خاطرة… موطن الأمل بالنسبة لي في الفترة الحالية

أكبر خدمة قدمتها لنا كورونا هي فَتْح أبواب على مصراعيها لانتزاع أنفسنا من سطوة أوهام وادعاءات عصر التنوير (الذي كان نوره ساطعا حيث لم نستطع رؤية الواقع وما يجري داخلنا وحولنا)؛ عصرٌ أوهمنا أننا إذا اعتمدنا العقل والمنطق والعلم والفردية والتقدُّم كأساس ومرجع، سنتخلص من أوبئةٍ قتلت ملايين البشر، ومن أوهامٍ وخرافاتٍ عديدة ومتعددة، وأننا سنبدأ السير نحو حياة تضمن صحتنا وتقدمنا كبشر… الخ). جاءت كورونا وفَضَحتْ هذه الادعاءات إذ نمط العيش والفكر والقول الذي ساد عبر 150 سنة على الأقل أدى لانتشار فيروسات بدأت بالفكر والإدراك قبل 400 سنة، وشملت حديثا سمومًا بطيئة تدخل الأمعاء عبر آلاف الكيماويات، وسمومًا تدخل القلوب والعلاقات والثقافات. ما غيّبه عصر التنوير أخطر بكثير مما قدّمه: غيّب الروح والقلب والمحبة والتقوى والكرامة والمجاورة والتعلم كقدرة عضوية والصبر والإيمان والحكمة والعافية والضيافة (تتمثل في أعمق ظواهرها بالإصغاء للأطفال واليافعين مما يساعد كلّا منهم لترتيب عالمه الداخلي وعلاقته مع العالم من حوله. جديرٌ بالذكر عدم وجود رديف لكلمة إصغاء بالانكليزية!) كورونا مؤهلة لإيقاظنا من سباتٍ عميق بحيث نعي أن التقدم والعلم والمنطق والعقل، التي تفتقر للحكمة وتغنّى بها عصر التنوير، كان تقدما أدى لتخريب الحياة وتدمير قدرة الطبيعة لتوليد ذاتها. التربة خُرِّبَت، والهواء والمياه والمجتمعات والثقافات وروح الأديان. صعب جدا ذكر ناحية في جذور الحياة لم تُخَرَّب.

كان عمري 11 سنة عام 1952 حين وقف ’خليل أبو ريا‘ مدير مدرستنا برام الله وكعادته كل صباح بعد اصطفافنا للدخول إلى الصفوف، قال لنا بكلمته الصباحية: “لديّ اليوم خبر سعيد جدا، قرّر الملك طلال أن يبقى غرب عمان منطقة خضراء، تتنفس منها عمان”. أذكر أننا صفّقنا للخبر، وهو أمرٌ لم نفعله في أي حديث صباحيّ آخر للمدير؛ لكننا في ذلك اليوم صفّقنا. هل الحكمة الفطرية الموجودة فينا كبشر هي التي دفعتنا لنصفّق؟ لا أدري، لكن صفّقنا!

خلال ال24 سنة الفائتة، في عملي كمدير الملتقى التربوي العربي الذي أنشأتُه بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد (وأدرتُه هناك من 1997 حتى 2007) والذي ما زال مستمرا بالأردن وفلسطين حتى الآن… أقول، خلال ال24 سنة الماضية زرتُ 16 دولة عربية و15 دولة غير عربية، شملت الهند وباكستان وإيران شرقا إلى المكسيك والبرازيل غربا مرورا بدول أوروبية وشمال إفريقية. أكثر مؤسسة على صعيد دولة، أجدُها حاليا مؤهلة للعيش وفق رؤية مغايرة لما هو سائد وترتبط بالتعلم والتعليم، هي مراكز الأميرة بسمة (عددها 52)، المنتشره منذ 44 سنة في أنحاء الأردن، ولتقبُّلها رؤية هي جزء جوهري من حضارتنا، لكن عصر التنوير غيّبها كليا. كانت بداية العيش وفق مجاورات على طريق العافية ضمن مؤسسة ’جُهُد‘ منذ تموز 2018 وتوقفنا عندما اجتاحتنا كورونا قبل سنة و 8 أشهر. أما الشخص التي وفّرت فسحة لهذا حتى يحدث، فكانت السيدة فرح الداغستاني، التي أقول دوما لأصدقائي بفلسطين كم تمنيتُ أن تكون بفلسطين مؤسسة فتحت لي الفرصة مثل فرح.

أول المدارس التي فتحت ذراعيها لإعادة التفكر فيما سرنا وفقه منذ غزو القبيلة الأورو-أمريكية لمنطقتنا قبل 150 سنة هما الأهلية والمطران (أَقْدَمْ مدرستين بعمان قبل قرابة 85 سنة). بدأنا بمجاورة لمن يرغب من المدرستين (مجاورة، وليس ورش عمل وبرامج تدريب) بداية نيسان 2021. هناك على الأقل ثلاثة أقوال شافية، نستعيد وفقها الكرامة والعافية والحكمة في حياتنا اليومية: ’قيمة كل امرئ ما يحسنه‘ و’ما هلك امرؤٌ عرف قدْر نفسه‘ (القولان للإمام علي)، وقولٌ ثالث لجلال الدين الرومي ’لربما أنك باحثٌ في الأغصان عما لا يظهر إلا في الجذور‘، مما يعني أن مهمة جوهرية لنا، كأشخاص ومجاورات، التوضيح لأنفسنا فيما إذا كان ما نفكر به وما نقوله ونفعله ينتمي للأغصان في الحياة أم للجذور.

وللحديث بقية في خواطر قادمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *