رقم 17: الأصولية … خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

(17 آب/ أغسطس 2020)

لو أحضرنا خمسة أصوليين مسلمين وخمسة أصوليين مسيحيين وخمسة أصوليين يهود وسألنا المجموعة الأولى: ماذا يعني الإسلام لك؟ والثانية، ماذا تعني المسيحية لك؟ والثالثة: ماذا تعني اليهودية لك؟ سنحصل بالأغلب، بكل حالة، على خمسة أجوبة مختلفة. بالمقابل لو أحضرنا خمسة أشخاص يحملون دكتوراه برياضيات القبيلة الأورو-أمريكية وسألناهم ماذا تعني الرياضيات لهم، سنحصل غالبا على إجابات متطابقة أو متقاربة جدا. ربما يعزو البعضُ أن التقاربَ بين الرياضيين يعكس أن الرياضيات عالمية حقًّا. الاعتقاد بأن هناك معنى أحاديا عالميا، أو مسارا أحاديا عالميا للتعلم والتقدم يمثّل برأيي أخطر فيروس على صعيد الفكر والمعرفة والإدراك. ربما يكفّر البعضُ البعضَ الآخر في الأديان لكن يقبلوا بالتعددية. بالرياضيات، التعددية غير واردة. لذا أرى أهمية قصوى للتمييز بين الأصولية بمعنى الاعتقاد بمسار أحادي عالمي، وبين الأصولية بمعناها الحرفي: العودة للأصول والجذور (شرط أخذ المعطيات الحالية بعين الاعتبار). عشتُ المعنيين للأصولية بمجال الرياضيات: عشت المعنى الفيروسي عبر الرياضيات والعلوم التي درستُها ودرَّسْتُها ونقلتُ الفيروس لطلبتي بنيّةٍ حسنة؛ وعشت المعنى الحرفي (العودة للأصول والجذور) عبر وعيي لرياضيات أمي الأمية عام 1976 [أكثر قصة حكيتها عبر 4 عقود، وسأحكيها بإحدى خواطر هذه السلسلة.] وعيي لرياضيات أمي وضّح لي المعنيين لكلمة أصولية، كما مَنَحَني معنى قويا لكلمة تعددية. بدأَتْ رحلتي من أصولية الفكر الأحادي العالمي نتيجة حرب 1967 نحو أصولية بمعنى نحو الجذور والأصول. باختصار، الأصولية المخربة التي نعيشها حاليا مصدرها الأيديولوجية المهيمنة وليس الدين؛ الأصولية الدينية التي نشهدها حاليا مصدرها هذه الأيديولوجية.

ادعاء شخص بأن ما يؤمن به هو الحقيقة المطلقة وأن الآخرين على خطأ لكن يرضى (رغم عدم موافقته) أن يؤمن آخرون بحقائق مختلفة وأن نصيبهم النار، يختلف جذريا عن الاعتقاد بوجود معرفة أحادية عالمية يملك أدوات لفرضها على كل الناس (كما هو الحال بالنسبة لرياضيات القبيلة المذكورة). تعريف ’فرانسيس بيكن‘ للعلم بأنه ’إخضاعُ الطبيعة وقهرُها وخلخلةُ أُسُسِها‘ والتزام العلماء بذلك بعده يمثل فيروسا خطيرا جدا مغلّفا بأغلفة براقة تدّعي الحيادية والعلمية والعالمية. كان العلم قبل ’بيكن‘ يعني السعي لفهم الطبيعة والحياة ليعيش وفقهما ويعالج ما يخربه البشر فيهما؛ أي يرتبط بالحكمة. ربط الأصولية بالدين حاليا هو لإلهائنا عن الأصولية المعرفية الأخطر والأكثر خفاء التي لا تسمح لغيرها بالوجود ضمن المنظومة المعرفية، وأيضا لتغييب المعنى الحرفي للأصولية: ارتباط بأصول وثقافة وقيم وسياق وفِعْل وتأمل واجتهاد. تشمل هذه الأصول، كما سبق وذكرت، حكمة وعافية وكرامة وأمل ومحبة وصبر وإيمان وتقوى وروح الضيافة.

مثالٌ يوضح أصولية رياضيات القبيلة يتعلق بتدريس منطق أرسطو الثنائي المتمثل بأن كل شيء إما هو ’أ‘ أو ’ليس أ‘ ولا يوجد بديل ثالث، والذي نستعمله بمعظم نواحي الحياة. نستعمله مثلا بامتحان التوجيهي إذ يخرج الطالب إما ناجح أو فاشل لا بديل ثالث. عشرات الألوف يجلسون كل سنة لامتحان التوجيهي بالرياضيات ويجيبون نفس الأجوبة بالتمام والكمال والتفاصيل، لا يحيد جوابٌ عن آخر قيد أنملة؛ أصولية لا مثيل لها بالتاريخ! المناهج حول العالم تركع سجودا لهذا المنطق. كذلك استعمله الرئيس ’بوش‘ في حربه ضد أفغانستان حين قال: ’إن لم تكونوا معنا فأنتم ضدنا‘ – لم يستطع تخيُّل بديل ثالث لأن الرياضيات التي درسها لا تسمح لبديل ثالث! بعد سنوات وعيتُ (كما سبق وذكرتُ) أن أصولية الرياضيات كانت بمثابة فيروس فكري دخل عقلي وعشش فيه سنوات ونقلتُه لمعظم الطلبة الذين درّستُهم، خاصة الأوائل منهم. أود أن أؤكد: الأصولية لا تكمن باعتقاد شخص أن ما يؤمن به هو حقيقة مطلقة ويكفِّر الآخرين، بل الاعتقاد بأن ما يؤمن به هو أحادي عالمي ولديه أدوات تغدق على الشخص حسنات أو تعاقبه – الآن وليس في الآخرة. بهذا المعنى كنت أصوليا، أداتي رياضيات القبيلة الأورو-أمريكية. يتمثل الفيروس في هذه الحالة بأفكارٍ ومقاييس لا معنى لها بالحياة. مثلا 1=1 صحيحة عندما لا ترتبط بمعنى وسياق وفِعْل (تُدْعى ‘رياضيات بحتة’). بالحياة، لا احد يؤمن بهذا. إذا ذهب شخص مثلا لشراء خضرة، يكون مختلا إذا استعمل 1=1 في اختيار ما يشتريه. لا توجد تفاحة في الواقع تساوي تفاحة أخرى. يتحسس بيديه كل تفاحة ويختار الأقرب لذوقه. الأماكن الوحيدة التي فيها 1=1 كتب مقررة ونواحٍ تقنية كأجهزة. نستعملها أيضا في التصويت بانتخابات مما يجعل من السهل التلاعب فيها نتيجة دعاية والمال المتوفر للمرشَّح. لذا أدعو إلى تجنُّب – قدر الإمكان – تدريس أي موضوع دون سياق ومعنى وفِعْل ودون تكوين صورة بالذهن. جدير بالذكر قبل أن أنهي أنني نتيجة وعيي لتعدد معنى رياضيات (على أصعدة شتى بدءا برياضيات أمي) صمّمتُ مساقا بالرياضيات لطلبة سنة أولى بكلية العلوم بجامعة بيرزيت عام 1979 أسميته‘ الرياضيات في الاتجاه الآخر’.

#منير_فاشه #مجاورة#خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة #العيش_بأمل #تعلم #التعلم_قدرة_عضوية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *