خاطرة… استعادة الأفق الحضاري (الجزء الرابع والأخير) مخاضات تنبئ بولادة جنين من رحم حضارات

تعيش منطقتنا مخاضات على أصعدة شتى تنبئ بولادة جنين من رحم حضارات عملت القبيلة الأورو-أمريكية عبر عقود على تمزيقها وتخريبها وتسميمها وانهيارها. نعيش مخاضات بإمكانها إعادة توليد حضارات طُمِسَت، لتَخْرُج كزهرة اللوتس من بين أوساخٍ وملوِّثات أغرقنا بها عصر التنوير بأدواته التي تمثلت بمفاهيم ونظريات وأوهام وخرافات نشرتها مؤسسات وخبراء تحكمهم قيم السيطرة والفوز والنهب وإقناع البشر بأن الماضي متخلف وولى زمانه – والذي يتمثل بأن شرب الماء ولى زمانه وتخلُّفٌ بالنسبة لشرب الكولا، وأن الحكمة ولى زمانها ومتخلفة بالنسبة لعلوم القبيلة الأورو-أمريكية، وأن التعلم ولى زمانه ومتخلف بالنسبة للتعليم النظامي والأكاديمي، وأن الكرامة ولى زمانها ومتخلفة عن المطالبة بحقوق، وأن العافية ولى زمانها ومتخلفة بالنسبة للتنمية التي بشّر بها الإرهابي الأكبر عبر التاريخ ’ترومان‘ الذي أمر بإلقاء القنبلتين على هيروشيما ونكازاكي دون أن يرجف له جفن. مقابل كل هذا أقترح ’البيان والتبيين‘ [عنوان كتاب الجاحظ قبل 1200 سنة] بمثابة القابلة/ الداية التي ترعى مخاض وولادة الجنين الذي يطلُّ برأسه من رحم حضارات. ضروري أن يعود البعد الحضاري (وجوهره الحكمة) النابع من الأتربة التي تغذينا ونغذيها كرؤية نستهدي بها في فكرنا وإدراكنا ومسعانا وبياننا وأفعالنا. الفترة التي نمر فيها بمنطقتنا مهيأة لاستعادة الأفق الحضاري. كورونا فضحت (كما لم يستطع أحد أن يفعل ذلك بنفس القوة) ضحالةَ وضيقَ أفق عصر التنوير وادعاءاته التي تفتقر للحياة والقلب والروح والحكمة والعافية وتعدد المعنى؛ فضيحة يمكن أن تسهم باستعادة ما غُيِّب. إلى جانب كورونا، فضح ترامب جوهر القبيلة الأورو-أمريكية. همجية الأيديولوجية التي سادت عبر قرون تظهر بوضوح حاليا كما لم يكن ممكنا سابقا.

خاطرة… استعادة أفق حضاري (الجزء الثالث): الانحدار من بُعْدٍ حضاري إلى شرذمة لا آخر لها

يشكّل قولُ الرومي ’لربما أنك باحثٌ بين الأغصان عما لا يظهر إلا في الجذور‘ إيقاظا لنا حول مكمن المشكلة ومكمن الحل، والإثنان ينتميان للجذور. لدينا باللغة العربية كلمتان مقابل civilization: مدنية وحضارة. المدنية حرفيا ترتبط بمدن؛ حضارة تنطلق من الحاضر بحضور الماضي والمستقبل وحضور الآخرين، وبمعنى الجهوزية (المجتمع حاضر) للقيام بما ضروري ويمكنه القيام به. ’مدنية‘ أقرب بمعناها للكلمة الانكليزية، بينما حضارة لا رديف لها بالانكليزية. ’مدنية‘ تنتمي للأغصان، ’حضارة‘ للجذور. المستنقع الذي وقعنا فيه ببلاد الشام نهاية الحرب العالمية الأولى أننا بدلا من أن نبقى ضمن أفق حضاري ونصقله ونعمقه وفق تغيرات حصلت، وقعنا بِفَخّ الدول القومية وأصبحنا نُقاتِل بعضَنا بعضا بمنطقة كانت تتفاعل معا باستمرار؛ فخّ خططت له بريطانيا وفرنسا ثم تبعتهما الولايات المتحدة حيث أقنعونا أن الدولة القومية تقدُّم! مزقت خططهم (التي كانت سرّية بلاد الشام إلى 4 دول، كل دولة تحتفل باستقلالها الذي يعني عمليا استقلال بعضهم عن بعض (إذ لم نستقل عن الدول الاستعمارية إلا سطحيا). كما مزّقت بريطانيا الجزيرة العربية لدول ودويلات. عبر قرون، كانت تُجْدَل أنسجة بين شعوب وثقافات المنطقة. اختلافٌ جوهري بين العثمانيين من جهة والانكليز والفرنسيين والأمريكيين من جهة أخرى، أن العثمانيين لم يسعوا لإقناعنا بأننا متخلفون وأنهم جاؤوا ليرقّونا ويساعدونا في أن نصبح مثلهم. لم يبطش العثمانيون بالناس إلا بعد بروز فكرة الدولة القومية. كانت لهم مساوئهم ولكن تختلف كليا عما يسعى له أردوغان حاليا. عبر 400 سنة بقيت بلاد الرافدين وبلاد الشام غنية بالثقافات والأديان؛ لم يسع العثمانيون لتمزيق الحضارة. المذابح والمشانق التي حدثت أثناء الحرب العالمية كانت نتيجة بروز فكرة الدولة القومية. أتى الغرب بأدواتٍ مهَّدت لنشوء دول القومية، كان أولها مستوطنات معرفية (مدارس وجامعات) أضافت إضافات حسنة بنواحٍ تقنية لكنها على الصعيد الحضاري كانت كارثية. ألم يكن أفضل لو استمرينا كثقافات متعددة ضمن أفق حضاري بدلا من تجزئتنا لعشرات الدويلات المصنّعة التي يجمعنا فيها سعيُنا لنكون نسخا وببغاوات عن الغرب؟ الدولة العثمانية كانت ذا أفق أوسع بكثير من فكرة الدولة القومية التي نشأت مع الثورة الصناعية وغزو العقول والسيطرة على سريان رأس المال. ماركس كان محقًّا عندما أكّد أن المجتمعات الحديثة لا تتكوّن من شعوب بل من طبقتين بالأساس: طبقة سارقة وطبقة مسروقة. الطبقات السارقة في الدول القومية نهبت أموال شعوبها وأرسلتهم للدول الاستعمارية. ’الدول القومية‘ قضت على العيش ضمن أفق حضاري. ما فعله غزو أوروبا لنا شبيهٌ بما فعلته بمناطق أخرى بالنسبة لانهيار حضارات. لا يمكننا إلغاء الدول لكن بإمكاننا العيش وفق أفق حضاري، وهذا ما يجب أن نسعى له بكل ما أوتينا من قوة، خاصة فيما يتعلق بالتعلم والعلاقات بين البشر ومع الطبيعة والذاكرة الجمعية. وجود القدس بفلسطين يجعلها مؤهلة للعيش وفق أفق حضاري. أعود لأقول: ليت شعوب المنطقة لم تُخْدَع وبقيت تصارع ضمن دولة حضارية لدرء المصائب والتمزيق التي جلبتها لنا أوروبا. الدول التي بقيت حامية لذاتها وجوهرها هي التي ما زال البعد الحضاري حيا فيها كالهند والصين وروسيا وإيران واليمن، ودول بأمريكا الوسطى والجنوبية.

استعادة أفق حضاري (الجزء الثاني): روح ’القدْس‘ لا تكتمل إلا إذا سارت على قدمين: أتربة محلية وأفق حضاري.

نتغنى بالقدس ونضعها فوق رؤوسنا. بنفس الوقت، نجهلها. نرفعها كشعار، لكن صعب جدا إيجاد مدرسة/ جامعة فلسطينية تتعامل مع القدس عبر بُعْدِها الحضاري والذاكرة الجمعية. تشكّل كُتُبٌ أصدرتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية وغيرها عبر مذكرات أشخاص (شملت خليل السكاكيني وواصف جوهرية وعارف العارف) عاشوا وكتبوا عنها بالفترة التي انتقلت فيها القدس من أفق حضاري إلى أسوأ احتلال شهدته فلسطين عبر تاريخها: الاحتلال البريطاني. جرت تحسينات خلال الاحتلال الانكليزي على السطح/ الأغصان؛ لكن في الجذور كان الاحتلال الانكليزي أسوأ احتلال لفلسطين إذ أدى لأول مرة في تاريخ فلسطين إلى تدمير الريف وتهجير أهاليه عبر التمهيد للصهاينة للقيام بذلك. كل الاحتلالات السابقة اقتصرت على المدن. أول غزو للريف، والذي طَرَدَ أهاليه ودمّر قراه كان جريمة 1948 (التي لم تكن لِتُحَقَّق لولا عصبة الأمم وهيئة الأمم: الأولى شرّعت احتلال انكلترة لفلسطين والثانية شرّعت قيام دولة غريبة على أرضها). هدف بريطانيا (كما فعلَت بمناطق أخرى) تمزيق الأفق الحضاري بالمنطقة (بريطانيا لا تستطيع مقاومة حضارات لذا عملَتْ ما بِوُسْعها لانهيارٍ حضاري وخلق دويلات وصل عددها حتى الآن 22). هناك كتب أكاديمية تُحلّل الوضع سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وتربويا، بينما روح القدس لا يمكن أن تظهر إلا عبر مذكرات وبعدٍ حضاري إذ عندها لا تبقى حبيسة لأبجدية بل تلمس الخيال والقلب. لماذا هذه المذكرات مغيبة من المناهج الفلسطينية؟ كانت لي محاولتان لاستعادة البعد الحضاري بجامعاتنا: اقتراح بعثْتُ به عام 2010 للجامعات حول إنشاء بيت حكمة فيها لعشرة طلبة فقط يرغبون بالسير وفق رؤية تتبلور حول الحكمة مبنية على كتبٍ كُتِبَت في عصرٍ جمع تلاقُح عدة حضارات. لم يصلني أي تعليق من أي جامعة! الشخص الذي اهتم بالاقتراح كانت ’نبال ثوابتة‘ محررة صحيفة الحال بجامعة بيرزيت ونشرته يوم 1/2/2011. أما المحاولة الثانية فكانت مجاورات ابن عربي مع مليحة مسلماني التي بدأت مع شباب بمخيم الدهيشة ثم مع شباب الملتقى التربوي العربي بالبيرة عامَيْ 2011 و 2012 ثم عام 2013 مع وحدة ابن رشد بجامعة بيرزيت. لم تهتم أي جامعة بإدخال هذا البعد الحضاري فيها! يوجد مئات الأشخاص يدرّسون رياضيات القبيلة الأورو-أمريكية ولا توجد فسحة واحدة لابن عربي أو لغيره ممن يحملون حكمة بأحشائهم وحياتهم!

خاطرة… استعادة أفق حضاري (الجزء الأول): تحوُّلات بالجذور في فلسطين عام 93/ 1994

عدة تحوُّلات حدثت في الجذور بفلسطين عام 93/ 1994 كانت وبالا علينا، عشتُها كليا: تَحَوَّلْنا بين ليلة وضحاها من أهالي لمواطنين؛ وتحوَّلْنا من العيش بأمل للعيش بتوقعات؛ وتحوَّلْنا من احتلال عسكري بالأساس إلى احتلال بنوك كأساس إذ أصبح البنكُ الدولي منذ تلك السنة وحتى وقتنا هذا الحاكمَ الفعلي لشتى نواحي حياتنا، والذي ركّزَ على دعم ثلاثة أجهزة: جهاز أمن ’وطني‘ لضبط سلوك الناس؛ جهاز تعليم ’وطني‘ (مدرسي وجامعي) لضبط ألسنة وعقول الناس؛ وجهاز مالي عبر بنوك ’وطنية‘ لضمان امتلاك المستقبل. في تلك السنة، تمَّ تحويلُنا من فاعلين إلى مستهلكين بالأساس، ومن حُكْمِ أنفسنا وحياتنا عبر مجاورات (كلجان الأحياء) إلى محكومين عبر أجهزة رسمية ومؤسسات، ومن روح الضيافة إلى قانون المنافسة حول رموز تمزِّق الإنسان والمجتمع. قبل 1993 كنا نعيش كأهالي حيث العلاقات بيننا جوهر حياتنا، وحيث الأمل وروح الضيافة أساسيان في حياتنا. بعد 1993 احتلّت العلاقة مع مؤسسات ومهنيين مرخّصين محلّ علاقاتٍ حيّة متعافية بالجذور. فَقَدْنا روحًا كانت تغذينا وبدأنا نعيش وفق علاقات لا حياة فيها. عشنا قبل 1993 الانتفاضة الأولى التي وصفها تشومسكي في محاضرة بفندق الامبسادور بالقدس عام 1988: There is nothing like it in history؛ عشنا خلالها 4 سنوات ضمن مجاورات (لا ضمن مؤسسات)؛ عشنا وفق حكم الذات حيث كانت لجان تتكوّن بفعلٍ ذاتي تدير شؤون الحياة بالأحياء: زراعة جمعية وتعلم جماعي، وعناية بكبار السن واستضافة الغريب في حالات الخطر وتعميق جدلْ أنسجة بين الناس. ما أرعب إسرائيل في تلك الظاهرة كان الوسيط: إدارة الأهالي لشؤونهم دون مؤسسات. كنت أعمل بجامعة بيرزيت ببداية الانتفاضة. أَغلقَت إسرائيل المؤسسات التعليمية والاجتماعية والثقافية. حاولتُ مع بعض الأساتذة السير وفق رؤية مختلفة حول التعلُّم إذ كانت الظروف مواتية لذلك، لكن مجلس الجامعة رَفَض. استقلتُ وأُنشأتُ مؤسسة تامر عام 1989 في ’شعفاط‘؛ اضطُرِرنا للانتقال إلى رام الله عام 1993 حين أصبح من الصعب الوصول لشعفاط. أهم ما فعلناه بتامر كان حملة القراءة والتعبير التي أعادت جدْل أنسجة لأول مرة منذ 1948 بين الفلسطينيين من عكا شمالا حتى رفح جنوبا. [نشرتُ مقالين حول مؤسسة تامر وحملة القراءة: 1990 ثم عام 1995 كلاهما بمجلة Harvard Educational Review]. باختصار، كانت الأدوات التي استعملناها في تلك الفترة ذا بُعْد حضاري، بالجذور. أعادَنا اتفاق ’أوسلو‘ إلى البقاء بين الأغصان.

خاطرة … ما له قيمة بالعمق، لا يمكن تقييمه

أهمية التمييز بين التقييم والقيمة

من أهم ما علينا توضيحه، في العصر الحالي، ويساعد في شفائنا من فيروسات فكرية وإدراكية، هو التمييز بين القيمة والتقييم، بين قيمة المرء وتقييمه. لم يستعمل العرب كلمة ’تقييم‘، بينما استعملوا ’قيمة‘ كما بعبارة الإمام علي ’قيمة كل امرئ ما يحسنه‘. هدف تركيز المدنية المهيمنة على التقييم هو تغييب قيمة المرء وفق ما يحسنه ووفق ’ما هلك امرؤٌ عرف قدْر نفسه‘ ووفق ما يبحث عنه بحياته وما ثابتٌ فيها. اعتماد المرء على مقاييس عمودية، تحددها مؤسسات ومهنيون وخبراء مرخصون، تُفْقِده المسؤولية للإدلاء بثقله كإنسان في المجتمع والحياة عامة. لذا، من الضروري جدا أن يبقى التمييز بين القيمة والتقييم حيّا في وعي الطلبة والهيئتين التدريسية والإدارية، والتربويين عامة.

التقييم والقيمة عالَمان لا يلتقيان (إلا بنواحٍ قليلة ليست بذي شأن). ربط القيمة بالتقييم يؤدي لتخريب القيمة ويلحقها بالتقييم كسيّد. ما يميّز ’القيمة‘ أنها ترتبط بعلاقة الشخص مع نفسه ومع من وما حوله، بعلاقات تبادلية، بينما يرتبط التقييم بسلطة وسيطرة. ترتبط قيمة المرء بالكرامة لا بالحقوق. تظهر الكرامة بسلوك الشخص ومواقفه، وليس بالمُطالبة بها. الحقوق، نطالب بها من الذين ينتهكوها! لهذا، تركّز المدنية المهيمنة على الحقوق لا الكرامة. أهالي الولايات المتحدة الأصليون لهم الحق في المطالبة بأراضيهم بالمحاكم. دفعوا مبالغ طائلة لمحامين ومحاكم دون أن يسترجعوا شيئا سوى الضئيل الضئيل!

باختصار شديد: ما له قيمة بالعمق لا يمكن تقييمه. لا يمكن وضع القيمة ضمن إطار نظري، بينما يمكن وضْعُ التقييم ضمن أطر نظرية. لا يمكن تقييم التعلم والكرامة والعافية والحكمة والتقوى والإيمان والتحادث والمسؤولية والإصغاء والذكاء والعاطفة  والمجاورة. تقييم المرء بنواحٍ يمكن قياسها كمهارات ومعارف تقنية له معنى، لكن ليس في نواحٍ حياتية. لا يمكن إعطاء معنى ل’تقوى‘ عبر كلمات؛ نعرف أن شخصا تقيٌّ عبر أفعاله وتعامله. ما يمكن قياسه ويستطيع العقل استيعابه واللغة التعبيرعنه ينتمي للأغصان؛ ما لا يمكن للعقل إدراكه ولا للغة التعبير عنه ينتمي للجذور. ركيزة التعلم قصص وحكايات؛ ركيزة التعليم أبجدية ومصطلحات ونظريات.

خاطرة …الإنسان والمثنى والمجاورة

 عام 2007 دُعيتُ لأشارك في مؤتمر باليونيسكو حول التعدد الثقافي والحوار بين الثقافات:

[UNESCO conference “Towards Mainstreaming Principles of Cultural Diversity and Intercultural Dialogue in Policies for Sustainable Development”, Paris, May 21-23, 2007] وبعثوا لنا بورقة مفاهيمية لنستنير بها كتبَها فيلسوف فرنسي معاصر Roger-Pol Droit جاء فيها “جدَلٌ فلسفي قديم جدا يكمن بين الواحد والكثرة the one and the many”. يستعمل الشباب العربي حاليا تعبير ’كل حدا‘ ترجمة ل everyone. ’كل حدا‘ ليست تعبيرًا عربيا. لدينا كلمة ’إنسان‘ التي لا علاقة لها ب’حدا‘ بل هي نفسها مثنى – إنس/ إنسان – وبنفس الوقت تجسّد حقيقة أنها تنبع من مثنى: أب وأم. كل إنسان هو نتيجة تلاقح شخصين. بهذا المعنى لا يوجد رديف ل’إنسان‘ باللغات الأوروبية، وكذلك بالنسبة ل’مثنّى‘، وأيضا ل’مجاورة‘ (التي هي أفضل بكثير من كلمة كثرة كما جاء في الورقة المفاهيمية) – مما جعلني أقترح استعمال ’إنسان ومثنى ومجاورة‘ بمؤتمرين حول اللغة أحدهما بالمغرب، والآخر بإيران. هذه الكلمات الثلاثة تنبع من الحياة، من التربة المجتمعية الثقافية؛ وليس لها رديف باللغات الأوروبية بنفس المعاني العميقة باللغة العربية. هذه الكلمات الثلاثة تغذّي عافية الإنسان على الصعيد الثقافي المجتمعي الوجداني. أود أن أذكر شيئا غريبا حصل بتلك الجلسة باليونيسكو (ليس من صلب موضوع الجلسة لكن جدير بالذكر). عندما جاء دوري للتحدث، من بين ما قلتُه (ناظرًا بعينيّ الفيلسوف الذي كان يجلس بالصف الأول بالقاعة): “لك نظرتُك التي استمدَّيْتَها من لغتك وثقافتك، ولي نظرتي التي استمدَّيْتُها من لغتي وثقافتي، مما يجعل حوارنا عميقا وحقيقيا”. بعد 5 دقائق ترك ولم يعُد. بعد انتهاء الجلسة سألتُ مديرة المؤتمر (وهي ألمانية): لماذا ترك؟ قالت: ’تريد الحقيقة؟ صعب على فيلسوف فرنسي أن يقبل شخص من بلد كفلسطين يقول له: ’عندي شيء ما عندك إياه.

 لننعم بالغنى والعمق والجمال المتوفرين باللغة العربية. ولنتساءل: لماذا مثل هذه الأمور المتوفرة بلغتنا وحضارتنا مغيّبة من مادة اللغة العربية بمدارسنا؟! بدلا من الجمال، وعمق وتنوع المعنى، ومنطق الأنماط بلغتنا، نركّز على النحو والصرف والقواعد، التي هي هامّة لكن يمكن أن يستوعبها الطفل عبر الأنماط المنطقية، والتي تمثّل قدرة فطرية لدى الأطفال، لكن مغيبة.

خاطرة… موطن الأمل بالنسبة لي في الفترة الحالية

أكبر خدمة قدمتها لنا كورونا هي فَتْح أبواب على مصراعيها لانتزاع أنفسنا من سطوة أوهام وادعاءات عصر التنوير (الذي كان نوره ساطعا حيث لم نستطع رؤية الواقع وما يجري داخلنا وحولنا)؛ عصرٌ أوهمنا أننا إذا اعتمدنا العقل والمنطق والعلم والفردية والتقدُّم كأساس ومرجع، سنتخلص من أوبئةٍ قتلت ملايين البشر، ومن أوهامٍ وخرافاتٍ عديدة ومتعددة، وأننا سنبدأ السير نحو حياة تضمن صحتنا وتقدمنا كبشر… الخ). جاءت كورونا وفَضَحتْ هذه الادعاءات إذ نمط العيش والفكر والقول الذي ساد عبر 150 سنة على الأقل أدى لانتشار فيروسات بدأت بالفكر والإدراك قبل 400 سنة، وشملت حديثا سمومًا بطيئة تدخل الأمعاء عبر آلاف الكيماويات، وسمومًا تدخل القلوب والعلاقات والثقافات. ما غيّبه عصر التنوير أخطر بكثير مما قدّمه: غيّب الروح والقلب والمحبة والتقوى والكرامة والمجاورة والتعلم كقدرة عضوية والصبر والإيمان والحكمة والعافية والضيافة (تتمثل في أعمق ظواهرها بالإصغاء للأطفال واليافعين مما يساعد كلّا منهم لترتيب عالمه الداخلي وعلاقته مع العالم من حوله. جديرٌ بالذكر عدم وجود رديف لكلمة إصغاء بالانكليزية!) كورونا مؤهلة لإيقاظنا من سباتٍ عميق بحيث نعي أن التقدم والعلم والمنطق والعقل، التي تفتقر للحكمة وتغنّى بها عصر التنوير، كان تقدما أدى لتخريب الحياة وتدمير قدرة الطبيعة لتوليد ذاتها. التربة خُرِّبَت، والهواء والمياه والمجتمعات والثقافات وروح الأديان. صعب جدا ذكر ناحية في جذور الحياة لم تُخَرَّب.

كان عمري 11 سنة عام 1952 حين وقف ’خليل أبو ريا‘ مدير مدرستنا برام الله وكعادته كل صباح بعد اصطفافنا للدخول إلى الصفوف، قال لنا بكلمته الصباحية: “لديّ اليوم خبر سعيد جدا، قرّر الملك طلال أن يبقى غرب عمان منطقة خضراء، تتنفس منها عمان”. أذكر أننا صفّقنا للخبر، وهو أمرٌ لم نفعله في أي حديث صباحيّ آخر للمدير؛ لكننا في ذلك اليوم صفّقنا. هل الحكمة الفطرية الموجودة فينا كبشر هي التي دفعتنا لنصفّق؟ لا أدري، لكن صفّقنا!

خلال ال24 سنة الفائتة، في عملي كمدير الملتقى التربوي العربي الذي أنشأتُه بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد (وأدرتُه هناك من 1997 حتى 2007) والذي ما زال مستمرا بالأردن وفلسطين حتى الآن… أقول، خلال ال24 سنة الماضية زرتُ 16 دولة عربية و15 دولة غير عربية، شملت الهند وباكستان وإيران شرقا إلى المكسيك والبرازيل غربا مرورا بدول أوروبية وشمال إفريقية. أكثر مؤسسة على صعيد دولة، أجدُها حاليا مؤهلة للعيش وفق رؤية مغايرة لما هو سائد وترتبط بالتعلم والتعليم، هي مراكز الأميرة بسمة (عددها 52)، المنتشره منذ 44 سنة في أنحاء الأردن، ولتقبُّلها رؤية هي جزء جوهري من حضارتنا، لكن عصر التنوير غيّبها كليا. كانت بداية العيش وفق مجاورات على طريق العافية ضمن مؤسسة ’جُهُد‘ منذ تموز 2018 وتوقفنا عندما اجتاحتنا كورونا قبل سنة و 8 أشهر. أما الشخص التي وفّرت فسحة لهذا حتى يحدث، فكانت السيدة فرح الداغستاني، التي أقول دوما لأصدقائي بفلسطين كم تمنيتُ أن تكون بفلسطين مؤسسة فتحت لي الفرصة مثل فرح.

أول المدارس التي فتحت ذراعيها لإعادة التفكر فيما سرنا وفقه منذ غزو القبيلة الأورو-أمريكية لمنطقتنا قبل 150 سنة هما الأهلية والمطران (أَقْدَمْ مدرستين بعمان قبل قرابة 85 سنة). بدأنا بمجاورة لمن يرغب من المدرستين (مجاورة، وليس ورش عمل وبرامج تدريب) بداية نيسان 2021. هناك على الأقل ثلاثة أقوال شافية، نستعيد وفقها الكرامة والعافية والحكمة في حياتنا اليومية: ’قيمة كل امرئ ما يحسنه‘ و’ما هلك امرؤٌ عرف قدْر نفسه‘ (القولان للإمام علي)، وقولٌ ثالث لجلال الدين الرومي ’لربما أنك باحثٌ في الأغصان عما لا يظهر إلا في الجذور‘، مما يعني أن مهمة جوهرية لنا، كأشخاص ومجاورات، التوضيح لأنفسنا فيما إذا كان ما نفكر به وما نقوله ونفعله ينتمي للأغصان في الحياة أم للجذور.

وللحديث بقية في خواطر قادمة.

خاطرة… ما هو دور جامعات النخبة الأمريكية في التخريب الذي نشهده حول العالم وعلى أصعدة شتى؟

إذا نظرنا إلى أصحاب القرار في أمريكا على مدى عقود، وبشتى المجالات، وقاموا بجرائم مرعبة، نجد أن معظمهم خرِّيجوا جامعات النخبة! أكثرهم إجراما ’رمزفلد‘ الذي هندس الحربين على أفغانستان والعراق، خريج جامعتي برنستن وجورجتاون؛ ’بوش‘ الإبن خريج جامعتَي ’ييل‘ وهارفارد؛ ’أوباما‘ خريج جامعتَي كولومبيا وهارفارد؛ كلنتون خريج ’ييل‘ وجورجتاون؛ وهلم جرا… ألا يحق لنا أن نتساءل: ما هو دور جامعات النخبة في الخراب الذي نشهده حول العالم؟ جدير بالذكر في هذا المقام أن التلميذ الوحيد المؤهل بين تلاميذ المسيح هو ’يهوذا الاسخريوطي‘ الذي خانه وباعه بثلاثين من الفضة. وهذا صحيح بيومنا هذا حيث معظم الذين يبيعون أوطانهم وشعوبهم دون أن يرجف لهم جفن هم مؤهلون يحملون شهادات من جامعات مرموقة.

خاطرة … من أخبث الإعلانات الدولية الإعلان الذي يشار له ب’أهداف التنمية المستدامة‘ SDGs

من الصعب التفكر بشيء أكثر احتقارا لذكاء الإنسان قدر هذا الإعلان. إلى جانب الاحتقار، يشتمل على ضحالة وانحطاط فكري وأخلاقي غير مسبوق. يظهر هذا بجلاء بلغة الإعلان. من الصعب أن نصدّق أن جميع الدول الأعضاء بالأمم المتحدة اعتمدته عام 2015، إذ هل يعقل ألا يكون على الأقل شخص من دولة واحدة صاحيا وينبّه الآخرين؟!) جاء بالإعلان: ’دعوة عالمية للعمل على إنهاء الفقر‘ [بالله عليكم، هل يمكن إنهاء الفقر دون إنهاء الجشع وسرقة الشعوب وحماية السارقين!] كما جاء فيه: ’من خلال التعهد بعدم ترك أي شخص في الخلف، التزمت البلدان بتسريع التقدم لأولئك الذين في الخلف بعد.‘ الذين كتبوا هذه الكلمات يطلبون منا أن نقبل فكرة سخيفة مفادها أن أي شخص هو إما خلف شخص آخر أو أمامه! لم يخطر على بالهم أن الناس متنوعون بحيث لا معنى للقول بأنهم أمام أو خلف بعض! تُذكّرُني أقوالهم بما كتبه الجاحظ قبل 1200 سنة: ’اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل‘. الإعلان حول ’أهداف التنمية المستدامة‘ يجمع بين الفتنتين!

خاطرة… بين الأغصان والجذور، مرة أخرى… هزالة المؤسسات ودور المنظمات الدولية في تبرير جرائم

إحدى الأمهات اللواتي عملتُ معهن بمخيم شعفاط ’سهام حوات‘ كانت تعمل مع الأطفال بروضة الجامع. زرتُها بالروضة وشاهدت إنسانة من أروع من شاهدت في علاقتها مع الأطفال: حبٌّ متبادل بينها وبينهم، والعمل معا بنواحٍ حياتية. حيوية وسعادة غامرتين. الكرامة والاحترام والسعادة ميزت العلاقة والتعامل. رغم كل هذا الجمال، كانت سهام مهددة دوما بالفصل من عملها (من قِبَل وزارة التعليم الفلسطينية) لأنها لا تحمل شهادة التوجيهي المزرية! في السنة التي عملتُ فيها معهنّ قدّمت ’سهام‘ امتحان التوجيهي للمرة الخامسة أو السادسة ولم تنجح. قلتُ لها: كل الاحترام لعقلك الذي يرفض أن يتلوث، وأن يعيد كالببغاء ما يملى عليه؛ وكل الاحترام لقلبك الذي يرفض أن يموت من أجل علامة خبيثة. كذلك الحال بالنسبة للمنظمات الدولية. ’عصبة الأمم‘ هي التي أصدرت صكًّا في 11/ 9/ 1922 أقرّت فيه احتلال بريطانيا ’قانونيا‘ لفلسطين. كما حدث نفس الشي من قبل ’#هيئة_الأمم‘ التي أصدرت صكا آخر يوم 29 نوفمبر 1947 أقرَّت فيه ’قانونية‘ تهجير الفلسطينيين من مدنهم وهدم قراهم وسبب معاناتنا حتى يومنا هذا. لولا العصبة والهيئة لَمَا خسرنا #فلسطين. لذا، جزء من مسؤوليتنا كبشر حماية أنفسنا من منظمات وإعلانات دولية هي نفسها جزءٌ أساسي من أدوات التخريب لكن بأغلفة براقة وكلمات فضفاضة.