تأمل واجتهاد حول تجربتنا مع النساء في حيّ النزهة

منير فاشة مع النساء في حيّ النزهة

قصة رواها لي “أسعد عكة” مدرّس الأحياء بكلية بيرزيت عام 1962 (حيث كنت أدرّس الفيزياء) كيف أن الصَدَفَة التي تبقى في مياه راكدة لا يتكون فيها لؤلؤ، بينما الصَدفة التي تصطدم بهذه الصخرة وتلك وتدفعها المياه في شتى الاتجاهات يتكون فيها لؤلؤ. قلت: كم ينطبق هذا على البشر، فالشخص الذي يبقى محميا من الحياة لا يمر بمعاناة وظروف حقيقية بل نشاطات مصنّعة ومبرمجة تُشْرِف عليها مؤسسات ومهنيون، لا يتكوّن ‘لؤلؤ’ بداخله. يستطيع أن يحصل على لآلئ يضعها حول عنقه أو إلى جانب اسمه (مثل دكتوراه) لكن لا تتكون داخله لؤلؤة تتمثل بتكوين معنى وبحكمة وفَهْم ونضج وصقل وتهذيب لنواحي .حياته

لم تعش النساء في حي النزهة حياةً راكدة بل عاشت كلٌّ منهن حياةً صاخبة في خضمّ الحياة

مما يعني أن في داخل كلٍّ منهن لؤلؤة جاهزة للصقل والبيان. عَمِلْنا (‘ميس عوده’ وأنا) مع نساء مركز النزهة قرابة السنة ضمن ‘مشروع المجاورة على طريق الحكمة’. كانت المجاورة عبارة عن لقاءات أسبوعية لمدة ساعتين. عَمَلُنا معهنّ مبنيٌّ على قيام كلٍّ منهن بصقل اللؤلؤة الكامنة فيها. أي، المشروع ليس مبنيا على تلبية وتأمين احتياجات (كما في المنطق السائد) بل البناء على ما هو متوفر لديهن وحولهن من مواطن قوة ومقومات كأساس، ننطلق منها لنعالج احتياجات؛ هذا هو طريق الحكمة. ما فعلناه يختلف جذريا عما يشار له بِوِرَش عمل وبرامج تدريب وتوعية وتمكين ومواد جاهزة وتقييم عمودي؛ كما يختلف عما هو سائد بالنسبة لكتابة تقارير إذ نركّز بالمشروع  على الانطلاق من خبرات والتأمل فيها والاجتهاد بتكوين معنى وفَهْم لها ومشاركة ذلك مع من لهم علاقة بالمركز ومع مراكز جُهُد (وآخرين) عبر ‘قواميس’ وفيديوهات، بهدف جَدْل أنسجة على الصعيد المعرفي الاجتماعي الروحي. يتمّ تكوين معانٍ عبر قصص وحكايات. الشراكة في تكوين معنى (دون استعمال مصطلحات مؤسسية مهنية وتصنيفات أكاديمية) تشكّل قدرة بيولوجية وواجب وحق لدى كل إنسان. هذه الشراكة أحد رُكْنَي المشروع وتشكّل مناعة ضرورية لحماية العقل والفكر مما يمكن أن يؤذيهما. أما الرُكْن الثاني بالمشروع فهو المجاورة كوسيط أساسي للتعلم وكاللبنة الأساسية بِبُنْيَة المجتمع، وتشكّل مناعة أساسية للشخص والمجتمع ضد ما يمكن أن يضر بهما. لا نحتاج في المشروع لنظريات وكلمات مثل تميُّز وتفوق وإبداع وإنجاز وابتكار وجودة (والمرتبطة جميعا بنمط الاستهلاك)، بل نعمل وِفْقَ عبارة الإمام علي: ‘قيمة كل امرئ ما يحسنه’ بشتى معاني يحسن بالعربية: الإتقان والعطاء والجمال والنفع والاحترام.

من أبرز وأخطر ما تفعله المدنية الحديثة المهيمنة هو تدمير قدرتنا على عيش إنسانيتنا خارج إملاءات السوق وعالم الاستهلاك ورأس المال والتفكير المهني الأكاديمي؛ إذ يتم تدمير الإنسانية التي لا يمكن التعبير عنها وفق هذه الإملاءات. ركّزنا في عملنا على انتباه كلٍّ من النساء للعالم الداخلي فيهن والعالم من حولهن، وللعلاقة الحية بين العالمين. فعلنا ما يفعله الفلاح مع حبوب القمح: نَذُرُّ حكاياتنا كما يذرّ الزارعُ القمحَ: ينقّيه في الريح، يأَخْذُها بأطراف أصابعه وينثرهافيالأَرْضِلِتَنْبُتَ. هذا ما فعلته النساء في اللقاءات حيث ذَرّوا حكاياتهن النابعة من أعماق قلوبهن عبر أطراف ألسنتهن، وبَذَروها في الحياة لتنبت؛ نثروها فأنبتت خيرا عليهم وعلينا. نبّهني العمل مع النساء ووضّح وعمّق لدي معاني وأبعاد ونواحي للمجاورة كنت أعيها لكن لم تدخل في أعماقي كما دخلت نتيجة العمل معهن. مثلا، لم نحتاج طوال العمل معهنّ لكلمات مترجمة أو كلمات لا تنبع معانيها من حياتهن. أمرٌ آخر توضّح لي أن المجاورات حتى “تغوص” في أعماق الحياة، وتتبلور عملية نضج، فإنها تحتاج إلى فترة طويلة. كانت السنة التي قضيناها معا عاملا هاما في صقل كل امرأة للؤلؤة بداخلها، والذي احتاج إلى وقت وتأمل واجتهاد لتصبح جزءا حيا من تعبيرها ونمط حياتها. أمرٌ ثالث تعمّقَ لدي هو أهمية أن تكون العلاقة تبادلية حيث الكل يعطي ويأخذ، يغذي ويتغذى. لم تكن هناك مواد جاهزة، بل كانت المادة التي تعاملنا معها تتمثل بحياتهن وحكاياتهن عنها عبر كلمات تستمد معانيها من الحياة. كان التركيز كاملا على استخراج ما بدواخلهن. أمرٌ رابع تعمّق هو أن التعلم خلطة ضمن سياق حقيقي ويرتبط عادة بفِعْل. إذ إنْ لم يكن هكذا، يكون عبارة عن معلومات ومهارات آلية ومعارف تقنية متفرقة لا تتطلب بالضرورة فهما وربطا بين ظواهر ومكونات بل التعامل معها كسلع. يتمثل الأمر الخامس بجدل نسيج مع الذات ومع آخرين عبر المجاورة والذي يشكل جزءا هاما من المناعة لدى الشخص والمجموعة. ويكمن الأمر السادس بأهمية تحلّي القائمات على المركز (سواء رسميا أو تطوُّعا) بعطاء وحبّ وروحٍ رحبة (والتي كانت متوفرة بقوة لدى السيدة نجوى مديرة المركز ولدى السيدة سميرة وغيرهما عبر سنين طويلة، مما مهّد الجو الملائم للمجاورة). أما الأمر السابع فكان وعيي لأول مرة عبر إصغائي لقصصهن بأن ما قُلْنَهُ هو أدب؛ هو أدب وفق ما كتبه شيخ الأدباء ‘الجاحظ’ قبل 1200 سنة ولخّصه ب‘البيان والتبيين’، عبر ثلاثة أقوال:

(1) اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن كما نعوذ بك من العُجب بما نحسن ونعوذ بك من السلاطة والهذر كما نعوذ بك من العي والحصر. (2) بيانٌ لدى الشخص يبيّن المعاني القائمة في صدره والمتكونة في فكره. ما يُحْيي تلك المعاني، ذكرُهُ واستعمالُه لها مما يقرّبها من الفهم ويجلّيها للعقل ويجعل الخفي منها ظاهرا. وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة وحسن الاختصار ودقة المدخل يكون إظهار المعنى. وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح وكانت الإشارة أبين وأنور كان أنفع وأنجع. والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان؛ اسمٌ جامعٌ لكل شيء كشف قناع المعنى. فبأي شيء بلغتَ الإفهام وأوضحتَ عن المعنى، فذلك هو البيان. من هنا، المعاني ليس لها حدود، بينما الألفاظ معدودة محدودة. (3) قولٌ نقله الجاحظ عن أعرابي: ما يخرج من القلب يصل إلى القلب، وما يخرج من اللسان يصل الآذان. [جديرٌ بالذكر أن من الصعب إيجاد كلمة في الكتب المقررة خارجة من القلب مما يُبْقي القلب معطلا مدى 12 سنة والذي يفسّر وجود أمراض نفسية عاطفية اجتماعية في الحياة المعاصرة.]

ذُهِلْتُ عندما لاحظتُ مدى توافق حكايات النساء بمركز النزهة مع أقوال الجاحظ، مما جعلني أُطْلِق عليهن صفة أديبات. فبيانُهُنّ بيّنَ معاني قائمة في صدورهنّ ومتكونة في أفكارهن؛ خرجت من القلب ووصلت قلوب السامعين. لم تحتوِ أقوالهن وأعمالهن على فتنة ولم يكن فيها زيفٌ ولا تكلّف ولا إعجاب ولا سلاطة وهذر ولا عيّ وحصر. ما أحيى تلك المعاني ذكرُهُن لها مما قرّبها من الفهم وجلّاها للعقل وجعل الخفي منها ظاهرا. ظهرت معانيهن بوضوح الدلالة وحسن الاختصار ودقة المدخل. كانت دلالاتهن الظاهرة على المعنى الخفي هو بيانهن الذي كشف قناع المعنى. فرغم أن ألفاظهن كانت معدودة محدودة، إلا أن معانيهن ليست لها حدود. لذا أقول: وِفْقَ أقوال الجاحظ، هُنَّ أديبات. فالأدب مرتبط بصقلٍ وتهذيب مستمرَّيْن للتعبير والمعنى وجَدْل أنسجة على صعيد الفكر والوجدان والروح والمجتمع. حكاياتهن في القاموس يجسّد معنى وروح ما كتبه الجاحظ: بيان وتبيين يتوافق مع الرؤيا التي نسير وفقها في مشروع المجاورة. جذر كلمة قاموس هو ‘قَمَسَ’ التي أحد معانيها: قَمَسَ الشخصُ في الماء إذا غاص فيه ثم ظهر،انغطَّ ثم ارتفع. القاموس هوأبعدموضعبأعماق البحر يغوص نحوها المرء ثم يظهر. نستطيع وصف ما نفعله في القواميس التي نسعى لتوليفها بالمشروع: غوصٌ في محيط الحياة، في أبعدأعماقها، عبر تأمُّلٍ فيما نمر به من خبرات حيث نخترق السطح ونغوص نحو الجذور، ونجتهد، ومن ثم نَظْهَر بمعانٍ وفهم. هذه القواميس مبنية على القناعة بأن كل إنسان مصدر معنى وفهم، قدرة بيولوجية لا تحتاج لَوِرَش وتدريب؛ وهي حق (مغيب من الإعلانات العالمية للحقوق)، وهي واجبٌ على كل إنسان، ففيها تتجسّد المساواة والكرامة والتعددية وديمقراطية المعنى (أعمق أنواع الديمقراطية). تُمَثِّل الشراكة في تكوين معنى مناعة تحمينا على صعيد التعلم والفكر، وتمثل المجاورة مناعة تحمينا على صعيد المجتمع. الشراكة تمثل ديمقراطية المعنى، والمجاورة تمثل ديمقراطية جدل نسيج مجتمعي. ضمن هذين النوعين، نضمن العيش بحكمة وعافية.

قلت لهنّ محمود درويش أديب، وهنّ أديبات. نوعان من الأدب لا يمكن مقارنتهما إذ ينتميان لعالمين مختلفين. تماما كما وعيتُ عام 1976 أن ما كانت تفعله والدتي الأمية عبر خياطة ملابس للنساء هو رياضيات لا يمكن التعبير عنها بمفاهيم ونظريات الرياضيات المؤسسية. ملاحظة وجه الشبه بين الأدب والرياضيات قدرة رياضية مغيبة. مصدر قيمة أدب النساء يختلف عن مصدر قيمة أدب درويش، تماما كما مصدر قيمة رياضيات والدتي يختلف عن مصدر قيمة رياضياتي.

إلى جانب أنهن يجسّدن أدبًا، فهُنَّ أيضا يجسّدن إنسانية تختلف جذريا عن الإنسانية التي تتماشى مع متطلبات وإملاءات نمط الاستهلاك في العيش والتي تتعامل مع البشر والمعارف والفنون والأدب كسلع. أدبهن أدبٌ إنساني لا علاقة له بمتطلبات السوق. أعود لأؤكد أن أخطر ما يحدث بالعالم المعاصر هو تدمير قدرتنا لعَيْشِ إنسانيتنا خارج إملاءات ومتطلبات الاقتصاد ورأس المال. الإنسانية التي تتماشى مع إملاءات السوق تخريبٌ للطبيعة والبشر. إنسانية النساء تجسدت بأمور كالكرامة والاحترام وروح الضيافة والأمل والتعاطف والعناية والرعاية وليس بحقائق مجردة تقنية مبهرة بالمظهر ومؤذية بالجوهر.

أنجع أداة في تدمير الإنسانية مقاييس تقيس ما لا يمكن قياسه، بهدف السيطرة؛ مما جعلني أفكر بأهمية أن تشمل المجاورات في المستقبل تحادث المتجاورين حول خبرات عاشوها جسّدت إنسانية حيّة حيوية متوافقة مع الحكمة والعافية، وخبرات شعروا أنها دمّرت قدرتهم على عيش إنسانية خارج إملاءات ومتطلبات إنسانية سلبية سائدة تسلبنا إنسانيتنا الحية. تحدٍّ جوهري نواجهه في منطقتنا هو قلب هذه الظاهرة بحيث ننتزع أنفسنا من الإنسانية السلبية التي اكتسبناها منذ مائة سنة على الأقل، ونستعيد الإنسانية المغذية المرتبطة بالعافية. هناك عاملان لاستعادة إنسانيةٍ حيّة: التأمل وتكوين معنى؛ والعيش ضمن مجاورات.

في القواميس التي تصدر عن مشروع المجاورة، نركّز على خبرات وحكايات كبيانٍ للمعاني. في عالمٍ يركّز على أهمية القراءة والكتابة وتواصل تكنولوجي، ويهمل التحادث، نخسر أعمق فن بحياة البشر: التحادث وجها لوجه. كلمة “حديث” بالعربية تجمع في معناها بين التفاعل الشفهي وما هو جديد، وبالتالي تمثل إبداعا تلقائيا مستمرا. التحادث جوهر وروح المجاورات، وأحلى وسيط للحكاية وأعمق بيان لتبادل المعرفة؛ فيه جمالية وحيوية وتلقائية وجدل أنسجة؛ علاقة وجدانية لا تهدف إلى إقناع الآخرين ولا التأثير والحكم عليهم ولا تصنيفهم ولا توجد تراتبية. التحادث بأحلى تجلياته تعانقُ روحين يغذّي أحدهما الآخر. لا يسير التحادث وفق متتالية خطية منطقية بل وفق تدفُّق عفوي فطري وجداني. لا يمكن في التحادث التنبؤ كيف سينتهي. كل متجاور ينطق ويصغي دون تعصُّب. جوهر مشروع المجاورة هو التغذية. بذرة السبانخ حتى تنمو وتعطي، ضروري نرويها؛ حكاية شخص حتى تنمو وتعطي، ضروري نرويها. هذا ما نسعى له عبر دمج ما يجري بالنزهة وما يجري بالمبرة.