شهادات عصام

أنا عصام هاني حجاج من فلسطين غزة، عمري 27 سنة درست آداب لغة إنجليزية، أكتب الشعر منذ عام 2014، عملت كمدرب كتابة إبداعية للأطفال في قطاع غزة، مؤمن بفكرة المجاورة كطريقة للتعلم وأعمل على نشرها مع التربوي منير فاشه في غزة منذ 2020. المجاورة هي وسيط للتعلم نابع من حياتنا وطريقة عيشتنا، طريقة تشبهنا نحن الأهالي بالتعلم، تحطم وهم التعليم الذي تم ربطه فقط بالجامعات والمدارس التي تحاول بث السموم من خلال المناهج البلاستيكية في فلسطين وخارجها. عشت 6 عدوانات داخل قطاع غزة، قُتل الكثير من الأصدقاء والأقارب على يد الاحتلال الإسرائيلي لأننا ندافع عن حقنا في الحياة الذي سلبه الاحتلال. 

أكتب ليعرف العالم عن حق القضية الفلسطينية وعن الجرائم والمجازر التي يرتكبها الاحتلال منذ 75 عام، أكتب ليعرف العالم أننا نسلب أبسط حقوقنا في الحياة والأمان، لكي يعرف الجميع أنني لا أستطيع السفر والحديث عن قضيتي العادلة إلا عن طريق كلماتي، أكتب لكي يعرف العالم قصتنا الحقيقية وأن الاحتلال يشوه صورتنا أمام العالم، وأن لنا الحق في الدفاع عن أنفسنا.

أحب الكتابة وأشعر بنشوة النصر عندما أكتب، لدي ديوان لم ينشر بعد، وأكتب كتيب حاليا عن كيفية تصدير الرواية الفلسطينية عالميا دون تشويه. إذا أردت التعري عن  نفسي بكلمة واحدة ستكون “متأمل”، بتأمل في اليوم الماضي حتى أبني فهم جديد للحاضر وأكون شريك في تكوين المعنى، أعمل أنا وصديقي منير فاشه مع العديد من المجموعات حول العالم لندخل المجاورة في الجامعات والمدارس بشكل رسمي، وافقت جامعة بيرزيت أن تكون المجاورة جزء رسمي منها بشكل مبدئي، نعمل في المجاورة على تحرير الفكر وليس حرية الفكر، وعلى تقدير ذواتنا ومعرفتها بشكل جيد عن طريق الحكمة، أسعى أن يعرف العالم حقيقة الاحتلال المعرفي  وما تدمره المدنية الحديثة وكيف يؤثر على القضية الفلسطينية، أنشأت فريق تحت اسم بيت الحكمة في 2020 بواقع لقاء أسبوعيا لمدة  ثلاثة شهور في استضافة مركز القطان الثقافي في غزة ليتعرف الشباب على أنفسهم من خلال التجاور وليعبر كل منهم عن نفسه بالطريقة التي يراها مناسبة، وكان نتاج ذلك أول كتيب يتحدث عما نفعله.

أحلم أن تصل قصتي للعالم عن طريق مجاورات في كل البلدان، أنا الآن محاصر في غزة حي الزيتون مع عائلتي وعائلة خالتي في نص البيت بعدما نزحنا من بيتنا في الشجاعية.


عصام – اليوم 1 من المجزرة
السبت 2023/10/7

ما بنعرف شو بصير لسة.. كل إللي عرفنا انه المقاومة دخلت على المستوطنات من كل مكان.. بر بحر وجو
أكتر من 40 أسير صهيوني داخل غزة
وقتل عدد كبير منهم
الأرقام على الإعلام كذب
حتى اللحظة مش عارفين حجم الرد شو حيكون علينا
لكن بضربوا في الابراج وفي الناس بشكل عشوائي
مجهزين أوراقنا في شنتة وبنستنى
لكن إللي صار بفرح الروح

الثلاثاء 2023/10/10

هجوم السابع من أكتوبر-غزة


صباح الخير من أمام البلور المطل على حديقة بيتي المليئة بالبلح المتساقط على الأرض، هذه النخلة زرعها جدي قبل سنوات طويلة، مات جدي قبل عامين من الآن وكان عمره وقتها 80 عام أكبر من عمر الاحتلال، كنت أود القول إن صباحي يشبه الياسمين الذي يُغطي البيت لكن الأصوات كفيلة أن تنزع منك كل المشاعر وتقذف في قلبك الخوف، هرولة الأطفال إلى حضن أمهم ظنن منهم أن هذا الحضن الواسع يحمي من طائرات الاحتلال، إذا كان الحجر دُمر ماذا سيفعل الصاروخ بحضن أمي!

اليوم الأول: 
تهديد كل القطاع بالقصف، ثم يبدأ الاحتلال بالقصف بشكل عشوائي دون رحمة أو تحذير، يخرج الاحتلال أمام العالم ليقول لهم أنه يقوم بتحذير المدنيين قبل قصف بيتوهم وأن كل ما يقصف هو تابع للمقاومة، لكن أغلب من مات هم من الأطفال والنساء كانوا في بيوتهم وذنبهم الوحيد أنهم فلسطينية، اليوم سوف تقتل أمام العالم لأنك تدافع عن نفسك. في النهار تكون الأوضاع هادئة إلى ساخنة بين اللحظة والأخرى، في الليل وعندما تطفئ كل الأنوار من المدينة رغما عنا وتبقى ألسنة النار المتصاعدة من الانفجارات هي التي تشعل الطرقات، امسك ساعتك من هذه الدقيقة وبعد كل خمس دقائق أو عشر يكون قد حدث انفجار هائل في غزة، تخيل صوت الانفجار أعلى بمائة مرة من صوته في النهار، أجسام لا تتحرك تتلقى الموت من كل مكان.

اليوم الثاني: 
عاش من عاش ورحل عنا من مات وبقيت ذكرياته، يوم آخر بمزيد من الوحشية، الجيش الإسرائيلي يرسل إلى الفلسطينيين في غزة رسائل بالذهب إلى الملاجئ المعروفة وينشر للعالم أنه يراعي حدود الإنسانية لكن ما لا يعرف الجميع أنه لا يوجد ملاجئ داخل غزة، يذهب الناس إلى مدارس الأونروا وتضرب هي أيضا، يأمر الجيش من الناس الذهاب إلى منتصف قطاع غزة الساعة الرابعة عصرا وفي ساعات الليل يبدأ بقصف منتصف القطاع، في ساعات الليل يأمر الجيش الناس في منتصف القطاع الخروج من بيوتهم، ما هذا الجنون، ما هذا الرعب الذي يجاول زرعه في قلوب الأطفال والأمهات.

اليوم الثالث: 
رائحة غريبة، أشعر أن رئتي سوف تنفجر في أي لحظة، أوجاع غريبة بكامل جسدي وهذا يعني أننا نُضرب بالفسفور المحرم دوليا، الجيش الإسرائيلي مرة أخرى يطلب من قطاع غزة المغادرة إلى مصر وفي نفس اللحظة يقوم بضرب معبر رفح البري، لا مياه، لا كهرباء، لا انترنت ووسط المدينة دُمر بالكامل حيث فيه كل مصالح الناس وجميع المساعدات توقفت والعالم يطبق فمه عن هذه الفاشية.
 
نحن هنا نقول للعالم أنكم تعرفون أن هذا حقنا في الدفاع عن أنفسنا مهما حاولتم تشويه صورة الفلسطيني أمام العامة، هذا حقنا منذ بدأ الاحتلال الصهيوني بقتلنا وتهجيرنا عام 1948 وسلب أرضنا، رؤساء العالم يعرفون ذلك ولهم يد أيضا في هذا الاحتلال، البعض من شعوبهم يعرفون والبعض الآخر والأكبر مغيب ولا يعرف حقيقة الأمر، لكن هذا لا ينفي حقيقة حق الدفاع عن أنفسنا مهما حصل. 
 
أخر ما أود قوله أو ما استطعت التعبير عنه، جدي الذي زرع النخل أمام بيتنا قبل موته، كان يرفض الخروج من البيت في كل عدوان على قطاع غزة، نحن أيضا لن نخرج قسرا.

عصام – اليوم 4 من المجزرة

الثلاثاء 2023/10/10

العاشرة ليلا مفترش الأرض أنا وأخي عند درج البيت والباب أمامنا مفتوح قليلا كي يدخل علينا نسمات الهواء لنشعر قليلا بأرواحنا، الساعة العاشرة تعني أن وتيرة القصف بدأت بالتصاعد والأصوت باتت أعلى من النهار نسمع أيضا صوت صراخ من بعيد ربما يكون منزل مدني قد قصف أو آناس تهرب من بيوتها، من البيت إلى الشارع إلى بيت آخر ربما يُقصف لاحقا. 

أفكر مع نفسي بصوت منخفض، كيف يفهم العالم لغة العدوان دون أن يجربوه، أتذكر صديقتي في  عدوان عام 2014 عندما جاء وفد أجنبي إلى غزة وبدأ الأصدقاء بالحديث معهم عن وحشية الأصوات التي كنّا نسمعها وعن بشاعة القتل والدم، لكنهم لم يستطيعوا تخيل ذلك، عندها بدأت صديقتي بالحديث عن خوفها من دخول الحمام أثناء الحرب وعن خوفها على قطتها من الموت بسبب القصف، هُنا بدأ الوفد بالانتباه أكثر والشعور بمدى قسوة العدوان.

يعني أن العالم لن يفهمني عندما أتحدث بلغة وجع الأصوات، الموت والوجع لديهم له معايير أيضا. 
 
منذ 8 شهور وأنا أحاول أن ادخر المال من أجل السفر وإكمال الماستر كي أحصل على مستقبل أفضل لي ولعائلتي، 8 شهور حصلت فيهم على 500 دولار فقط، في يوم واحد انقلب كل شيء وانتقل حلمي في السفر والدراسة من صدري إلى مرحلة سكرات الموت وصار حلمي الأكبر أن أخرج حيا من هذا العدوان، في يوم واحد بدأت بالأنفاق من مدخرات الدراسة بسبب خروجنا من البيت وكأن الحلم يتلاشى أمام عيني. 
 
هذا العالم وحشي بكل ما يملكه من قوانين لأن الشعور بوجع الآخر أصبح له أيضا معايير خاصة عليك أن تتقنها كي تخبرهم أن في هذه البقعة فيها أمل نحاول توليده لكنكم تقتلون هذا الأمل. 
 
إذا كنتم تريدون إعادة تسمية الوجع كما تريدون ذلك يعني أنكم تتجردوا من إنسانيتكم وتتبعون المدنية الحديثة التي تحاول دائما وضع الإنسان في قالب بلاستيكي.

عصام – اليوم 5 من المجزرة

الأربعاء 2023/10/11

البرد قارص، بعد محاولات عديدة للنوم والتغلب على أصوات الانفجارات يقوم البرد بقرصك ختى لا يفوتك كل المشهد الذي يحصل فيك. الآن مجزرة جديدة في أبراج الكرامة في غزة، الناس تناشد الاسعافات لكن المنطقة ما زالت تُقصف، أخبار تتحدث أن الناس تفحمت ولم يصل لها أحد، القصف لم يتوقف والفسفور الأبيض والصواريخ الارتجاجية تهلك أجسادنا. 

في هذه اللحظة ومع البرد ونخزات صدري وبالتزامن مع قصف شارع الرشيد يذكرني ذلك بالبحر، في كل شتاء من السنة تبدأ في صدري مثل ذبحة أو ما يشبه بالتشقق من البرد ولم أعرف سبب هذا الألم رغم عمل فحوصات كثيرة، شارع الرشيد المطل على البحر المسمى بالكورنيش والمتنفس الوحيد لأهل غزة يُقصف بشراسة. 
 
هل عندكم بحر ؟
المقهى المجاور للبحر الذي جمعنا بالأصدقاء لسنوات والذي شهد على ارتفاع أصواتنا وصراخنا وضحكاتنا وبكاؤنا وشكوانا، لقاءات العشاق خلسة وأول مرة تتعلم فيها أن تمسك يد حبيبتك ليحميك البحر، كلها تُقصف. 
بين كل كلمة أكتبها أسمع صوت انفجار وبينما أكتب تصلني رسالة من صديقي محمد من النصيرات، أربع منازل حول بيتي تم تهديدها، والحارة بأكملها نزحت، بين كل لحظة موت، ونزوح. 
 
وصديقتنا تتسائل من الذي حول المدارس إلى ملاجئ. 
المدارس على الرغم من أن هدفها تعليمي وخصوصا مدارس الأنوروا التي ينزح فيها السكان إلا أنها وجه آخر للاحتلال المعرفي والتفرقة، ميز من هاجر من أراضي الداخل إلى غزة بزي مختلف ويدس السم في المناهج ويمنعهم من التضامن مع القضية الفلسطينية بأي شكل، لم يكتفي الاحتلال بالسيطرة العسكرية يحاول أيضا السيطرة معرفيا حتى يطهر العرق الفلسطيني من الجذور. 

74 عام من الاحتلال، ولدت عام 1996 ولم أقع في فخ الاحتلال المعرفي.

عصام – اليوم 5 من المجزرة

الأربعاء 2023/10/11

اليوم الظهر راح تطفي الكهربا حسب شركة الطاقة.. بعد هيك ما في كهربا بغزة ما بنعرف لمتى راح تنقطع أخبارنا.
حبيت اخبرك لتكوني عارفة لو ما قدرت اشحن الجوال واتواصل.

عصام – اليوم 5 من المجزرة

الأربعاء 2023/10/11

10 أكتوبر يوم ميلاد أمي، بعد نزوحنا من البيت من حي الشجاعية وهي تجلس على الكرسي وفي يوم ميلادها تقول: إذا كل أم خبت ابنها مين راح يدافع عن الأرض. 

10 أكتوبر يوم ميلاد أمي، بعد نزوحنا من البيت من حي الشجاعية وهي تجلس على الكرسي وفي يوم ميلادها تقول: إذا كل أم خبت ابنها مين راح يدافع عن الأرض.

كلامها يذكرني في كل مرة كانت تقول لنا توضئ قبل خروجك من البيت لا تعرف ماذا يحدث لك، أمي سلمت أمرها لله منذ زمن وهذا يفسر قوتي النفسية في التعامل مع ما يجري، الوضع كارثي لا أنكر ذلك، الموت في كل مكان، الصراخ يعلو المدينة، كلها حقيقة أسمعها وأراها، هناك تصريح أيضا من وزارة الصحة يقول: يوجد نقص في أكياس الجثث. لكن الأمر سهل، سترسل الدول العربية المزيد من الأكياس.

تحاول ابنة خالتي كسر كآبة الموت بكعكة عيد الميلاد مع مراعاة حرمة الموت، ما أخشاه أن تُزين الكعكة بالرماد لأنهم يغتالوا الحياة ونحن نحلب الحياة من شاه يقاوم الموت، لكن أمي بدلت كعكة الميلاد بوصيتها: إذا كل أم خبت ابنها مين راح يدافع عن الأرض.
نحن نتعرض لإبادة جماعية أمام الجميع وكل ما أريد قوله، سيلاحقك شبح ذنبنا بينما نحن في ضيافة الله.

عصام – اليوم 6 من المجزرة

الخميس 2023/10/12

نحن الآن في بيت خالتي، البيت الذي نزحنا إليه من العدوان الهمجي الصهيوني على غزة، في كل لحظة نسمع صراخ نساء وأطفال في الشوارع تأتي من بعيد كأنه وحش ينهش أرواحنا.
 
الساعة الرابعة عصرا اتصل الجيش بعائلة الجيران بإخلاء البيت لكنهم لم يقصفوا بعد ساعات من التوتر، أقول لكم هذا لكن لا تبتسموا الآن لأنهم يتصلون ويعني أنهم متمسكين بحقوق الإنسان، إنه فخ، حرب نفسية، يخرجوا العائلات إلى الشوارع ليلا حتى يزرعوا الرعب في قلوبهم كي يكرهوا هذه الأرض ويتركوها إلى الأبد. 
 
الآن الساعة 8:00 مساءا ونحن نصلي صلاة العشاء جماعة نسمع صوت صراخ أطفال ونساء في الشارع، فتح ابن خالتي باب البيت ودخلوا سريعا إليه، انهيت صلاتي ونظرت على شمالي، عشر أطفال صوت بكاءهم يكسر القلوب، لكني بكيت لأن طفلة منهم كانت تبكي أكثر من الباقية وعندما سألنا بسذاجة عن السبب، قالت أن حذاءها سقط في الشارع بينما هي تهرب من الموت وتريد الرجوع لتأخذه، عندها بكيت، كيف يا الله نقول لطفلة أن ما يجري أكبر من فردة حذاء سقطت على الأرض لا نستطيع الخروج لجلبها لها، كيف نشرح لها عُهر العرب وسكوتهم، كيف نقول لها أن إسرائيل تغتصب العالم وغزة قررت أن تغتصب اسرائيل بالنيابة عن العالم.

عصام – اليوم 7 من المجزرة

الجمعة 2023/10/13

شاءت الأقدار أن تجمعني بأحد المقاتلين سنة 2000 من الذين تحاصروا في كنيسة المهد، هذا الرجل يفهم الوضع جيدا، قليل ما سمعت أحد يتحدث مثله، يفهم ما يدور حوله من خذلان الأنظمة العربية بشكل غريب، بعد حصارهم في الكنيسة تواصلت إسرائيل لتهجير جميع من تم حصارهم إلى دول أوروبية لكن أبو عمار ياسر عرفات رفض ذلك، كان عددهم كبير إلى أن تهجر منهم 100 شخص، المشاهد كانت دامية، الشهداء تملئ ساحة الكنيسة، أكلوا ورق الشجر، لم يشربوا لأيام. 

حاولنا أن ننام قليلا لنعطي أجسادنا فرصة للراحة في حال جُبرنا على النزوج مرة أخرى، ننام على أصوات القذائف ونصحو عليها أيضا، لحظات قليلة بعد صلاة الفجر خرج الشاب وعائلته من المنزل وراحت الطفلة تجري إلى الشارع كي تبحث عن حذاءها الذي سقط منها البارحة أثناء الهرب.

على الأخبار، يطلب الجيش الاسرائيلي من أهالي شمال قطاع غزة إلى الجنوب ويبلغ عددهم 1.1 مليون فلسطيني، المقلق في الأمر أن الأمم المتحدة أبلغت موظفيها والهلال الأحمر بالخروج عبر رسائل الجوال  من شمال القطاع إلى الجنوب، لا أحد يوضح حقيقة الأمر، لا أحد يعرف إذا كانت حرب نفسية لكن هناك مهلة 24 ساعة للخروج. 
 
الناس خائفة تريد أن تصدق بأن ما يحصل هو فقط ترهيب، لكننا عشنا هذه الكارثة من قبل وهنا الخوف، عندما طلبت الجبهة الداخلية عدم الخروج من الشجاعية عام 2014 وبعد يوم عشنا أبشع المجازر، الوجع يُعطي درس.
 
نحن نعيش مهزلة التهجير أمام العالم منذ عام 48، العالم يتفق علينا كأننا دخلنا الحجرة على نساءهم خلسة ويريدون الثأر، لماذا هذا الإنكار تجاه ردة الفعل العالمية العربية. 
 
يا الله أنني أفتقد مظفر النواب، أفتقد كلماته الصارخة سيئة المعنى لأنها تُرضي شيء ما بداخلي أو ربما تخفف عن غضبي.
الأتظمة فاسدة، الشعوب عارية الآن لكنها قادرة على تغيير الفرضية، والتاريخ ليس بهذه الأهمية أمام السؤال عند الله، ماذا فعلت !


عصام – اليوم 8 من المجزرة

السبت 2023/10/14

طلعنا مبارح
من الزيتون على دير البلح
سيل من الناس من الشمال للجنوب طالعين زي ما حكولهم اليهود يطلعوا
وهما طالعين قصفوهم بالطريق
السيارات كانت تنحرق قدامنا
والاشلاء بكل مكان
نمنا ليلة في دير البلح والصبح رجعنا ع الزيتون جمب الشجاعية عند خالتي
وقررنا بعد هيك مش طالعين مكان لو بدهم يهدوا الدار فوق روسنا
خلص بكفي
ستي طلعوها من النصر للزيتون الساعة 10 في الليل مشي
من النصر للزيتون تقريبا 6 كيلو وستي مقعدة تجرحت وتبهدلت
قعدت جمبها وبوست ايدها وحكتلها اني بكتب عشان العالم يعرف الحقيقة بس ما قدرت وبكيت

عصام – اليوم 8 من المجزرة

السبت 2023/10/14

دوامة النزوح ترافقنا كل يوم في مكان جديد، ومثلما قال عامر حليحل في مونودراما "طه" عن نزوح الفلسطينين عام ١٩٤٨، " بناكل وبنشرب وبننام بس إحنا بدناش ناكل ونشرب وننام إحنا بدنا نروح"، عاد طه من لبنان إلى فلسطين حتى لو كانت العودة ثمنها الموت.
 
بعد طلب الجيش الاسرائيلي من سكان القطاع بالنزوح من الشمال إلى الجنوب ما بعد وادي غزة، اشتدت الأوضاع البارحة وخرجت الناس وخرجنا معهم كما طلبوا وفي الطريق قصفونا، أكثر من مائة شهيد على خط سير واحد والناس هاربة من الموت إلى قضاء الله. 
 
وصلنا إلى بيت في الجنوب وفي صدورنا غضب وحسرة لا توصف، جلسنا على مقاعد اسفنجية وبعد لحظات قلت بصوت عالي " أنا وصلت معي لهان_ وأشرت على أنفي_ بكرة راجع على البيت"، وقالت أمي في ١٩٤٨ بقي من بقي حتى اللحظة ولم يخرج وكان هدفهم الترهيب.
 
في الصباح عدنا إلى البيت، نحاول الآن الحصول على لتر بنزين لتشغيل ماتور الكهرباء لتعبئة المياه وشحن البطاريات لنتواصل مع العالم ونعرف ما يدور حولنا، قال لنا صاحب المحطة بكل دم بارد " أُمرت بعدم بيع البنزين" عدنا إلى البيت في الزيتون، بيت خالتي بالقرب من الشجاعية، ربما نفقد التواصل بشكل نهائي هذه المرة لكننا لن نخرج من البيت، نموت أو نخرج سالمين.
 

عصام – اليوم 9 من المجزرة

الأحد 2023/10/15

لست خائف من الموت، إذا كان ولا بد أن يأتي الصاروخ فليكن قاسيا جدا ولا يترك مني شيء، الحياة ضيقة جدا والخوف يأكلها إذا ما تركته يعيش فيك، يسري مثل السم. 

نحن لا نريد القتال ولا نحب الموت ولا رائحة الدماء لكن هذا ما فرضه العالم علينا، سنترك خلفنا كل أفكارنا عند الأصدقاء، كل ما كتبنا وكل الأمنيات التي خرجت من صدورنا والتي بقيت عالقة في المحادثات. 

على من يبقى أن يفهم جيدا أن العالم الغربي والكثير من العربي لا يفهم ما يحدث لنا ولا يفهم مجريات الأحداث بشكل صحيح. 
لذلك أدعوكم إلى العمل على تحرير الفكر الاستعماري من عقولنا العربية والتوجه إلى الحضارة العربية الإسلامية لنفض الغبار، أدعوكم لفهم الاحتلال المعرفي وكيف يلعبون بالكلمات، كلمة واحدة بمفهوم خاطئ قد تصل إلى الشعوب بمفهوم ينسف حقنا. 
إن الدول التي تنادي بحرية الرأي والتعبير هي من أوائل الدول التي منعت شعوبها من مناصرة غزة وفلسطين،وهم يعرفون جيدا أنهم السبب فيما يحدث لنا لأنهم من زرعوا اسرائيل في الشرق الأوسط.

لقد شهدنا الكثير من الموت ولم يبقى للخوف من الموت مساحة، لكننا نخاف الشعور بالحياة.

عصام – اليوم 10 من المجزرة

الاثنين 2023/10/16

يقتلهم هذا العناد، يستفزهم حد الجنون، كيف لشعب أن يحب بلاده لدرجة الموت، كيف لهم أن يتخلوا عن أرواحهم في سبيل قول كلمة لا في وجه الظلم. 
 
تجري منذ أيام محادثات من أجل هدنة إنسانية لدخول المواد الغذائية والطبية وفي كل مرة يتأمل الشعب بفتح معبر رفح البري لدخول المساعدات يقصف الاحتلال المعبر بشكل عنيف، يقصفوا كل الشوارع المؤدية إلى المعبر، نقص في المستلزمات الطبية والاحتلال يطالب باخلاء المستشفيات أيضا، كل ما يحدث يدل على أن الاحتلال يريد أن يذل الشعب الفلسطيني، أين تذهب المستشفيات وأين يذهب الجرحى والمرضى وما الكارثة التي ستحل بنا إذا فعلنا ذلك، نحن أصلا تحت هجوم فاشي.

البارحة فتحت وزارة الصحة مقابر جماعية، الموتى تدفن دون التعرف على أسماءهم، أهاليهم تحت الأنقاض ولم يتعرف عليهم أحد لأنهم أشلاء ونقترب من حدوث كارثة بيئية وانتشار الأمراض، أول مقبرة دُفن فيها 75 شهيد والثانية 35. 
أعرف أن العالم سيرى كلمة شهيد .
 
كلمة إرهابية لكننا لسنا كذلك، جميع من ماتوا أبرياء وكلمة شهيد تكريم لهم عند الله ولا تعني كما يروج لها العالم، نحن أبرياء ونتعرض لإبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني.

عصام – اليوم 12 من المجزرة

الأربعاء 2023/10/18


صديقتي تقول أن أكتوبر شهر الوقوع في الحب، ينتقل الجو من الحرارة الشديدة إلى نسمات الهواء الباردة، وعندما نخرج ليلا لنسهر مع الأصدقاء نأخذ معنا شيء ثقيل لنغطي أنفسنا من برد النسمات ومن ينسى أن يجلب معه شيء يحتمي في كتف صديقه حتى يعود إلى البيت ويحتمي بالجدارن.
 
الليلة كانت قاسية جدا، جيش الاحتلال حول أكتوبر من شهر الوقوع في الحب إلى شهر قتل الأصدقاء، البارحة الساعة السابعة مساءا قصف الاحتلال مستشفى المعمداني في قطاع غزة قتل أكثر من 500 شهيد والكثير من الاصابات، مات من بينهم صديقي محمد قريقع، محمد شاب طويل القامة حسن الوجه، محمد كانت لوحاته الفنية تعبر عن وحشية الاحتلال، خرج محمد من بيته في الشجاعية إلى مستشفى المعمداني ليحتمي من القصف، ترك كل لوحاته في البيت، ترك روحه هناك ونزح ولم يكن يعرف أن الموت ينتظره. 
 
الاحتلال يُنكر المجزرة التي قام بها ويقول بأن المقاومة من فعلت ذلك لكن حجم الدمار في المستشفى واضح أنهم من قاموا بهذه المذبحة، لا أحد يستطيع فعلها غيرهم. 
 
جفت الكرامة من وجه العالم وهم يشاهدون ما يحصل، جفت العروبة والإنسانية من قلوب الناس، حتى منظمة حقوق الإنسان وجودها كعدمه لأن في نظرهم أن الفلسطيني ليس إنسان، ربما إذا بدلوا إعلانهم العالمي بمصطلح الحقوق الإنسانية عندها يمكنهم التحرك وأن لكل إنسان حقوق إنسانية كحقه في الأمان. 
 
الآن يقع الشباب في الحب في باريس وبرلين وبرشلونة، محمد لم يكن في أي منهم، بل كان في مستشفى المعمداني ليقول للعالم، لوحاتي تشهد أن أكتوبر شهر الموت.

عصام – اليوم 13 من المجزرة

الخميس 2023/10/19 

الموت يقترب أكثر، معالم الحياة هنا تختفي، مساحة ذاكرتي أصبحت ممتلئة وأقتربت من 
نسيان وجوه أصدقائي وشوارع المدينة التي كنّا نمشي فيها، كنّا نركب السيارة وننزل وسط البلد ونتابع المحلات التجارية والمارة بأعيننا، الآن دُمر كل شيء لم يبقى لنا شوارع نمشي فيها، دُمرت المساجد والكنائس بقصف الاحتلال الصهيوني. 

الساعة 11 مساءا بدلا من أن نشتم رائحة الزهور المزروعة على باب البيت نشتم رائحة الرماد والفسفور الأبيض. 
قبل يومين وصلنا خبر أن بيتنا قُصف جزئيا، اليوم وصلنا خبر أن البيت كله قُصف، لا نعرف حقيقة الخبر لكننا قرأنا على الأخبار أن حي الشجاعية أصبح مدينة أشباح كما وصفها المراسل. 

البيت، البلكونة التي أنام فيها المطلة على حدائق الجيران، مكان السهر مع الأصدقاء حتى طلوع الفجر وصوت الجيران لوقت متأخر المكان الذي شهد على كل ندباتي، كتبت فيه حتى أصابعي جفت، الكنب الذي اشترته أمي قبل شهر باللون الفيروزي، أمي ذوقه رفيع في كل شيء، بلاط الجدارن الذي عمل عليه والدي حديثا، وصوت صراخنا على بعض. 

في كل مرة يدخل فيها صديق إلى بلكونتي يقول "في حد بدهن الحيط أسود"
الآن البيت كله أصبح رماد، باللون الأسود.

 

عصام – اليوم 14 من المجزرة

الجمعة 2023/10/20  

بخطوات ثقيلة تأخذني إلى ملاذي سابقا، إلى حجرات الذكريات، والوصول الأخير بعد كل ليلة منهكة خارج البيت، مكان المشاكل العائلية والجمعات التي تُشعر الإنسان بالدفء. 
 
صوت أمي من بعيد يقول لنا أجلب لنا الطحين معك. 
 
ذهبنا إلى البيت بالسيارة وقبل بلوغه بمسافة 300 متر توقفت السيارة بسبب الطرقات المتكسرة، عندما رأيت الشارع بهت وجهي وذبلت عيناي، تعبير المراسل على الإذاعة أن حي الشجاعية مدينة أشباح كان صادقا فيه بشكل مرعب، الصدمة تعتلي وجوهنا وتسيطر عليه دون  سابق إنذار، في الطريق بيوت الجيران خالية منها ما هو تحت الأرض وأخرى كأنها متآكلة مع مرور وقت على تركها وحيدة لكن الحقيقة أنها تُركت لينجو أصحابها من القصف. 
 
بيتنا أمامي الآن رأيت الجزء العلوي من المنزل خالي وكل شيء في الطابق مندفع إلى الشارع بفعل الإنفجار، حائط البيت على الأرض، في البيت، لا يوجد أبواب ولا نوافذ، بكلونتي دُمرت، بلكونة أبي مع جزء من سقف البيت دُمرت، نال الإنفجار من كل شيء، عشر دقائق دخلنا فيها البيت والمنطقة وأنا أعرف جيدا سياسة الأرض المحروقة وأن كل شيء يتحرك في المكان سوف يُقصف وأن نسبة نجاتي 1%، لكني أردت الذهاب.
 
ابن خالتي كان معنا، عندما نظرت إليه وحدت لون وجهه تغير من الخوف تذكرت حينها قبل خروجنا من بيت خالتي عندما قالت أنا لا أريد ماء للشرب كي لا يكون ذنبك في رقبتي وتذكرت أيضا أننا خرجنا نبحث عن الماء الشرب. 

ناديت على أخي كي لا أحمل ذنب أحد وخرجنا من المنطقة إلى السيارة إلى بيت خالتي ونحن نحمل وجوه رمادية.

عصام – اليوم 15 من المجزرة

السبت 2023/10/21  

الساعة تقترب من منتصف الليل، صوت الانفجارات لم تهدأ منذ 14 يوم، أنا وأخي ننام في بيت الدرج باقي العائلة تنام داخل البيت بالقرب من بيت الدرج أيضا، نحن في البيت 16 شخص، كل منّا له قصته الخاصة به التي سوف يرويها يوما ما، ينام الجميع عدا شخص ينام عندما نصحو. 

لا أحد يعلم متى يسقط الصاروخ فوق البيت، لا نعلم متى يشتد الوضع أكثر، ربما نضطر للنزوح مرة ثالثة، يبقى شخص واحد يحرسنا ونحن نيام ليوقظنا إذا اضطر الأمر لننجو بأنفسنا. 

عيناي تلتصق ببعضها من النعاس لكن قذيقة سقطت بالقرب قررت أن تفزع نومي، الحجارة ضربت باب بيت الدرج.
أريد النوم مرتاح البال دون الشعور بضرورة الهرب من قذيفة تلاحقني أينما ذهبت. 

اسمي عصام من غزة أحاول النوم في بيت الدرج أطالب منظمة حقوق الإنسان بحقي في النوم دون تهجم القذائف على منزلي. كلام فارغ.

عصام – اليوم 16 من المجزرة

الأحد 2023/10/22



من بيت الدرج إلى المدى البعيد الذي فيه رحمة الله عن رحمة البشر، أشعر بالهزلان، يبدو أن الانفلونزا أصابتني، كعادتي لا أحب استخدام الأدوية لمساعدتي في الشفاء، يأتي المرض ثم يذهب كما أتى، تعافي ذاتي دون تدخل لأنني أعرف قدرتي على الشفاء ولا أعرف صدقهم في صُنع الأدوية. لتحافظ على عافيتك يجب ألا تدخل أجسام غريبة لا تعرفها، لتحافظ على ذاتك من الخذلان عليك أن تحيط نفسك بالأتربة الصالحة. حلقي جاف، الليمونة التي خلف البيت أعطتني حبة كي يذهب شعوري بالرمادية، أشعر أنني داخل علاقة مع فتاة لا تعرف ماذا تريد، مرة تريد أن نكون أصدقاء وأخرى عُشاق حتى إذا طال الوقت بقينافي المنتصف وبقيت ثقوب القلب تُلهبه. اليوم السادس عشر من العدوان على غزة أشعر بالرمادية، لا أنا في مكان آمن ولا أنا ميت.

عصام – اليوم 17 من المجزرة

الإثنين 2023/10/23

“من المكان المطل على عظمة الله في السماء إلى الخراب الذي يحدثه الاحتلال “

عصام
من المكان المطل على عظمة الله في السماء إلى الخراب الذي يحدثه الاحتلال، الجو ملبد بالغيوم منذ العصر يقترب إلى نزول الأمطار، المشهد الذي ينتظره الكثير من محبين الشتاء والساخطين على الصيف، اشتقت لتلك العبارة على صفحات السوشال ميديا بسبب حرارة الجو "مبسوطين محبين الصيف"، اشتقت لها رغم تناقض الخطاب، يعني مثلا لو أن محبين الصيف توقفوا عن حب الصيف هل سيتوقف الصيف عن القدوم. الأصوات التي تخرب سماء الله وأرضه عالية جدا، أشعر بالتعب الشديد من قلة النوم أذني أصابها الوش ورأسي أصابه الطنين. من هذا الشباك الذي تود لو تنظر إليه وعند الدخان المتصاعد تماما هناك منزل من ثلاثة طوابق قُصف قبل أسبوع من الآن فيه 8 أشخاص لم يأتي أحد ليخرجهم طيلة هذه المدة، اليوم جاء الدفاع المدني أخرج منهم 4 شهداء وبقي 4، ثم هرب الدفاع المدني من المكان لأن الاحتلال ما زال يقصف المكان ولا وقت لديهم إما الفرار أو الموت.

عصام – اليوم 18 من المجزرة

الثلاثاء 2023/10/24

تراودني فكرة الموت منذ أيام، أشعر أنني في قاع من الوحل، أشعر أننا في كذبة كبيرة لا أستطيع تصديقها، قلتها سابقا أنني لست خائفا من الموت لكني خائف من الشعور بالحياة. 

لو أن العالم سوف يسمعني لدقيقة واحدة سيكون سؤالي لماذا نموت بهذه الطريقة البشعة.
اليوم ومنذ ثمانية عشر يوم لم أشعر كما الآن، أنني حائرا في أمري، أشعر أن القذائف تأكل قلبي، لقد كنتُ قاسيا جدا في التعامل معي كل تلك الأيام، تعاملت دون مشاعر مع نفسي وتفاعلت مع أوجاع الآخرين بالبكاء مرات قليلة.

كل ما أردته في حياتي بعض الأمان وتحقيق حلم أمي، بيت أرضي فيه مدفأة حجرية تخرج من سقف البيت. 
لا أدري ما الذي يحصل لنا، أنني في فاجعة مع نفسي.

عصام – اليوم 19 من المجزرة

الأربعاء 2023/10/25  

الشتاء قادم، كنّا أنا والأصدقاء نشبه شوارع مدينة غزة بشوارع باريس متهكمين على ردائة البنية التحتية للمدينة، في الشتاء تغرق الأحياء السكنية، تدخل المياه داخل البيوت وفي بعض الأوقات ينتقلون من مكان لآخر عن طريق الحسكات. تغرق أنابيب الصرف الصحي وتبدأ الرائحة الكريهة بالفوحان في المكان.

الذين يحبون الشتاء ينتظرونه مثلهم مثل العشاق الذي يريدون عيش حالة فريدة من مشاعرهم تحت المطر، بعض الأحيان يستطيعوا عيش هذه التجربة لكنها تكون خاطفة جدا، لأنهم يسرقوا حبهم من الأباء، المدينة هنا لا تعترف بالعشاق إلا عن طريق الزواج، يسرقون القُبلات والعناق في الشوارع الضيقة أو على درج البنايات.

هذه المرة يتراسلون عبر رسائل الجوال تحت القصف الاسرائيلي دون عناق، يقفون على طوابير ماء الشرب أو المخابز بالساعات للحصول على القليل من الماء والخبز، سيكون قارصا جدا، بيوت مُدمرة بالكامل، بيوت فيها فتحات في الأسقف والجدران، ولا عناقات تخفف البرد. 

الكثير من العائلات نصّبت خيام في الجهة الجنوبية من القطاع. 

لاحقا عرفت أن شوارع باريس مليئة بالجرذان وحشرات البق وأن شوارع غزة أجمل لولا ما يفعله الاحتلال.

عصام – اليوم 20 من المجزرة

الخميس 2023/10/26  



خلطة من المشاعر، مزيج عدائي عاطفي، في الخلفية صوت جورج وسوف بأغنية "لسا فاكر قلبي يديلك أمان ولا فاكر كلمة حتعيد إللي كان"، من أمامي أصوات الانفجارات، منذ ثلاث ساعات لم يتوقف الصوت، لم يتوقف الدخان عن التصاعد إلى السماء، خرب دخان الصواريخ  السماء وغيم عليها بالسواد. 

متناقضة الحياة مثل ما يبكي طفل على لعبته ثم يرميها بعدما حصل عليها، مشاعري باردة وقلبي فيه القليل من الوخز أما روحي مُتعبة. 

يخاطبني جورج من خلال أغنيته قائلا أن لا تُعطي الأمان للحياة مرة أخرى. 
بصوت منخفض، بارد، أنا متعب. 

رأسي مثل دوامة بحر تدور دون توقف، كأن جارتنا الحامل تصرخ من شدة الطلق في رأسي، كل شيء متكدس والأفكار مثل وحش، واحد وعشرين يوم على العدوان أفقدني شعوري بالحياة العادية، النوم الباكر، السهرات مع الأصدقاء، المشي في الشوارع صباحا، الجلوس على البحر، بحر أكتوبر المتناغم بين الحرارة والبرودة. 

الجميع هُنا أصابتهم حالة من الاختناق، واحد وعشرين يوم من كبت المشاعر، الخوف، النوم الخائف، والبكاء على الأصدقاء والأقارب الذين فارقونا. 

الناس في الخارج تأكل وتنام وتستيقظ على صوت المنبه، ونحن نأكل، ننام، ولا نستيقظ لأن قذيفة قتلتنا.

عصام – اليوم 23 من المجزرة
الأحد 2023/10/29

“يوم الجمعة الساعة 6:15 مساءً تحولت جلسة الحكايات في بيت خالتي إلى مقبرة جماعية. قصف الاحتلال الاسرائيلي البيت فوق .رؤوسنا دون سابق إنذار

عصام
يوم الجمعة الساعة 6:15 مساءا تحولت جلسة الحكايات في بيت خالتي إلى مقبرة جماعية. قصف الاحتلال الاسرائيلي البيت فوق رؤوسنا دون سابق إنذار.

كنت أتحدث مع خالي أدهم من برلين لحظة الاعتداء على البيت، لحظة واحدة كنت أجلس فيها على كرسي على سطح البيت مع عائلتي، لحظة واحدة وجدت نفسي تحت الركام، لا أدري متى قُصفنا، فقدت الوعي لثواني ثم فتحت عيناي شعرت أني دُفنت وأنا حي وسط أطنان من الدخان في فمي، سحابة الدخان التي كنت أراها عندما تُقصف البيوت كنت داخلها. 

بدأت بالبحث عن من كان عندي لحظة الاعتداء، أختي، ابنة خالتي، ابن خالتي، وجدتهم وفتحت التسجيل لصديقتي ريف من الأردن وخالي كي يعرف العالم بهذا الاعتداء الهمجي. نزلت عن الدرج بعد عشر دقائق داخل سحاب الدخان بعدما نادى أخي من الطابق الأرض بأن الطريق مفتوح، نزلنا إلى الطابق الأرضي تفقدنا جميع من البيت، الجميع قال نعم إلا والدي، بدأنا ننأدي ونحفر في كل مكان حتى سمع صوتنا، صرنا نحمل الركام بايدينا وأجسادنا المكسورة حتى نخرجه، دخل الجيران علينا كي يخرجونا من البيت لأنه من المحتمل أن يُقصف مرة ثانية كعادتهم مع كل البيوت، لم نهتم لذلك وبقينا ساعة نحفر ونزيل في الركام بايدينا العارية حتى أخرجناه، الجميع أخذ قرار في لحظة، لن نخرج بدونه لأننا نعرف جيدا، المسعفين يخافون من الليل ولا تستطيع الاسعافات العمل ولن يأتي أحد له إلا بعد أيام بسبب عدد الضحايا الكبير في اليوم الواحد. 
وضعنا البنات في بيت الجيران، حملنا والدي على النقالة و دخلنا في الإسعاف إلى مستشفى الشفاء مباشرة، في المستشفى قاموا بعمل الاسعافات الأولية، كسر في القدم اليمنى واليد اليسرى. 

بقي والدي أكثر من ثلاث ساعات بعدما اخرجناه من تحت الأنقاض على أرض المستشفى دون شيء تحت جسده يخفف عليه الوجع، جن جنوني وأخذت ما أخذت مرة بالقوة وأخرى باللين كي أخفف عنه، بعد أكثر من خمس ساعات حصلنا على فرشة تخفف عنه الوجع، بعد ساعة غرز الطبيب رأسه دون بنج بسبب قلة المستلزمات الطبية ولأن البنج لحالات أصعب من حالته.

مستشفى الشفاء مليء بالناس في كل مكان، في الطرقات، في الشوارع الخلفية، الكثير نزح للاحتماء بالمستشفى، الكثير من الاصابات، الكثير من الموتى وسط خيمة في ساحة المستشفى نشتم رائحتهم كل ثانية، داخل الخيمة يوجد طبق، طبق من أشلاء، طبق من أشلاء أطفال غزة في طبق كبير. 

في اليوم التالي حولوا أبي إلى مستشفى الأوروبي لعمل عملية في قدمه ويده وبعد التشخيص الثاني عرفنا أن عينه اليسرى فيها نزيف داخلي وتمزق في القزحية وأنخلاع في عدسة العين، ثلاثة أيام دون تشخيص واضح لحالته وغدا العملية، اليد ربما فيها مشكلة في الأعصاب، القدم بلاتين في عظمة الفخذ، هذا أيضا بشكل مبدئي.

اسمي عصام هاني حجاج من غزة، خرجت من بيتي في الشجاعية مع عائلتي قبل أن يُقصف إلى بيت خالتي في حي الزيتون ليُقصف علينا بيت خالتي، اسمي عصام من غزة أصابتي في الرأس والكتف الأيمن لم يتم فحصي حتى اللحظة لأني قادر على الحركة ولأن هناك من هم أكثر أهمية مني، اسم أخي أحمد حُرق ظهره، اسم أختي شيماء نجت من الموت بأعجوبة وجرحت قدمها، اسم ابن خالتي أحمد عمره 8 سنوات جُرح رأسه، وخالتي طوال الليل تقول لي سمي هذه القصة بمقبرة الحياة يا عصام، ونحن نجونا بأعجوبة من هذه المقبرة بعدما دخلنا البيت صباح يوم التالي ورأينا البيت ورأينا آية الله فينا بأن لنا بقية في العمر.

عصام – اليوم 24 من المجزرة
الإثنين 2023/10/30

بعد يوم واحد من قصف البيت على رؤوسنا، فكرت أني سأكتب عما حدث ثم قلت لا شيء سوف يصف ما حصل معنا، سيكون شعوري بالخيانة طاغي، أنني خنت كل الخوف والصراخ والموت، واختزلته في بعض كلمات، أشعر بالخيانة لتلك المشاعر. 

كان لابد أن يتماسك أحد فينا ولا يبكي، أعلم بأن البكاء رحمة لكن لا خيار، الحياة تفرض عليك أحيانا ما لا تستطيع احتماله. الجميع بكى وعندما كان يأتي دوري كنت احبس دمعي كأني سجان محترف.

اليوم الثالث بعد القصف ويا ليتني بكيت مثلما فعل الجميع، يا ليتني خنت كل شيء ورميت دموعي، كل مشاعري محبوسة، عالقة في صدري، صوت صراخ أخوتي وأخواتي، نظرات أختي وهي تقول للمسعف أن أبي تحت الركام تعال واخرجه، وبكاء أمي وصراخها على أبي، الذهول في عيونهم، ارتجاف ايديهم، وكل اللمسات التي طمنا بعضنا بها.

يا ليتني بكيت بصوت عال حتى نسيت من أكون.

عصام – اليوم 25 من المجزرة
الثلاثاء 2023/10/31

إمرأة تصرخ للمرضى في المستشفى، تتوسله من أجل تقديم موعد عمليتها، عملية بلاتين في يدها اليسرى.

لم يدخل والدي العمليات حتى اللحظة، ثلاثة أيام بعد قصف البيت على رؤوسنا وهو بحاجة لتدخل جراحي، طلب منه الممرض الصيام للتحضير للعملية منذ يومين. 

ذهبت للدكتور سألته عن موعد العملية قال لي، لا أعرف موعد عملية والدك بالتحديد، ربما تكون بعد ساعة ربما في الغد، عدد الاصابات يزداد في كل لحظة ونوقف العمليات للطوارئ. ممرض آخر في الممر الجانبي قال للطاقم الطبي، إذا لم يكن هناك مسكنات للمرضى لن أعمل، لا أريد تعذيب الناس.

70 حالة كسر تحتاج بلاتين في اليوم الواحد والجميع هنا ينتظر دوره، هذا المكان أقرب بالمشرحة التي تلاحق نفسها لتبتلع أكبر عدد من أطنان اللحم. 

الممرضين والدكاترة أصابتهم حالة من التبلد، البرود في الرد على أسئلة المرضى موجع، الحالة التي يعيشها الشعب الفلسطيني أقرب للانسلاخ  عن أرواحهم، حالة الرمادية، تريد البكاء لكنك لا تقدر وفي ذات الوقت لا تستطيع الانهيار. 
منذ ثلاثة أيام لم آكل الخبز إلا اليوم، المستشفى هنا في مكان بعيد عن مركز مدينة خانيونس والمرضى يحتاجون أكل صحي، قبل أيام هدد الحيش مطعم في وسط خانيونس بالقصف لأنه يُعطي الطعام للناس مجانا. 

يقول والدي لا أريد أخذ دور أحد، إذا كانت العملية اليوم سأكمل صيامي، إذا كانت غدا سأفطر على البسكويت. 
مرة أخرى أشعر أنني أخون كل تلك المشاعر بالكتابة عنها وهي أكبر من الكتابة، تحتاج فقط أن نصيح.

عصام – اليوم 26 من المجزرة
الأربعاء 2023/11/1

​​الحصول على حمام بارد بعد أربع أيام يُعطيك شعور بالآدمية، دخلت الحمام كي استحم فوجدت فتاة صغيرة تنتظر هي أيضا تريد الاستحمام، حنطية اللون وعيونها عسلية، ابتسمت لي عندما وقعت عيني في عينها وبدأت بالحديث معي، سألتها عن اسمها وعمرها، قالت لي اسمي وئام وعمري عشر سنوات، أصرت وئام أن أدخل الحمام قبلها، هذه الصغيرة الشقية جعلتني أبتسم رغم كل الوجع الذي نعيشه، كأنها مسحت على قلبي بكفها. بعدما قررنا أنا ووئام أني سأدخل أولا قالت لي الآن تحتاج إلى كيس كي تضع ملابسك فيه وذهبت مسرعة لتحضر لي واحد، دخلت الحمام خلعت ملابسي ووضعتها في الكيس الذي أحضرته وئام، فتحت المياه وبعد دقائق خرجت لأجد وئام مازالت تنتظر، بدأت بمسح الأرضية فسألتني عن عمري، قلت لها خمني فقالت أحب من يقول لي خمني لأني أحب التوقع، وصارت تخمن حتى وصلت إلى عمري، 27 عام، ثم قالت نحن خرجنا من بيتنا لأن أخي طلب ذلك لم يقبل أن ننتظر لحظة واحدة في البيت لكنهم قصفوا أخي في المقهى لكنه نجا، ثم سألتني عن اسمي، قلت لها عصام وإذا أردتِ أي شيء مري من هنا وأخبريني.

انهيت مسح الأرضية وتركت وئام تأخذ حمامها البارد ووقفت في الخارج تحت أشعة الشمس وبعد دقائق خرجت وئام بشعرها المبلول مثل أميرة تمشي في لتلقي التحية على شعبها وابتسمت لي ابتسامة عريضة وراحت إلى نصيبها.

بعد اختفاء ابتسامها من أمام عيني نادى الممرض ليقول أن عملية والدي الآن، جهز والدك للعملية، يبدو أن ابتسامة وئام كانت سارقة جدا لدرجة أن كل شيء صار في لحظة. 

دخل والدي العملية وخرج منها بسلام وهو يحمل في يده وقدمه مسامير بلاتينية تثبت عظمه من الداخل، لكن لا شيء يكتمل، قال لنا الدكتور أن والدي فقد عينه اليمنى وأن يستعوض الله، ربما نعيد له النظر لأن الضرر لم يصل إلى شبكية العين لكن يحتاج ذلك العلاج خارج غزة، كل ثانية إنتظار يعتبر طريق لا رجعة فيه ويخسر فيها بصره.

مع كل هذا الوجع، من جهة أخرى أمي وأخواتي في الجهة الشمالية من قطاع غزة تحديدا حي النصر، لم نستطيع أن نخرجهم إلى الجنوب حيث نحن.

عصام – اليوم 28 من المجزرة
الجمعة 2023/11/3

أصبحت لا أعد أيام العدوان والهجوم الوحشي الذي يفلت أنيابه علينا كأننا فريسة خُلقت لتكون ضحية موت تحت أسنان الاحتلال الاسرائيلي، مازلنا في مستشفى الأوروبي مع والدي بعد إجراء عمليته في القدم واليد، لكن دكتور العيون قال لنا أن نفقد الأمل في عينه اليمنى وأنه لا يستطيع أن يرى فيها لكن هناك إحتمالية لعمل شيء إذا ذهب لخارج غزة، لكن الاحتلال يغلق جميع المنافذ علينا ولا نستطيع الخروج حتى للعلاج. 

أشعر أني أرى العالم بعين واحدة بعدما فقد والدي عينه، عالم أعور يرى ما يريده ويحس بما يريده. لا سبيل لنا أن نشتري حياة أخرى لم تهترئ مثل هذه التي مضغتها أرصفة الطريق، بعد وجودنا بثلاثة أيام في مستشفى الأوروبي وبعد وصول كل عائلتي إلى المستشفى بعدما دمر الاحتلال جميع بيوتنا قررنا أن نصنع خيمة في باحة المستشفى، خيمة من أغطية وحجارة وأعمدة حديدية جمعناها من محيط المستشفى، مناخها معتدل، حارة في النهار باردة في الليل، وهذا هو المناخ المعتدل الجديد حسب خيمة عام 2023، خيمة ممتدة من عام 1948. 

كتب لنا الطبيب اليوم خروج لنا من المستشفى، خروج يعني أن يذهب المريض إلى بيته بعد الشفاء الأولي، لكننا لا نملك هذا الحق في العيش لأن بيتنا دُمر ولأن والدي أصلا ينقصه الكثير من العلاج والمتابعة لكن المستشفى تعاني من ناقص حاد في المستلزمات الطبية، أخرجتنا المستشفى من القسم الذي مكث فيه والدي فترة العملية إلى قسم آخر، قسم في مستشفى فيه السرير خشبي لا يستطيع فيه والدي الحركة مع صعوبة أصابته، لا يوجد لديه كرسي متحرك حتى ليذهب به إلى الحمام.

أيام قليلة هادئة دون سماع صوت انفجارات، لكن الصوت اليوم اخترق هذا الهدوء، ربما نصنع خيمة في مكان آخر، ربما لن نكون موجودين أصلا، ربما نصبح رماد، لكني متأكد أن العالم أصبح أعور أمامي.

عصام – اليوم 31 من المجزرة
الاثنين 2023/11/6

(كتب عصام هذه الشهادة يوم 2023/11/5 وبسبب قطع الاحتلال للاتصالات وصلت الشهادة متأخرة يوم)

إن الأنثى تقهر كل شيء بلمستها، تحرر الغضب وترفع شعورك بالاستقرار، هذا ما يحتاجه الإنسان في العدوان، لا سلاح ولا طائرات. 

الدائرة الرمادية تتسع أكثر فأكثر والهمجية الاسرائيلية مازالت تسيطر على العالم منذ 7 أكتوبر بوجه واضح وجريء، إن إسرائيل مجرمة حرب كما العرب الذين يتفرجون على الأطفال وهم يذبحون. 

اليوم كالبارحة، والبارحة فقدت معنى التعبير وتوصيف الأشياء. يدخل الممرض الممر يفتح ستارة غرفة شاب فقد والده وزوجة أخيه وأخته يُمسك بيده فرشته ويسحبها خارج الممر إلى مصاب جاء قبل لحظات لأن الشاب كُتب له خروج من المستشفى، ربما هذا المشهد يشرح قسوة ما يمر به الكثير من العائلات التي نزحت من الشمال إلى الجنوب. 

المشاعر هنا مثل الرصيف بصلابته والوجوه مرة ضاحكة وأخرى عابسة بين النقمة على الحال والخيبة من جهة أخرى. البكاء صار عادة سيئة من يُلقى عليه القبض بالدمع يسخر منه الجميع لأن دموعهم جفت.

إن كل ما يحتاجه الإنسان هو حقيقة الأمر، أن الأنثى تحرر كل شيء، تُمسك به صعبا معقدا يصبح في يدها سهلا ناعما، وهذا كل ما أريده لأن صوتها أقوى من صوت القذائف ولغتها التي تتحدث بها لها معنى أكبر من الموت، هي فقط تُطعمك الحياة.

عصام – اليوم 33 من المجزرة
الأربعاء 2023/11/8  

أشعر بالقليل من الراحة، لا صداع ولا أحمرار عينان، البارحة كانت أول ليلة أنام فيها على فرشة كاملة، بعض الأيام نمت فيها على الأرض وبعضها الآخر الجزء العلوي من جسدي على الفرشة والجزء السفلي على الأرض، البرد يقرص أجسادنا كأنه ينتقم منّا، كأننا أبتعنا الدجاجات ولم نعطيه حقه.

مشاعري باردة إلى دافئة قليلا، أصوات قصف تأتي من بعيد تزعج الهدوء الذي منحك إياه أول ليلة نوم مريحة منذ 27 أكتوبر، اليوم الذي قُصف البيت فيه فوق رؤوسنا. 
الناس هنا يقرصها البرد ويقرصها الجوع أيضا، الأسواق ما عاد فيها إلا القليل، قبل يومين ذهبت إلى السوق كي اشتيري معلبات الفول والجنبة لكني لم أجد شخص واحد يبيع، كل شيء سحبه الناس. 

لذلك أعرف عن نفسي مجددا، اسمي عصام من غزة نزحنا من الشجاعية إلى حي الزيتون وقُصف البيت فوق رؤوسنا ونحن الآن في مستشفى الأوروبي في خانيونس بعد أصابة والدي، أزمة كهربا وماء في البداية، ثم أزمة بنزين، ثم كارثة بيئية بسبب عدد الشهداء الذين لم يدفنوا، الآن سوف ندخل على مجاعة.

يا الله نحن نؤمن بك وبقدرك الذي لا مفر منه، نعلم أنك أحن على الأطفال من أمهاتهم، نعلم أنك تُعطي من صبر وانقطع عنه من البشر، يا الله أنت صاحب القوة كلها أجعل الأرض تبلعنا الآن ليرتاح كل من فيها.

عصام – اليوم 35 من المجزرة
الجمعة 2023/11/10  

إنسان، ماذا تعني هذه الكلمة أو بما تفكر عندما تنطقها.
ربما تجد نفسك تتحدث عن التعامل برفق لكن ما لا تعرفه أننا ننتقل الآن إلى زمن الهمجية على أساس أن ما كان يحصل سابقا ليس له علاقة بالهمجية، ما كان همجية وما يحصل تفتيت الإنسان ووضعه على آلة الذبح.

يتكرر المشهد يوميا، يتكرر مشهد النزوح القسري للفلسطينين.

يحاول الناس الخروج الآن من شمال قطاع غزة ،صوبهم الرشاشات الإسرائيلية ومن حولهم الدبابات وفوق  روؤسهم الطائرات يقطعون آلاف الأمتار مشيا على الأقدام للوصول إلى جنوب قطاع غزة الذي هو أيضا تحت القصف. 

يقول شاهد تحدث معي اسمه أحمد كان قد مر من خلال الحاجز الاسرائيلي بالقرب من وادي غزة، يقول لي: رفعت يدي فوق رأسي والأخرى بها هويتي ثم جاء الجندي و بدأ بإطلاق النار وجعلنا ننبطح على الأرض، بعد دقائق بدأ بالنداء علينا من خلال ألوان ملابسنا بأن نمر إلى الجهة الجنوبية للقطاع.

في الأثناء التي كان يمر بها أحمد من خلال الحاجز كنت قد ذهبت لأحد مراكز الايواء في خانيونس لحجز صف مدرسي له ولعائلته باسم أمي كي يقي نفسه من الشتاء هو وعائلته، بقينا ساعات ننتظر ودخل أشخاص بعدنا وتم تسجيلهم وعند دورنا قال المسؤول نكتفي بالعدد، أخبرته أنني سأكتب عما يحصل هنا وذهبت خارجا، في طريق العودة للخيمة في مستشفى الأوروبي لحقت فتاة بخالتي وقالت لها: لا تجعليه يكتب أي شيء لأن التعليمات جاءت من "فوق" ولن يستفيد شيء. 

ساعات قليلة ووصل جدي إلى المستشفى بعدما قطع نصف الطريق من الشمال للجنوب مشيا على الأقدام وهو قبل ثلاثة أشهر قام بزراعة مفصل في قدمه.

المستشفى هنا أصبحت مثل خلية النحل، المصابين في كل مكان والنازحين لا مكان لهم، الشهداء بالعشرات كل دقيقة، الموت يحوطنا من جهة والخوف من البرد والشتاء من جهة أخرى.
10 نوفمبر

عصام – اليوم 39 من المجزرة
الأربعاء 2023/11/14

المطر كالعدوان، يمطر بغزارة ويأخذ معه أمان المكلومين ثم يستريح ويعود، أيام ثقيلة تمر علينا تحت  العدوان الاسرائيلي وجاء المطر ليكمل المعاناة، غريبة هي الحياة في أدراك الأشياء لأن الله لا يرسل لنا إلا الخير، لكن المطر يسرق أمان الخيام في المستشفى، يسرق أماكن نومهم ويطردهم خارجا كما يفعل الاحتلال، الله رضينا بما أنزلت، عصينا وغفرت فأغفر ذلتنا الكبيرة.

البارحة في منتصف الليل بعد أن جهزنا خيمتنا بغطاء بلاستيكي كي يحمينا من الشتاء، لكن المطر كان أقوى من أعمدة خيمتنا وسقفها فصار الماء ينزل على روؤسنا، بدنا نخرج من الخيمة ونحمل أغراضنا بعد محاولات كثيرة لأبعاد الماء، أخذنا كل شيء يخصنا وذهبنا به إلى مدرسة حكومية مجاورة قالوا بأن الوكالة سوف ترفع علمهم عليها كي تصبح آمنة على أساس أن مدارس الوكالة لم تقصف من قبل، قضينا ليلتنا في صف نبكي حالنا.

الساعة الرابعة عصرا أخذت الباذنجان إلى فرن الطينة بالقرب من المستشفى، وجدت طفلة هناك اسمها حنان عيناها جميلة تنسيك الوجع للحظة لكنها تسرق منك الاطمئنان الذي منحته بالتعب في وجهها كأنها لم تكن طفلة يوم، حنان مثلي جاءت من أجل الباذنجان، ابتسمت لي وأخذت لها صورة، يأتي الناس إلى فرن الطينة يوميا من أجل أن يخبزوا عليه بالدور بسبب انقطاع الكهرباء وعدم توفر البنزين.

في الصباح أخذت والدي للغيار على جروحه، دخلت معه ودخل معنا طفل وأمه يريد فك الغرز من ظهره وأمه مصابة في قدمها ويدها، بعد أن طببنا جروح والدي نادى الممرض "حجاج" وقال امسك لي الطفل ولا تجعله يتحرك، ثبته من ظهره جيدا و بدأ يصرخ من الألم، الطفل فيه عافية كبيرة كان قادر أن يتحرك من تحت يدي وكنت خائف من الضغط أكثر ويُكسر حوضه في يدي، والد الطفل قال له قول يارب، صار الطفل يقولها بصوته البريء الغارق في الدموع، في هذه اللحظة سلب مني ثباتي وجعل دموعي تنزل لكني حبستها.

انتيهنا وخرجنا كل واحد في طريقه، وذهبت إلى الخيمة كي نعيد بناءها من جديد، بقينا لساعات حتى حل علينا الليل، الساعة السابعة مساءا نزل المطر مجددا، خلع أغلب الخيام في ساحة المستشفى و خيمتنا أيضا التي قضينا فيها النهار كامل وغرقنا مرة أخرى.
حملنا كل شيء وذهبنا للمدرسة بعد أن تركناها، بعد ساعات سمعنا صوت قصف هز المكان، جيش الاحتلال يقصف بيت بالقرب من المستشفى وإصابات في الشارع القريب من المستشفى الذي نذهب منه لشراء ما هو متوفر، أسرع الاسعاف إليهم ودخل بهم شهداء أحدهم مقسوم إلى نصفين.

الحال هنا كارثي، الناس في المستشفى حالها يبكي الحجر والمواد الغذائية شحيحة وإذا توفرت بسعر مضاعف، لا مكان لهم ،لا جدران تحميهم من البرد ولا شيء يحميهم من القصف لأننا معرضي للموت في أي لحظة لأن الجيش معه الضوء الأخضر من العالم لقتلنا.

تقول الأخبار أن الخميس آخر يوم للشبكات في قطاع غزة بعدها ستتوقف ويطالب نتنياهو كل فلسطيني في قطاع غزة الذهاب إلى سيناء المصرية، ربما يتم تهجيرنا قسرا لذلك، اسمي عصام نزحنا من الشجاعية بعد قصف بيتنا إلى حي الزيتون وقًُصف البيت فوق روؤسنا يوم الجمعة 27 أكتوبر الساعة 6:14، تم تحويلنا من مستشفى الشفاء إلى مستشفى الأوروبي لعلاج والدي، ربما يكون هذا آخر اتصال لنا، ربما يكون الاتصال القادم من سيناء أو من خلال الدعوات إلى أرواحنا.

عصام – اليوم 44 من المجزرة على غزة
الأحد 2023/11/19

على الإنسان أن يعرف نقيض الشيء حتى يقدر على موازنة حياته، لتعرف الراحة يجب أن تتعب كثيرا، لتشعر بالهدوء عليك أن تخرج من الضجيج، أيام تمر علينا داخل مستشفى الأوروبي يصعب وصفها خلال يومين دخل المستشفى الكثير من الشهداء والمصابين، حالة من الذعر داخل المستشفى لأن القصف يقترب أكثر من المنازل المجاورة للمستشفى، خلال يوم واحد قُصف بيتين، سمعنا ورأينا الصواريخ وهي تنزل على البيت وبعدها يعلو الصراخ.

قررت أن أفصل نفسي عن كل ما يحدث وأذهب إلى مكان لا أتحدث فيه مع أحد فقط اتأمل ما حولي ووجوه المارة وحركاتهم وسكونهم، شهدت الغروب وتنفست قليلا، شعرت أن لي روح مجددا، جلست بالقرب من مدخل الطوارئ وأخذت أراقب العصافير والحمام فوق خزانات الماء على سطح المستشفى، الكثير من الطيور داخل المستشفى، على ما يبدو أن البشر ليسوا وحدهم من نزحوا إلى المستشفى خوفا من القصف الذي لحق بهم، في كل قصف كانت الطيور تطير وتعود بعد القصف إلى الخزانات.



القصف الأول كان الساعة 7 مساءا تقريبا، دخلت الشظايا إلى القسم الذي فيه والدي، والدي قالوا له أنه فقد شبكية العين و بدأنا باجراءات التحويلة للعلاج في الخارج، ربما بقي لديه وقت يستعيد فيه نظره لكن من كان سبب في تأخير التحويلة له يد في الإهمال الذي أوصلنا لفقدان الشبكية، الأمر كان يحتاج كلمة واحدة من دكتور.الآن الساعة 6:28 صباحا فزعنا من نومنا قبل ساعة على صوت قصف في بيت قريب جدا من المستشفى، بعد دقائق دخل الإسعاف بالشهداء والمصابين مغطين من البرد كانوا قد ناموا مع أحلامهم واستيقظوا مع أجسادهم المصابة.

أجلس في ممر ضيق يصل له انترنت المستشفى بصعوبة كي أكتب لكم وكي أقول أن أحد جيراني من الشجاعية وصل من الجنوب اليوم كان في مدرسة الفلاح في حي الزيتون يقول لنا، أن جيش الاحتلال قصف المدرسة عليهم وفي نفس اللحظة استشهد ما يقارب 70 شخص وأُصيب ما يقارب 200 لم يصل لهم أحد ولا حتى الصليب الأحمر في ساعات قطع الاتصال عن القطاع، بقوا على الأرض حتى تصفت  دمائهم.
١٩ نوفمبر

عصام – اليوم 47 من المجزرة على غزة
الأربعاء 2023/11/22

إلى سعيد زوج هديل الذي كان يخترق هدوء المكان بكلماته السريعة ومزاحه الثقيل على كل من حوله، عندما كنّا في حي الزيتون في بيت خالتي قبل قصف البيت علينا، كان سعيد يدهشنا دائما بقدرته على جعل الأمور الكبيرة تافهة ولا تعني له شيء ظاهريا لكنه ماكر جدا ويلعب دور العبيط.

كان يحلم من بداية العدوان أن والده قد مات ويستيقظ من نومه وهو يبكي يريد أن يذهب لرؤيته، وعندما يذهب إلى البيت بالقرب من الحدود الشرقية يجد والده جالس أمام البيت وفي يده النرجيلة وبجانبه عصا وعندما يلمح سعيد، يترك النرجيلة من يده ويلحق به ليقول " ما ترجع يا ابن الكلب".

اتصال الساعة 2 فجرا بصوت خافت على أختي، ردت عليها الجميع نائم ثم عادت لنومها مجددا، في الصباح اتصل سعيد بصوته العالي وقال لنا أن والده وأخوانه قد قتلوا على يد جيش الاحتلال في حي الصبرة في شمال قطاع غزة.

تزوج سعيد هديل عن حب كما يقول هو لكنها تنكر ذلك دائما وتقول أنه هو من أحبها، لم يمر على زواجهم سوى ثلاثة أشهر وكان يخطط لقضاء شهر العسل في جزر المالديف وكنّا نقول له لا تنام بعد صلاة العصر، لأنه لا يقدر على تكلفة هكذا رحلة.

ما فعله الناس في بعضهم أكبر ما فعله العدوان بهم، التجار ينهشون أجساد المواطنين وهم أحياء، لم يدخل على غزة بضائع، لم يدخل طعام، لم يدخل شيء، لكن الأسعار أصبحت ثلاثة أضعاف، عائلات ماتت بالكامل، أطفال لم يتبقى لهم أحد من أهلهم، المصابين في المستشفى، في الشوارع، الجزء الشمالي من القطاع مدمر بالكامل والناس فيه تحت الأنقاض والجزء الجنوبي دُمر فيه الكثير من البيوت على روؤس ساكنيها وبعض الناس تجمع المال من أجل لا شيء.
22 نوفمبر

عصام – اليوم 48 من المجزرة على غزة
الخميس 2023/11/23

يوم هادئ وشاق، منذ ساعات الصباح لم نسمع سوى القليل من أصوات القذائف التي تنزل علينا، يوم عادي في مكان غير عادي، يوم يذكرنا بروتين حياتنا التي تركناها خلفنا، جاء أصدقائي لزيارة والدي ثم أكلنا بعد ذلك ذهب كل واحد إلى طريقه، وأنا ذهبت إلى الفرن كي نخبز الخبز مع أولاد خالتي، بدأت رحلتنا مع الطابور الطويل الذي تنتظر فيه ليأتي دورك. كان أمامي طفل وحده، سألته عن سبب وجوده وحده قال لي أن أخيه وزوجته في الخيمة وهم من أرسلوه إلى هنا، ثم قال لا أعلم، انتظرنا طويلا حتى صارت الساعة 12 منتصف الليل، جاء دور الطفل المشاغب الذي كان يشكي طوال الوقت من مدة الانتظار ومن تعب قدميه، بدأت بمساعدته في الخبيز وعندما انتهى جاء دورنا ونحن نخبز سألتنا امرأة أنا وابنة خالتي كم طفل لديكم ضحكنا وقلنا لها 15 ضحكت أكثر وقالت لا هذا لا يصدق، انتهينا وكانت خالتي تقف على الجانب الآخر، كنا قد قسمنا الخبز إلى نصفين كي لا يأخذ وقت أكبر ولأن عددنا كبير.


كان بجوارنا رجل امسك بقطعة من العجين ووضعها على "طنجرة الكهرباء" وقال هذه "عوقة" أي كعك محشي بالشوكولاتة فقلت له عوقة غزاوية فرد علينا آخر لا عوقة من خانيونس، فقلت كله قطاع غزة.

عندما اقتربنا من الانتهاء مازحت خالتي قائلا أن الأولاد الآن جياع بما أن الساعة صارت الواحدة والنصف ليلا فنظر رجل لي وقال، لقد خبزت في الجانب الآخر، نظرت له وقلت بصوت مرتفع قليلا "ًهاد أنت بتراقبني" فضحك الجميع بصوت مرتفع، سألت الرجل عن اسمه قال بسام، فقلت له بركة يا عم وعدنا إلى المدرسة.

عصام – اليوم 53 من المجزرة على غزة

الثلاثاء 2023/11/28 

ملائكة الفرن
الكثير من سكان خانيوس داخل مستشفى الأوروبي عادوا إلى بيوتهم خلال الهدنة وبقي في الخيام أهل الشمال فقط، أيام قليلة دون سماع أصوات انفجارات لكن عدم السماح لنا بالعودة إلى بيوتنا ينقص من شعورنا بالحياة، عادت الحياة بشكل نسبي إلى وجوه الناس، البعض ذهب لحلاقة شعره رغم توفر الحلاقين في ساحة المستشفى طوال الوقت إلا أن الشعور بالهدوء هو من يطغى على أفعال الإنسان، البعض الآخر جاء لزيارة أقاربه، اليوم أجتمع كل خالاتي في المستشفى في مكان واحد ما عدا نادية التي بقيت في الشجاعية حتى اللحظة، تواجد الأهل في مكان واحد يعطيك شعور بالألفة ويزيح عنك شعورك بالغربة.

هذا العدوان أكسبني اسم طفولي جديد، عبود ابن سيدي من زوجته الثانية أو في رواية أخرى خالي عبود الطفل المصاب بمتلازمة داون، عبود طفل شقي جدا يحب الأكل كثيرا، يأكل دون شعوره بالشبع، مرات كثيرة يسرق ما في يدك ويمشي سريعا إلى زاوية الصف ليأكلها على انفراد، لكنه لا يسرق مني شيء، يقف أمامي ثم ينادي باسمي ويقول اعطيني.

عبود أعطاني اسم جديد بالنسبة لي لكنه قديم بالنسبة له، أحد أقاربنا اسمه أبو عصام كان يبيع ماء للشرب في شاحنة كبير، أبو عصام كان يأتي إلى بيت سيدي ليزودهم بالماء وكان عبود ينادي عليه "عصام ميا حلوة"، عندما اجتمع أنا وعبود بسبب العدوان في صف واحد صار يناديني "عصام ميا حلوة" لم يدرك عبود أن هناك عصام في شمال غزة لم يخرج من بيته، وعصام آخر خرج من بيته لأنه تعرض للقصف، ربما عدم إدراكه نعمة من الله لا يعيشها إلا عبود، بدأت بتعليمه كيف يساعد والده في تحريك كرسيه المتحرك ونقله من مكان لآخر وبدأ بالاستجابة معي، أكثر ما هو لافت فيه ليونته العالية، يستطيع فتح قدميه بشكل سبعة وهو جالس على الأرض ويقوم بثني قدمه خلف رقبته، لكنه لا يسكت أبدا، ننام على صوته ونستيقظ على صوته وهو ينادي بأسماء جميع الموجودين.

القليل من الناس تفضل انهاء أشغالها هذه الأيام في الليل، لأن الليل يكون ضغط الناس أقل خصوصا في الهدنة، ذهبت مع خالتي إلى فرن الطينة وبدأنا بالخبيز، وبعد القليل من الوقت امسك ابن خالتي معدن حديد وبدأ بطرقه على معدن حديد آخر مزروع في الأرض، صاحت عليه خالتي قائلة لا تطرق هكذا لأن فرن الطينة له ملائكة، تذكرت وقتها جدتي في الشجاعية في بيتنا وهي في شبابها عندما كنّا نخبز على الفرن وكانت تقول لنا نفس الجملة لا تطرق بشيء وأنت قريب من الفرن، لكني أول مرة أسمع عن ملائكة الفرن وفي كل مرة كان سؤالي يواجه بعدم الرد بشكل مناسب، فرن الطينة له مكانه خاصة في حياتنا حتى لو أن الوقت أخذنا إلى بديل، في طريق عودتنا إلى المدرسة وجدت صديقي الجديد يجلس على باب خيمته، صديقي طارق يعمل في مركز هولست الثقافي في قطاع الغزة، هذا المركز فيه مسرح كبير وطارق مسؤول عن الاضاءة، تحدثنا عن عالم المؤسسات وعن الأعمال التي قمنا بها قبل العدوان والعمل مع الأطفال كميسر كتابة إبداعية، وجه طارق يعطيك أمل أن هناك شيء قادم لا تعرف ما هو لكنه جميل، قال لي سنعمل على شيء بعد العدوان، سنجتمع في هولست وكأنه واثق تماما أننا سنعود، قلت له بالطبع سنعمل كأنني واثق أننا سنعود.

‎28 نوفمبر

عصام – اليوم 59 من المجزرة
الاثنين 2023/12/4

كأن قلبي حكاية غُزلت بيد عجوز غزلت كل حكايا البيت بين المطبخ وغرفة النوم وصالة الجلوس، والوقت فيها غريب والأصوات بعيدة وطعمها غير الذي كان يتذوقها كل طفل قبل نومه.

المشهد الأخير من أيام الهدنة كان يوحي بالحياة كأن غزة لم تمت أبدا، كانت مثل شريان يُضخ فيه الدم بشراسة، في صباح كنت أريد أن أحصل على كوب شاي ساخن لأن حلقي يؤلمني لكن سخان الماء خانني بعطبه، وضعت الشاي في "الطنجرة "التي نستخدمها للنار وذهبت إلى هناك، وجدت الكثير من "الطناجر" وعندما جاء دوري اختفت النار, بدأت بإشعالها وبعد دقائق سألني طفل ماذا تفعل يا خال، قلت له شاي، قال شاي في طنجرة، ضحكت وبدأ يساعدني في إشعال النار، قال لي أن سبب عدم اشتعال النار هو نوع الخشب، صفنت فيه وابتسمت وقلت تجربة الطفل سبقتني لأن هناك نوعين من الخشب بجانبي قطعه الناس من الأشجار.

بجانب سنبور المياه وجدت فتاة وأختها، قالوا لي أن وجودي هنا أعاد الماء فقلت "والله" فضحك الجميع، لم نهتم إلى الأسماء أبدا، سألوني عن عمري ثم إذا كنت متزوج، كانوا أصغر مني  لكن كل واحدة تحمل قصة فسخ خطوبتها، واحدة لم يتفقوا على المهر ومصاريف المعيشة والثانية قالت بصوت مرتفع، لأني لا أحبه، وهي الوحيدة التي يظهر على وجهها كدمات أثر الضرب… وافترقنا.

ما أريد قوله أن الحياة فينا، نعيشها في كل مكان حتى لو كان خراب، لكن كيف يمكنني تجاهل هذه الأصوات التي تقتل أحبابنا كل لحظة، أجلس الآن على حافة رصيف المستشفى والانفجارات تهز الأرجاء، الساعة 5:36 مساءً.

4ديسمبر

عصام – اليوم 68 من المجزرة
الأربعاء 2023/12/13

إذا كانت الحياة رخيصة فلماذا تعتنق هذا الجمال في أحضانها، إذا كانت لا تريد أولادها وتراهم يُقطعون على أبواب الحدائق فلماذا تعطيهم من جمالها. ربما فقدت عقلها والهذيان وصل آخر مطافه، الشريان ينبض لكنه مقطوع، يمشي كل من يُخدش كما يمشي ملاك الرحمة إلى حجرة أحدهم ليسدل الستارة على مشهده الأخير.

النار صارت عالية والحب لا يكفيه المكان، المكان أصغر مما يتخيله العقل على كل هذا الحب، لو أن كل زوج أعطى زوجته قُبلة لصارت المستشفى مركز شرطة. السماء بين الحب والنار تُعطي فسحة، على من يحمل الطفل أن يحمله جيدا كي لا تتناثر الذكريات من رأسه المجروح، على من يقاوم نفسه أن يتذكر نفسه.

الأم ترضع الأطفال من حليبها كما الأم التي كانت تضع الحصى في القدر، لكن قدر أمي رغم هذا الموت كان ممتلئ، أكلة "المقلوبة" الأكلة التي تعبر عن نسيج من هويتنا الفلسطينية وعن المقاومة كانت مثل الفسحة.

ربما يجلس شخص في مكان بعيد على كرسيه وسيجارته مشتعلة ويحرق معها كلماته، ليقول كيف لأكلة أن تعبر عن المقاومة !
لن تعرف هذا الشعور إلا عندما يحاول أحدهم سرقة تاريخك وينسبه لنفسه، عندها ستعرف في كل مرة تطبخ فيها أكلتك أنك تُحيي شيء فيك لم يقدروا على قتله.

لقد كانت فسحة غائبة عن أرواحنا منذ أكثر من 50 يوم، شعرنا أننا عدنا إلى أنفسنا، إلى غرفة الجلوس ويوم الجمعة و انتظار الجميع على مائدة واحدة بعد الصلاة، والبيت، وشجار يوم الجمعة المعتاد، لا يخلو بيت من شجار يوم الجمعة، ويكون عنوان السهرة، ما سبب الشجار!

اشتاق إلى البلكونة وحديقة جارنا الأصلع وسهرات الأصدقاء، اشتاق إلى البحر في الفجر وفي الليل، إلى الهدوء المزعج داخل البلكونة وكل الأشياء التي تركتها خلفي، إلى فنجان القهوة الذي أهدتني إياه صديقتي رغم عدم شربي للقهوة لكن الفنجان كان مكتوب عليه عبارة أم كلثوم "ياما عيون شغلوني"، أريد أن تشغلني هذه العيون عن الرماد.
١٣ ديسمبر

عصام – اليوم 71 من المجزرة
السبت 2023/12/16

خلوني احكيلكم هالمرة قصتي مع أكتر أكلة بحبها بس قبل في ملاحظة مش كتير مهمة، إنه من يومين لما قطعت الاتصالات كمان قطعت المي على المستشفى.

المقلوبة أكلتي المفضلة بستناها لما تنطبخ في البيت ويا سلام لو كانت عزومة على غفلة. قررنا نعمل مقلوبة بالمستشفى وأكيد لما بدنا نعمل بهيك وضع راح تكون مختلفة وبدك تحضّر إلها قبل بكم يوم، لكن النقاش كان مع ريف إنه نعملها دجاج وإلا لحمة وبعد حوار طويل هزمتنا صداقتنا واتفقنا نص دجاج ونص لحمة، أنا بحب مقلوبة الدجاج وريف بتحب مقلوبة اللحمة.

 اليوم الأول كان من المفروض أنزل السوق بدري اشتري الأغراض لكن ما قدرت لأني كنت مع والدي في الغيار على جروحه ورحت على السوق متأخر وكان هاد اليوم بشتري فيه الرز، كيلو الرز في الأيام العادية ب ٣ شيكل لكن اشتريت ٥ كيلو على حساب الكيلو ب ١٠، رجعت على المستشفى وحكيت تاني يوم راح تكون طلعة السوق من بدري بس ما قدرت أصلا أروح السوق لأني انشغلت وكانت الساعة ١٢ الظهر ولو رحت بدي وقت ولما أرجع لازم تنطبخ بنفس اليوم عشان الدجاج أو اللحمة ما تخرب.

أصعب إشي كان مرحلة البحث عن بطاطا، مقلوبة بدون بطاطا يعني مش مقلوبة مع إنها ريف حكتلي إحنا بنعملها بدون عادي بتطلع زاكية وأنا احكيلها لا بتطلع مش زاكية، سبب عدم وجود البطاطا إنه بهاد الوقت بتكون في السوق بطاطا حمامات زراعية أو مستوردة وبسبب العدوان ولا واحد فيهم متوفر، بس قدرت أجيب بطاطا زريعة إللي المفروض تنزرع، شكلها من برا دبلان لكن لما قشّرتها كانت نوعا ما منيحة وبمشي حالها مع المقلوبة.

اليوم الثالث والأخير كان نزلة السوق بدري بس أنا نسيت احكي إني بنزل على سوق رفح مش سوق خانيونس لأنه بعد ما الإحتلال تقدم أكثر وحاصر مناطق في خانيونس صار صعب علينا ننزل سوق خانيونس رغم إنه السوق فيها أكبر والخيارات أكثر بعكس سوق رفح. رحت على السوق وبدأت ألف عشان اشتري دجاج بس للأسف ما لقيت بس لقيت لحمة طازة، وقتها حكيت مقلوبة ريف انتصرت، الساعة ١٠ كنت في المستشفى وحبيت أكون خفيف واشتري باقي الأغراض عن باب المستشفى، البندورة والباذنجان والبصل، وطبعا مُهمة جمع الخشب للنار كان صاحبنا متولي فيها وكان لازم نطبخ بمكان غير المستشفى لأنه القدر كان كبير نوعا ما ولو طبخت بهيك قدر بالمستشفى الناس راح تفكر الأكل للتوزيع وممكن تهجم وما نخلص، لهيك أخدنا أغراضنا وفي بيت قريب من المستشفى ولعنا النار وأمي جوا في البيت بتقطع اللحمة وأنا على باب البيت مع صاحبي بنولع النار. جهزنا كل إشي وحطينا اللحمة في القدر وبدأنا جمب القدر نقلي البطاطا والباذنجان والبصل وما صدقنا نخلص منهم عشان نركز النار بس على القدر، طلّعنا اللحمة بعد ما استوت وصفينا البندورة والباذنجان والبصل وحطينا التوابل في طنجرة أصغر مع المرقة وحطينا الرز ومن الطنجرة إللي فيها التوابل على القدر لحد ما تحول لون الرز من أبيض لأصفر، تركنا القدر مغطى على النار وهي هادية رفعنا القدر عن النار بعد نص ساعة وأمي حكت أول ناس لازم ياكلوا من المقلوبة هما إللي عملنا عندهم، بعدين أكلنا إحنا ودار سيدي وعمامي وأصحابنا.

مكنتش متوقع تطلع زاكية لهادي الدرجة خصوصا إنها بلحمة بس كانت أكلة بترد الروح وكان الواحد مشتاق لهيك أكلة بعد ٧٠ يوم من العدوان، الغريب في الموضوع إنها كانت أزكى مقلوبة باكلها بحياتي!

بالوضع العادي كانت راح تكلف ١٥٠ شيكل لكن كلّفتنا ٣٢٠ شيكل بس فدانا عشان ناكل إشي يخلينا نحس بلمة يوم الجمعة في بيوتنا. ملاحظة تانية مش مهمة كتير، بعد بنص ساعة ما خلصنا نطبخ، بيت جمب البيت إللي طبخنا فيه انقصف.

عصام – اليوم 75 من المجزرة
الأربعاء 2023/12/20

هذه المدينة مشبعة بالتناقض الغريب ومزج الموت مع الحياة وانتقال مشهد الموت إلى عرض سينمائي لا متعة فيه لكن الناظر يطيل النظر رغم قسوة المشهد. عندما تحاول أن تسرق نفسك من كم الضغط الهائل من سماع خبر استشهاد أحدهم أو اصابة من صوت الحكايا المرعبة ومن المشاهد التي تراها كل ساعة.

بالأمس ذهبت إلى السوق وفي طريق العودة كان سائق الباص لا يريد سماع الأخبار أيضا وقرر أن يشغل الأغاني في طريق عودتنا من رفح إلى مستشفى الأوروبي، كان السائق خفيف الظل، أشعل سيجارته وقال أريد أن أموت بهذا الشكل، لا يهمني شيء يكفي ما عشته من حياتي، الكثير من الناس حاولت بيع السولار له ولكن جوابه كان حاضرا أنه يستطيع توفير سولار بسعر أقل من سعر السوق.

كان الباص بمثابة مصباح علاء الدين، نقلنا من الأجواء المشحونة بالموت إلى ذكرياتنا مع رحلات الباص وسماع الأغاني مع الأصدقاء والشجار على من سيشغل أغنيته المفضلة قبل الآخر، أخذني إلى الذهاب بسيارة أخي ليلا إلى شاطئ بحر غزة، السيارة التي لم تسلم من القصف أيضا.

هذا الموقف يجعلني أفكر إذا كنت ما أفعله في الباص يقلل من احترامي لوجع الناس و وجعي، لكننا شركاء في هذا الوجع.
أريد توقف العدوان على قطاع غزة والحصول على حمام ساخن دون أن يدق أحدهم الباب وأنا في الداخل، أريد أن استلقي على سريري والنوم بعمق والتحرر من ملابسي تحت الغطاء، أريد أن أستيقظ كما يحلو لي لا على صوت الصياح، أنا لا أحب الخراب ورسالتي للعالم أن من يرتكب المجازر بحقنا عليه أن يضع نفسه في حاوية القمامة لأنه يعرف أن ما يفعله في دربه المظلم.

لكن كل شيء في عالمنا ناقص، كنت واهم عندما اعتقدت بأن يومي سيكتمل بعين السائق لكنه الوقت كفيل بقلب الأمور، بعد صلاة العشاء وبالقرب من مدارس الإيواء بجانب المستشفى قُصف بيت راح فيه 60 شهيد وعشرات المصابين من الخيام قرب مدرسة الفخاري في دقيقة واحدة.

عصام – اليوم 86 من المجزرة
الأحد 2023/12/31

ربما تملك كل شيء في حياتك وتستيقظ في يوم لا تملك شيء، إذا كانت الحياة كبيرة في عينك لن تستطيع عيش المحنة، إذا كانت صغيرة لن تتأثر إذا فقدت كل شيء وكسبت نفسك، توقع في كل وقت أن يضيع منك كل شيء. عصام

ما قبل العدوان كانت حياتي مملة جدا، الكثير من الوقت في البحث عن عمل دائم، الكثير من الوقت على شاشة اللابتوب في تعلم تقنيات تفيدني لكتابة المحتوى، القليل من الأصدقاء لأن حظي عاثر في الأصدقاء، البلكونة شهدت معي كل حالاتي، حالة الاكتئاب التي مررت بها بكثرة عدد المرات التي حاولت فيها السفر ولم أنجح وعدد المرات التي حاولت فيها الحفاظ على نفسي من ما تفعله الحياة في البشر فيصبحون أسوأ نسخة كي يصلوا إلى مرادهم. 

الحياة كانت تمشي في عيني ببطء شديد، كان صديقي منير فاشه يخفف عن قلبي حدة الأيام ويعطيني أمل للعيش والعمل، كان هدفنا وما زال أن نروي قصتنا الفلسطينية كما نراها بعافيتها كاملة دون نقصان، دون شوائب لأن الاحتلال يشوه صورة الفلسطيني أمام العالم كما أنه يتحكم بالإعلام، في يوم قلت لمنير أنني أريد دخول كل بلد على الخارطة وأقول للعالم أننا هنا نحمل الأمل ونزرع العافية في قلوب من حولنا، أننا لا نحاول قتل أحد، أننا لم نبيع أراضينا بل سُرقت من أجدادنا، أننا لا نريد شيء سوى أن يرحل الاحتلال، أن يُوقف القتل فينا.

لقد كانت الأشهر ما قبل العدوان أشهر حزن على قلبي لأنها كانت مليئة بالمحاولات الفاشلة لكنه صوت لم يغادر قلبي أن هذا الوقت لم يكن وقتي، في مرة من المرات وأنا أحاول نشر نص من نصوصي الشعرية عبر صحيفة فلسطينية تم رفض نصي لكني رأيت النص ذاته سرقته صديقتي ونشرته عبر ذات الصحيفة، حاولت في الكثير من الأماكن لكن كما قلت، هذا ليس وقتي.

اليوم العادي، الحمام الخاص بي، النوم على سرير، النوم على وسادة، الطعام كما نحب، وملل السهرات والتهكم على صغر مساحة غزة وعدم وجود مساحات خضراء، والرضا، الرضا بكل ما قسمه الله لك.

بعد العدوان، بدأ كل شيء يختلف ويتحول من وجهة نظري من السيء إلى الأسوأ ومن وجهة نظر الناس أيضا، تحول الجميع كما قالت أمي كأسنان المشط فعلا، لا فرق بين من لديه مال ومن لا يملك المال، لأن قيمة المال اختلفت ولأن المراد واحد وهو النجاة، لم أتخيل أن يومي سيكون في أيام العدوان، أن الجميع سيسمع صوتي خلال هذه الأحداث الغريبة، أني سأقول، أننا نحب الأمل ونزرع الحياة في نفوسنا ولا نحب القتل وأن الاحتلال يحاربنا عسكريا ومعرفيا وأن المعرفة بقصتك وكيف ترويها هي سبب في تخليد اسمك في أماكن ربما لن يصل جسدك لها.

لقد كانت الصدمة أخف عليّ من غيري لأني كنت أنتظر فرصتي برضا من الله كي تدوم، الآن يسمعني الكثير ويقرأ الكثير ما أكتب وهذا كان أهم هدف لي، لكن الوضع الذي كنت فيه قبل العدوان ظننت أنه الأسوأ على الاطلاق لكني الآن أقول أن ما عشته كان لا شيء مقارنة بما يحدث لنا من شهر أكتوبر، المرض ينتشر في المستشفى، الانفلونزا وأمراض الحلق والمعدة بسبب الأكل غير الصحي، مع نقص في العلاج مما يحدث كارثة، الغرفة التي كنت أظنها ضيقة الآن أغلب سكان غزة نازحين في جنوب القطاع كأنهم محشورين في زاوية وأصبحت غرفتي واسعة وسع السماء، القمامة في المستشفى في كل مكان كأنك في حاوية كبيرة.

ربما تملك كل شيء في حياتك وتستيقظ في يوم لا تملك شيء، إذا كانت الحياة كبيرة في عينك لن تستطيع عيش المحنة، إذا كانت صغيرة لن تتأثر إذا فقدت كل شيء وكسبت نفسك، توقع في كل وقت أن يضيع منك كل شيء.

٣١ ديسمبر

عصام – اليوم 90 من المجزرة
الخميس 2024/1/4

البارحة ذهبت إلى رفح كي أرى صديقتي، كانت تقول لي إذا كان المشوار من أجلي لا تأتي اليوم، تعال في يوم آخر لتقضي جميع أشغالك، لكني كنت أريد إعادة الذكريات عندما كنّا نلتقي في غزة في كافي برانش.

خمس دقائق في الشارع مع صديقتي، خمس دقائق تريد أن تقول كل ما لديك لكن تجد نفسك لا تقول شيء.

في طريق الذهاب والعودة لرفح هناك على جانب الطريق بيتين قَصفهم جيش الاحتلال خلال العدوان، كنت جالس في المقعد الأمامي في السيارة وعلى نفس المقعد رجل لا أعرفه يسمى في قانون السير بحمولة زائدة ومن يهتم بحمولة زائدة في مثل هذا الوضع، لمحت بعيني البيت الأول كان مكتوب عليه "ما زال الأطفال تحت الأنقاض" بدأت عيوني تسيل وحدها، مررنا على بيت آخر مكتوب عليه "عمر وأسامة تحت الأنقاض"، عصف بي كل ما مررنا به، كل الصراخ ووالدي عندما كان تحت الأنقاض، والدي الذي كان تحت حائطين وكنبة والحماية الحديدية للشباك وسيارة أخي. تذكرت كيف كان الجيران يريدون أن نخرج من البيت ونترك والدي خوفا من قصف البيت، بقينا بأكتافنا المكسورة نزيل الركام حتى تمكنا من إخراجه.

عمر وأسامة والأطفال والبيت فوقهم حتى هذه اللحظة ومنذ أيام لماذا لم يخرجهم أحد حتى لو بأظافرهم! كيف يترك الجار جاره إذا كان الأهل غير قادرين! إذا كان إهمال البلدية يقتل!

والدي يحن إلى حياته القديمة ويحاول أن يعود إليها رغم اصابته، يمرن أصابعه التي لا تتحرك ويعمل طنجرة الكهرباء، كان من الممكن أن يكون عمر وأسامة مثله الآن، كان من الممكن أن يلعب الأطفال مع أطفال المستشفى.

في شمال غزة سرق جنود الاحتلال طفل رضيع وأخذوه إلى الداخل المحتل بشهادة جندي صديقه بعد قتل الذي اختطف الرضيع في المواجهات في غزة، جميع عائلة الرضيع قُتلت بدم بارد ثم سرقوا الرضيع، ويريدون زرع الفكر الصهيوني الهمجي فيه، يجب أن يعرف العالم كله بهذه الجريمة.

منذ ساعات الصباح استيقظت على خوف الناس بسبب تقدم جيش الاحتلال وحصار مدرسة معن التي تبعد عن المستشفى 2 كم، الصليب الأحمر طلب من النازحين في مدرسة معن النزوح إلى رفح، ذهبوا إلى رفح ثم عادوا إلى مستشفى الأوروبي لأن رفح لم يعد فيها متسع وخوف كبير من حصار المستشفى.

٤ يناير

عصام – اليوم 97 من المجزرة
الخميس 2024/1/11

تعالوا نجرب هذه التجربة الممتعة سويا، لن أخبركم أني منذ ثلاثة أسابيع لم أُشفى من الانفلونزا رغم تلقي العلاج مرتين على التوالي ولن أخبركم أيضا أن الطعام الذي يدخل غزة هو السبب الرئيسي في ذلك، إن المساعدات التي تدخل معظمها لا تساعد الإنسان في التشافي من شيء والجميع يعلم طعام المعلبات.

لكني سوف أخبركم الآن ما هو حقيقي أكثر ولنجعل ما كان سابقا سر بيننا، تخيل يا صديقي هذا المشهد ثم جرب معي ما سوف أقوله لك، شاب أو فتاة اصابتهم الانفلونزا كحال الكثير هنا في المستشفى ويعاني كل واحد منهم أعراض السخونة والدوران وألم في العظم والإسهال ويريد دخول الحمام، الآن هي أو هو يقف أمام باب الحمام وأمامه على الأقل يقف خمسة أشخاص آخرين يريدون دخول الحمام أيضا ربما يعانون من نفس الأعراض وربما يكون بينهم جريح أو شيخ أو طفل أو عجوز تعاني من حشر بول وهذا ما حصل أمامي ولم يخبرني عنه أحد، الآن أمامه خيارين أن يصرخ أنه لا يستطيع تحمل الألم والإسهال ويريد الدخول قبل الجميع أو يصمت ويتنظر كل شخص مدة ما بين خمس إلى عشر دقائق وإذا كان طفل فقد فعلها على نفسه.

الآن عزيزي خارج هذه الحدود التي تمسى غزة، أريدك أن تغلق باب غرفتك على نفسك عندما تريد دخول الحمام، احسب على ساعتك نصف ساعة ثم أخرج لتدخل الحمام وتخيل أنك لا يمكنك الدخول بسبب المشهد الذي وصفته.

مع العلم أن هناك ثلاث مدارس حول المستشفى وكل مدرسة يوجد فيها ما يقارب 25 حمام وكل مدرسة فيها ما يقارب 15000 نازح والمستشفى فيها ما يقارب 22000 نازح.

أعلم مدى تأثير الطعام على عافية الإنسان وهم يعلمون أيضا لذلك يحاربونا من خلاله، أعلم مدى تأثير المعرفة المزيفة والاشاعات بين الشعب وبسبب ذلك يقوم الناس الاخلاء من المستشفى إلى رفح التي لم يعد هناك أماكن للنازحين. 

التضامن لا يكفي والصمت خيانة والكلام لا يكفي.

‎11 يناير

عصام – اليوم 102 من المجزرة
الثلاثاء 2024/1/16

الفلسطيني يضع كل من حوله في حالة ذهول حتى هو ذاته، في العادة نشهد حالات الزواج في قطاع غزة بالترتيب المتعارف عليه وفي حالة هدوء يُزف العروسان وسط الأهل في حالة من الفرحة، لكن الفرحة التي سمعت عنها كانت مثل مكياج البهلوان، العروسة تنتظر يوم عرسها بفارغ الصبر وتحلم كيف سيكون يومها وتخطط له مع صديقاتها، مع عائلتها وكل من تحب.

هناك من يقرر أن يكون زواجه في عنق الزجاجة مثل ما فعل العروسان داخل المدرسة، العروسة لبست الأسود، ربما كان أحن على قلبها أن تلبس ما هو أخف حدة من الأسود لكن مشاعر الناس تغلبهم دون شعورهم، العريس أيضا كان يلبس الأسود رغم الفرحة التي كانت تعتلي الوجوه وصوت الضحكات والأغاني، لحظات قلبت ساحة المدرسة إلى قاعة أفراح، لكنها لحظات.


بيتنا في الشجاعية يحمل مثل هذا الحلم، في غرفة أختي بجانب الخزانة حقيبة سفر كانت تعدها أختي من أجل عرسها في مصر، من المفترض أن نكون جميعا في مصر نحتفل بحفل زفاف أختي منار.

محمود خطيب منار لا يعرف ماذا يفعل في ظل العدوان الشرس على غزة، لا يعرف كيف يوقفه ولا بيده شيء غير أن يدعي إلى الله.
كيف حالك؟

سؤال بسيط من الطبيعي أن يكون جوابه أيضا بسيط، كيف حالك؟ الحمدلله!

المسلم يحمد الله في كل أحواله، نحمد الله في هذه الأوقات الصعبة التي تمر علينا وعلى كل ما حدث بنا لأن رغم ما حدث فإن الله رحيم بنا، كيف نشعر عكس ذلك وهو من رزقنا الحياة، الله وحده نشكره على السراء والضراء، نؤمن برحمة الله رغم ما فعله الاحتلال في أطفالنا، نؤمن بعظمة الله، رغم ما نراه كل يوم أمام أعيننا، طفلة بساق واحدة تقفز على الأرض تبحث عن ساقها الأخرى التي لن تجدها لأن العدوان التهمها.

كيف حالك سؤال بسيط وجوابه أبسط الحمدلله، لكن يمكنك أن تتخيل وحدك كيف حالي.
١٦ يناير

عصام – اليوم 112 من المجزرة
الجمعة 2024/1/26

عندما يسرق العدوان منك كل المشاعر الدافئة التي تشعرك بآدميتك يأتي نصار يحمل الحب في يديه ليقول لك :إن قلبك ما زال على قيد الحياة، ما كان الحب يخطئك لو أنه لا يريد أن يصيبك.

أخبرتني صديقتي دالية عن نصار وزوجته، عن قصيدة الشعر التي كتبها لزوجته، كان نصار وزوجته في منطقة الزوايدة جنوب قطاع غزة بعد نزوحه من منطقة الكرامة شمال القطاع، تجمع نصار وبعض الأقارب والأصدقاء في صالة أفراح، قصفهم الاحتلال داخل الصالة، أصيبت زوجة نصار في وجهها بالجروح حتى أختفت ملامحها وفقدت عيناً واحدة والعين الأخرى لا تستطيع أن تبصر بها بسبب الشظايا ولا تستطيع فتحها إلا عندما يأتي الممرض ليضع فيها العلاج، لكن الجروح لم تكن عائقاً في وجه نصار وحبه لزوجته.

نصار معلم لغة عربية، يكتب الشعر، يحب زوجته المغتربة عن أهلها ولا يخشى أن يظهر حبه لها في العلن، يحارب العدوان عندما يُطعمها بيده كأنه يقول :ربما غيروا من شكلها لكنها ما زالت جميلة، ربما سرقوا جزءا منها لكني مازلت أملك قلبها، وما زال يقول للناس: إنك تستطيع أن تظهر حبك لزوجتك أمام العالم، يمكن لخوفك عليها أن ينطلق خلف الأطباء لتسأل عن حالتها الصحية باستمرار، يمكن أن يقول قلبك أمام الجميع :إن قلبك لا يقدر على دمعة تسقط من عينيها دون أن تخجل من نفسك.

في يوم دخلت دالية على نصار وهو يكتب على ورقة، فسألته: ماذا تكتب قال لها : قصيدة لزوجتي، كتب نصار القصيدة وظل طوال اليوم يلقي القصيدة لكل من يزورهم داخل الغرفة في المستشفى، وفي يومها تفتحت عينها مثل الوردة عندما سمعت القصيدة وصارت تفرك أصابعها خجلًا.

قالت لي دالية: يجب أن تسمع القصيدة وذهبنا إلى نصار، أخذني إلى منتصف الساحة في المستشفى وأخرج جواله وبدأ يلقي القصيدة ومع كل كلمة يهتز جسدي، صوته العريض الدافئ المغمور بالحب، يقول نصار : إن زوجته مغتربة وهو كل شيء لها ويقول في القصيدة:

لغة العيون مناهج ومدارس
وأنا السجين لسحرها والحارس
قد كنت دوما فارسا لجمالها 
واليوم يطعن في الفؤاد الفارس
طفئت عيونك زوجتي وحبيبتي
فأضاء قلبي دفئها المتجانس
وازداد حبي فيهما كغمامة
راحت تسِحُّ بدفئها وتسايس
بردا تجمد في العروق يذيبني
تبا لذلك البرد فهو القارس
مازال كحلك في خيالي حاضرا 
وكذا الرموش تثيرني وتمارس
فعل الأنوثة في الشبيبة يانعا 
فتثار فيَّ بلابل وهواجس
فأرد ظني باليقين لأنه 
ما نال حظا في الأنوثة فارس
إلا أنا ما زلت أعشق عينها 
لا حدْسَ عندي في الهوى ووساوس
عيناك مئذنة تطاول جيدها 
لا محفل ستدق فيه كنائس 
عيناك مثل حديقة بجنانها 
أو مثل كرم في السما وفرادس
عيناك لغز في السماء مغادرا 
فهي الفضا وتدور فيه عرائس

عصام – اليوم 115 من المجزرة
الاثنين 2024/1/29

كيف يسقط الطفل؟
في طفولتنا كنّا نسقط على الأرض لأننا نركض خلف ألعابنا، كان السقوط لا يعلمنا شيء غير أن الركض خلف ما نريد سيظل ركض حتى لو سقطت دموعنا، سنركض رغم توصيات أمهاتنا وحرصهن على ألا يصيبنا مكروه، لكن الطفولة لا تعرف الحدود والمساحة الضيقة، كل ما هو على الأرض هو ملك الطفل.
 
هذا العدوان جعل دور الطفل يختلف عن أي طفل في العالم يعيش حياة هادئة؛ يذهب إلى المدرسة، ينام بين أهله، ويذهب إلى كل أماكنه المفضلة ولا يجدها، قُصفت، لأن الاحتلال قرر أن ينسف كل شيء.
 
الساعة 12 بعد منتصف الليل، وبعد انقطاع لمياه الشرب داخل المستشفى، صاح الجميع أن المياه عادت، استيقظ أحد الأطفال من نومه يجري كي يحصل على الماء، وفي منتصف الطريق توقف عن الجري وسقط على الأرض ليرتطم رأسه بشيء حاد ويسيل دمه على الأرض، بعد ساعة وجد الطفل نفسه على سرير في المستشفى وفي رأسه جرح، لا يعرف كيف كبر جسده وصار له جرح، كان من الممكن أن يكون هذا الطفل في حضن أمه لكن العدوان غيّر موازين الطفولة، بالأمس كنت تسقط من أجل ألعابك، اليوم تسقط من أجل الماء.
 
لين طفلة صار عمرها قبل أيام 6 سنوات، ورغم تواجدنا في المستشفى، أحب أهلها أن يصنعوا لها الفرح بعمل حفل عيد ميلاد صغير، طفلة نازحة تحتفل بعيد ميلادها في المستشفى لأن الاحتلال هدم بيتها وسرق أرضها وقتل شعبها. لين طفلة مخيلتها واسعة جدا، تستطيع تأليف قصص لا تخطر على بال أحد، تقول لين أن غزة أجمل من الجنوب، لأن غزة واسعة وكبيرة وأن الجنوب ضيق لأن خيمتها ضيقة، لأنها كانت تلعب مع بنات خالتها، لكنها لا تراهم الآن ولأن ساحة بيتها كبيرة ولا يوجد سوى ممر بجانب خيمتها.
 
لين تحب العوامة وأصابع زينب والاندومي، وتصف حبها للزبيب بأنه حلو جدا مثل العسل، وإنها تُعبّر عن غضبها لأنه لا يوجد زبيب في محيط المستشفى. لين عمرها 6 سنوات لكن لسانها يفوق عمرها، كأنها تقول، أن بيتها أوسع من العالم والجنوب أضيق عليها من الخيمة.

عصام – اليوم 125 من المجزرة
الخميس 2024/2/8

الحياة فيها الكثير من النعم التي يميل لها الإنسان، كثرة النعم لها حكمة في اختيار الأشخاص ما تسعى إليه غريزته، ما تتقبله أنت ربما لا يناسبني، والعكس صحيح في كل الحالات والمساعي، يمكنك أن تفرض العيش على أحد بنمط معين لكنه حتما سيرجع إلى تشكيله الأول والبناء الذي وضع فيه، لكن عندما يقرر من نفسه أن يغير هيكله يبقى المسار صعب، لكن ليس مستحيل.

السوق قبل العدوان كان مختلف تماما خلال العدوان، الكلمات اختلفت، حتى الباعة أصبح منهم نساء أكثر من قبل وهم الأكثر مبيعا لبضائعهن. عندما دخل الجيش سوق خانيونس البلد وصار من الصعب علينا الوصول إليه، انتقل جزء من السوق إلى محيط مستشفى الأوروبي، لكن يبقى سوق خانيونس هو الأكبر والأكثر بضائع. السوق في محيط الأوروبي ممتد على طول الشارع الذي نعبر منه إلى مدخل الطوارئ، وهو ذاته الذي يسير من خلاله سيارات الإسعاف، وهنا تُخلق المشكلة بين حاجة الناس لشراء ما تريد وحاجة المصابين للدخول إلى المستشفى، لكن في كل مرة يدخل فيها الاسعاف يتوقف السوق عن العمل لمدة دقائق حتى تمر الاسعافات.

أسعار البضائع بالطبع مختلفة عن قبل، وهي الأكثر غلاء بأضعاف، وهي في الأساس من بضائع المساعدات التي تدخل غزة وجزء منها من البضائع داخل المخازن المتبقية لدى التجار.

هناك مدخل آخر يعتبر كراج للسيارات، طوله تقديريا عشر أمتار أو أكثر، الازدحام شيء طبيعي في الأسواق وبسبب النزوح يصبح السوق أكثر ازدحاما لذلك تتوسع الناس في أي مكان متاح.

هناك العديد من الفتيات داخل السوق أصبحن من الباعة، أطفال ونساء أيضا، كل شخص في السوق يحاول أن يتفرد بما يبيع، جزء منهم يصنعوا الطعام في الخيام ثم يذهبوا إلى السوق للبيع وجزء يشترون المساعدات ويبيعونها.

هناك الكثير من المقولات تتردد داخل السوق نسمعها عندما نمر طول اليوم، أشهرها، "ظهرك ظهرك" يعني أن شخص ما خلفك يريد العبور أو سيارة أو عربة وحمار خوفا من أن يصطدم بظهرك.

الكثير من الأشخاص تحتك أحذيتهم بالأرض عند المشي ويصدر منها صوت "شحوطة".
الكثير من العروضات من الباعة على البضائع حتى يتمكنوا من بيعها وتكون مدة العرض ربع ساعة أو نصف ساعة بينما كانت العروضات تمتد لأيام.
سوق رفح أيضا بهذا الشكل لكنه أكبر حجما، وإذا أرادت سيارة العبور أخر الشارع عليها أن تعبر وسط الناس، الجميع يحاول عيش حياته بشكل مختلف ويحاول التأقلم أيضا ويبقى الإنسان يدور حول نفسه.

 

عصام – اليوم 148 من المجزرة
السبت 2024/3/2

لعنة غزة على العالم
ما يحدث في غزة الآن من إبادة بحق المدنيين والحرمان والحصار من العالم ما هو إلا اختبار لكل من على الأرض، وعندما ينتهي هذا الكابوس سوف تبدأ أحداث العالم بالتسارع وسقوط الدول وستكون غزة أأمن مكان في العالم لأنها قالت كلمة الحق في وجه الظلم بينما صمت الكثير عنه.

الناس في أماكن النزوح القريبة من الحدود المصرية بدأت تفقد طريقة التواصل بينها. في رحلة من خانيونس إلى الحدود المصرية لزيارة نور صديقة دالية، التي نزحت بالقرب من البحر بجانب الحدود المصرية في خيمة خوفا من القصف، كانت هذه الزيارة طويلة ومتعبة جدا. الوصول إلى الحدود في مثل هذا الازدحام يستغرق من ساعة إلى ساعتين بين السير على الأقدام ومحاولة الحصول على وسيلة مواصلات. بعد عناء الوصول إلى الحدود لترى دالية صديقتها نور كان علينا أن نبحث عن خيمة نور بين 15 ألف خيمة، في كل مرة نسأل فيها أحد المارة عن خيمة آل مهنا يقول لنا "مش عارف والله" ثم يعيد تكرار الكلمة "مهنا" ثم يقول  أسهل طريقة أن تنادي عليهم في المسجد من خلال مكبرات الصوت وسوف تأتي لك العائلة، وهذه هي وسيلة التواصل بين الناس عندما تريد زيارة شخص هناك. الناس هناك لا تتحدث مع بعضها البعض، وكل شخص في نفسه حتى فقدوا الكلام، وعندما يأتي شخص خارج المنطقة يتحدث معه بلهفة ويعيد تكرار الكلمات نفسها لأنه يريد فقط فتح حوار والحديث لأنه ببساطة اشتاق للحديث.

كانت قد سبقتنا قبل أيام غدير بزيارة نور، وقالت غدير لدالية، أن خيمة نور خلف جدار وبالقرب من نخلة وحيدة، لكن ما اكتشفناه عند وصولنا المكان  أنه يشتهر بالنخل ولا يوجد نخلة وحيدة. بعد ذلك اخبرتني دالية أن هذه هي غدير لا تستطيع وصف مكان واحد بالشكل الصحيح وأن غدير خارطة دون طريق للوصول.

لم نستطيع لقاء نور في المرة الأولى لكن استطعنا لقاء البحر الذي حرمنا منه منذ أربعة أشهر بسبب العدوان، وشعرنا أن الحصار الذي بداخلنا انفك لساعات. في المرة الثانية استطعنا الوصول لنور وكان معنا مريم أخت دالية، جلسنا سويا نتحدث عن الهدوء الذي يضيفه البحر للمكان، لكنه مكان بعيد عن الحياة، في النهار أشعة الشمس تحرق كل من على الأرض وفي الليل يأكل البرد أجساد النائمين. الحمام عبارة عن خيمة صغيرة وسط الخيام، كل مجموعة من الخيام لديها حمام قريب منهم، البضائع بعيدة عنهم إلى حد ما وعليهم السير للحصول على متطلباتهم إذا توفر معهم المال ومن لا يملك المال يعيش على المساعدات التي لا تكفي للعيش.

ما أريد قوله للعالم، الجميع يشارك بما يحدث من تجويع وإبادة، من لا يقول كلمة الحق الآن سوف يخسر نفسه لاحقا، ولا رجعة هذه المرة في بناء الثقة مجددا، لأن العالم سوف يركض ويأخذ كل من كان في قلبه ظالم.

 

عصام – اليوم 166 من المجزرة
الأربعاء 2024/3/20

رمضان كريم على مائدة من الدماء واللحم البشري، على تشتت العائلات وقتلهم أمام العالم والمسلمين وكل الديانات التي تؤمن بأن الإنسان إنسان مهما كانت جنسيته.

كنت أتمنى أن يكون صوت المدافع التي نسمعها مع صوت آذان المغرب هو صوت مدفع الإفطار لا صوت مدافع الاحتلال التي تتعمد قصف غزة أثناء موعد الإفطار لتكون الدماء بدلا عن الشراب المقطوع الذي نشربه كل رمضان، الاحتلال يقدر حاجة الناس إلى هذا الحد، عصائر من الدماء لا يوجد منها إلا في غزة.

هذا نداء إلى الدول العربية، غزة قادرة على تصدير عصير فريد من نوعه لكن طعمه مُر كمرارة الأيام التي نعيشها، عصير يذكرهم بمعنى أن تكون عربيا.

الأيام تشبه نفسها، والوقت لا يمر علينا لأننا تركنا أهلنا في الشمال حطب للحرب ونحن في الجنوب الوقود الذي نشتعل بهم فنحرق سويا.
رمضان كريم لأن الله من أكرمنا به لا عباده الظالمين، لكننا يا الله تبدلت سفرتنا وصارت تكتسيها الأشلاء والدماء، ورغم ذلك نستطيع إطعام أصدقاءنا الجائعين منذ خمسة أشهر.

إذا قلت أني اشتقت لهدوء البيت بعد الإفطار ولم يموت أحد من عائلتي بسبب القصف خُنت أهل من قتلهم المدافع، إذا اشتقت لغرفتي وأصدقائي خُنت من لم يبقى له صديق، لكني مشتاق أن أكون إنسان وبهذا أخون نفسي وأنا وهي أحرار.

الناس هنا انفصلت عن الواقع تماما كأن شعورها بات في مقبرة النسيان، الموت في كل مكان والبعض يزين الخيام والبيوت بالأضواء، يفرشون الموائد الجماعية، ينشدون الأغاني الدينية، الأسواق تجهزت قبل رمضان مثل كل سنة وما زالت الأجواء قريبة لكن الدمار شيء دخيل على الهدوء الذي يسكن داخلنا كل رمضان، العبادات وصلاة التراويح في المسجد العمري الأثري وسط قطاع غزة الذي دمره الاحتلال.

الموت، الدماء، الأشلاء، الصراخ، الدمار، الأجساد المحروقة، النحيب، صوت الأمهات وهي تنزف ابنها قتيل، هل كل هذا أفقدنا شعورنا بهول ما يحدث وصرنا نغطي الجرح بغطاء مزيف، هل نفقد أنفسنا أم إنسانيتنا !!