خاطرة… استعادة أفق حضاري (الجزء الثالث): الانحدار من بُعْدٍ حضاري إلى شرذمة لا آخر لها

يشكّل قولُ الرومي ’لربما أنك باحثٌ بين الأغصان عما لا يظهر إلا في الجذور‘ إيقاظا لنا حول مكمن المشكلة ومكمن الحل، والإثنان ينتميان للجذور. لدينا باللغة العربية كلمتان مقابل civilization: مدنية وحضارة. المدنية حرفيا ترتبط بمدن؛ حضارة تنطلق من الحاضر بحضور الماضي والمستقبل وحضور الآخرين، وبمعنى الجهوزية (المجتمع حاضر) للقيام بما ضروري ويمكنه القيام به. ’مدنية‘ أقرب بمعناها للكلمة الانكليزية، بينما حضارة لا رديف لها بالانكليزية. ’مدنية‘ تنتمي للأغصان، ’حضارة‘ للجذور. المستنقع الذي وقعنا فيه ببلاد الشام نهاية الحرب العالمية الأولى أننا بدلا من أن نبقى ضمن أفق حضاري ونصقله ونعمقه وفق تغيرات حصلت، وقعنا بِفَخّ الدول القومية وأصبحنا نُقاتِل بعضَنا بعضا بمنطقة كانت تتفاعل معا باستمرار؛ فخّ خططت له بريطانيا وفرنسا ثم تبعتهما الولايات المتحدة حيث أقنعونا أن الدولة القومية تقدُّم! مزقت خططهم (التي كانت سرّية بلاد الشام إلى 4 دول، كل دولة تحتفل باستقلالها الذي يعني عمليا استقلال بعضهم عن بعض (إذ لم نستقل عن الدول الاستعمارية إلا سطحيا). كما مزّقت بريطانيا الجزيرة العربية لدول ودويلات. عبر قرون، كانت تُجْدَل أنسجة بين شعوب وثقافات المنطقة. اختلافٌ جوهري بين العثمانيين من جهة والانكليز والفرنسيين والأمريكيين من جهة أخرى، أن العثمانيين لم يسعوا لإقناعنا بأننا متخلفون وأنهم جاؤوا ليرقّونا ويساعدونا في أن نصبح مثلهم. لم يبطش العثمانيون بالناس إلا بعد بروز فكرة الدولة القومية. كانت لهم مساوئهم ولكن تختلف كليا عما يسعى له أردوغان حاليا. عبر 400 سنة بقيت بلاد الرافدين وبلاد الشام غنية بالثقافات والأديان؛ لم يسع العثمانيون لتمزيق الحضارة. المذابح والمشانق التي حدثت أثناء الحرب العالمية كانت نتيجة بروز فكرة الدولة القومية. أتى الغرب بأدواتٍ مهَّدت لنشوء دول القومية، كان أولها مستوطنات معرفية (مدارس وجامعات) أضافت إضافات حسنة بنواحٍ تقنية لكنها على الصعيد الحضاري كانت كارثية. ألم يكن أفضل لو استمرينا كثقافات متعددة ضمن أفق حضاري بدلا من تجزئتنا لعشرات الدويلات المصنّعة التي يجمعنا فيها سعيُنا لنكون نسخا وببغاوات عن الغرب؟ الدولة العثمانية كانت ذا أفق أوسع بكثير من فكرة الدولة القومية التي نشأت مع الثورة الصناعية وغزو العقول والسيطرة على سريان رأس المال. ماركس كان محقًّا عندما أكّد أن المجتمعات الحديثة لا تتكوّن من شعوب بل من طبقتين بالأساس: طبقة سارقة وطبقة مسروقة. الطبقات السارقة في الدول القومية نهبت أموال شعوبها وأرسلتهم للدول الاستعمارية. ’الدول القومية‘ قضت على العيش ضمن أفق حضاري. ما فعله غزو أوروبا لنا شبيهٌ بما فعلته بمناطق أخرى بالنسبة لانهيار حضارات. لا يمكننا إلغاء الدول لكن بإمكاننا العيش وفق أفق حضاري، وهذا ما يجب أن نسعى له بكل ما أوتينا من قوة، خاصة فيما يتعلق بالتعلم والعلاقات بين البشر ومع الطبيعة والذاكرة الجمعية. وجود القدس بفلسطين يجعلها مؤهلة للعيش وفق أفق حضاري. أعود لأقول: ليت شعوب المنطقة لم تُخْدَع وبقيت تصارع ضمن دولة حضارية لدرء المصائب والتمزيق التي جلبتها لنا أوروبا. الدول التي بقيت حامية لذاتها وجوهرها هي التي ما زال البعد الحضاري حيا فيها كالهند والصين وروسيا وإيران واليمن، ودول بأمريكا الوسطى والجنوبية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *