الديمقراطية

الديمقراطية التي تمارسها وتصدّرها القبيلة الأورو-أمريكية إلى أنحاء العالم هي أكثر أشكال الديمقراطية ضحالة إذ تتمثل بإدلاء صوت يوم الانتخاب، ومن ثم السبات حتى الانتخابات التالية. هذا النوع من التصويت بلغ درجة معيبة حيث يتخذ حاليا شكل تصويت like الشائعة التي تجسّد سطحية وغوصا في نمط الاستهلاك بطريقة تدعو للغثيان، كما تجسّد المنطق الثنائي المرتبط بسيطرة وأدوات ولا يعكس عمقا وتنوعا. أي، الديمقراطية السائدة تتعلق بالأغصان ولا تمسّ الجذور. الفكرة الجوهرية في ديمقراطية الجذور تكمن في أن رأي كل شخص مساوٍ لأي شخص آخر، وتتعلق بنواحٍ حيّة حقيقية في الحياة وترتبط بالحرية والكرامة وحكم الذات وبعلاقة الناس فيما بينهم ومع ما حولهم. فيما يلي أنواع من الديمقراطية المرتبطة بالجذور: 

ديمقراطية المعنى. كل إنسان مصدر معنى، شريك في تكوين المعنى. هذه الشراكة قدرة بيولوجية وواجب وحق (حق رغم أهميته القصوى مغيّب من الإعلان العالمي للحقوق!) أفضل إطار يجسّد ديمقراطية المعنى هو المجاورة حيث ‘يدلي’ كل شخص بالمعاني التي تكوّنت لديه نتيجة تأمّلٍ واجتهاد وحيث تتداخل المعاني وتنضج لدى المتجاورين.

ديمقراطية وسيط التعلم. ديكتاتورية الوسيط السائد – منهاج، كتب مقررة، أقفاص (صفوف)، تقييم عمودي – وهو الوسيط المعروف بالتعليم الرسمي يتناقض مع ديمقراطية المجاورة كوسيط، إذ لا توجد في المجاورة سلطة داخلية أو خارجية. المجاورة هي اللبنة الأساسية في البناء المجتمعي الديمقراطي.

ديمقراطية قيمة الإنسان، والمتمثّلة بعبارة الإمام علي ‘قيمة كل امرئ ما يحسنه’، حيث يوجد لكل شخص قيمة لا يمكن مقارنتها مع قيمة أي شخص آخر – أي، قيمة كل شخص معادلة لقيمة أي شخص آخر.

ديمقراطية البيان. لكل شخص بيانُه الذي يبيّن عبره بصدق ما يختلج وينضج بداخله؛ بيانٌ يعكس قدرة بيولوجية.

ديمقراطية التعلم. التعلم قدرة بيولوجية، قريبة من أن تكون رديف للحياة. فالتعلم مثله مثل التنفس والهضم، لا يحتاج إلى مؤسسات ومناهج وتقييم. أعني بالتعلم صقل وتهذيب الفكر والفهم والبيان والتعامل والعلاقات وهو مصدر جذري لكرامة الإنسان. ‘الحق في التعليم’ يطمس التعلم كقدرة بيولوجية ويغيّب الكرامة كليا. الحق الذي يجب أن يُتَضَمَّن في الإعلان العالمي هو حق كل شخص في حمايته مما يسلبه قدرات بيولوجية كالتعلم. ترتبط ديمقراطية التعلم بحقيقة أن واجبي أن أتعلّم أهم بكثير من واجبي أن أدرس؛ فالواجب الأول هو نحو الذات والمجتمع والطبيعة، أي عدم الإضرار بهم؛ واجبٌ يتوافق مع العيش بحكمة وعافية. واجبي أن أدرس يرتبط بمؤسسات ومهنيين ويخدم الاستهلاك والسيطرة

ديمقراطية المساعدة. مساعدات القبيلة الأورو-أمريكية مساعدات باتجاه واحد: من فوق إلى تحت. كانت المساعدات عبر التاريخ تبادلية أفقية، وعاملا أساسيا في جدل نسيج في المجتمع الذي يتكون من أهالي لا مواطنين (حيث تصبح العلاقة الرئيسية مع دولة ومؤسسات، ولا تجدل نسيجا بين الناس). عندما أغلقت إسرائيل المؤسسات على اختلاف أنواعها في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، قام الناس بإدارة شؤونهم الحياتية على أكمل وجه وكانت المساعدة تبادلية.

ديمقراطية البحث. يقول جلال الدين الرومي ‘أنت ما تبحث عنه’ والذي يختلف جذريا عن البحث بمفهومه الأكاديمي (الذي يعني حرفيا ‘إعادة بحث’ research ). وفق مقولة الرومي، الإنسان كباحث يعكس ديمقراطية متوفرة لدى كل إنسان، وما يبحث عنه يشكل جزءا هاما من هُوِيّته، وبالتالي يعكس مساواة وتنوعا وصدقا واحتراما. البحث بمفهومه الأكاديمي يحوّل الإنسان في أغلب الأحيان إلى أجير يفعل ما يملى عليه من قبل مؤسسات مرخصة حيث يخدم سلطة سياسية أو مالية أو تجارية. ‘بيت الحكمة’ في بغداد قبل 1200 سنة كان يرتبط بما يبحث عنه الشخص وبالتالي يتوافق مع كرامته وحيث كان ‘البيت’ يُغْني ما يبحث عنه. حاليا، من الصعب إيجاد مؤسسة تعليم عالٍ تسأل القادم إليها: عما تبحث عنه في حياتك؟ كأساس لبناء تعلمه ومعرفته.

ديمقراطية حكم الإنسان لذاته، والتي تتناقض مع ما يجري في المؤسسات حيث تحكم الشخصَ أيديولوجيةٌ ترتبط بقيم السيطرة والفوز والتراكم الأسي لرأس المال.

الديمقراطيات المذكورة بأعلاه تطمسها وتغيّبها المؤسسات الرسمية والأيديولوجيات المرتبطة بالسيطرة. الديمقراطية بشكلها السائد تنتهي بإدلاء الصوت ولا تؤثر على حياة الشخص أو نمط عيشه؛ ترتبط كما سبق وذكرت بالأغصان. في المقابل، ترتبط الديمقراطيات المذكورة بأعلاه بالجذور، بنمط حياة الشخص والتحكم في معانيه وعلاقاته وتعامله، مما يجعلها ملك الناس بمعنى لا تحتاج إلى مطالبة وإذلال ومشاركة سطحية؛ هي عصب الحياة. من هنا أرى أن شراكة الإنسان في تكوين معنى، وفي العيش والعمل ضمن مجاورات كأطر مجتمعية أساسية، يشكلان أساس الديمقراطيات على الصعيد الشخصي والجمعي والمجتمعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *