الخاطرة رقم 178: فلسطين الأصالة وفلسطين الوهم … خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

(14 أيار / مايو 2021)

كيف نوقف عملية انتزاع فلسطين الأصالة منا، واستعادتها بأفقها الحضاري الغني والمتنوع؟ تتلاقى في فلسطين أنسجة حضارية وجغرافية ودينية متنوعة ومتعددة، وتقع وسط الأمة العربية التي تضم عوالم عدة مما يجعل التعبير الأدق والأصدق من “الهوية الفلسطينية” هو “التعددية الفلسطينية” ذات الأفق الحضاري. لا توجد مدينة سوى القدس يصبو أكثر من نصف سكان الأرض الحج إليها. لا يمكن تفسير إهمال هذه الأمور سوى أن حدود إدراكنا هي فلسطين الوهم.كان عام 1993 فاصلا بين فلسطين الأصالة وفلسطين الوهم، بين فلسطين الحضارة وفلسطين التنمية، بين فلسطين الأهالي وفلسطين المواطنين. قبل ذلك العام، في فلسطين الأصالة والحضارة والأهالي، كان العالم يأتي إلينا ليتعلم بشكلٍ تبادلي ويتعامل معنا ضمن علاقة أفقية، لا فوقية ولا دونية. كان الناس من كل مكان يأتون ليتعرفوا على معانٍ للمقاومة ونمط مختلف في العيش؛ ليتعرفوا علينا كمصدر معرفة وعمل جماعي إبداعي على عدة مستويات. بعد 1993، في فلسطين الوهم والتنمية والمواطنين، تأتي المنظمات الدولية لتساعدنا من موقع استكبار ضمن علاقة تنطوي على احتقار؛ تأتي بشروط مهينة وتغرينا بفتاتاتٍ وتُرْهِبُنا بقَطْعِها عنا إذا لم نفعل ما تأمرنا به. في فلسطين الأصالة كانت الكرامة أهم ما يميزنا؛ في فلسطين الوهم أصبحت المطالبة بالحقوق من الظالم والاستجداء هو ما يميزنا. في فلسطين الأصالة كان الأمل مصدر حيويتنا؛ في فلسطين الوهم أصبحت التوقعات مصدر إحباطنا. في فلسطين الحضارة كانت العلاقة المقدسة هي التي بين الأهالي؛ في فلسطين الوهم العلاقة الرئيسية هي بين مواطنين وحكومة ومؤسسات. في فلسطين الحضارة لم يكن لنا صوت في الأمم المتحدة، لكن صوت فلسطين كان يدوّي في أرجاء العالم. بعد الحرب العالمية الأولى فرض العالم علينا انتداب بريطانيا؛ اليوم، نستجدي انتداب الناتو علينا، ونقنع أنفسنا بأنه لا يمكن العيش بما لدينا. خلال عقد السبعينيات والانتفاضة الأولى برزت فلسطين الأصالة والحضارة والأهالي بشكل أدهشنا وأبهر العالم. الفرق الجوهري بين ’أهالي‘ و’مواطنين‘ هو أن العلاقة الرئيسية في مجتمعات الأهالي هي بعضهم مع بعض ومع مكان وتاريخ وحضارة وطبيعة وذاكرة جمعية، بينما العلاقة الرئيسية في مجتمعات المواطنين هي مع دولة ومؤسسات. من هنا، ولاء الأهالي بالدرجة الأولى هو لبعضهم البعض بينما ولاء المواطنين هو لدولة ومؤسسات. في مجتمع المواطنين، يختفي ’الإنسان الصالح‘ (الذي يطيع ضميره ويرفض القيام بأي عمل يلحق ضررا بآخرين أو بالطبيعة مهما كانت المغريات) ويبرز مكانه ’المواطن الصالح‘ الذي يطيع أوامر الدولة والمؤسسات طاعة عمياء. الأمريكي الذي يذهب إلى العراق ليقتل ويدمر دون أن يسأل لماذا، هو مواطن صالح لكنه ليس إنسانا صالحا. استبدال “أهالي” ب”مواطنين” (أو استعمال مواطنين كرديف لأهالي) هو مثال على احتلالٍ إدراكي معرفي. هو ليس استبدال كلمة بأخرى، بل استبدال علاقة غنية ذات جذور قوية بعلاقة ضحلة واهية. يمكن أن يصبح سكان منطقة مواطنين بين ليلة وضحاها (نتيجة إعلان دولة مثلا) بينما يحتاج تكوّن الأهالي إلى مئات السنين. يمكن منح أو إلغاء المواطنة بقرار لكن لا يمكن ذلك مع الأهالي. استطاعت إسرائيل مثلا تجريد كثيرين من أن يكونوا مواطنين في أي دولة، لكن لم تستطع إلغاءنا كأهالي، مما يفسّر سرّ بقائنا واستمرارنا ضمن ظروف قاسية وممزِّقة إلى أبعد الحدود. الأهالي، مثل بذور الخضرة البلدية، يولّدون ذاتهم عبر آلاف السنين. البذور التي تصنّعها شركة مونسانتو غير قادرة على توليد ذاتها. فلسطين الأصالة تولّد ذاتها بينما فلسطين الوهم لا تستطيع العيش إذا انقطع مصدر وجودها الخارجي.

#Munir_fasheh  #منير_فاشه   #مجاورة   #خواطر   #الطبيعة_الشافية   #احتلال_و_عودة  #العيش_بأمل   #تعلم  #mujaawarah # تنمية_مستدامة   #الحكمة  #التعلم_قدرة_عضوية  #التعلم_خارج_المدرسة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *