رقم 51: عودة إلى ‘دانيال بلس’… التبشير بالدين والتبشير بالأكاديميا … خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

(20 أيلول/ سبتمبر 2020)

نبهتني ‘ريف فاخوري’ إلى ما جاء في أحد هوامش كتاب ‘المسيحية بين العرب’ ل‘منذر حدادين’ يحكي ملاقاته مع ‘دانيال بلسْ’ حفيد ‘دانيال بْلِسْ’ الذي أنشأ الجامعة الأمريكية في بيروت قبل ذلك بمائة سنة. كتب ‘منذر’: “كان لي لقاء مع دانيال بلس الحفيد في جامعة واشنطن بمدينة سياتل الأمريكية عام 1968، ومما ذكره لي أن جده ‘دانيال بلس’ بدأ العمل بالتبشير في لبنان في الأربعينيات. ثم عاد إلى الولايات المتحدة عام 1857 وأبلغ المشرفين في كنيسته أن مهمة التبشير في تلك البلاد التي يعرف أهلها الله والديانات، مهمة صعبة وأنه يخشى أن يتحول العاملون معه إلى الإسلام واقترح عليهم تأسيس كلية لأن ليس هناك أية كلية. وافق المجلس وجُمِعَتْ تبرعات؛ تمكنت بعثة ‘بلس’ من شراء قطعة أرض؛ والبدء بالبناء”. ما كتبه ‘منذر’ جعلني ألاحظ وجه الشبه المذهل في المنطق الخفي بين التبشير بالدين والتبشير بالأكاديميا. كنتُ ضحية الاثنين: دين ورياضيات. انطلق بْلِسْ بالمجالين من أنه يمتلك الحقيقة الأحادية العالمية وأن واجبه فرضها علينا دون أن يعرف اسمنا وثقافاتنا؛ أطلق علينا natives! ادعاء امتلاك الحقيقة وفرضها علينا ببلطجة ناعمة عبر ‘مستوطنات معرفية’ (مدارس وجامعات) هو ادعاءٌ يشكّل الفيروس الأخطر على صعيد الفكر والإدراك وقيمة الإنسان والتعلُّم كقدرة عضوية، إذ يغيّب حقيقة أن كل إنسان مصدر معنى ومعرفة وفهم – فيروس عميق جدا ما زال ينهش فينا ويهزمنا من الداخل. جدير ذكر ما قاله ‘بْلِسْ’ الجدّ في حفلٍ افتتاح “College Hall “ يوم 7 /12 / 1871:

“…it will be impossible for anyone to continue with us long, without knowing what we believe to be the truth and our reasons for that belief”.

بالعربية:

” سيكون من المستحيل على أي شخص أن يستمر معنا لفترة طويلة، دون معرفة ما نعتقد أنه الحقيقة وأسباب هذا الاعتقاد.” 

مقابل ادعاء الحقيقة سَلَكَ العرب وأممٌ أخرى طريق الحكمة. اسم أول جامعة عربية ‘بيت الحكمة’ ببغداد. ضروري التوقُّف هنا والتأمُّل بالفرق بين ادعاء الحقيقة والعيش بحكمة. الحكمة تتضمن سعة صدر ورحابة فكر وتعدُّد معنى وجدْل نسيج بين البشر والثقافات ومع الطبيعة والحضارة. ادعاء امتلاك الحقيقة الأحادية العالمية يتوافق مع قيمتي السيطرة والفوز اللتين تؤديان بالضرورة إلى تمزيق العالم داخل الإنسان وتمزيق النسيج المجتمعي وسحق الروح والوجدان وتبرير استعباد الآخرين. كتَبَ ‘غرامشي’ قبل مائة سنة أن جوهر الهيمنة يكمن في إيمان المُهَيْمَن عليه بالتفوق الذهني والأخلاقي للمُهَيْمِن، وهذا ما لم ينجح فيه ‘بلس’ عبر الدين لكنه نجح نجاحا باهرا بمجال المعرفة. أُصِبْتُ بهذا الفيروس في مجال الرياضيات ونقلتُه إلى طلبتي دون وعيٍ مني، إذ كنت أعتقد أني أفعل خيرا. لا شيء أعمق من غزو العقل والقضاء على مناعته وفتح الباب على مصراعيه أمام غزوات على أصعدة أخرى. غزو العقل الذي لا ترافقه حكمة يحوّلنا إلى عبيد ‘مضبوعين’ نردد ‘حاضر يابا’ كما بالحكاية الشعبية أن الضبع حيوان مفترس لئيم قذر، يضبع فريسته حينما يصادف شخصاً جباناً فيبوّل على ذيله ويرشقه ببوله، فيُذْهَل ذلك الشخص ويفقد عقله ويسير خلف الضبع ظناً منه أنه أبوه ويلحق به إلى وكره حيث يجهز الضبع عليه ويفتك به فريسة سهلة. سرنا وراء ‘بلس’ فريسة سهلة منذ 150 سنة، لم نفق منها بعد. كانت هناك محاولتان في فلسطين لإيقاذنا من هذا السبات والخداع، كان الأول خليل السكاكيني الذي حذّر عام 1896 وهو بعمر 18 سنة أن التعليم الذي أحضرته الجاليات الغربية هو احتذاء بحذاء الغير وهو إذلال. أما المصدر الثاني الذي حذّرنا من السير وراء ضبع العقول فكان فلاحو فلسطين الذين دعوا للقاء بيافا عام 1929 انتقدوا فيه التعليم الذي ينشره الاحتلال الانكليزي بقرى فلسطين: تمزيقٌ للعلاقات داخل العائلة ومع الأرض. (كالعادة، ضروري التمييز بين معارف تتعلق بالحياة ومعارف تقنية؛ أتكلم هنا عن الأولى). ما فَعَلَه ‘بلس’ بكل هدوء احتقار وتغييب ما لدينا من معارف وثقافات تتوافق مع الطبيعة الشافية والعيش بحكمة واستبدالها بعلوم تُخْضِع الطبيعة وتخلخل أسسها. لهذا أشير للمؤسسات التي نشرها الغرب عندنا ‘مستوطنات معرفية’ فمنطقها الخفي هو منطق المستوطنات الإسرائيلية التي تحيطني من كل جانب برام الله. جدير بالذكر أن ادعاء بلس امتلاك الحقيقة يتوافق مع شعار هارفارد VERITAS (تعني الحقيقة). ادعاء الحقيقة وتغييب الحكمة هو الفيروس. أخيرا أود ذكر قولين كتوضيح لبعض ما جاء بأعلاه:

AUB President Fadlo Khuri in his inauguration speech (Jan. 2016) stressed that the legacy of Daniel Bliss lives on: “One thing has not changed since Daniel Bliss founded AUB in 1866: we are determined to make an impact – on knowledge, and on society”.

بالعربية: 

“أكد رئيس الجامعة الأميركية في بيروت، فضلو خوري، في خطابه الافتتاحي (كانون الثاني / يناير 2016) أن إرث دانيال بلس لا يزال قائماً: “لم يتغير شيء واحد منذ أن أسس دانيال بلس الجامعة الأميركية في بيروت عام 1866: نحن مصممون على إحداث تأثير – على المعرفة وعلى المجتمع.”

أما القول الثاني فجاء على لسان أهم مؤرخ فلسطيني، وليد الخالدي، في خطاب التخرج في الجامعة عام 2010: “منذ نحو 145 سنة، رست في ميناء بيروتسفينة… كان على متنها مجموعة غير عادية من الرجال جاؤوا حاملين معهم جوهر ما في القيم الفضلى من بلادهم البعيدة: نزاهة القصد والتزام الخدمةواستقامة في التعامل مع الغير وطاقة لا تنضب وتفاؤل لا يكل”!

#AUB #danial_bliss #Munir_fasheh #منير_فاشه #مجاورة #خواطر#الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة #العيش_بأمل #تعلم #التعلم_قدرة_عضوية #التعلم_خارج_المدرسة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *