members of the Committee who support the Oriental plan of education [in India]… We must at present do our best to form a class who may be interpreters between us and the millions whom we govern; a class of persons, Indian in blood and colour, but English in taste, in opinions, in morals, and in intellect… We have to educate [them]…”. From Thomas Macaulay, “Minute of 2 February 1835 on Indian Education,  by G. M. Young (Cambridge MA: Harvard University Press, 1957), pp-721-24.

باختصار، تشمل إستراتيجيته 3 مكونات (1) إقناع الهنود بأنهم متخلفون (احتقار الذات) [في قوله ‘رفّ واحد بمكتبة أوروبية جيدة تفوق قيمتُه كل ما كُتِبَ من آداب بالهندية والعربية’!]؛ (2) المدنية الانكليزية هي الحلّ (احتكار) [كتب ماكولي: ‘علينا إنشاء طبقة من (الوسطاء) بيننا وبين من نحكمهم؛ طبقة من أشخاص هنود بدمهم ولونهم لكن انكليز بأذواقهم وآرائهم وأخلاقهم وعقولهم، عبر التعليم’ الذي اعتبره الأداة الرئيسية في إستراتيجيته لحُكْم الهنود!]؛ (3) استعداد الانكليز لمساعدة الهنود للسير على طريق أوروبا (شكّلت ‘المساعدة’ عبر السنين أداة أساسية لسيطرة القبيلة الأورو-أمريكية على العالم). استعمل الانكليز هذه الإستراتيجية في بلدان احتلوها بما في ذلك فلسطين عبر أشخاص، عرب بدمهم ولونهم، لكن انكليز بأذواقهم وأفكارهم وأخلاقهم وعقولهم’، كنتُ أحدهم حتى حرب 1967، إذ ساهمت بقولبة عقول الطلبة الذين درّستهم بمدارس وجامعات، وقمت بذلك عبر الرياضيات، بإخلاص ونيّةٍ حسنة، عبر خداعي وتخديري بإستراتيجية احتقار-احتكار-مساعدة. نحن الأكاديميين المحليين نقوم بإتباع إستراتيجية ‘ماكولي’ حرفيا: نجح في جعل الملايين عبيدا يتبعون إستراتيجيته بحماسٍ غير مسبوق!

القصة الثانية: لم يبدأ التعليم كأداة للسيطرة على العقول والبشر ب‘ماكولي’ بل قبله ب 350 سنة في عقل ‘نبريها’ الذي لخّص جوهر التعليم بغزو لغة رسمية واحتلالها محل لغات حيّة يتداولها الناس. غزو كلمبس لأمريكا وتدمير أهاليها وحضاراتها أمورٌ يراها الجميع. غزو نبريها للعقول عبر احتلال لغة مصنّعة محل لغات حية (في نفس الزمان والمكان الذي عاش فيهما كلمبس)قصة أخطر بكثير من احتلال أراضٍ لأنه احتلالٌ نشارك فيه يوميا في بلادنا ولأنه خفيٌّ عن الأغلبية ومغيّبٌ من كليات وأجهزة التعليم!

بعد موافقة إيزابيلا على دعم كلمبس في سفرته للسيطرة على أراضٍ بعيدة ذهب إليها نبريها منبِّهاً أن من الصعب سيطرتها على أراضٍ بعيدة قبل السيطرة على عقول رعيتها. سألته: كيف تقترح ذلك؟ أخبَرَها أن أخطر ما يحدث (في زمانه) هو أن الناس يقرؤون ما يحلو لهم من كتب، لذا ضروري إيقافهم من المضيّ في ذلك. وأضاف أنه عمل 25 سنة لتكوين لغة (خلطة من لغات متداولة باسبانيا) عليها أن تُدرّسها للأطفال بمملكتها، يتعلموها وفق كتابين ألّفهما (قاموس وقواعد) ويتمّ ذلك عبر أشخاصٍ يُوَظَّفون لذلك. رغم أن الفكرة لا تبدو غريبة لنا الآن إلا أنها لم تكن مقبولة لدى إيزابيلا رغم شغفها بالسيطرة إذ رأت فيها احتقارا للناس وتخريبا للكلام فرفضت طلبه. نامت الفكرة 150 سنة حتى تلقفتها فرنسا الساعية عندئذ لتكوين nation stateومواطنين يطيعون تعليمات السلطة بباريس معتبرين ذلك تقدما! تجمّعت ثورة صناعية وإنشاء دولة وطنية وبدء تراكم رأس المال مما تطلّب إيجاد أداة للسيطرة على عقول الناس وسلوكهم وعلاقاتهم. ترجم الفكرة إلى فِعْل ‘كمينيوس’ الذي قدّم خدماته لعدة دول في طور التكوين (فرنسا وانكلترا والسويد). بعد السيطرة على عقول شعوب أوروبا انتقلت إلى مناطق أخرى. لعل فكرة نبريها باحتلال لغة رسمية محل لغات حيّة هي أنجح فكرة عبر التاريخ وأكثرها تخريبا على صعيد الجذور، بمثابة ‘حصان طروادة’ على صعيد الفكر إذ نجحت في هزيمة الشعوب من الداخل بدءا بشعوب أوروبا، ثم انتقلت عبر جاليات واستعمار إلى شتى أنحاء العالم. غزو لغة مصنعة محل لغات حية يمثّل جذور التخريب الذي نشهده في شتى مجالات الحياة؛ احتلالٌ حوّل المعرفة والإنسان إلى سلعٍ يحدِّد السوق قيمتهما. احتلال شعب لآخر ليس جديدا، واحتلال لغة أجنبية محل لغة محلية ليس جديدا. ما هو جديد في فكرة نبريها تَمَثَّلَ عندنا باحتلال لغة حروفها عربية لكن معانيها ومرجعيتها القبيلة الأورو-أمريكية محل لغة تنبع معانيها من الحياة والحضارة والتحادث والتأمل والاجتهاد – احتلالٌ خبيثٌ بامتياز، نعيه بعد فوات الأوان أو لا نعيه أبدا، ويُلَخَّص باحتلال ‘اللغة الأم’ محل ‘لغة الأم’؛ احتلالٌ خلق لأول مرة في التاريخ عبيدا يفتخرون بعبوديتهم. نقعد على قفانا 12 سنة، نعيش مع لغة لها إيحاءات أكثر من دلالات، لا تسعى لتبيين ما بداخل الشخص ولا تعميق الفهم والحكمة بل تتكون من مصطلحات هدفها السيطرة على البشر تحت ادعاء أن ذلك يؤدي إلى تعلم! يختزلون قيمتنا برقم، ونصدق أنه يعكس حقيقة؛ يحشرون المعرفة بين دفتي كتاب ونصدّق أن ذلك معرفة نافعة. لم يستعمل العرب ‘اللغة الأم’ قبل الغزو الأوروبي، والتي عبر احتلالها محل لغة الأم، وسياسة فرّق تسد عبر تقييم عمودي، وتغييب التعلم كقدرة بيولوجية، يشكلون المكوّنات الأساسية للتعليم الرسمي. لم يعُدْ حصان طروادة أسطورة، بل أصبح في العصر الحالي إستراتيجية اعتمدها الانكليز في احتلال بلدان كثيرة والسيطرة عليها عبر هزيمتها من الداخل. طُبِّقَت هذه الإستراتيجية بفلسطين عبر أشخاص، عرب بدمهم ولونهم وانكليز بأذواقهم وعقولهم، كنتُ حتى عام 1971 أحدهم إذ ساهمت في الهزيمة المعرفية بنيّةٍ حسنة. بدأت عام 1971 العودة نحو ‘حدود’ ذلك الاحتلال ساعيا لاختراقها والعودة إلى جذوري المعرفية (تماما كما يحدث في غزة حيث يسير الناس نحو الحدود في سعيهم للعودة إلى أراضيهم). تجسّدت عودتي على صعيد المعرفة بوعيي لرياضيات والدتي الأمية (1976) عبر ما كانت تفعله من ملابس للنساء، إذ جسّد عملها رياضيات من نوعٍ لا أستطيع فهمه ولا عمل مثله! كانت تمارس عملها يوميا أمام عينيّ دون أن ألاحظ (حتى عمر 35 سنة) أن ما كانت تفعله هو رياضيات! لم يُشِر أحد إليها بمهندسة رغم أنها تعاملت مع أعقد هندسة: أجسام النساء! وعيي لعالمها كان زلزالا فكريا عميقا وأساس عودتي على صعيد المعرفة. وعيتُ أن الرياضيات التي استقيتُها من القبيلة الأورو-أمريكية هي نوعٌ خاص، لا هو أحادي ولا عالمي. وعيت أن جوهر المعرفة تعدديٌّ وأن رياضياتي اقتحمت بيتنا واحتلت محل رياضيات أمي وانتصرت عليها بالبلطجة لا لأنها أرقى. كنت ،جنديا’ في احتلال معرفي، كالجندي الإسرائيلي في احتلال أرضي. شكّل وعيي ذاك عودةً من الحظيرة الأورو-أمريكية إلى الجنينة المعرفية العربية. وعيت أن حياتي منذ الولادة كانت عبارة عن احتلالات وعودة.

اللغة الأم تنتمي للأغصان، لغة الأم تنتمي للجذور؛ اللغة الأم لغة رسمية ترتبط بسلطة عبر كتب مقررة ومصطلحات مؤسسية وتصنيفات أكاديمية ونتعامل معها كمرجع، وتشكّل أهم أداة بِيَد ‘الدولة القومية’nation stateللسيطرة على عقول رعيتها وإدراكهم وسلوكهم وعلاقاتهم. كلمات مثل تعليم وقومية ونظرية وتطبيق ومهارات ومعلومات وتقدُّم وتقييم عمودي وناجح وعالمي ومتخلف وتميُّز وإنجاز وتمكين ومُواطِن تنتمي جميعا للغة الأم، للأغصان؛ كلمات كتعلّم وشفاء وحكمة وعافية وفهم وتعددية وأهالي تنتمي للجذور. اللغة الأم هي الجرثومةً الأخطر على الصعيد الفكري. لغة الأم أول لغة حيّة يتعرض لها الطفل يتبعها التحادث والحكايات والشعر والأدب. ‘اللغة الأم’ أداة رئيسية في ظاهرة الافتخار بالعبودية التي ميزت المدنية الأورو-أمريكية دون غيرها من الحضارات؛ ظاهرة خفية عن العقل الممأسس المبرمج. لم تخلُ حضارة من وجود عبيد لكن لم تنجح مدنية في جعل عبيدها يفتخرون كما نجحت تلك القبيلة. دَرَسْتُ الرياضيات كما أُمْلِيَت عليّ دون سؤال ودون معرفة لماذا؛ ثم دَرَّسْتُها كما أُمْلِيَت عليّ دون سؤال ودون معرفة لماذا. كنت في الحالتين عبدا. ما كان غريبا في هذه العبودية هو جعلي أفتخر بها. أوهموني أن رياضيات المدارس والجامعات أحادية وعالمية. درستُها ودرّستُها دون أن أنتبه لدورها في تخريب الحياة في الجذور. يمثّل الافتخار بالعبودية الخلل الأكبر والخطر الأعظم على البشرية واستمرار الحياة على الأرض. التلقين الذي يُذْكَر عادة كمشكلة، ينتمي للأغصان. ما أسعى له بنقدي هذا هو تنبيه الطلبة والأهالي بالنسبة للسموم على صعيد الفكر التي عليهم تجنبها. لا يشعر العقل بالسموم الفكرية بنفس السهولة التي تشعر بها المعدة بسموم المأكولات. إذا دخل المعدة سموم، تتقيأ؛ العقل لا يتقيأ مهما دخله من سموم! العقل غير محصّن بيولوجيا كالمعدة، لذا يحتاج إلى الحكمة كرفيقة لحمايته مما يمكن أن يضر به وبالحياة. القبيلة الأوروبية وضعت العقل على العرش وسجنت الحكمة. العقل الفاقد للحكمة يسير بسرعة، مما يسبّب الكثير من الخراب والأزمات التي نشهدها عالميا. المدنية الأورو-أمريكية نَمَتْ وفق قيم السيطرة والفوز والتراكم الأسي لرأس المال. السموم التي تدخل الإنسان على شتى الأصعدة مغيّبة لأنها من أهم عوامل هذا التراكم. لا يوجد كتاب مقرر في العلوم بأي دولة يذكر التخريب الذي تحدثه العلوم على أصعدة شتى بالحياة؛ تذكر نعمة العلوم والتفكير العلمي وتهمل التخريب. بالمقابل، السعي الرئيسي بالحضارة العربية التي جمعت حضارات عديدة ببيوت علم ومعرفة تمحور حول الحكمة، أشهرها بيت الحكمة ببغداد. لا أمل للبشرية إذا لم نتحرر من الافتخار بالعبودية ونستعيد الحكمة. عاملٌ هام في التحرر، ومتوفرٌ لدى كل إنسان هو الشراكة في تكوين معنى. هذه الشراكة قدرة بيولوجية ومسؤولية يمكن ممارستها دون إذن ومطالبة. عندما كان عمر حفيدتي ‘تيا’ 5 سنوات وكنا نجلس خلف بيتهم عندما نزورهم، ذكرتُ مرة عن شيء موجود أمام البيت (جهة الشارع)؛ أصرّت أن أمام البيت حيث نجلس. نبّهني إصرارها أني أستعمل المعنى السائد بينما هي استعملت المعنى الذي تعيشه! إذا انتبهنا إلى ما يقوله الأطفال نلاحظ أنهم باستمرار يكوّنون معنى فهي قدرة بيولوجية يمارسها العقل الفطري ويقتلها العقل الممأسس. كذلك، وكمثل آخر، كتب السكاكيني لابنه (21/ 11/ 1935): “ستقرأ في جريدة فلسطين بتاريخ اليوم خبر هذه الجمعية الإرهابية؛ جمعية رئيسها شيخ معمم”. ذُهِلْتُ لِما قرأت لأن فهمي كان مرتبطا بالمعنى المهيمن. وَصْفُ السكاكيني لحركة ‘عز الدين القسّام’ بأنها إرهابية حيّرني: كيف يصفها بذلك؟! لكن سرعان ما انتبهت أن رد فعلي جسّد احتلال العقول بامتياز إذ عكس الإدراك المهيمن، فما عناه السكاكيني إرهاب الانكليز، إذ يكمل: “أعضاؤها من شيوخ البر يحملون السلاح في وجه الحكومة”.

فكرة التعليم التي صممها ‘نبريها’ هي مصدر الأصولية السائدة حاليا، وليس الدين. يقدّم عشرات الألوف في بداية كل صيف في الضفة الغربية وقطاع غزة امتحان التوجيهي حيث يجيبون على نفس الأسئلة بنفس الأجوبة! كذلك، خريج جامعة فلسطينية يستطيع أن يقدم طلبا للالتحاق بأي جامعة حول العالم (مما يعني أن معرفته لا ترتبط بسياق وواقع، ولا معنى لها بمكان سكناه ولا بحياته). حاصل على بكالوريوس رياضيات من جامعة فلسطينية مؤهل لتقديم طلب لمتابعة دراسة الرياضيات بأي جامعة وكأن هناك مسارا أحاديا عالميا لها! لا يعرف ذلك الطالب عادة لماذا درس المساقات التي درسها، ولا تخلق صورة في ذهنه ولا ترتبط بأي شيء في حياته ولا يوجد عادة سبب شخصي لتدريسها أو دراستها، ولا تُتَرْجَم بأسلوب حياته ولا تعمّق فهما ولا حكمة. تسميتُها برياضيات بحتة يُوحي بتفوق ذهني ويخلق عنجهية مزيفة. يبقى مدرِّسُها ودارسُها بين الأغصان لا يلمس الجذور، مثل ملاحظة المنطق الخفي لظاهرة أو وجه الشبه بين ظواهر أو رسم صورة ذهنية لمكوّنات ظاهرة. لا يستطيع حامل دكتوراه بالرياضيات دَرَسَ نظرية المصفوفات وجبر مجرد وتحليل عددي ومعادلات تفاضلية جزئية ومتغيرات مركبة رسمَ صورة تجمعهم في ذهنه. كثيرٌ ممن يؤكدون أن الأديان مصدر الأصولية هم أنفسهم يحملون بقناعاتهم أخطر أنواع الأصولية: الأصولية المعششة في التعليم والأكاديميا (خاصة بالعلوم والرياضيات المهيمنة)؛ أصولية لا تؤمن فقط بأن هناك مسارا أحاديا عالميا للتقدم بل ولديها أدوات لفرض ذلك المسار على الشعوب قاطبة! لم ينجح أي دين في فرض مساره على العالم أجمع. الأيديولوجية الوحيدة التي نجحت في ذلك هي المرتبطة بالتعليم المدرسي والأكاديمي.

القصة الثالثة: مثال يوضّح بشكل صارخ خطر اللغات الحية على من يسعى للسيطرة على الناس هو قصة ‘وليم تنديل’ William Tyndaleالذي لاحظ أن اللغة التي كان الإنجيل الرسمي المتداول بكنائس انكلترا لم تكن لغة الناس ولغة الحياة بل لغة السلطة الدينية والسياسية، وإقناع الناس بأنهم يحتاجون إلى أشخاص مرخصين لتفسير ما قاله المسيح الفلسطيني الذي لم يقل شيئا يصعب فهمه من قبل الناس. أراد ‘تنديل’ أن يترجم الإنجيل إلى لغة انكليزية حيّة يستعملها الناس دون الحاجة لمهنيين. رفض الملك هنري الثامن طلبه وهدّده بالقتل إذا فعل ذلك. كان هذا عام 1530. هرب ‘تنديل’ إلى ألمانيا حيث تخبأ وترجم الإنجيل لِلُغَةٍ انكليزية حية. أكمل الترجمة عام 1534 ونُشِرَ الإنجيل بلغته الجديدة وراج الكتاب بسرعة مما دعا الملك هنري أن يبحث عن ‘تنديل’، وعندما وجده ربطه بحبل وعلقه على خشبة  وحرقه حيا (عام 1536 بعمر 42 سنة)؛ تماما كما فعلت روما بالمسيح الذي تجرأ واستعمل كلمات يتداولها الناس، وصلبته على خشبة بعمر 33 سنة. [جدير بالذكر أن الوحيد بين تلاميذ المسيح الذي لم يفهمه بل وخانه هو التلميذ الوحيد المؤهل: يهودا الإسخريوطي!] باختصار عُلِّق ‘تنديل’ على خشبة وحُرِق لأنه تجرأ وترجم الإنجيل إلى لغة يستعملها الناس ولا تحتاج إلى مؤسسات ومهنيين! تتوافق القصة مع فكرة ‘نبريها’ الذي حذّر الملكة ‘إيزابيلا’ من السماح للناس أن يقرؤوا ما يحلو لهم! يتجسّد هذا في المرحلة المدرسية الابتدائية حيث يُسْلَب الأطفال من لغات حية ويتحولون إلى ببغاوات يعيدون كالبلهاء لغة رسمية هي لغة الكتب المقررة؛ لغة في أغلبها بلاستيكية.

القصة الرابعة: الوحيد بين حكام أوروبا الذي أُلْهِمَ بروح الحضارة العربية الإسلامية كان ألفونصو الحكيم الذي حكم طليطلة وما حولها 30 سنة (1252-1282). عندما دخل طليطلة كان مصمما على طرد المسلمين واليهود منها، إلا أن ما رآه أبهره: مجتمع حي تتفاعل فيه الأديان الثلاثة بشكلٍ جميل، فما كان منه إلا أن غيّر خطته ودعا نفسه ‘ملك الأديان الثلاثة’ وحَكَمَ بحكمة وكتب عن تجربته في الحكم عدة كتب. جدير بالذكر أنه استعمل لغة حيّة وليس اللاتينية. يا ليت إيزابيلا تابعت طريقه، لكان وضع العالم حاليا غير ما هو عليه الآن. إيزابيلا اختارت النقاء الديني بدلا من التعددية كقيمة جوهرية، مما أدى إلى إخراج من رفض من اليهود والمسلمين التنصر، من اسبانيا. ذهب يهودٌ إلى شمال أفريقيا وآخرون إلى دول أوروبية كهولندا حاملين بجعبتهم تجربة الأندلس. كان اليهود من القرن 16 حتى 19 أكثر الفئات ذات أفق حضاري بأوروبا. تصوروا لو اتبعت الحركة الصهيونية روح الأندلس التعددية بدل الأيديولوجية الفرنسية-الانكليزية الإقصائية! لو فعَلَت ذلك، لكانت فلسطين اليوم منارة ملهمة لعالمٍ غاطس في وَحْل الفكر الأحادي العالمي الذي هو وليس الدين مصدر الأصولية السائدة حاليا.

القصة الخامسة: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومشروع التنمية

عام 1948 هو عام نتذكره نحن الفلسطينيين كجريمة اقترفتها بريطانيا ومهدت لها عبر 30 سنة. لكن ما حدث بفلسطين لم يكن حدثا منفصلا عما حدث في تلك السنة، بل هناك عدة أحداث في تلك الفترة تفسر كثيرا من الخراب والتخريب الذي نشهده حول العالم حاليا. إلى جانب تقسيم فلسطين تم تقسيم الهند؛ وتمت الموافقة على ‘الإعلان العالمي لحقوق الإنسان’، كما تمّ طرح جرثومة التنمية في خطاب ‘هاري ترومان’ (يوم تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة 19/ 1/ 1949) حيث أعلن سياسة الولايات المتحدة بأربع نقاط كانت النقطة الرابعة حول التنمية. جدير بالذكر أن بريطانيًّا – جورج أورول – رأى ما يحدث في الجذور في بريطانيا نفسها وكتب كتابه المعروف ب ‘1984’ حول ما يحدث في بلده وأراد أن يسميه ‘1948، إذ كتبه في تلك السنة. لكن الناشر أصرّ على تغيير البلد والتاريخ مما اضطر المؤلف أن يرضخ وغيّر 1948 إلى 1984 وغيّر بريطانيا إلى روسيا. ربما يكون ‘ترامب’ أكثر من يجسد حاليا ما جاء فيهdoublethink, thought police, newspeak, and ministry of truth

القصة السادسة: قصة رياضيات والدتي الأمية

ما حماني من العبودية الفكرية المعرفية عند ذهابي لدراسة الدكتوراه بجامعة ‘هارفارد’ (1981) ثلاثة أمور: خبرتي وتجربتي خلال عقد السبعينيات بفلسطين؛ ووعيي للرياضيات التي كانت تمارسها أمي الأمية أمام عيني (دون قدرتي على رؤية ذلك، حتى أصبح عمري 35 سنة) وأن ما كانت تفعله يتطلب معرفة رياضية من نوع لا أفهمه ولا أستطع فعل مثله؛ والغنى والحكمة الموجودين في الحضارة العربية. وعيي عام 1976 لأول مرة أن ما كانت تفعله عبر سنين تجسّد فيها كمهندسة تتعامل مع أعقد أنواع الهندسة: أجسام النساء! كان وعيي ذاك بمثابة زلزال بركاني عشته على صعيد الفكر والمعرفة والإدراك. أقول ‘زلزال’ لأنه خلخل كثيرا مما اكتسبته في المدارس والجامعات من ادعاءات؛ وأقول ‘بركان’ لأن ذلك الوعي أمدّني بكمٍّ هائل من ‘مادة’ غنية على الصعيد المعرفي الإدراكي. بعبارة أخرى، عندما ذهبت إلى هارفارد عام 1981 كنت ‘مسلّحا’ بهذه الأسلحة الثلاثة التي حمتني من أن أكون عبدا على الصعيد الفكري: الوضع في فلسطين، والحضارة العربية، وعالم والدتي. لولا هذه الأدوات، لَمَا كانت لديّ الجرأة أن أتحدى ما تعتبره هارفارد ‘مقدسات’ كاحتكار مصادر المعرفة (إذ استهزأت اللجنة المشرفة بوضعي أمي والدجاجة الفلسطينية ودودة الأرض كمصادر معرفية بالنسبة لي)، ولَمَا استطعت أن أقول للجنة عندما ذكروا أن المنهجية بالصيغة الأولى التي قدمتها ليست واضحة وكان ردّي: ‘بل لا توجد منهجية؛ كلمة تمَ اختراعها على مقاسكم ووفق أغراضكم لم أستعملها في حياتي ولا حاجة لاستعمالها في رسالتي’. سأل أحدهم عن مصدر تكوين معرفتي قلت أني منذ 1971 شكّل التأمل فيما مررت به في حياتي منذ تلك السنة وحتى وقت تسليم الصيغة (1984) والاجتهاد في تكوين معنى لذلك. لم يقبلوا ما ذكرته إذ لن يكون عندها لديهم سيطرة عليّ فيما أقوله وأفكر فيه وأكتبه. قررت عندها ترك ‘هارفارد’ عام 1986 والعودة لجامعة بيرزيت حيث عملت عميدا لشؤون الطلبة مدة سنة. عدت بعدها إلى ‘هارفارد’ وعملت ما طلبته مني اللجنة لسبب بسيط: بدأت أسمع وأنا في بيرزيت أني أنتقد هارفارد وأنتقد التعليم لعدم قدرتي على الحصول على دكتوراه. قررت أن أخزي عين الشيطان وعدت إلى هارفارد وفعلت ما طلبته اللجنة وحصلت على الدكتوراه. الموقعان اللذان عملت فيهما بفلسطين بعد حصولي عليها كانا مع معلمات بمخيم شعفاط وشباب بمخيم الدهيشه. ما جذبني للعمل بمخيمات (بدل جامعات) هو غياب الزيف من المخيمات، زيفٌ شعرت به في هارفارد أكثر من بيرزيت. وعيت خلال عملي مع المعلمات بشعفاط، مثلا، معنى آخر للأسطورة اليونانية ‘صندوق بندورا’ حيث كانت شرور الحياة والاحتلال في المخيم تملأ حياة الأم كل يوم، وفي نهاية كل يوم كانت الأم تقوم بطردها كل ليلة وعندما يهمّ الأمل بالخروج، تغلق الأم الصندوق وتمنعه من الخروج ليبقى سلاحها الرئيسي في اليوم التالي. قدرتهن على إبقاء المحبة والأمل جعلني أذكر لهن باستمرار أنهن العمود الفقري الحقيقي للمجتمع الفلسطيني، وبقائه حيا.

*          *          *

ما هو مشترك بين القصص هواحتلال لغة رسمية محل لغات حية، وضرورة عكس ذلك في حياتنا. نحتاج إلىانتزاع أنفسنا من العيش وفق الندرة واستعادة العيش وفق الوفرة؛ ومن العيش وفق توقعات واستعادة العيش وفق أمل؛ ومن كلمات مصنعة واستعادة كلمات حية، ومن التركيز على التعليم واستعادة التعلم كأساس ومرجع ومسعى ومعيار؛ ومن اعتبار CVتعريفا بمن أنا عبر مصطلحات وتصنيفات واستعادة السيرة الذاتية وصياغتها عبر كلمات تستمد معانيها من الحياة والتأمل والاجتهاد؛ من الميوعة الفكرية والافتخار بالعبودية واستعادة الكرامة والتعمق في الفهم؛ من العلوم كمرجع إلى الحكمة كمرجع.