خاطرة… كيف نفسّر سيرنا وراء مدنية استطاعت تخريب المسيح، ومن بعده تخريب كل شيء يولّد ذاته؟

هل يستطيع أحد أن يفسر كيف نثق بمدنية لم تترك شيئا لم تخربه بالعمق، بدءا بالمسيح الفلسطيني؟ وأطلَقَت على هذا التخريب بكل وقاحة صفة تقدم وتفوق ذهني وأخلاقي، والأدهى من هذا أننا نسير على هذا الطريق دون الشعور بأي ذنب! أمَا آن الأوان أن نصحو ونسترد ما سُلِبِ منا، وعلى رأس ذلك الحكمة التي تجلت ببيوت الحكمة التي امتدت عبر مساحة واسعة شملت ثقافات وحضارات متعددة جمعت بينها الحضارة العربية الإسلامية؟ [أستعمل هنا ’مدنية‘ نقيض حضارة] ثقتُنا يالمدنية المهيمنة بمثابة جنون! أعود لأؤكد أنه لم يبق شيء لم يتم تخريبه من قبل هذه المدنية: 80% من تراب الكرة الأرضية مُدَمَّر، والهواء من حولها ملوّث، والمخلوقات بمياه بحارها تنقرض، وآلاف الثقافات تندثر – ونشير لهذا بتقدُّم! نعم، أوصلتنا علوم القبيلة الأورو-أمريكية إلى القمر لكنها أوصلتنا أيضا إلى نقطة من الصعب على الأب والأم أن يصل قلب ابنه وابنته، إلى نقطة لم يسلم فيها مُكوِّنٌ من مكوِّنات الحياة من التخريب. التنوير الذي نُسِبَ إلى هذه المدنية كان نوره ساطع لدرجة فقدنا معها القدرة على رؤية الواقع. في محاولة سيطرتها على الصين قبل 180 سنة، استعملت بريطانيا الأفيون (كمادة مخدّرة للجسم) والمسيح البريطاني كأفيون لتخدير العقل. التحدي الرئيسي الذي نواجهه يكمن في انتزاعنا من الهمجية المهيمنة، واستعادة الحكمة بحياتنا، بما في ذلك استعمال التكنولوجيا وأخواتها بحكمة. بدون استعادة الحكمة، لا أمل للبشرية في صراعها من أجل البقاء.

مسيحية الأمهات وإسلام الأمهات

محظوظ لأني تعرّفتُ على روح المسيح الفلسطيني دون شوائب عبر أمي وأمهات كثيرات حملن روحه بقلوبهن من جيل لجيل عبر ألفي سنة، منذ وطِأَت قدما المسيح أرض فلسطين. وتعرّفتُ على روح الإسلام دون شوائب عبر أمهات عملتُ معهن مدة سنتين بمخيم شعفاط بالقدس حملن روح الاسلام بقلوبهن من جيل لجيل عبر 1400 سنة، ثم عبر أمهات بمركز الأميرة بسمة بحي النزهة في عمان. في كل هذه الحالات كانت الأداة الرئيسية لديهن للعيش والتعامل والتعلم والأخذ والعطاء هي المجاورة، وكانت القيمة التي تحكم حياتهن وأفعالهن وعلاقاتهن هي العافية، وكانت ’المواد‘ الرئيسية في حياتهن الأتربة التي يتغذوا منها ويغذّوها. فَقَدت المسيحية والإسلام هذه الروح عندما انتُزِعَتا من أتربة متعافية وأصبحتا رهينة مؤسسات ومهنيين. تصوّروا، أصبحتا مواد دراسية وتخصصات أكاديمية! الدين الفطري يفقد روحه وجوهره عندما يصبح محكوما من مؤسسات ومهنيين.

آن الأوان، كمسيحيي بلاد الشام، أن نقول للغرب: لكم مسيحكم ولنا مسيحنا؛ ولا يلتقيان إلا بقلوب الناس

ربما تكون آخر فرصة لنا، كمسيحيي بلاد الشام خاصة، استعادة المسيح الفلسطيني الذي اختَطفَتْه أوروبا قبل 17 قرنا واقتَرَفَت باسْمِه، كما ذكرتُ بخواطر سابقة، جرائم لا مثيل لها بالتاريخ، حيث كان للمؤسستين الدينية والتعليمية دورٌ كبير. اكتُشِفَت حديثا مقابر بكندا لأطفال شعوب أصلية قُتلوا بتعاونٍ مع المؤسستين. انظروا مثلا:

https://www.nytimes.com/2021/06/26/world/canada/indigenous-residential-schools-grave.html

منذ مائة عام عادت أوروبا مُجددّا لتغزونا. تمّ الغزو الأول على أيدي صليبيين كانوا وبالا على المسيحيين والمسلمين. عام 1917 عادت بريطانيا واحتلّت فلسطين. أول جملة قالها ’ الجنرال اللنبي‘ في اجتماع بالقدس: ’اليوم انتهت الحروب الصليبية‘! (هذا ما ذكره ’واصف جوهرية‘ الذي حضر الاجتماع بمذكراته). مهّدت بريطانيا الطريق للصهاينة احتلال معظم فلسطين. لأول مرة تم تدمير الريف (1948). اقتصرت الاحتلالات السابقة على المدن. رسّخت الولايات المتحدة هذه الجرائم وزادت عليها إذ بعد 80 عاما غزت ودمّرت بلدانا أخرى شملت أفغانستان والعراق حيث أكّد ’بوش‘ أن الله حثّه على غزو العراق! ثم جاء ترامب وبومبيو (كمسيحيين صهاينة) وعمّقوا الكارثة. لذا من السخف أن نعتقد أن هناك علاقة بين مسيحية بلاد الشام ومسيحية الغرب (نشرتُ خلال الانتفاضة الأولى كتيّبا بعنوان ’ مسيحية أمي ومسيحية الغرب‘). آن الأوان لاستعادة المسيح الفلسطيني وتذكير شبابنا أن مسيحيتنا بريئة من مسيحية الغرب. ضروري ألا نُخْدَع لشَبَهٍ بالكلمات ورموز. استغلّت المؤسسة المسيحية الغربية (بريطانيا وأمريكا) المؤسسات الصهيونية ليرتكبوا أبشع الجرائم باسم اليهود. ناحية ضروري توضيحها قبل أن أنهي: إذا جاء شخص أو مؤسسة من الغرب ليتحادث معنا وليتعرّف على مسيح بلاد الشام (وليس ليحاول تحويلنا إلى مسيحيته) فأهلا وسهلا.

حول الإدراك والحكم على الأمور

عندما يصل الوضع بمكانٍ كلبنان إلى نقطة ننسى فيها كل الجرائم التي تمَّت (وما زالت) على يد القبيلة الأورو-أمريكية كتكوين طبقة تسرق شعوبها وتخدم رأسمالية دولية، وتُخرّب الأتربة التي يتغذى منها البشر والتي اتخذت منذ خمسينيات القرن الماضي شكلا جديدا يتمثّل بسرقة أموال شعوب عبر تلاعبٍ بعملات عبر بنوك عالمية و’وطنية‘ وعملاء محليين (تحميهم سويسرا وبريطانيا وأمريكا) – أقول، عندما يصل الوضع إلى حدٍّ نهمل فيه هذه العوامل في تخريب لبنان ويصبح سعر الدولار المعيار الوحيد لحكمنا وإدراكنا للأمور ومَن الظالم ومَن المظلوم، علينا أن نقلق كثيرا كبشر! أعود لأذكّر أن المسيح الفلسطيني، رسول المحبة والسلام، لم يذهب لهيئات ومنظمات دولية وخبراء كما هو مطلوب من اللبنانيين حاليا بل صَنَع سوطا من حبال (يو2: 13- 17) وطرد السارقين والمتلاعبين بحياة الناس وقَلَبَ الطاولات على رؤوسهم وطردهم من بيت الله. لو أنه بفلسطين الآن لفعَل نفس الشيء: قَلَبَ الطاولات على رأس البنك الدولي وصنع سوطا وطرَدَه من فلسطين ولبنان. بلغة الجاحظ، كان بيانُ المسيح الذي بيّن ما بداخله، سوطًا صنعه بنفسه. لذا، غريبٌ جدا أن صورة المسيح بالرسومات الغربية توحي بخنوعٍ وضعف!

سقط الإنسان مرتين: الأولى من جنة عدن إلى الأرض، والثانية من كونه إنسانا إلى كونه سلعة

السقوط الأول كان من ربنا سبحانه وتعالى، أما السقوط الثاني فهو من صُنْع القبيلة الأورو-أمريكية. نتيجة السقوط الأول أصبح الإنسانُ مسؤولا عن تصرّفاته وأفعاله. بالسقوط الثاني فقَدَ الإنسان مسؤوليته كليا وأصبح سلعة تتقاذفها الأسعار وأصحاب السيطرة والمتنفذين بحياة الناس؛ أصبح الإنسانُ رهينةَ عالَمٍ تحكمه همجية لم يعرف لها التاريخ مثيلا. مظهر لهذه الهمجية تقزيم قيمة الإنسان إلى رقم يقيسُ ترتيبَه على خطٍّ عمودي بالنسبة لإتقانه للببغاوية (إلى جانب مهارات تقنية). عشنا ظاهرة هذا السقوط يوم 16/ 8/ 2021 حين أُعْلِنَت نتائج التوجيهي (والحال ذاته بمعظم الدول). مقاييس تُشكّل احتقارًا للبشر وأصوليةً فكرية معرفية أحادية عالمية). حوالي 40% ممّن قدّموا الامتحان حصلوا على صفة فاشل/ ساقط/ راسب، صفة تبقى معهم ليوم يبعثون! لم يصل ابليس لدرجة الانحطاط هذه؛ انحطاط صَمّمته القبيلة الأورو-أمريكية. أوصى غاندي لخلاص الهند بكتابِهِ ’هند سواراج‘ (1909): ’إبعاد مدى الحياة كل شخص ينشر المدنية الأوروبية بالهند وهذا ليس كافيا للتكفير عن ذنوبه‘! انحطاط البشرية الذي نعيشه لم ينتج عن جهل بل عن تصميم وتخطيط وتنفيذ. المسؤولية تقع كليا علينا لانتزاعنا منه والعيش وفق رؤية أداتها الرئيسية المجاورة، وتتوافق مع عافيةٍ ترتبط بالأتربة المغذية، وتدرك الأمور ضمن أفق حضاري تكوَّنَ بفِعْلِ الحضارة العربية الإسلامية التي جَمَعَت لعدة قرون مساحة جغرافية امتدت من الهند وإيران شرقا حتى المغرب والأندلس غربا.