مجاورات ابن عربي مع “مليحة مسلماني”

تأملات في لقاء السبت 6/7/2013 (في وحدة ابن رشد/ جامعة بيرزيت، وسابقا مع شباب مخيم الدهيشة والملتقى التربوي العربي) حول المريد والمراد، الصاحب والمصحوب، الحبيب والمحبوب

أود أن أتابع السؤال: لماذا ابن عربي في هذا العصر بالذات؟ نحتاج إلى أشخاص مثل ابن عربي:

١- أولا وقبل كل شيء، لأنه (في أعمق قناعاتي) لا يوجد حلّ لأي أمة إلا إذا كان ضمن أفق حضاري. هذا ما سار عليه غاندي (وخرّبه بعده نهرو)؛ وهذا ما سار وفقه مهدي السودان ولم يَحِدْ عنه رغم إغراءات الانكليز؛ وهذا ما سار عليه خليل السكاكيني في مساره التربوي الذي ما زال في رأيي المسار الذي علينا سلوكه؛ وفي مثل هذا المسار تجسّدت قوة الزباتيين في المكسيك (فلسطينيو المكسيك منذ 500 سنة). أود أن اُعيد: لا يوجد مسار لخلاص أمة إلا المسار الحضاري. هنا تكمن أهمية ابن عربي بالنسبة لنا، إذ يمثّل رُكْناً من أركان الحضارة العربية في هذا الوقت العصيب الذي تُهْنا فيه في غياهب مدنية تحكمها قيم السيطرة والفوز ونمط الاستهلاك والتراكم الأسي لرأس المال. نحتاج إلى ابن عربي لأن مشروعنا التحرري لا يمكن أن يكون إلا ذا أفق حضاري، فالكولونيالية بأداتها الرئيسية، التعليم الرسمي، سعت لبقاء خيالنا ضمن حدود رسمتها لنا. يحلّق ابن عربي بأفق حضاري تعددي يكاد يشمل الكون.

٢- لأن العالم المعاصر في أغلب نواحيه وَهْمٌ. تُذكِّرِنا هذه الحقيقة بدعاء قبل مئات السنين: “اللهم أخرجني من ظلمات الوهم وأكرمني بنور الفهم”. كلمة وَهْم تقابل عند ابن عربي “ما لا يعوّل عليه”. والمدنية الحديثة لا يعوَّل عليها.

٣- لأن الدولة الوطنية على الطراز الأوروبي لا يعوَّل عليها، والأكاديميا المحكومة بقيمتي السيطرة والفوز لا يعول عليها، والأطعمة المصنعة لا يعول عليها، ومعظم ما هو صادر عن المؤسسات الحديثة لا يعول عليه.

٤- لأن تعبير ’دولة مستقلة‘ يعكس وهما وتخديرا عميقين. ولأن تعابير مثل منهاج وطني وأمن وطني وبنك وطني ورقم وطني جميعها أوهام لا يعول عليها. لا أعرف مثلا شيئا فلسطينيا بالمناهج الفلسطينية سوى شعارات! فالتعليم الذي أحضره الغرب إلى فلسطين وغير فلسطين (كما وصفه خليل السكاكيني قبل أكثر من مائة سنة) هو إذلال واحتذاءٌ بحذاء الغير؛ هو نسخة هزيلة عن أصلٍ جوهره السيطرة على العقول. لا علاقة للتعليم الفلسطيني بالمجتمع والطبيعة والحضارة من حوله، فارتباطه الأساسي بعالم الاستهلاك ونمطه المعيشي ومؤسساته. فإذا كان التعلّم قدرة بيولوجية (كما أومن)، فإن من الضروري أن يكون التعليم مستقلا عن هيمنة المؤسسات وبراثن التصنيفات الأكاديمية والكتب المقررة، وأن يشملَ الاستقلالَ في البحث عن المعنى وفي القيام بإدارة شؤون ومتطلبات الحياة.

٥- لأن الشفاء من تقليد القبيلة الأورو-أمريكية ضروريٌّ لاستعادة الأصالة والبناء عليها. فالمشروع الكولونيالي يسعى أن ننسى فلسطين الأصالة ونحتضن فلسطين الوَهْم التي هي نسخة باهتة عن دول أخرى. يساعدنا ابن عربي في خلع أحذية الغير، بل وخلع الأحذية كليا، ونسير حفاة بحيث تلمس أقدامنا التراب والأرض.

٦- لأن من الضروري التوقف عن رؤية فلسطين والعروبة من منظور ومصطلحات غربية وتصنيفات أكاديمية، ونقلب الأمور بحيث ننظر إلى الغرب عبر مفاهيم وتعابير عربية وفلسطينية. الخبرة الفلسطينية وابن عربي يساعدانا في النظر إلى المدنية الغربية من منظور فلسطيني/ عربي.

٧- يقول ابن عربي: “علمٌ بدون عمل، لا يعوَّل عليه”، أي أن التعلم والمعرفة لا يعول عليهما إذا لم يرافقهما فِعْل. وهذا يعني أن شهادة علمية/ معرفية بدون فِعْل لا يعوّل عليها. دكتور لا يرافق شهادته فِعْل، لا يعوَّل عليه. كما يقول: “ما لا يمكن تأنيثه لا يعول عليه”. الرياضيات التي درستها ودرّستها قبل وعيي لرياضيات أمي لا يعول عليها.

٨- نسمع باستمرار: ما هو البديل للتعليم؟ البديل لا يكمن في المضمون بل في الوسيط. الوسيط الذي نسلكه مع ابن عربي هو: مجاورة/ صحبة (وليس صفوفا مدرسية أو ورش عمل). المجاورة/ الصحبة تحصل بين مريد ومراد، صاحب ومصحوب، حبيب ومحبوب، وبالتالي تتضمن احتراما وعدلا ومساواة وحرية وصدقا، وتعيد مرجعية الإنسان إلى داخله وعلاقاته بدلا من أن تكون مؤسسات ولجان ومهنيين وخبراء.

٩- ضرورة الشفاء من اعتبار النتائج والمُخْرَجات الهدف والمعيار وبدلا من ذلك اعتبار السعي نحو الكمال هو الجوهر. لا خوف في هذه الحالة على المخرجات، إذ عندما ينضج السعي فينا سيخرج من خلال بيان ك”رفسة فرس” – على حدّ تعبير الشاعر الإيراني حافز الشيرازي.

١٠- لأن ابن عربي يساعدنا في الخروج من حالة اللامبالاة والضياع والمتاهات الفكرية والإدراكية التي تضعنا فيها التصنيفات والمصطلحات الأكاديمية، والمؤسسات عامة. لعل أنجع وسيلة في تحقيق حالة الضياع هي استبدال لغات حيّة تستمد معانيها من الحياة بلغةٍ رسمية هي لغة الكتب المقررة والإعلام الرسمي، المليئة بإيحاءات دون دلالات، تؤدي عادة إلى تخدير وشرذمة. يشكّل ابن عربي (فكرا وتعبيرا وفِعْلا) بوصلة حضارية هامة في الوقت الحاضر.

١١- ضرورة الشفاء من فكرة التقدم بمعنى الاعتقاد بوجود مسار أحادي عالمي، وبوجه خاص الشفاء من الاعتقاد بأن أوروبا متقدمة (فتقدمها يقتصر على الأقفاص وعلى الأدوات التي في أغلبها تخدم السيطرة).

١٢- لأن ابن عربي هام في الصراع من أجل البقاء، ليس فقط على الصعيد العربي بل العالمي أيضا. لا يعني هذا أن لدى ابن عربي إجابات جاهزة لمشكلات العصر بل لأنه يشكّل غذاءً للعقل والقلب والروح والعلاقات، نحتاج إليها جميعا لحماية مناعتنا الداخلية بحيث نكون قادرين على مقاومة الأمراض الحديثة على شتى الأصعدة… نحتاج إلى حكمة.

١٣- لماذا نحتاج إلى حكمة؟ لأن تدمير الحياة وتخريبها سهلٌ وسريع، بينما وتيرة الحياة فيها احترام للطبيعة، وبالتالي بطيئة. يشكل احترام الطبيعة والعيش وفقها جوهر الحكمة. هذا ما وعته الحضارات ما قبل الأوروبية. المدنية الأوروبية منذ نشوئها كانت مهووسة بالسيطرة والسرعة، مما اضطر الأوروبيين إلى سجن الحكمة وإطلاق العنان للعقل. العقل غير المسلّح بحكمة يكون مثل سائق متهور في سيارة ذي طاقة وقوة هائلتين، حيث يسير بسرعة فائقة تؤدي إلى اصطدام. هذا حال عالم اليوم: تقدُّم على مستوى أدواتٍ مدهشة لكن غبية. لا أمل في استمرار الحياة على الأرض دون حكمة. يشكّل ابن عربي، ببيانه الجميل وتبيينه العميق، أحد الذين يمكن أن يسهموا في استعادة الحكمة.

١٤- من الجدير بالذكر أن جزءاً من الأمراض/ الأوهام/ الخرافات الحديثة هو الاعتقاد بأن المدنية الأوروبية هي امتداد للحضارة العربية الإسلامية والتي كانت امتدادا لحضارات سبقتها. أتمنى لو كان الحال كذلك، لكان حال عالم اليوم أفضل بكثير. كانت المدنية الأوروبية في الحقيقة شرخا في تفاعل الحضارات، وتشويها واحتقارا لها، إذ كان جلّ همها واهتمامها البرهنة على أنها مدنية فاقت كل ما سبقها من حضارات، واستعملت أسلوبا حقيرا لنشر هذه الخرافة: استعدادها لمساعدة الشعوب خارج أوروبا لتسير مسار أوروبا في تقدمها! ونحن احتضنّا هذه الخدعة بسذاجة. جدير بالذكر لنا خاصة، أن أول تخريب قامت به أوروبا في هذا المضمار كان استبدال المسيح الفلسطيني ذي رسالة المحبة إلى مسيح بمثابة امبراطور روماني تلخّصت رسالته في كراهية وحروب. هذا ما حصل أيضا للرياضيات والعلوم إذ حولتها أوروبا من معارف تهدف إلى التعلم والفهم والعدل والعيش وفق الطبيعة إلى أدوات قهر وإخضاع، على حد تعبير أبو العلم الحديث ’بيكن‘. جوهر المعرفة قبل أوروبا كان السعي نحو الحكمة؛ أصبح في أوروبا إخضاعا وقهرا وتركيعا للطبيعة، بالتصميم! نعيش اليوم عواقب هذا الإدراك المدمّر على أصعدة شتى.

١٥- تصوروا لو انطلق التعليم من كلمة ’مريد‘ بمعنى شخص يريد أن يتعلم من ’مراد‘، وتمحورت حياته حول ما يريد المريد أن يتعلمه ويحسنه. في مثل هذه العلاقة التبادلية تقطن المعرفة والتعلم والحكمة والعلم؛ يحصل عندها تحرر وشفاء من التعليم المهيمن الذي تحكمه قيمتا السيطرة والفوز… كم سيساهم ذلك في استرداد عافيتنا، وتجميع مجالات المعرفة ونواحي الحياة ضمن “خلطة” تعكس حقيقة الحياة التي لا يمكن وضعها ضمن مجال أحادي؛ عندها سينطلق المريد والمراد من الحياة لا من مصطلحات مهنية وتصنيفات أكاديمية، كما هو الحال في المؤسسة التعليمية حاليا.

*          *          *

قبل أن أنهي، أرى من الضروري توضيح معنى” أفق حضاري” والذي يجسّده القول التالي لابن عربي تجسيدا رائعا:

لقد كنت قبل اليوم أُنْكِر صاحبي          إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلا كلَّ صورةٍ            فمرعىً لغزلان، وديرٌ لرهبان
وبيتٌ لأوثان وكعبةُ طـائـف              وألواحُ توراة ومصحفُ قرآن
أدين بدين الحب أنى توجَّهَتْ              ركائبُه.. فالحبّ ديني وإيماني

أُومِنْ بقوة أن الترجمة أمرٌ يكاد يكون مستحيلا. لا يمكن مثلا ترجمة هذا الاقتباس ببيانه الرائع وتبيّنه اللهوف وتبيينه العميق والإبداع المتضمن في ثنايا ’خلطته‘ دون أن يفقد روعته وعمقه وإبداعه؛ أفق حضاري يجمع حضارات وأديان وحبّا بلا حدود

ربما لهذا السبب لم يهتم الأوروبيون بابن عربي كما اهتموا بابن رشد، إذ لم يستطيعوا حشر ابن عربي ضمن مرجعية واحدة. كان بإمكانهم حشر ابن رشد والادعاء بأن جلّ ما فعله هو ترجمة ما كتبه الإغريق، وما عدا ذلك فليس بذي شأن. تلاءم ذلك مع تطلّعاتهم العنصرية المتمثّلة بادعائهم أن مرجع الحضارات هي أوروبا. بالإضافة إلى ذلك، لا أعتقد أنه كان بإمكانهم فهم وإدراك العمق والشمولية والحكمة وروعة البيان المتضمنة جميعا في فكر وكتابات ابن عربي (من الجدير بالذكر أنهم حاليا وبعد 800 سنة يجدون معنى لابن عربي ويحاولون الغوص في بحوره). لا بد أخيرا من التأكيد على أن أفقنا الحضاري يشمل بالضرورة العلاقة مع جيراننا التاريخيين: الهنود والفرس والترك واليونان والأفارقة…