رقم 𝟭: ’التعليم عن بعد ‘ و’التعلم عن بعد ‘… خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

الخاطرة رقم 1 (1 آب/ أغسطس) 2020 – ’التعليم عن بعد‘ و’التعلم عن بعد‘

ما أود الحديث عنه بهذه الخاطرة (و خواطر أولى أخرى) أمور ذات علاقة بكورونا – بما أننا نعيش في وسط الجائحة. سأبدأ بظاهرة التعلم عن بعد/ التعليم عن بعد (واللذين سأكتب عنهما بتفصيل أكثر بخواطر قادمة). لكن قبل التكلم عن التعليم، أود أن أحكي قصتي مع الدجاج “المعاصر”. عام 1978 كنتُ أعمل بجامعة بيرزيت. بدأ البعض يتحدث بانبهار عن مزرعة دجاج حديثة على الطريق بين بيرزيت ورام الله. ذهبت مع أصدقاء لنتفرج ونشتري بيض. ما شاهدته كان مثيرا: صفوف من المواعين، حول كل منها حوالي 10 دجاجات جنبا لجنب لا يستطعن الحركة، رؤوسهم داخل الماعون يأكلون ما فيه من علفٍ جاهز ‘مقرّر’ ومصنّع – نفس العلف للجميع. كان هناك مراقب يملأ المواعين حين تفرغ، كما أشار إلى أضواء بالسقف حتى تستمر الدجاجات بالأكل في الليل، ثم أكمل: إذا توقفت دجاجة يومين أو ثلاثة عن إنتاج بيض، تُأْخَذ خارجا وتلقى مصيرها. كنت وقتها منشغل جدا بإعادة النظر بالتعليم وأرى فيه مصائب كثيرة، والتي بدأتُ أعيها بعد حرب 1967. لذا كان إدراكي جاهزا لملاحظة وجه الشبه بين المزرعة والتعليم النظامي. أول ما خطر ببالي أن هذه المزارع الحديثة سرقت فكرتها من التعليم النظامي! ما رأيته بالنسبة للدجاج هو بالضبط ما نفعله للطلبة: الماعون هو الدرج؛ العلف هو الكتب المقررة؛ عدم إنتاج بيض هو رسوب بامتحان؛ المراقب هو المدرّس؛ وَضْع الدجاجات رؤوسها بالماعون كوضع الطلبة رؤوسهم بالكتب المقررة (أو شاشات كما ’التعليم عن بعد‘)؛ الإضاءة لمساعدة الدجاج يأكل علف كالإضاءة للطلبة لعمل فروض مدرسية! ’صفوف‘ المزرعة تشبه صفوف المدرسة إذ لا يتحرك الطلبة سوى ساعات يوميا على مدى 12 سنة حيث يبلعوا نفس الكلمات “ويبيضون” نفس الإجابات. إذا تخلف طالب عن إنتاج جواب يعاقَب.

تذكَّرْتُ هذه القصة لأني أشعر بقلق كبير نتيجة ’الهيصة والزنبليطا‘ التي قامت في العالم حول ’التعليم والتعلم عن بعد‘. تَغَيَّر العالم جذريا بشكل متسارع في الجذور خلال الخمسة أشهر الفائتة، ما عدا في المدارس والجامعات الصامدة كالصخر لا علاقة لها بما يحدث حول العالم ساجدةً أمام معبد المنهاج تلبي طلباته! نسمع باستمرار ضرورة إحداث تغيير بالتعليم النظامي وعندما لاحت فرصة (وهي فرصة حقيقة ونادرة لإعادة النظر بالتعليم) اختار المسئولون أن يبقي الطلبة أنوفهم في مواعين الكتب المقررة وسوط العلامات فوق رؤوسهم. يشبه هذا عائلة موجودة في بيت يحترق ويتكلمون عما يطبخوه تلك الليلة! إن دلّ هذا على شيء فإنما يدلّ على جفاف بالعقول وضحالة بالفكر وتخدير بالإدراك. [سأذكر في خواطر قادمة ما كان وما زال يمكن أن نفعله التي هيأتها هذه الفرصة النادرة.] ما يحدث فرصة نادرة لانتزاع أنفسنا من الميوعة الذهنية وعنجهية مدارس وجامعات النخبة ونستعيد مقوماتنا الذاتية، والعافية والحكمة في حياتنا والعيش وفق الطبيعة الشافية كبوصلة، كما نستعيد التعلم كقدرة عضوية والفهم كأهم مكوِّن للتعلم. نحتاج إلى جرأة في الذهن ووضوح في الرؤية، وإلى أمل  وصبر وإيمان وتكافل وروح ضيافة وعطاء للخروج من حالة التخدير السائدة.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة

خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

إعلان ومقدمة لخواطر يومية على مدار سنة بعنوان

الطبيعة الشافية… مجاورات على طريق العافية

قررتُ أن أكتب خواطر يومية على مدار سنة. الفكرة انطلقت من أحاديث عبر أشهر. ما يجري حول العالم وبمنطقتنا خاصة، حثّني أن أبدأ. سأبدأ في 1/ 8/ 2020 الذي يصادف اليوم الثاني من عيد الأضحى المبارك. التضحية والفداء ينتميان إلى منطقتنا منذ القدم. المسيح الفلسطيني يوصف ب “الفادي” ببلاد الشام، عكس وَصْف الغرب له ب”المخلّص” – كلمة تتوافق مع رغبتهم إيهام الناس أن هدفهم أن يخلّصونا من “تخلُّفٍ” أوهمونا به. لا يقتصر هذا على السياسيين بل أيضا على شعرائهم (مثل رُدْياردْ كِبْلِنْغْ الانكليزي) وأدبائهم (مثل ألبير كامو الفرنسي). آن الأوان لانتزاع أنفسنا من الميوعة الذهنية واستعادة مقوماتنا في شتى المجالات. نحتاج إلى جرأة ذهنية وأمل وصبر وإيمان وتكافل وروح الضيافة والعطاء، نستعيد عبرها جميعا الحكمة كمرجعية بدل العلوم التقنية التي يجب أن تبقى ضمن حدودها. الخواطر مبنية على ثلاث قناعات: المجاورة طريق العافية؛ كل شخص مصدر معنى ومعرفة وفَهْم؛ والبناء على ما هو متوفر، وهو كثير. لا تحتاج هذه القناعات لورش عمل وتدريب وميزانية فهي مِلْكُ الناس جميعا، يستطيعوا العيش وفقها منذ الآن، حيث يقرروا كل شيء، بما في ذلك معاني الكلمات التي يستعملوها. ترتبط القناعات بالكرامة والتعددية والمسؤولية. لا أكتب لإقناع القارئ بأي شيء سوى أنه يملك مقومات تغيّبها المدنية الحديثة وحثّه أن يعيش وفقها، خاصة كشريك بتكوين معنى فهي قدرة عضوية ومسؤولية وحق (مغيب بالطبع من الإعلانات العالمية للحقوق!) آمل أن تسهم هذه الخواطر بقيام الشباب خاصة ببلورة رؤية تكون بمثابة بوصلة لهم؛ أمرٌ هام لكن مُغَيّب.

بالنسبة لي، ما يحكم الخواطر رؤية واسعة أعبّر عنها بتعبير ضيق: “مجاورات على طريق العافية”. يتوافق الاتساع والضيق مع قول النفري: “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة” والتي تعني أن العقل قاصر أن يستوعب الحياة بكليتها، واللغة قاصرة أن تعبّر عن الحياة بكليتها. المجاورة لا تحكمها ديمقراطية التصويت بل ديمقراطية المعنى (كل إنسان شريك بتكوين المعنى)، وديمقراطية التفاعل بين البشر كالتحادث والحكي، وديمقراطية بُنْيَة المجتمع المتمثّلة بمجاورات، وديمقراطية قيمة المرء كما بقول الإمام علي “قيمة كل امرئ ما يُحسنه”. تنتمي هذه الديمقراطيات للجذور، لا للأغصان كما هي ديمقراطية التصويت.

ما أكتبه في هذه الخواطر ليس حقائق تدّعي الأحادية والعالمية بل قناعات تكوّنت عبر عقود من الزمن نبعت من خبرات وتجارب وتحادث وقراءات وتأمُّلٍ واجتهاد. شراكة الشخص في تكوين معنى تشكل أساس معرفته لذاته ولعلاقته مع من وما حوله، كما تشكّل مناعة على صعيد الفكر والتعبير والإدراك، وأساس جدْل نسيج بالمجتمع ومع الطبيعة والحضارة.يقول النفري: “اعرف من أنت، فمعرفتُك من أنت هي قاعدتك التي لا تنهدم وهي سكينتك التي لا تزلّ”.

باختصار، هذه دعوة لتكوين مجاورات من كل الأنواع وبدء كل شخص بمعرفة ذاته – أساس كل المعارف وأساس الطبيعة الشافية. الرؤية أقرب إلى البصيرة التي هي عين القلب. باختصار، تبقى الرؤية الوسيلة التي ندرك بها الحياة والوجود بشتى أبعاده ومكوناته فنحصّل ما يتعذر تبليغه باللغة والعقل. اتساع الرؤية وضيق العبارة هو تصوير بليغ للمعاناة في وضعنا الحالي الذي لم يعد يتحمل إهمال الرؤية وتشويهها عن طريق معادلتها بأهداف (مكونة من أبجدية دعائية استهلاكية). لذا عندما أستعمل “العيش بعافية” كتعبير عن الرؤية التي نعيش وفقها، هي – فكرًا ولغةً – قاصرة عن التعبير عن الرؤية كاملا. “العيش بعافية” تشير وتلمّح وتبلّغ الرؤية لكن لا تشملها كليا؛ الرؤية أوسع بكثير. جدير بالذكر أن قصور الفكر واللغة لا ينبع من ضعف فيهما بل يكمن في اتساع الرؤية؛ وهذا ما يجعل قول النفري هاما جدا في وقتنا الحالي. لذا من السذاجة الاعتقاد أن بالإمكان التعبير عن رؤية بمفاهيم وكلمات فهي غير قادرة أن تغوص إلى غور وأعماق وكُنْهِ ما يشار له برؤية. ليس المقصود من الرؤية أن تُسْمَع أو تُقْرأ أو تُدْرَس بل تُعاش عبر أفعال وقصص. ألخّص حياتي عادة بكلمتين: احتلال وعودة؛ تظهران في خواطر كثيرة.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة

لغتان لا واحدة

من أهم ما انتبهت له بحياتي أني عشت لغتين: لغة لا تحتاج لتدريس، يتعلمها الطفل كقدرة بيولوجية بعقله الفطري، لغة الحياة والتحادث والأهل والحي، نتعلمها عبر كتبٍ هي بيان يبيّن ما يختلج وينضج بالعقول والصدور والتي تشمل حكايات وأدب. أما اللغة الأخرى التي عشتها فتحتاج إلى تدريس وسيطرة وخداع وإلهاء وتقييم، لا تكوّن صورا بالذهن ولا فَهْمًا بالفكر، لغة كتب مقررة وكتب أكاديمية. بعبارة أخرى عشت لغة مؤسسية ولغة حيّة؛ لغة مؤذية مشوّهة ملهية ترتبط بسلطة وسيطرة وفوز ومراكز قوة، ولغة مغذية للعقل والقلب والروح والعلاقات وترتبط بالعيش بحكمة وعافية. اللغة الأولى تنتمي للأغصان بينما الثانية للجذور. أمثلة: التعليم ينتمي للأغصان، التعلم ينتمي للجذور؛ مواطنون للأغصان، أهالي للجذور؛ العلوم للأغصان، الحكمة للجذور؛ المحاورة للأغصان، المجاورة للجذور؛ بحث كرديف researchللأغصان، بحث كرديف searchللجذور؛ منهجية ودراسات للأغصان، تأمل واجتهاد للجذور؛ اللغة الأم للأغصان، لغة الأم للجذور؛ الملاهي للأغصان، اللعب للجذور. بالطبع، لا يعني أن يقبل القارئ الأمور كما صنفتها بأعلاه بل عليه أن يتفكر ويتأمل بخبراته وحياته ويكوّن إدراكه وفقا لذلك. الحرية والمسؤولية والتعددية وحكم الذات والكرامة والحق في الشراكة بتكوين معنى هي جوهر الإنسان.

ما حدث عبر تصميم وتخطيط وتنفيذ هو تحويل جنائن الكلام إلى كتب مقررة، وتحويل اللغة كمصدر فَهْم وتحرُّر إلى اللغة كمصدر وَهْم وسيطرة. لا تكمن مشكلة المناهج في التلقين وما شابه، بل بفكرة خبيثة قاتلة على صعيد الفكر: احتلال لغة تستعمل حروفا عربية لكن مرجعيتها ومعانيها واستعمالاتها مستمدة من القبيلة الأورو-أمريكية.

عشت احتلال لغة مصنّعة محل  لغة حيّة خلال العقود الثلاثة الأولى من حياتي. بدأ تحرري منها نتيجة حرب 1967. في العام 1971 بدأ تحرري من اللغة المصنعة وعودتي للغة النابعة من الحياة والتأمل والاجتهاد؛ عودة كان أول مظهر لانتزاعي من الاحتلال المعرفي عبر تكويني مع بعض الأصدقاء حركة العمل التطوعي بالضفة الغربية واستعادة الأصابع كوسيط للتعلم.

لفهم التمييز بين اللغتين (المصنعة والحية، المؤذية والمغذية) يمكننا النظر لما حدث للمأكولات منذ 100 عام حين بدأ احتلال مأكولات مصنعة محل مأكولات لا تحتاج لمؤسسات ومهنيين وخبراء وعلماء، تولّد ذاتها وتستمد قيمتها الغذائية من تربة حية سليمة. أسهل أن نفهم ما حدث على صعيد الأكل (غذاء الجسم) مما حدث على صعيد اللغة (غذاء العقل). يعي أغلب الناس حاليا التخريب على صعيد مأكولات مزيفة مليئة بما هو ضار تحتل محل مأكولات تنمو ضمن تربة أرضية حيّة حيويّة مليئة بمواد عضوية مغذية للجسم. هذا ما حدث للعقول منذ 350 سنة حيث الأمر أخطر إذ لا نعيه ولا ندركه ولا نحس به بنفس السهولة التي نعيها بالنسبة للمأكولات. احتلال لغة مزيّفة محل لغات حية تنمو ضمن تربة مجتمعية ثقافية مغذية للعقل يمثّل الجرثومة الأكثر تخريبا للحياة. بعبارة أخرى، وعي تخريب المأكولات لا يوازيه وعيٌ مشابه بالنسبة لتخريب اللغة الذي يؤدي لتخريب العقل. اللغة الحيّة تبدأ مع الأم والأهل والحي عبر تحادثات شفهية، وعبر أدب وشعر وحكايات وتربة ثقافية-مجتمعية سليمة. فاعل رئيسي في التربة الثقافية التي تنمو فيها اللغة العضوية هو الأم؛ وفي التربة الأرضية التي تنتج أطعمة عضوية دودة الأرض. أقوى ما يحرك .الأم قلبُها. دودة الأرض لها خمسة قلوب تضخ الغذاء في التربة – نتغذى كبشر من تربة أرضية وثقافية. 

ما حدث عبر تصميم وتخطيط وتنفيذ هو تحويل جنائن الكلام إلى كتب مقررة، وتحويل اللغة كمصدر فَهْم وتحرُّر إلى اللغة كمصدر وَهْم وسيطرة. لا تكمن مشكلة المناهج في التلقين وما شابه، بل بفكرة خبيثة قاتلة على صعيد الفكر: احتلال لغة تستعمل حروفا عربية لكن مرجعيتها ومعانيها واستعمالاتها مستمدة من القبيلة الأورو-أمريكية. خبيثة لأننا لا نعيها إلا بعد فوات الأوان كمرض السرطان ومرض الإيدز اللذين يقتلان مناعة العقل ونصبح دون وعي عبيدا وأسرى لمصطلحات وتصنيفات توحي لنا كأنها تنبع من الحياة مثل تعريف الشخص لنفسه عبرCV[التي من الصعب تخيُّل أي شيء أكثر احتقارا للإنسان]. المصيبة تكمن في أن عقولنا تُفْقِد الشخص قدرته على معرفة نفسه سوى عبر لغة بلاستيكية مهينة مهيمنة. احتلال لغة حروفها عربية لكن معانيها مستمدة من أيديولوجية هدفها السيطرة: مرض فكري-اجتماعي-إدراكي-نفسي خبيث، بمثابة فيروس ضد بالإنسان والمجتمع. أهم ما يميز لغة ليس حروفها بل مصدر معانيها.عشت لغتين طوال حياتي، لغة حيّة ترسم صورا بالذهن وتستمد معانيها من الحياة، ولغة بلاستيكية تحكمها مؤسسات وخبراء. الأبجدية ليست أداة محايدة: يمكن أن تكون أداة فَهْمأ وأداة وَهْم. اللغة المهيمنة (بشكل غير مسبوق مثيل) أداةوَهْم. سأختار3 كلمات: تعليم وتنمية وإستراتيجية. تعابيريمكن تكوينها منها:

  • إستراتيجية التعليم في التنمية
  • إستراتيجية التنمية في التعليم
  • التعليم وإستراتيجية التنمية
  • تنمية التعليم الاستراتيجي
  • الإستراتيجية في التعليم التنموي
  • تنمية استراتيجيات تعليمية
  • التعليم في التنمية الإستراتيجية
  • الإستراتيجية في تنمية التعليم
  • تنمية استراتيجيات تعليمية

يمكن إضافة تعابير أخرى تحتوي على نفس الكلمات، كما يمكن إضافة كلمات أخرى (كتطوير وتخطيط) ونحصل على تعابير بالمئات تلهي وتخدع وتخدّر. ألا يذكّرنا هذا بالرياضيات؟ بالتباديل من جهة، ومتغيرات جبرية (س ص ع) من جهة أخرى التي يمكن وضعها بأي ترتيب دون حرج إذ ليس لها معنى ولا ترسم صورة بالمخيلة. العبارات عبر التاريخ كانت دائما ذات معنى،والمعنى مرتبط بسياق.وفق منطق أرسطو، كلعبارة إما صائبة أو خاطئة ولا بديل ثالث. أما شيخنا الحكيم ‘جلال الدين الرومي’ فقد تعمّق بالجذور، وذهب أبعد من أرسطو بكثير، إذ قال: ‘ما وراء الصواب والخطأ، يوجد حقل؛ لنلتقي هناك’.

في المدنية المهيمنة، خاصة منذ إعلان عصر التنمية (1949)، بدأت تظهر لغة متمثلة بتعابير كالمذكورة بأعلاه؛ لغة تبدو على السطح علمية أكاديمية مهنية، ذات معان عميقة ومعارف متقدمة تحتاج إلى خبراء لتوضيحها، لكن عندما نتمعّن فيها نجد أنه يمكن وضع مفرداتها بأي ترتيب دون أن يؤثر ذلك على أحد، لأنها لا تقول شيئا، ليست صائبة ولا خاطئة ولا تقع ما وراء الصواب والخطأ، ولا تخلق صورة بالخيال ولا معنى بالذهن، ولا تشير لأي شيء بالواقع ولا تعكس خبرة ولا يمكن ترجمتها لأسلوب حياة، ولا تاريخ لها ولا مرجعية ولا دلالات. كلمات هي أداة رئيسية بأيدي المهنيين والأكاديميين والسياسيين والخبراء يتم عبرها تخريب العقول والسيطرة عليها. المؤتمرات والجامعات والوزارات والمنظمات الدولية مليئة بها، كلمات تعكس طغيان التجريدات الحديثة، تهزمنا كحصان طروادة من الداخل. ما سرّ انتشار هذه الترّهات ولماذا أصبحت هامة، وكيف نسترد لغة تستمد معانيها من الحياة والحضارة؟ أهمية هذه الكلمات يكمن بدورها في احتلال العقول. مقابل هذه الكلمات البلاستيكية (التي تشمل التقييم العمودي)، لدينا كمثال قول الإمام علي: ‘قيمة كل امرئ ما يحسنه’. هذه الأقوال تشفينا من أمراض فكرية إدراكية حديثة كثيرة. كيف نفسّر احتضان تعابير مريضة وإهمال أقوال فيها كل الحكمة؟!مختصر الكلام: المعرفة فِعْلٌ ضمن سياق ووفق قيم. من أجمل ما يميز اللغة العربية أن جذر كل كلمة فعل. ضروري الحذر من كلمات ليس لها فعل كجذر.

الخديعة الكبرى وكيفية انتزاع أنفسنا منها

أول شعوب خُدِعَت الشعوب الأوروبية. انتقلت الخديعة لنا ولغيرنا عبر جاليات غربية. الأوروبيون والأمريكيون غير محميين إذ من الصعب العودة إلى نقطة يستعيدوا عندها عافيتهم وسلامتهم الذهنية. نحن محميون ومحصنون بالشعر والأدب والقرآن. محميون بلغة متنوعة غنية بالمعاني والأنماط ومنطقية ومفعمة بالحكمة. محميون بالمثنى الذي لا رديف له بأي لغة أوروبية إذ يجسد منطقا يختلف عن منطق أرسطو ومنطق هيجل والمنطق الثنائي ومنطق ديكارت، فحيث أن ديكارت قال ‘أنا أفكر فأنا موجود’، المثنى يجسد منطق ‘أنت موجود فأنا موجود’. المثنى علاقة بين شخصين لا هي قانونية ولا اقتصادية ولا أي شيء من هذا القبيل بل علاقة بمثابة وليد مشترك. ‘أنت موجود فأنا موجود’ تتوافق مع مفهوم الهُوِيّة المرتبطة بِهُوَ (لا بأنا كما هي بالانكليزية Identityالتي تبدأ ب I) مما يجعل ترجمتها ب أنوية وليس هوية. المثنى يختلف عن منطق أرسطو بمعنى هو لا يكافئ ‘ليس أنا’ ويختلف عن المنطق الجدلي حيث يكوّن الاثنان ‘وحدة’ أعلى بل يبقى كل شخص على حاله لكن وجود الآخر يغني ويغذي. أي لا يكتمل وجودي دون وجودك. كذلك محميون عبر كلمات أخرى كثيرة مثل كلمة ‘أهالي’ التي تختلف جذريا عن ‘مواطنين’ إذ العلاقة الأساسية بين الأهالي تكمن بعلاقتهم بعضهم ببعض وعلاقتهم بالمكان والمجتمع والحضارة والذاكرة الجمعية، بينما العلاقة الرئيسية في مجتمع مواطنين هي مع الدولة ومؤسساتها. كذلك، نحن محميون بكلمة ‘بحث’ كما بقول الرومي: ‘أنت ما تبحث عنه’، والتي تختلف جذريا عن بحث بالمعنى المصنع في الأكاديميا والمؤسسات عامة حيث الباحث ونتيجة البحث بمثابة سلع في السوق. ونحن محميون بكلمة يحسن التي تتعامل مع المرء باحترام قلّ نظيره فقيمة المرء ما يحسنه (تتضمن إلى جانب الاحترام كرامة وتعددية ومساواة – بمعنى استحالة مقارنة قيمة شخص بشخص آخر). محميون في إتباعنا لرؤيا لا لأهداف. محميون بأن طريق التعلم وتثقيف الذات هو التأمل والاجتهاد وليس منهجية بلطجية كما في الأكاديميا. محميون بلغتنا وحضارتنا بطريقة تقوّي المناعة الذاتية على صعيد الفكر وحماية القدرة على توليد الذات. قول آخر يحمينا هو دعاء لإمام: أللهم أخرجني من ظلمات الوهم وأكرمني بنور الفهم’؛ قولٌ يشفينا من أوهام حديثة كالتمييز بين المتعلم والأمي، أو بين العالم والجاهل. الصفة الفارقة هي بين الواهم والفاهم وهو وصف ليس فيه احتقار وشعور بالفوقية والدونية.

الخطوة الأولى يجب أن تكون تنظيف عقولنا عبر تنظيف لغتنا وصقل معانينا وعافيتنا وتهذيب تعاملنا. تنظيف لغتنا من التلوث بكلمات مثل فاشل ومتخلف وتنمية وتميز… نعي تلوث الماء والهواء والتربة والمأكولات ولكن تلوث اللغة والفكر يبقيان قابعين بحيث لا نراهما. مشكلة التعليم الرسمي إذن لا تكمن في التلقين ولا في الحاجة إلى تطويره وتحسينه ولا في أنه تقليدي يحتاج لنظريات وأساليب حديثة، بل يكمن في تصميمه: أداة للتحكم والسيطرة عبر احتقار أنفسنا وحضارتنا واعتبار الغرب طريق الخلاص. جدير بالذكر تأكيد غاندي (لإنقاذ الهند) بكتابه “هند سوارج” (1909) ضرورة إبعاد (مدى الحياة) كل من ينشر المدنية الأوروبية في الهند وهذا غير كافٍ للتكفير عن ذنوبه!… …