التعلم قدرة بيولوجية

لا حاجة لمؤسسات وخبراء وأكاديميين وعلماء ومهنيين وتقييم لتعليم الناس كيف يهضموا المأكولات، فالهضم قدرة بيولوجية كل ما تحتاجه هو تربة صالحة ومأكولات عضوية مغذية. كذلك الحال بالنسبة للتنفّس: لا حاجة لمؤسسات وخبراء وأكاديميين وعلماء ومهنيين وتقييم لتعليم الناس كيف يتنفسوا، فالتنفس قدرة بيولوجية كل ما تحتاجه هو جو نظيف وهواء نقي مغذي. لماذا إذن رغم أن التعلم/ التفكير قدرة بيولوجية (كل ما يحتاجه هو تربة ثقافية جذورها في الحياة، وأجواء حقيقية حيوية، ومصادر غنية متنوعة، وأفكار مغذية للعقل والفكر وملهمة للقلب والنفس والروح والعلاقات) إلا أننا نتعامل معه، أي مع التعلم، وكأنه يحتاج إلى وزارات ومؤسسات ومهنيين وخبراء ومناهج وكتب مقررة وتقييم وميزانيات ضخمة ودورات تدريب وورش عمل؟! لماذا عندما تصل الأمور إلى العقل الذي يمكن أن يتعلم الكثير – بيولوجيا دون تدريس – نتدخل بقوة ونمنع ذلك من أن يحدث؟! نتعلم كل ما هو هام دون الحاجة لما تدعيه المؤسسات والخبراء. أكبر مثال على ذلك أن كل طفل في مجتمع عربي يتقن العربية (والتي يعترف كثيرون أنها من أصعب الأمور) بعمر 3 أو 4 سنوات، دون مناهج وأساليب تدريس وكتب مقررة ومدرسين وتقييم وخبراء. هذه الحقيقة تصفع كل من يدعي أن التعلم خارج أقفاص غير ممكن أو أقل قيمة أو غير معترف به! نضع كل جهدنا في تغييب هذه الحقيقة. أمرٌ يدعو للتفكّر؛ وشغلني مدة طويلة. التفسير الوحيد الذي أراه يوضح السبب يكمن في أن تغييب وقمع التعلم كقدرة بيولوجية، واستبداله بالتعليم الرسمي، يشكّل الأداة الأكثر نجاعة في السيطرة على العقول، على صعيد الفرد والمجتمع. السيطرة على العقول تُعَبِّد الطريق للسيطرة على أصعدة أخرى. لهذا، مثلا، غزو بلاد الشام في القرن التاسع عشر لم يتمّ بغزو عسكري بل بغزو معرفي عبر التعليم الرسمي والأكاديمي، بدأ بالجامعة الأمريكية في بيروت عام 1869، واتبع إستراتيجية “ماكولي” البريطاني التي تنطلق من إقناع الأهالي بأن المعارف والثقافة المحلية ليست بذي شأن، وأن معارف وثقافة القبيلة الأورو-أمريكية أرقى بكثير، وأن خبراء تلك القبيلة على استعداد لمساعدة الناس في بلاد الشام ليصبحوا نسخا عن تلك القبيلة – التي بلا شك أبدعت في صنع أجهزة واختراع أدوات يرتبط أغلبها بالسيطرة والفوز والتراكم الأسي لرأس المال، ولكنها حوّلت المعرفة والمعلم والتلميذ إلى سِلَعٍ في عالم الاستهلاك، لهم سعر في السوق والذي يشكل سر انجذاب الناس لأيديولوجية تلك القبيلة. من الصعب ذكر أي ناحية في الطبيعة أو الحياة لم تُخَرَّب نتيجة معارف تلك القبيلة: الهواء والماء والتربة والمأكولات والعالم الداخلي للإنسان والنسيج الفكري الاجتماعي الاقتصادي الروحي في المجتمع.

هناك عدة تعليقات حول ما ذكرته بأعلاه: أولا، غزوة نابليون العسكرية لم تنجح عسكريا لكنها مهدت الطريق لغزو ثقافي معرفي عبر التعليم الرسمي والأكاديمي. ثانيا، نحتاج إلى مؤسسات عندما يتعلق الوضع بأمور ومهارات ومعارف تقنية ولكن ليس بأمور تتعلق بالحياة. ثالثا، إذا تدخّلت المؤسسات والعلماء ليعلمونا كيف نهضم وكيف نتنفس، سيصبح الهضم والتنفس – كما حدث للتعلم والتفكير – أمرين عسيرين، وسيكون دور المؤسسات والعلماء تخريب المأكولات عبر تصنيعها وتعليبها وعبر إضافة مواد ضارة لها، مما يتطلب تخريب التربة والهواء والمياه والبيئة بوجه عام.

يبرز سؤالان: لماذا كل هذا التخريب؟ وكيف يتم تخريب العقول؟

السبب الرئيسي في التخريب يكمن في الأرباح الهائلة التي يجنيها الرأسماليون والشركات والمؤسسات والخبراء والعلماء من جراء هذا التخريب. مثل هذا التخريب صعب إذا تمردت العقول عليه، لذا كان من الضروري السيطرة على العقول كتمهيد لهذا التخريب وهذه الأرباح. أما كيف يتم تخريب العقول والسيطرة عليها فقد كتبت عنه في مدونات سابقة، لعل أهمّها: احتلال لغة بلاستيكية مصنعة (لغة الكتب المقررة) محل لغات حية؛ لغة مصنّعة لها إيحاءات أكثر من دلالات، لغة لا تستمد معانيها من الحياة بل من خبراء جلّ همهم إقناع الناس بأن الماضي متخلف وولّى زمانه. عندما نقول مثلا معدل فلان في امتحان هو 90% فإن ذلك يوحي أن الشخص متفوق وأنه أكثر ذكاء؛ لكن لا يدلّ ذلك على أي شيء في الحياة. فمثلا، أستاذ رياضيات جامعي يدرّس مساق “المتغيرات المعقدة” أو “التحليل الرياضي” يوحي بذكاء ومعرفة عالية لكن من الصعب على ذلك الأستاذ أن يذكر سببا شخصيا لماذا يدرّس مثل تلك المساقات – سوى المعاش آخر الشهر، وأنه درسه في جامعة ‘مرموقة’. في المقابل، عندما نقول أن فلان يعزف على العود ويطرب له الناس فإن لذلك معنى ملموسا ودلالة واضحة. أي شيء يمكن تحويله لشيء يمكن قياسه حسابيا (مثل العلامات والتنمية) ضروري الحذر منه. روعة عبارة الإمام علي “قيمة كل امرئ ما يحسنه” تكمن في أن من المستحيل تخريبها عبر الرياضيات، عبر أرقام. أي ناحية تَمُتُّ إلى جوهر الحياة، إذا قيست بأرقام، تُخَرَّب وتفقد معناها المرتبط بالحياة. الضيافة مثلا لا يمكن قياسها رياضيا، وكذلك الصبر والجمال والذكاء والحكمة والكرامة.

اللغة الرسمية المرتبطة بسلطة، والاعتقاد بان التعلم يحتاج إلى تدريس، والتقييم العمودي تشكل جميعا أساس تخريب القدرة البيولوجية للتعلم. لذا، فإن استعادة إدراكنا للتعلم كقدرة بيولوجية يشكل أهم تحدٍّ نواجهه كبشر في الوقت الحاضر. (الحاجة إلى تدريس تعني جلوس الطالب على قفاه سنوات عديدة، لا ينطق خلالها ولا يتحرك ولا يستعمل يديه ولا ينغمس بأجواء حقيقية، بل يستبطن خلالها طبيعة غريبة على الإنسان ألا وهي الافتخار بالعبودية وأن يصبح عدو نفسه بالنسبة لما يدخل جسمه من مأكولات ومشروبات ضارة، وما يدخل عقله من مصطلحات مؤسسية وتصنيفات أكاديمية تنتزعه من الحياة. فالتعلم والتفكير ذو معنى يحدثان ضمن سياق وعبر أفعال وتفاعل وتأمل واجتهاد… ويفضّل ضمن مجاورات.

جدير بالذكر أن تخريب العقول عن طريق تخريب القدرة البيولوجية للتعلم سبق تخريب المأكولات بثلاثة قرون. لذا، من الضروري أن ينطلق أي تحرر من تحرير العقل من هيمنة المصطلحات المؤسسية المهنية والتصنيفات الأكاديمية والتي يصبح العقل عبدا لها دون أن يدري. ويتمثّل هذا التحرر باستعادة حق وواجب وقدرة كل إنسان أن يكون شريكا في توليف معنى وفهم مرتبطين بفعلٍ وسياق، ونابعين من تأمل واجتهاد ورؤيا واسعة.

 

ربما تبحث بين الأغصان عن أشياء موجودة فقط في الجذور

كم ينطبق قول ‘جلال الدين الرومي’ هذا (والذي قاله قبل 750 سنة) على العصر الحاضر، حيث نبحث عن حلول سطحية في مظاهر الأمور، بين الأغصان، ونهمل النظر في بواطن الأمور، في الجذور. معظم الأبحاث حول التعليم يتعلق بالأغصان، بأمور ترتبط بالنمط الاستهلاكي في الفكر والعيش: تدريب المعلمين، تطوير المناهج والمواد التعليمية، الاتجاهات الحديثة في التدريس، تنمية مهارات التفكير، مراعاة الاتجاهات العالمية في بناء المناهج، وكلمات وتعابير مثل تنمية مستدامة وجودة التعليم والإبداع والتميّز والتفوّق وتعليم التفكير والإنجاز وتغيير المجتمع والتفكير النقدي… جميعها يعكس جهودا تبحث بين الأغصان. نلتهي بالمظهر وننسى الجوهر؛ نقضي وقتا طويلا في تحسين القفص ونهمل ما يحدث لمن هم داخل القفص؛ نحسب مكاسب ضحلة أو رمزية وننسى الثمن الذي ندفعه في العمق نتيجة تلك المكاسب؛ نتعلق بأمور تلهينا عن وعي الوسيط الذي نتبعه للتعلم والمنطق الخفي للظواهر التي نعيشها بما في ذلك القيم التي تحكم إدراكنا وأفكارنا وعلاقاتنا وسلوكنا، والتي تعمينا عن رؤية جذور ما نراه على السطح. نتقن مهارات آلية وتقنية ونخسر القدرة على الفهم ورؤية الصورة الكلية وعواقب ما نفعله…

المرحلة المدرسية، التي يشار لها بالأساسية، تنطلق من تغييب الحياة وشرذمة الفكر والمعرفة، إذ يبدأ المنهاج المدرسي بمواد قررتها لجنة من عشرة مهنيين وأكاديميين عام 1892 كما يبدأ بكتب مقررة تستعمل لغة رسمية تستمد معانيها وإيحاءاتها وأهميتها من مؤسسات ومهنيين وأكاديميين وخبراء همّهم الرئيسي هو الإيحاء بأن الماضي متخلف وولّى زمانه، ويصفون ما يقدمونه للناس بأنه عالمي وحديث. ادعاء العالمية هو أخطر أنواع الأصولية وسبب كثير من الخراب الذي نشهده في معظم نواحي الحياة حاليا. أما ادعاء الحداثة (مثل أساليب حديثة ونظريات حديثة والمدنية الحديثة وما بعد الحداثة) فيقدمونه وكأنه مرجع وأنه الأفضل. عندما كنت أُسْأَل: ماذا درست؟ أُجيب: رياضيات. الآن أجيب ‘رياضيات القبيلة الأورو-أمريكية’. الجواب الأول يوحي بأن الرياضيات عالمية. كل الحضارات التي سبقت مدنية القبيلة الأورو-أمريكية كان لها أسماء: المصرية الهندية الصينية الفارسية العربية الإسلامية. تسمية مدنية القبيلة الأورو-أمريكية بالحديثة هو لإضفاء العالمية والأفضلية عليها. الإشارة إليها بالقبيلة الأورو-أمريكية تعيد الإدراك إلى نصابه. الأداة الرئيسية في هيمنة هذه المدنية، كما ذكرت بمدونة سابقة، هي لغة رسمية تحكمها سلطة تقرر وتكافئ، وتعاقب من يخرج عن قواعد وحدود استعمالها وعن معانيها الصادرة من سلطة مرخّصة. هذه اللغة الرسمية هي السلاح الهادئ الأنجع في السيطرة على البشر. عندما وضَعْتُ والدتي الأمية والدجاجة الفلسطينية ودودة الأرض كمراجع معرفية في الصيغة الأولى لرسالة الدكتوراه التي قدمتها للجنة المشرفة، طار صوابهم. لجأوا إلى ناحية أخرى لتقليل أهمية ما كتبته، حيث ذكر أحدهم أن المنهجية التي اتبعتها غير واضحة، قلت ‘بل لا توجد منهجية؛ هي كلمة اخترعتوها على مقاسكم ولها معنى لكم لكن بالنسبة لي لم أستعملها في حياتي ولا حاجة لي بها في معرفتي؛ أرجو أن لا تقحموها عليّ، إذ لو فعلتم ذلك تقوموا بإجباري على استعمال مفهوم ليس له معنى في حياتي وفكري”. ثم أضفت: “ما استعملته منذ 1971 في توليف معنى ومعرفة وفهم كأساس كان التأمل بخبراتي وتجاربي وقراءاتي وتحادثاتي، واجتهادي في توليف معنى لها، وهو معنى يتغير مع خبرات جديدة وتأمل جديد واجتهاد جديد.” لم يَرُقْ ما قلته لهم واختلفنا وتركت الجامعة مدة سنة عدت إلى بيرزيت عام 1986 وعملت عميدا لشؤون الطلبة. ثم قررت أن أعود وتوصلنا إلى حلّ وسط.

مَثَل صيني قديم: “من يعرّف الكلمات يكسب الحجج”. لذا أركّز منذ 1971 على أن أهم فِعْل يحرر الإنسان من المصطلحات المهنية وغطرسة التصنيفات الأكاديمية هو ممارسة حقّه وواجبه وقدرته البيولوجية ليكون شريكا في تكوين معنى للكلمات التي يستعملها. الدليل على أهمية هذا الحق أنه مُغَيَّب من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان!! الشراكة في توليف معنى هو أهم تعبير عن حرية الإنسان وبالتالي أهم حق، لذا تغييبه هو ضد كرامة الإنسان وضد التنوع في الحياة. لحسن الحظ، هو حق لا يحتاج إلى مطالبة بل ممارسة؛ هو حق يكمن في الجذور. أعود لأذكّر بأن ‘خليل السكاكيني’ (نتيجة انتباهه الشديد لما كان يجري بمدارس منطقة القدس التي كانت أجنبية) ربما كان الوحيد الذي نبّه أن المشكلة تكمن في جذور التعليم الرسمي حيث رآه إذلالا واحتذاءً بحذاء الغير، إذ يمزق عالم الأطفال الداخلي والنسيج المجتمعي. لم يبحث السكاكيني (كما نفعل الآن) بين الأغصان عن المشكلات وحلولها، بل نظر في الجذور وترجم وَعْيَهُ ذاك بالمدرسة التي أنشأها بالقدس عام 1909 إذ اختار ‘إعزاز التلميذ لا إذلاله’ شعارا لها، وترجم الشعار عمليا من خلال ‘لا علامات ولا جوائز ولا عقاب’ فيها، كما ركّز على أهمية التعرف على المكان مشيا على الأقدام، والتعرف على اللغة من خلال القصص والأدب. هذا ما عشته في المدرسة التي درست فيها – الكلية الوطنية – التي أنشأها ‘خليل أبو ريا’ الذي كان يغلق المدرسة كل يوم سبت ويأخذنا مشيا على الأقدام في تلال ووديان وقرى حول رام الله والتي تعرفنا خلالها على الأهالي وعلى أنواع كثيرة من النباتات والينابيع. لم يحاول السكاكيني تحسين التقييم بل رفض فكرة تقييم الطلبة على خط عمودي، أي رأى العلة والحل في الجذور. رفض أي شيء فيه إذلال للتلميذ. ما غيّب ذلك الوضوح ودمّر ذلك المسار كان احتلال الانكليز لفلسطين عام 1917 الذين نشروا نظامهم التعليمي المبني على الاحتذاء بحذاء الغير؛ تعليمٌ تحكمه قيمتا السيطرة والفوز، واللتان تمزقان الإنسان والمجتمع من الداخل. ما يعمينا عن رؤية هذه الحقيقة هو أننا ما زلنا ننظر بين الأغصان ونرى تقدما وتحسينا هناك. نحكم عبر إيحاءات وادعاءات تعمينا عن رؤية الخراب الذي يحدث في العمق. العلوم بشكلها السائد مثلا حلّت كثيرا من المشكلات لكن ما خلقته من أزمات وتخريب وتدمير يفوق محاسنها أضعافا مضاعفة. لا يوجد كتاب مدرسي في أي دولة يذكر الخراب الذي أحدثته العلوم والرياضيات بالمفاهيم والممارسات السائدة. من الصعب ذكر ناحية في جوهر الحياة لم تُخَرَّب أو تُلَوَّث: الهواء والماء والتربة والأنهار والبحار والعلاقات والأفكار والمشاعر وحتى الجينات! يمثّل اختراع ‘إنسان فاشل’ بشهادة رسمية مختومة من وزارات التربية حول العالم انحطاطا فكريا وإدراكيا، بل وجريمة، لم تصله البشرية من قبل، ونمارسه يوميا دون شعور بالذنب! كذلك الحال بالنسبة للعبودية التي وُجِدت في شتى المجتمعات عبر التاريخ، لكن لم ينجح أيٌّ منها بأن يجعل الناس يفتخرون بعبوديتهم – باستثناء القبيلة الأورو-أمريكية. أذكر دوما أني درَسْتُ ودرَّسْتُ الرياضيات كما أمليت عليّ دون سؤال ودون معرفة لماذا؛ أي كنت عبدا في الحالتين. لم أَعِ ذلك لأني كنت أعيش بين الأغصان، لا أعي ما يحصل في الجذور.

*          *          *

تصوروا لو انطلقنا في التعامل مع الأطفال (من عمر 6 سنوات وحتى 13 سنة) بالتركيز على ثلاثة مجالات هامة في الحياة مغيبة من التعليم الرسمي (بدلا مما هو موجود) ألا وهي الطبيعة والثقافة والمجتمع. لو فعلنا ذلك، نكون نبحث في الجذور، إذ تُكَوِّن هذه المجالات ما يغذي أو يؤذي الإنسان، مما يعني أن تغييبها يحوّل التركيز في التعليم على الاهتمام بالأغصان وإهمال الجذور؛ الاهتمام بالقفص وإهمال الروح. ارتباط التعلم والمعرفة والفهم بالمجالات الثلاثة يعيد الحكمة كقيمة جوهرية في التعلم. والحكمة هي ما يميّز بين معرفة مغذية ومعرفة مؤذية؛ بين معرفة لها قيمة نفعية ومعرفة لها قيمة تبادلية. يتطلب الانطلاق من هذه المجالات انتباها شديدا لما يجري داخل الأطفال وحولهم، وعلاقة داخلهم بخارجهم؛ كما يتطلب توليف معانٍ وفهم بناءً على خبرات وتجارب ضمن سياقات وأوضاع حقيقية مما يخلق صورا حيّة في المخيلة عن الواقع. الطبيعة مصدر غذاء الطفل وحواسه وخبراته؛ هي البوتقة التي تعكس دورة الحياة وتحمي قدرتها على توليد ذاتها. والمجتمع مصدر تكوين الطفل إدراكه لذاته ولعلاقته بمن وما حوله وجدل نسيج مع الآخرين بدلا من المنافسة حول مكاسب رمزية ضحلة. أما الثقافة فترتبط بما يقوله الجاحظ: “الدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان”؛ ويقول في مقدمة “البيان والتبيين”: “اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل”. مثل هذه الأقوال تتعلق بالجذور. في المقابل، تعبير مثل ‘معدل فلان 90’ أو ‘الأول على الصف’ لا يعنيان شيئا بل يمزقان ويفرقان ويخلقان شعورا بالفوقية أو الدونية، ومنطقهما الداخلي هو ‘فرّق تسد’. هذان التعبيران ليس لهما معنى بالحياة ولا يمثلان بيانا يدل على معنى خفي، بل تعبيران يعكسان فتنة في القول وفتنة في العمل في نفس الوقت. الطبيعة والمجتمع والثقافة ينتمون إلى الجذور؛ الأبحاث بمفهومها السائد تبحث بين الأغصان، بينما قول الرومي “أنت ما تبحث عنه” ينتمي إلى الجذور. التقييم على خط عمودي يبحث بين الأغصان، بينما قول الإمام علي “قيمة كل امرئ ما يحسنه” ينتمي للجذور؛ المؤسسات تنتمي للأغصان بينما المجاورات تنتمي للجذور؛ المنطق الثنائي ينتمي إلى الأغصان بينما ملاحظة المنطق الخفي في ظاهرة ما تنتمي إلى الجذور؛ فلسطين كهوية تنتمي إلى الأغصان بينما فلسطين كأفق حضاري تنتمي إلى الجذور.

هل يعني ما سبق أن ننتظر حتى يتغير التعليم ويصبح مهتما بما يحدث للبشر والحياة في العمق؟ بالطبع لا. فكما نتعامل مع المأكولات الجاهزة، لا نستطيع منعَ المصانع والشركات من صنع مأكولات مؤذية، وربما لن يكون بإمكاننا تجنبها كليا. لكن يمكننا إلى حد كبير أن نتحكم فيما يدخل أمعدتنا. كذلك الحال بالنسبة للمعرفة. لا يمكن منع الجامعات ومراكز الأبحاث والخبراء من تصنيع كلمات ومفاهيم مؤذية للإنسان، لكن يمكننا إلى حد كبير أن نتحكم فيما يدخل عقولنا وحماية أنفسنا. تشكل الشراكة في تحضير مأكولات، والشراكة في توليف معانٍ، حماية أساسية لنا ولمناعتنا الداخلية. وتشكل المجاورة أفضل وسيط لهذا التحكم وهذه الحماية. ربما يسأل البعض: لماذا كل هذا التخريب وعدم القدرة على إيقافه؟ لسبب بسيط: لأن التراكم الأسي لرأس المال يتناسب طرديا مع التخريب. لم يكن بإمكان رأس المال أن يتراكم أسّيا عبر 300 سنة دون تخريب شتى نواحي الحياة.

المشكلة في التعليم لا تكمن كما هو شائع في التلقين (والذي هو جزء من الأغصان) بل في الجذور. المشكلة تكمن في جعل قلة تفتخر بعبوديتها وأغلبية تغار من هذه القلة لأنه لم يتسنّ لها أن تفتخر! التعليم الرسمي والأكاديمي يركّز على اكتساب مهارات ومعارف ونواحٍ تقنية ويغيّب الحكمة. ترتبط المعرفة في العصر الحاضر بالسيطرة والفوز، لذا تركّز المعارف (خاصة العلوم والرياضيات) على مهارات ونظريات ومعلومات تغذي السيطرة والجشع وليس على الحكمة التي كانت عبر التاريخ هدف التعلم والمعرفة؛ كانت مسعى رئيسيا ضمن الحضارة العربية الإسلامية كما تجسدت في بيوت الحكمة من أصفهان شرقا وحتى قرطبة غربا. التفاعل الحيوي الذي انتشر عبر تداخل حضارات شتى شكل جذور الجو الذي انتعشت فيه الحكمة وضروري استعادتها. لا أمل للبشرية إذا بقيت الحكمة مغيبة. لا أرى أن بإمكان شعوب القبيلة الأورو-أمريكية أن يقوموا بهذا الدور حاليا. تقع المهمة على أكتاف شعوب آسيا وأفريقيا ومن تبقى من أهالي القارات التي دمرتها القبيلة المهيمنة. عنوان هذه المدونة يجسّد حكمة علينا أن نأخذها بعين الاعتبار. علينا أن نتوقف عن الاهتمام بالأغصان وأن نهتم مرة أخرى بالجذور.

 

بين المدنية والحضارة

 :بالانكليزية “civilization” هناك كلمتان باللغة العربية مقابل

 مدنية وحضارة. كلمة ‘مدنية’ مرتبطة بمدينة، وكلمة ‘مدينة’ تعني حرفيا ‘مديونة’؛ وهي كلمة تعكس الواقع، إذ أن المدن تأخذ ما تنتجه الأرياف من خير ولا تعيد لهم أي خير بل على العكس تعيد لهم نمط حياة غارق في الاستهلاك والتمزيق وكل أنواع المخدرات والإدمان، بما في ذلك المخدِّر الأخطر ألا وهو إدمان الشباب والصغار على المشاهدة، إذ يقضي سكان المدن حاليا معظم وقتهم في مشاهدة شاشات – لا ينطقون خلالها ولا يتحركون ولا يتأملون ولا ينتبهون إلى ما يدخل أمعدتهم وعقولهم وإدراكهم وعواطفهم، إذ يستهلكون دون معرفة ودون وعي ما تنتجه مؤسسات وشركات كل همّها الربح. حياة المدن مبهرة، وفيها أضواء تخطف النظر والإدراك وتوحي بإيحاءات تقدمية متطورة. كلمة ‘مدنية’ تعني السير على طريق المدن، وهذا بالضبط ما حذّر غاندي تلميذه ‘نهرو’ منه إذ قال له: “لنضع جهودنا بالريف لا بالمدن، إذ أن التركيز على تطوير المدن سيؤدي إلى تخريب المدن والريف معا”. لكن للأسف لم يتبع ‘نهرو’ هذه النصيحة بل اتبع مسار التنمية الذي نرى نتيجته حاليا حيث 10 مدن في الهند تئنّ من التطور الذي حصل فيها، وحيث الأرياف تدفع ثمنا باهظا نتيجة مشاريع التنمية. التنمية بمفهومها الذي انطلق في عقد الخمسينيات من القرن الماضي أضرّت بالبلدان التي صدّرته، مما جعل حتى شخص مثل الأمير شارل ولي عهد بريطانيا يقول بأن التنمية خربت طبيعة لندن أكثر مما فعلته الحرب العالمية الثانية.

كلمة ‘حضارة’، في المقابل، تعكس معنى جميلا إذ تنطلق من الحاضر، بحضور الماضي والمستقبل، وحضور الآخرين، كما تشمل معنى الجهوزية لعمل ما هو ضروري عمله. بعبارة أخرى، تشير كلمة حضارة إلى أنه من غير الممكن السير نحو المستقبل دون الانتباه الشديد للحاضر ودون البحث في الماضي لمعرفة جذور الحاضر، ودون التفكّر في عواقب ما نفعله في الوقت الحاضر على الأجيال المستقبلية. ما كتبته من معنى ل ‘حضارة’ هو نتيجة اجتهاد، والاجتهاد في رأيي من أجمل الكلمات من حيث معناها باللغة العربية: ‘البحث، بشكل مستقل، عن المعنى’. ويعكس هذا المعنى للاجتهاد عدة أمور: حرية وتأمل وتعددية واحترام ومسؤولية. كلمة ‘حضارة’ بهذا المعنى تشير إلى أهمية وجود رؤيا أكثر بكثير من نظريات واستراتيجيات وأهداف. وكما قال النفّري قبل ألف سنة: “كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة”. فمهمتنا إذن أن نتحدث عن رؤيا بكلمات قليلة. والرؤيا كما أستعمل الكلمة هنا تشمل معرفتنا وإدراكنا للواقع وجذوره، وإدراكنا لموقعنا ودورنا فيه، والقيم والقناعات والمبادئ التي نتفق ألا نخالفها في أفعالنا. وأرى شخصيا أن ‘استعادة الحكمة في الحياة’ تعبّر بكلمات قليلة عن الرؤيا/ البوصلة التي يمكن أن نستهدي بها في سيرنا نحو المستقبل. كانت الحكمة البوصلة التي سارت وفقها حضارات كثيرة سابقة للمدنية المهيمنة حاليا، وبوجه خاص الحضارة العربية الإسلامية، مما يجعل استعادة هذه البوصلة في الوقت الحاضر استمرارا طبيعيا لما عشناه في الماضي. هناك عوامل غيّبت الحكمة من بلادنا كان منها تأثير الجامعات والمدارس التي أنشأتها القبيلة الأورو-أمريكية، بدءا بالجامعة الأمريكية في بيروت عام 1869 والتي تبعتها جامعات ومدارس أخرى. احتل محل الحكمة علومٌ هدفها السيطرة وإخضاع الطبيعة (وفق تعبير ‘فرانسس بيكن’ أبو العلم الحديث)، كما احتلت لغة مصنعة، حروفها عربية لكن معانيها ومرجعيتها القبيلة المذكورة، محل اللغات الحية التي تستمد معانيها من الحياة.

من هنا، يشكل الشفاء من المدنية التي لم تُبْقِ شيئا في الحياة لم تخرِّبه، واستعادة حضارة كان شريانها الرئيسي هو الحكمة، البوصلة التي علينا وضع جهودنا للعيش وفقها.