الخاطرة رقم 188: ثورة قوامها القمح… خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

(9 حزيران / يونيو 2021)

يوم السبت 26/ 6/ 2021 شاركتُ بحصاد قمح بمنطقة قرب صويلح. وكنت قبلها قد شاركتُ بحصادٍ في منطقتين أخريين: الهاشمي الشمالي والأرض المحاذية لكارفور/ سيتي مول. مشروع القمح والحصاد جزء من مبادرة ’ذكرى‘ التي بدأت نشاطها بغور المزرعة. أسس المبادرة لمى الخطيب وربيع زريقات. مرت المؤسسة بتجارب متنوعة غنية، كان آخرها استغلال أراضٍ مهملة وزراعتها جماعيا من قبل أصحاب الأراضي والجيران القاطنين حول الأرض ومتطوعين من أماكن مختلفة، ويُوَزَّع المحصول مجانا كما يتفق المشاركون أو على من يحتاج له أكثر. بدأوا بأرض في منطقة السلط العام الماضي. كانت تجربة ملهمة شجعتهم على إعادتها هذا العام حيث شارك عدد كبير من أصحاب أراضٍ بعمان. سأحكي هنا عن الخبرة التي عشناها يوم 26/ 6. شارك بالحصاد جيران الأرض التي تمت زراعتها ببذور قمح غير مُخَرَّبة. بعد الحصاد، تجمعنا بزاوية من الأرض حيث أحضرت كل عائلة طبق طعام، وقمنا بتحميص حبوب القمح وأكلنا بعضها محمصة والكمية الأخرى طُحِنَت وأضيف ماء ساخن وطحينة وعسل واسم الأكلة “بتشيلة”، كانت أمسية سمر رائعة. فإلى جانب الجَمْعة الجميلة، ذكّرتنا بالغنى المتوفر في كل مكان لكن تغيّبه المدنية المهيمنة المبنية على نمط استهلاك يولّدُ كسلًا حيث كل شيء مُصنَّع وجاهز. الأراضي المهملة التي يمكن استغلالها لضمان غذاء متعافٍ خالٍ مما يضر الإنسان، خاصة الأطفال، يمكن أن تسدّ حاجات عدد كبير من الناس بجهد جماعي ومصاريف قليلة. جسّدت تلك الأمسية الثلاثي ’المقدّس‘ للرؤية التي نعمل وفقها: المجاورة، والعافية، والأتربة المغذية. المجاورة اللبنة الأساسية ببُنْيَة المجتمع؛ والعافية القيمة الجوهرية التي لا نناقضها بأفعالنا؛ والأتربة التي تُغذّينا ونغذيها: التربة الأرضية والتربة الثقافية-المعرفية والتربة المجتمعية-الاقتصادية والتربة الروحية-الوجدانية. هذه الأتربة هي مكوّنات المجتمع وليس القطاعات الثلاثة (الحكومي والمدني والخاص) التي تدعيها علوم القبيلة الأورو-أمريكية. هذه الأتربة متوفرة في كل المجتمعات وتمثّل مبدأ العيش بوفرة لا بندرة. استعادة القمح يمكن أن تكون بداية لحكم الذات في أمور جوهرية مثل ما يدخل العقل والأمعاء والقلب والعلاقات. المعرفة التي لا علاقة لها بأتربة هي أقرب لمعرفة بلاستيكية ميتافيزيقية. عشنا يوم 26/ 6 روح المجاورة ووفق العافية، كما عشنا الأتربة المغذية عبر علاقتنا مع تربة الأرض، وتربة المجتمع، والتربة الوجدانية حيث جدلَتْ تلك الأمسية نسيجا روحيا بين الموجودين، والتربة الثقافية المرتبطة بالقمح ببلاد الشام (مما يذكّرنا بقول المسيح الفلسطيني، لا الأوروبي: الحقّ أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتَمُتْ، فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير). استعادة العلاقة مع القمح تشكل في نفس الوقت أساس التحرر وأساس الالتزام. كانت تلك الأمسية من أجمل الأمسيات التي عشتها منذ مدة طويلة: منعشة مغذية جميلة مليئة بالحيوية والسعادة، شارك فيها أطفال من كل الأعمار (قارب عددهم عدد الكبار). الحياة بدون مثل هذه اللحظات تكون خاوية من أي معنى. عشنا ساعات وفق إنسانية خارج إملاءات السوق والسيطرة والفوز – وفق روحانية في علاقتنا بعضُنا مع بعض ومع الطبيعة الشافية بشتى مكوناتها.

عندما استيقظتُ صباح اليوم التالي، سرح خيالي نحو شهر تشرين القادم (وأشهُر تشارين أخرى في المستقبل). تخيّلتُ آلاف الأشخاص في أراض مختلفة عبر الأردن، في المدن والأرياف والبراري، يعيش فيها الأطفال بعيدين عن جو مولات وملاهي مصطنعة، ويعيش الكبار خارج إملاءات ومتطلبات المؤسسات؛ يعيشون أياما يستمتعون فيها دون شعور بفروق وتراتبية ضمن أجواء تنبض بالسعادة. تصوروا لو كل المدارس انطلقت الخريف القادم بالطاقة الهائلة في مئات الألوف من الطلبة وساهموا بزراعة وحصاد ليس فقط القمح بل بذور وبقول أخرى في أراضٍ حولهم. لا أمل للبشرية بالاستمرار إذا بقينا نحوم بين الأغصان ونهمل ما يجري بالجذور. نتحدث عن ثورات من شتى الأنواع وننسى ثورة قوامها القمح تتوافق مع الطبيعة الشافية. الاعتماد على الخارج سيتوقف ولا يوجد بديل سوى الاعتماد على أنفسنا وما لدينا من قدرات ومقومات وهي هائلة، لكن مغيبة. عاجلا أم آجلا سنضطر إلى العيش وفقها.

بدلا من التعامل مع تربة الأرض بقدسية كما كانت عبر العصور، تتعامل المدنية المهيمنة حاليا على تدمير التربة حول العالم. أكثر من 80% من التراب دُمِّر خلال عصر ’التقدم‘ الذي حكم العالم سنوات عديدة… نحن من التراب وإلي التراب نعود. كل شيء فينا يعود إلى التراب: فضلاتنا وأجسامنا بعد الموت. إذا استمرينا بالعيش وفق أيديولوجيات القبيلة الأورو-أمريكية سنفقد الأتربة جميعا وليس فقط الأرضية. رغم كل هذه الحقائق، لا يوجد ذكر للتراب كأساس في معارف التعليم النظامي والأكاديمي! قولٌ لشمس التبريزي: كيف يضحك المرج إن لم يبك السحاب؟! وهل ينال الطفل اللبن بغير بكاء؟!

#Munir_fasheh  #منير_فاشه   #مجاورة   #خواطر   #الطبيعة_الشافية   #احتلال_و_عودة  #العيش_بأمل   #تعلم  #mujaawarah # تنمية_مستدامة   #الحكمة  #التعلم_قدرة_عضوية  #التعلم_خارج_المدرسة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *