معارف فلّاح بلاد الشام مقابل علوم القبيلة الأورو-أمريكية

أقارن فيما يلي بين معارف الفلاح في بلاد الشام وعلوم القبيلة الأورو-أمريكية. عبر هذه المقارنة نجد أن

١- الفلاح يفضح ‘دارون’ صاحب نظرية ‘البقاء للأصلح’، فخبرات الفلاح عبر آلاف السنين تتوافق مع القناعة بأن بقاء البشر ببلاد الشام يرتبط ببقاء الأضعف: دودة الأرض. هذه القناعة ليست نظرية بل إيمان مرتبط برؤيا ونمط عيش يحميان قدرة الطبيعة على توليد ذاتها. علوم القبيلة المذكورة تقتل هذه القدرة بالذات وكل ما هو طبيعي: التعليم يقتل التعلّم كقدرة بيولوجية؛ الأكل المصنّع والأدوية تقتل القدرة البيولوجية للشفاء؛ السيفون يقتل دورة الحياة؛ العلوم تقتل قدرة البذور على توليد ذاتها.

٢- الفلاح يفضح ‘فرانسس بيكن’صاحب القول بأن العلم هو ‘إخضاع وقهر وتركيع’ الطبيعة، فقناعة الفلاح تكمن في أن الغرض من معرفة الطبيعة هو العيش وفقها وعدم تخريبها، وحمايتها ومعالجة ما خرّبته العلوم السائدة.

٣- يفضح الفلاح نظرة الأوروبيين إلى الوقت على أنه يسير إلى الأمام إذ يربط الفلاحُ الوقتَ بدورة الحياة – أي الوقت دائري.

٤- يفضح الفلاح مفهوم التنمية المستدامة إذ عاش آلاف السنين وفق القناعة بأن الشيء الوحيد المستدام هو قدرة الحياة على توليد ذاتها (وليس التنمية). ما نما باستدامة عبر مائتي سنة: الأسلحة وتخريب الحياة في الجوهر والتراكم الأسي لرأس المال.

٥- يفضح الفلاح الحداثة عبر وعيه بأن الإنسان يتغذى من تربة أرضية وتربة ثقافية، فهو دوما يروي نباتات ويروي حكايات. يجب تجنُّب ما يخرّب التربتين (كما تفعل الحداثة). ما يسعى له خبراء الحداثة إقناع الناس بأن الماضي متخلف وولّى زمانه.

٦- يفضح الفلاح التفكير النقدي اللفظي في أغلبه ويذكرنا من الأفضل اعتباره تفكيرا ضمن سياق وفِعْل وتأمل واجتهاد .وحكمة

٧- يفضح الفلاح مفهوم القبيلة المهيمنة لمكونات المجتمع، إذ وفق هذا المفهوم، يتكوَّن المجتمع من ثلاثة قطاعات (حكومي ومدني وخاص)، كما يذكرنا الفلاح بأن المجتمع مكوّنٌ من تربتين أساسيتين تغذياننا عبر نباتات نرويها وعبر حكايات نرويها.

.٨- يفضح الفلاح قراءة كتب مقررة ويذكّرنا بأهمية قراءة الحياة كأساس وثم كتب تروي حكايات، أي كتب بيان وتبيين

.٩- يفضح الفلاح سيفون المياه وسيفون المعرفة (التعليم الرسمي) إذ نخسر في الحالتين ما يغذي الجسم والفكر

١٠- يفضح الفلاح المحاورة التي تفرّق عادة بين المتحاورين ويعيش وفق المجاورة التي تسهم بجدل نسيج بين المتجاورين. من أول قوانين الانكليز بعد احتلالهم القدس كان تحديد أيام للمسلمين لدخول باحة الأقصى وأيام للمسيحيين وأيام لليهود. كانت .الباحة عبر مئات السنين مباحة لأهالي القدس من مختلف الأديان والخلفيات. قضى القانون على التعددية وزَرَعَ الطائفية

.١١- يفضح الفلاح تغييب السياق والفعل والأصابع في بناء معرفة، كما هو الحال في التعليم الرسمي النظامي المركزي

١٢ -يفضح الفلاح الفكر الأحادي العالمي إذ يرتبط إدراكه ومعانيه بسياق وفعل

١٣- يفضح الفلاح الاستيطان المعرفي ويراه في جوهره كالاستيطان الأرضي: تمزيق على أصعدة شتى [جدير بالذكر هنا اللقاء الذي عقده فلاحو فلسطين (1929) بيافا انتقدوا فيه التعليم الانكليزي من حيث تمزيقه للعلاقات داخل العائلة ومع الأرض]

١٤- يفضح الفلاح مفهوم مواطنين ومفهوم مواطن صالح ومفهوم التقدم إذ يراها تحتل محل ما بالجذور: مواطنون حلّت محل أهالي؛ مواطن صالح (يتبع أوامر سلطة) حلّ محل إنسان صالح (يتبع ضميره)؛ تقدُّم على طريق الاستهلاك حلّ محل العافية.

.١٥- يفضح الفلاح التركيز على الحقوق ونسيان الكرامة؛ يعرف أن الاثنين مرتبطان لكن الكرامة أعمق

.١٦- يفضح الفلاح الفكر الثنائي الذي يُدَرَّس ضمن الرياضيات في كل الدول، إذ يعيش وفق المثنى فحياته تتكوّن من مثنيات

١٧- يفضح الفلاح كلمة مدنية (مرتبطة بمدن مديونة للريف إذ تأخذ منه ما هو مغذي وتعطيه ما هو استهلاكي). يعيش الفلاح ضمن أفق حضاري: في الحاضر بحضور الماضي والمستقبل وحضور آخرين وبمعنى أنه حاضر للقيام بما يجب القيام به.

بعبارة مختصرة، الفرق بين معارف فلاح بلاد الشام وعلوم القبيلة الأورو-أمريكية يكمن في الحكمة كقيمة: الفلاح يعيش وفق الطبيعة ولا يفعل شيئا يعرف أنه يضر بها. في أحيان يحتاج لما تنتجه العلوم السائدة لمعرفة ما يضر منها ولمعرفة تفاصيل لا يمكن معرفتها عبر الخبرة، لكن يبقى في الحالتين هو من يحكم ذاته وأفعاله. علوم ‘القبيلة’ تخرب الطبيعة عن تخطيط وسبق إصرار. [وضعتُ إلى جانب والدتي الأمية، دودة الأرض والدجاجة الفلسطينية كمراجع معرفية بالصيغة الأولى لرسالة الدكتوراه مما دعا أعضاء اللجنة المشرفة إلى اتهامي باستهزاء الأكاديميا. حاولت أن أوضّح لهم أني أنا الذي يقرر مصادر معرفتي لكن لم يقبلوا. إلى جانب المراجع، أكد الثلاثة على أن المنهجية غير واضحة، قلت: بل لا توجد منهجية؛ لا أستعملها ولا معنى لها بحياتي، هي من اختراعكم وربما تكون مفيدة لكم لكن لا تعني لي شيئا. فنهجي في بناء معرفة حياتية هو التأمل في خبراتي وقراءاتي وتحادثاتي، والاجتهاد لتكوين معنى وفَهْم.]

لا توجد محاولات بالعالم العربي حاليا تسعى للشفاء من كوننا ببغاوات ونسخا عن القبيلة الأورو-أمريكية التي أبدعت باختراع أدوات. أمران ضروري الانتباه لهما في هذا المضمار: تجنُّب الوقوع بوَهْم أن التقدم على صعيد الأدوات والأجهزة يعني تقدما على صعيد الحياة؛ والأمر الثاني أهمية استعمال هذه الأجهزة والأدوات بحكمة (بمعنى نحكم فيما إذا كنا سنستعملها وكيف وأين ومتى)، أي لا نكون عبيدا لها. ما زلنا نتباهى بكوننا نسخا عن مدنية دمرت شعوب وحضارات ثلاث قارات ونهبت قارتين أخريين – وما زالت تعاني! مدنية تُهدِّد علومُها الحياة على الأرض. يتحدث كثيرون عن إينشتاين كقدوة رغم وفق كل المقاييس هو أكبر إرهابي عرفه التاريخ من حيث الفكر والقول والفعل، ومن حيث خطر إفناء الحياة على الأرض نتيجة حثِّه ‘روزفلت’ على صنع القنبلة الذرية واستعمالها على مدن، إذ عندما لم يستطع علماء الذرة إقناع روزفلت دعمَ إنتاج القنبلة، لجئوا لإينشتاين لإقناعه بإنتاجها، وفعل ذلك عبر رسالة بعث بها عام 1939.

يجلب شخصٌ فكرة من جامعة بفرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا أو الولايات المتحدة ويطبقها على علّاتها ببلادنا – ويفتخر بذلك! بعثت عام 2009 رسالة إلى رؤساء الجامعات الفلسطينية، وتحدثت مع بعضهم، اقترحت فيها إنشاء ‘كلية’ صغيرة باسم ‘بيت الحكمة’ بجامعاتهم لعشرة طلبة فقط ممن يرغبون السير وفق طريق الحكمة بدلا من مساقات وما يرافقها، كي نبدأ بتجارب لاستعادة الحكمة في حياتنا وجامعاتنا؛ لا حياة لمن تنادي. ربما اعتبروها خطوة إلى الوراء. الحكمة، جوهر الحضارة العربية في أوجها، والتي تجسّدت بالعديد من بيوت الحكمة بين أصفهان شرقا وقرطبة غربا، كان أشهرها بيت الحكمة ببغداد. تتجنب جامعاتُنا الحكمة وكأنها وباء أو تخلُّف. إذا نظرنا إلى ما يجري حول العالم نجد أننا بحاجة لاستعادة الحكمة؛ بدونها يتقلّص الأمل ببقاء الحياة على الأرض. نحتاج إلى تذكير أنفسنا بما لدينا من مقومات على صعيد الجذور؛ مقومات هي جزء أساسي من مناعتنا على صعيد الفكر والمعرفة حيث يمكن بعدها إضافة ما نرغبه (كتكنولوجيا وعلوم) دون خوف. أكبر خطر لبقاء الحياة هو الاعتقاد بوجود مسار أحادي عالمي للتعلم والتقدم ووجود معانٍ أحادية عالمية. التحرر من هذا الاعتقاد ضروريٌّ لاستعادة الحكمة والعافية كبشر ومجتمعات وطبيعة. يجب تجنُّب  كلمات كانت الداء. نحن محظوظون إذ كثير مما نحتاجه متوفر لدينا.

يمكن أن نلعب كفلسطينيين دورا ملهما شافيا (مذكِّرين آخرين به) عبر استعمالنا لغة الحياة والحضارة، والتي لا تشمل فقط اللغة العربية بل أيضا لغات أخرى ضمن النسيج الفكري الثقافي بمنطقتنا. ما يعمّق مناعتنا أمران: الإيمان بأن كل إنسان شريكٌ في تكوين معنى، والمجاورة كوسيط للتعلم والبناء المجتمعي. الشراكة والمجاورة أدوات متوفرة لدى الناس وأساسية للشفاء من مرض الببغاوية. تتناقض الشراكة والمجاورة مع حلول ونماذج جاهزة. تجنُّب لغة ‘الخبراء’ هام لاستعادة العافية والحكمة بالحياة. ما نحتاجه للشفاء متوفر لدينا: المجاورة والتأمّل والاجتهاد وما يبحث عنه كل إنسان ومصدر قيمة المرء فيما يحسنه.

لم يعد الوضع حول العالم يسمح بالتحادث عن أي موضوع، بما في ذلك التعليم، كبُلَهاء ومخدَّرين وتائهين وجبناء حيث نبقى بين الأغصان ونهمل ما يحدث على صعيد الجذور. ما كتبته بأعلاه هو نتيجة جهد وتجارب وخبرات وتأمل واجتهاد امتد مدى عقود. ما كتبته هو بيان يبيّن ما اختلَجَ بداخلي ونَضَج؛ هو ليس حقائق مطلقة بل يعكس بصدق ما تكوّن لديّ من معانٍ وقناعاتٍ وفَهْم، وآمل أن يكون بمثابة دعوة لكل قارئ للتأمل فيما يمرّ به في حياته ويجتهد في تكوين معنى له. بدأتُ التأمل والاجتهاد في صقل المعاني وتعميق الفهم عام 1971، وبدأَتْ القناعة بأن كل إنسان مصدر معنى وفهم تتعمق منذ ذلك الوقت وأمارسها كل صباح. الشراكة في تكوين معنى أهم ما يميز الإنسان وأساس معرفته؛ قدرة بيولوجية ومسؤولية وحق (مغيّب من الإعلانات العالمية!). هي أساس الكرامة والحرية والتعددية والمناعة، كما أنها تجسّد ديمقراطية المعنى، أعمق الديمقراطيات. عندما نفتش عن معنى كلمة بمعجم نبحث بين الأغصان؛ الشراكة في تكوين معنى تنتمي إلى الجذور.

إلى جانب السعي لحمايتنا من الاحتلال العسكري-السياسي-المالي، ضروري أن نعمل أيضا لحمايتنا من احتلال مأكولات مصنعة مؤذية محل مأكولات مغذّية تستمد قيمتها من التربة الأرضية العضوية، ومن احتلال العقول عبر كلمات مصنّعة مؤذية محل كلمات مغذّية تستمد معانيها من التربة العضوية الحياتية الثقافية. نقلنا مواد مناهج مدرسية كببغاوات عن القبيلة الأمريكية التي قررتها ‘لجنة العشرة’ عام 1892 للصفوف الثمانية الأولى بدلا من معارف فلاح بلاد الشام المرتبطة بمكوّنات الحياة والمتمثلة بالتربتين الأساسيتين اللتين تغذيان الإنسان والمجتمع والطبيعة – معارف متداخلة متكاملة تكوّن صورا في الذهن والمخيلة حيث يدخل مواضيع موجودة في المناهج حاليا بشكل طبيعي يكمّل الصور بدلا من تمزيقها. وفق هذا المنظور، يعني العلمُ العيشَ وفق الطبيعة، ويكون الفهم أساس المعرفة بدلا مما هو سائد حاليا حيث تُركِّز الأيديولوجية المهيمنة على معلومات ومهارات ومعارف آلية تقنية مشرذمة لا تحتاج إلى فَهْم للتعامل معها واستعمالها. كذلك، وفق هذا المنظور، تكون اللغة العربية بمعانيها الغنية المتنوعة وجماليتها والحكمة في ثناياها بوتقة المعرفة وبيانها حيث تبيّن ما يختلج في القلوب والعقول والنفوس، وحيث نتكلم عن حكمة التعليم لا عن جودة التعليم حيث يُعْتَبَر هو والمدرس والطلبة عبارة عن سلع في سوق الاستهلاك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *