رقم 29: مدرسة ‘أبو ريا’ التي درستُ فيها … خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

(29 آب/ أغسطس 2020)

عام 1949 أدخلني أهلي ب ‘الكلية الوطنية’، المدرسة التي أسسها ‘خليل أبو ريا’ (تلميذ السكاكيني) عام 1947 برام الله. أشعر أني محظوظ لأنهم لم يضعوني بمدرسة ‘نخبة’. التعلم الذي مررت به فيها عبر 8 سنوات فاق كثيرا في العمق مما حصلت عليه عبر الدراسة. التعلُّم فيها كان أهم من الدراسة. كان ‘أبو ريا’ مثلا (ولمدة 4 سنوات) يغلق المدرسة أيام السبت ويأخذنا مشيا على الأقدام طوال اليوم بجبال ووديان وقرى حول رام الله (كان السبت في ذلك الوقت برام الله يوما دراسيا). كان ‘أبو ريا’ يعتبر ذلك المشي جزءا من المنهاج. ما كنا نتعلمه (كميةً ونوعًا، والذي لا يمكن أن يتم عبر كتب مقررة وتدريس وتقييم) كان مذهلا: تعرُّف بعضِنا على بعض وعلى الطبيعة بما في ذلك الينابيع العديدة بفصل الربيع حيث كنا نشرب منها مباشرة، والتعرف على القرى وأهاليها. أدى ذلك إلى سُمْعَة سيئة بأن المدرسة غير جدية إذ إلى جانب إغلاق المدرسة أيام السبت، لم يكن أبو ريا يطلب ممن يتقدم ليلتحق بها شهادات المدرسة السابقة، والمنافسة كانت شبه معدومة. كانت أغلبية الناس تعتبر أن ما نفعله مضيعة للوقت فالمفروض بدلا من المشي، من الأجدى أن نكون جالسين على مقاعد ننظر إلى لَوْح! لم أفقد منذ ذلك الوقت (عمري الآن 79 سنة) حبي للمشي بالطبيعة. من أحلى ما أتذكره بتلك المشاوير أن كان يحدث أحيانا عندما ندخل قرية، يكون بمقهى بساحة البلد شخص يقرأ الجريدة بصوت عال وحوله أشخاص يستمعون ويعلقون ويختلفون ويضحكون. تلك كانت مجاورات جوهرها تعلم وجدل نسيج على أصعدة شتى ومتعة مفقودة في القراءة الصامتة. كانت تلك اللقاءات مليئة بالحيوية والتعددية في النظرة لما يحدث. عندما أتذكر ذلك أشعر بروعة التحادث والنطق والإصغاء. القراءة الصامتة التي نمارسها بغرف مغلقة تفتقر لكثير مما شاهدتُ بتلك الحلقات. نحتاج أحيانا إلى قراءة صامتة، لكن إذا كان ذلك لمدة ساعات باليوم وعدة دقائق فقط للتحادث، فذلك خسارة لأعمق فن بين البشر. لم نكن عبر المشي مقسمين حسب العمر كما بالصفوف؛ كان الكل يتحدث مع الكل عبر لغة حية لا علاقة لها بمصطلحات وتصنيفات. كنا نمشي أغلب الوقت بالوعر، والذي بطبيعته يجمع بين حرية عميقة وانتباهٍ الشديد للواقع؛ حيث ننظر قبل كل خطوة أين نضع أقدامنا حتى لا نتعثر. كان كلٌّ منا يتعلم دون تخطيط بل كتجسيدٍ للتعلم كقدرة فطرية تحدث كالتنفس طوال الوقت. كانت تلك المشاوير ولائم فكرية ثقافية اجتماعية روحية جغرافية يختار فيها كل شخص ما طاب له من الطبيعة والأحاديث وليس وفق برنامج معين. تصوروا لو هذا لا يزال يُمارَس بمدارسنا، حيث يتعرف بعضنا على بعض عبر جدل أنسجة بيننا ومع الطبيعة لا عبر تنافس على رموز مريضة. كذلك، كان ‘أبو ريا’ يختار طلبة من خلفيات مختلفة بالصف الواحد. تخرّجتُ مع 6 من رام الله والباقين من قرى حولها واثنان من مادبا. (أسَّسَ رام الله شيخ إحدى عشائر الكرك راشد الحدادين قرر الجلو عن موطنه بسبب خلافات عشائرية بالقرن 16.) كان كل سنة يأخذنا جولة 3 أيام. ما زلت أذكر جولة لشرق الأردن حيث نمنا ليلة بمدرسة عجلون والثانية على شط العقبة.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر  #الطبيعة_الشافية  #احتلال_و_عودة #العيش_بأمل #تعلم  #التعلم_قدرة_عضوية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *