السر بالخلطة

المجاورة ‘رَحِم’ المجتمع. فكما رحم الأم يغذي ويحمي الطفل مدة تسعة أشهر حتى يبلغ مرحلة يكتسب عبرها مناعة داخل تمكّنه من الانتقال إلى أطر أوسع، كذلك المجاورات إذ هي رحم المجتمع تحميه وتغذيه بحيث يكتسب الأهالي مناعة داخلية – ذهنية بيانية إدراكية اجتماعية روحية – تمكّنهم (على الصعيد الشخصي والجمعي) من التحرّك ضمن أوضاعٍ عديدة بلا خوف. المجاورة تتخطى الفردية والمؤسسات في آن واحد (واللتان تشكلان وسيلتين ناجعتين جدا في تمزيق الإنسان والمجتمع، وفي تخريب الحياة). المجاورة هي الشريان المغذي للإنسان والمجتمع على أصعدة شتى.

المجاورة إطار مجتمعي يتكون من مريدين ومرادين، لا سلطة داخلية فيه ولا سلطة خارجية عليه، ولا يحتاج إلى ترخيص وميزانية. إطار يعتمد على علاقات شفهية تحادثية وجها لوجه كأساس، ويعتبر المعرفة فِعْل تتكوّن عبر تأمل في خبرات وتجارب وتفاعلات مع مصادر مختلفة، واجتهاد في توليف معنى لها. المجاورة وسيط للتعلم والفهم على الصعيد الشخصي والجمعي؛ وسيط يجمع بين والحرية والمسؤولية والكرامة والمساواة والصدق في آن واحد؛ وسيط يجدل نسيجا بين الناس على أصعدة شتى ومع المكان والحضارة والذاكرة الجمعية. يُنْظَر لكل شخص في المجاورة على أنه ‘خلطة’ فريدة لا يمكن مقارنتها بأي شخص آخر؛ خلطة تُنْسَج باستمرار عبر تأمّلٍ واجتهاد وشراكة في تكوين معنى وفهم. هذا يعني من بين ما يعنيه أن التقييم العمودي (بغض النظر عن الرداء الذي يرتديه والاسم الذي يحمله) هو جرثومة خطيرة سامة تكونت ضمن القبيلة الأورو-أمريكية بهدف السيطرة على شعوبها أولا، ثم انتشرت حول العالم عبر وسائط أهمها التعليم الرسمي وتبعته فيما بعد برامج التنمية. التخلص من هذه الجرثومة ليس سهلا إذ تكمن في أعماقنا، لكن تجنب تأثيرها يشكّل تحديا رئيسيا في الوقت الحاضر. من هنا، تشكل المجاورة كوسيط للتعلم والعمل أهم ‘سلاح’ يحمينا من أمراض وأوهام وخرافات المدنية المهيمنة التي أصبحنا (نحن حملة الشهادات) جنودا محليين متفانين في نشرها ببلادنا. قمت شخصيا بهذا (دون وعي) على مدى سنوات.

معظم ما فعلته منذ 1971 كان عبر المجاورة كوسيط، سأذكر بعضه في مدونات لاحقة. سأكتفي هنا بمثالين لتوضيح ما أعنيه بالمجاورة كوسيط للتعلم والفعل والعيش:

بعد استقالتي من جامعة ‘هارفارد’ وعودتي إلى فلسطين، عملت مدة عامين (2008 – 2010) مع معلمات وأمهات وطالبات في ‘مخيم شعفاط’ ضمن المركز النسوي بالمخيم. أخذت اللقاءات شكل مجاورات (وليس ورش عمل أو برامج تدريب أو ما شابههما). في الفصل الثاني من العام الدراسي 2009 / 2010 عملت مع طالبات من الصف السابع في ناحيتين: تنظيف وزراعة منطقة ترابية حول المدرسة، والناحية الثانية (وهي التي سأتكلم عنها هنا) مجاورة معهنّ والتي بدأت بسؤال حول مشكلة يعشنها ويحاولن حلّها. تسع طالبات ذكرن مشكلة السمنة من جراء ما يأكلنه من أطعمة مؤذية. قلت: إذن لنلتقي كل يوم سبت مدة ساعة حيث تحضر كل طالبة قائمة تفصيلية بما أكلته خلال الأسبوع السابق وتعرضه على المجموعة كما تعرض ما تخطط لتغييره في الأسبوع الذي يليه في سعيها لتحسين عافيتها. ما أود التنبيه له هنا – وبقوة – أن جوهر ما فعلناه كان يتعلق بالوسيط، بالمجاورة كوسيط للتعلم والعمل على الصعيدين الشخصي والجمعي، أي أنهن صاحبات الشأن والقرار والمسؤولية بالنسبة لما يحتجن فعله فيما يتعلق بمعظم نواحي حياتهن. لا يحتجن إلى مؤسسات ومهنيين وميزانيات ولا إلى خبراء وتقييم، التي جميعا في الواقع معيقات، فمثل هذه الكلمات لا معنى لها ضمن مجاورات أو معناها يختلف جذريا عن الإيحاءات التي تحملها. أما المثال الثاني فيتعلق بلجان الأحياء التي تكونت خلال الانتفاضة الأولى. تساءلت: لماذا خافت إسرائيل من لجان الأحياء رغم أن تركيزها كان على التعليم المجتمعي والزراعة الجماعية والاهتمام بكبار السن في الحي؟ ما وعيته بعد فترة أن ما أخاف إسرائيل هو ليس الأفعال بل الوسيط: قيام الناس (خاصة الشباب) بعمل ما هو ضروري عمله، دون الحاجة إلى سلطة ومؤسسات وميزانيات ومهنيين…

تعليقان (2) على “السر بالخلطة

  1. أنت رائع سيدي، تلميذك من الجزائر..للأسف مجاورتك تتطلب الحضور الفعلي…ولا تحتوي على التأقلم مع مستجد العصر وهو النت..كيف يمكن تحقيق المجاورة بالخصائص التي ذكرت وأنا من الجزائر مقيم مؤقتا في عمان وأنت في فلسطين العزة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *