لا أمل في استمرار الحياة على الأرض دون استعادة الحكمة كبوصلة في العيش والفكر والتعامل

البوصلتان الرئيسيتان اللتان تحكمان تصرف أغلبية الناس والمجتمعات في الوقت الحاضر هما: العيش وفق نمط الاستهلاك في الفكر والقول والعمل والتعامل، والعيش وفق الاعتقاد بأن هناك مسارا أحاديا عالميا للتقدم (وهو اعتقاد يشكّل جوهر الأصولية الحديثة التي يجسدها وينشرها التعليم الرسمي، خاصة الرياضيات والعلوم كما نَمَت ضمن القبيلة الأورو-أمريكية). فالتعليم الرسمي يهيّئ الطلبة للعيش وفق نمط الاستهلاك ووفق هذا الاعتقاد، إذ يتعامل مع الإنسان والمعرفة كسلع لها سعر في سوق الاستهلاك كما ينشر في نفس الوقت خرافة وجود مسار أحادي عالمي للتقدم. البوصلة التي ميزت معظم الحضارات قبل هيمنة القبيلة الأوروبية كانت الحكمة. الوضع الحالي حول العالم يتطلب استعادة الحكمة كبوصلة في العيش والفكر والتعلم والتعامل. نحتاج إلى استعادة الحكمة في صراعنا من أجل البقاء وحماية الحياة. من أخطر ما حدث عبر التاريخ كان وَضْعُ القبيلة الأوروبية (قبل قرابة 400 سنة) العقلَ على العرش وسَجْنُ الحكمة. أدى ذلك إلى تقدُّمٍ هائل على صعيد اختراع أدوات لكن بسبب عدم مرافقة الحكمة للعقل، عاث العقل فسادا لا مثيل له في التاريخ، فالعقل غير محصّن ضد السموم التي يمكن أن تدخله وتفسده من الداخل (بعكس المعدة التي إذا دخلتها سموم فإنها تتقيأها). إذا قارنّا ما كسبناه من المعارف التي لا ترافقها حكمة مع ما خسرناه عبرها، نجد أن التخريب والدمار والأخطار التي نعيشها الآن تفوق أضعافا مضاعفة ما كسبناه من العلوم المهيمنة.

تشكّل هذه المدونة محاولة متواضعة لإبراز أهمية استعادة الحكمة في الحياة حيث نبدأ بالعيش وفقها قدر الإمكان، كما تذكّرنا بالمجاورة كأفضل أداة لاستعادة الحكمة. بعثت برسالة عام 2008 إلى رؤساء الجامعات الفلسطينية لإنشاء ‘بيت حكمة’ فيها (لعشرة طلبة فقط) تجسّد روح بيت الحكمة ببغداد قبل 1200 سنة كتجربة نتعلم منها، ونُشِرَت الرسالة في جريدة ‘الحال’ بجامعة بيرزيت، لكن لا حياة لمن تنادي: أي اقتراح لا يتطابق مع القبيلة الأورو-أمريكية غير مقبول في جامعاتنا! استعادة الحكمة في حياتنا وجامعاتنا مسؤولية جوهرية ملقاة على عاتقنا كعرب. أستعمل كلمة ‘عرب’ للإشارة إلى مجتمعات تعددية أهم ما ميزها وجود نسيج مجتمعي فكري روحي بين مختلف الشعوب والثقافات. تشكل الحكمة الخيط الجوهري في جدل هذا النسيج

قوتنا الرئيسية كفلسطينيين تكمن في أننا مؤهلون – بسبب وضعنا وظروفنا منذ 1948 – لطرح رؤيا مغايرة. ففلسطين بمثابة مجهر نستطيع أن نرى عبره ما يجري في العالم الواسع. كذلك، نحن مؤهلون بسبب ما نملكه من مقوّمات، ففلسطين ملتقى ثلاث قارات وثلاث أديان، ومثّلت دوما أفقا حضاريا ورؤيا واسعة (مما يعني أن حشرها في دولة هو بمثابة حشرها في قفص حيث كل ‘جنسية’ تبقى في قفصها لا تخرج منه إلا بإذن السجان). فلسطين تشكل أفقا حضاريا علينا أن نشجع أطفالنا رسمه في أذهانهم ومخيلاتهم وإدراكهم وفق خبراتهم وتجاربهم واجتهاداتهم، وهذا يعني الشفاء من الأقفاص الفكرية والتعبيرية والإدراكية التي تعمل المؤسسات الحديثة حشرنا فيها والتي تتمثل بمصطلحات مهنية وتصنيفات أكاديمية. ويتطلب هذا الشفاء الانتباه لما يدخل عقولنا وإدراكنا وعلاقاتنا بهدف هزيمتنا من الداخل، كما يتطلب استعادة مصادر القوة فينا وفي مجتمعاتنا وحضارتنا والبناء عليها، والتي أهملناها منذ انبهارنا ببريق القبيلة الأوروبية الذي أعمانا عن رؤية الواقع. ما نحتاج له هو توليف رؤيا تجمع هذه المقومات وتستعمل لغة متعافية من مصطلحات مؤسسية وتصنيفات أكاديمية، لغة تستعمل كلمات ومعانٍ هي بيانٌ يبيّن ما يختلج وينضج بدواخلنا. انبهارنا بالقبيلة الأوروبية اعتمد على اعتقادنا بأن التقدم على صعيد الآلات والأجهزة (والذي أبدعت فيه أوروبا وأمريكا) يعني تقدما على صعيد الحياة. عندما أسمع أو أقرأ بأن المدنية الغربية هي امتداد للحضارة العربية الإسلامية، أقول: يا ليت هذا حدث، لَمَا كنا نعيش الأخطار والتخريب وتهديد الحياة على الأرض التي نعيشها جميعا حاليا نتيجة الأصولية المتمثلة بالاعتقاد بوجود مسار أحادي عالمي للتقدم. أخذت أوروبا الكثير من الحضارة العربية الإسلامية لكنها تجنّبت ما مثّل جوهر تلك الحضارة: الحكمة. أخذت أوروبا ما رأت أنه يدعم ادعاءها بالفوقية الفكرية والأخلاقية. لذا ركزت على ابن رشد لأنها استطاعت إقناع نفسها بأن ما فعله ابن رشد هو ترجمة أرسطو وأهملوا نواحي أخرى فيه كمفكر ملهم. وحديثا بدأ بعض الأوروبيين الانتباه ل‘ابن عربي’. لا أمل للبشرية إذا استمرينا بسجن الحكمة وإطلاق العنان للعقل ليسير دون ضابط ودون بوصلة سوى السيطرة والنمو الأسّي لرأس المال الذي كانت الدولة القومية والتعليم الرسمي والبنوك أهم أدواته.

أود أخيرا ذِكْرَ ناحية جديرة بالذكر هنا: ‘هارفارد’ التي تُعْتَبَر من أرقى جامعات العالم سميت باسم الشخص الذي دفع أول شيك لها، وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على فكر سوقي استهلاكي. كذلك يعكس اسم MIT  (من أهم الجامعات العلمية) اسم الولاية (ماساتشوستس) والوسيط (مؤسسة) والأداة (تكنولوجيا). في المقابل، عندما شيّد هارون الرشيد وابنه المأمون دار معرفة، لم يسموها جامعة الرشيد أو جامعة بغداد أو الجامعة العربية أو الإسلامية بل “بيت الحكمة”، وإنْ دلّ هذا على شيء فإنما يدل على أن جوهر وهدف المعرفة والعلم هو الحكمة… نحتاج إلى يقظة لوعي ما لدينا بدلا من الاحتذاء بأحذية الغير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *