أنا عصام هاني حجاج من فلسطين غزة، عمري 27 سنة درست آداب لغة إنجليزية، أكتب الشعر منذ عام 2014، عملت كمدرب كتابة إبداعية للأطفال في قطاع غزة، مؤمن بفكرة المجاورة كطريقة للتعلم وأعمل على نشرها مع التربوي منير فاشه في غزة منذ 2020. المجاورة هي وسيط للتعلم نابع من حياتنا وطريقة عيشتنا، طريقة تشبهنا نحن الأهالي بالتعلم، تحطم وهم التعليم الذي تم ربطه فقط بالجامعات والمدارس التي تحاول بث السموم من خلال المناهج البلاستيكية في فلسطين وخارجها. عشت 6 عدوانات داخل قطاع غزة، قُتل الكثير من الأصدقاء والأقارب على يد الاحتلال الإسرائيلي لأننا ندافع عن حقنا في الحياة الذي سلبه الاحتلال.
أكتب ليعرف العالم عن حق القضية الفلسطينية وعن الجرائم والمجازر التي يرتكبها الاحتلال منذ 75 عام، أكتب ليعرف العالم أننا نسلب أبسط حقوقنا في الحياة والأمان، لكي يعرف الجميع أنني لا أستطيع السفر والحديث عن قضيتي العادلة إلا عن طريق كلماتي، أكتب لكي يعرف العالم قصتنا الحقيقية وأن الاحتلال يشوه صورتنا أمام العالم، وأن لنا الحق في الدفاع عن أنفسنا.
أحب الكتابة وأشعر بنشوة النصر عندما أكتب، لدي ديوان لم ينشر بعد، وأكتب كتيب حاليا عن كيفية تصدير الرواية الفلسطينية عالميا دون تشويه. إذا أردت التعري عن نفسي بكلمة واحدة ستكون “متأمل”، بتأمل في اليوم الماضي حتى أبني فهم جديد للحاضر وأكون شريك في تكوين المعنى، أعمل أنا وصديقي منير فاشه مع العديد من المجموعات حول العالم لندخل المجاورة في الجامعات والمدارس بشكل رسمي، وافقت جامعة بيرزيت أن تكون المجاورة جزء رسمي منها بشكل مبدئي، نعمل في المجاورة على تحرير الفكر وليس حرية الفكر، وعلى تقدير ذواتنا ومعرفتها بشكل جيد عن طريق الحكمة، أسعى أن يعرف العالم حقيقة الاحتلال المعرفي وما تدمره المدنية الحديثة وكيف يؤثر على القضية الفلسطينية، أنشأت فريق تحت اسم بيت الحكمة في 2020 بواقع لقاء أسبوعيا لمدة ثلاثة شهور في استضافة مركز القطان الثقافي في غزة ليتعرف الشباب على أنفسهم من خلال التجاور وليعبر كل منهم عن نفسه بالطريقة التي يراها مناسبة، وكان نتاج ذلك أول كتيب يتحدث عما نفعله.
أحلم أن تصل قصتي للعالم عن طريق مجاورات في كل البلدان، أنا الآن محاصر في غزة حي الزيتون مع عائلتي وعائلة خالتي في نص البيت بعدما نزحنا من بيتنا في الشجاعية.
الثلاثاء 2023/10/10، الساعة 3:07 ظهراً بتوقيت غزة
هجوم السابع من أكتوبر-غزةصباح الخير من أمام البلور المطل على حديقة بيتي المليئة بالبلح المتساقط على الأرض، هذه النخلة زرعها جدي قبل سنوات طويلة، مات جدي قبل عامين من الآن وكان عمره وقتها 80 عام أكبر من عمر الاحتلال، كنت أود القول إن صباحي يشبه الياسمين الذي يُغطي البيت لكن الأصوات كفيلة أن تنزع منك كل المشاعر وتقذف في قلبك الخوف، هرولة الأطفال إلى حضن أمهم ظنن منهم أن هذا الحضن الواسع يحمي من طائرات الاحتلال، إذا كان الحجر دُمر ماذا سيفعل الصاروخ بحضن أمي!
اليوم الأول:
تهديد كل القطاع بالقصف، ثم يبدأ الاحتلال بالقصف بشكل عشوائي دون رحمة أو تحذير، يخرج الاحتلال أمام العالم ليقول لهم أنه يقوم بتحذير المدنيين قبل قصف بيتوهم وأن كل ما يقصف هو تابع للمقاومة، لكن أغلب من مات هم من الأطفال والنساء كانوا في بيوتهم وذنبهم الوحيد أنهم فلسطينية، اليوم سوف تقتل أمام العالم لأنك تدافع عن نفسك. في النهار تكون الأوضاع هادئة إلى ساخنة بين اللحظة والأخرى، في الليل وعندما تطفئ كل الأنوار من المدينة رغما عنا وتبقى ألسنة النار المتصاعدة من الانفجارات هي التي تشعل الطرقات، امسك ساعتك من هذه الدقيقة وبعد كل خمس دقائق أو عشر يكون قد حدث انفجار هائل في غزة، تخيل صوت الانفجار أعلى بمائة مرة من صوته في النهار، أجسام لا تتحرك تتلقى الموت من كل مكان.
اليوم الثاني:
عاش من عاش ورحل عنا من مات وبقيت ذكرياته، يوم آخر بمزيد من الوحشية، الجيش الإسرائيلي يرسل إلى الفلسطينيين في غزة رسائل بالذهب إلى الملاجئ المعروفة وينشر للعالم أنه يراعي حدود الإنسانية لكن ما لا يعرف الجميع أنه لا يوجد ملاجئ داخل غزة، يذهب الناس إلى مدارس الأونروا وتضرب هي أيضا، يأمر الجيش من الناس الذهاب إلى منتصف قطاع غزة الساعة الرابعة عصرا وفي ساعات الليل يبدأ بقصف منتصف القطاع، في ساعات الليل يأمر الجيش الناس في منتصف القطاع الخروج من بيوتهم، ما هذا الجنون، ما هذا الرعب الذي يجاول زرعه في قلوب الأطفال والأمهات.
اليوم الثالث:
رائحة غريبة، أشعر أن رئتي سوف تنفجر في أي لحظة، أوجاع غريبة بكامل جسدي وهذا يعني أننا نُضرب بالفسفور المحرم دوليا، الجيش الإسرائيلي مرة أخرى يطلب من قطاع غزة المغادرة إلى مصر وفي نفس اللحظة يقوم بضرب معبر رفح البري، لا مياه، لا كهرباء، لا انترنت ووسط المدينة دُمر بالكامل حيث فيه كل مصالح الناس وجميع المساعدات توقفت والعالم يطبق فمه عن هذه الفاشية.
نحن هنا نقول للعالم أنكم تعرفون أن هذا حقنا في الدفاع عن أنفسنا مهما حاولتم تشويه صورة الفلسطيني أمام العامة، هذا حقنا منذ بدأ الاحتلال الصهيوني بقتلنا وتهجيرنا عام 1948 وسلب أرضنا، رؤساء العالم يعرفون ذلك ولهم يد أيضا في هذا الاحتلال، البعض من شعوبهم يعرفون والبعض الآخر والأكبر مغيب ولا يعرف حقيقة الأمر، لكن هذا لا ينفي حقيقة حق الدفاع عن أنفسنا مهما حصل.
أخر ما أود قوله أو ما استطعت التعبير عنه، جدي الذي زرع النخل أمام بيتنا قبل موته، كان يرفض الخروج من البيت في كل عدوان على قطاع غزة، نحن أيضا لن نخرج قسرا.
الثلاثاء 2023/10/10، الساعة 10:28 ليلاً بتوقيت غزة
العاشرة ليلا مفترش الأرض أنا وأخي عند درج البيت والباب أمامنا مفتوح قليلا كي يدخل علينا نسمات الهواء لنشعر قليلا بأرواحنا، الساعة العاشرة تعني أن وتيرة القصف بدأت بالتصاعد والأصوت باتت أعلى من النهار نسمع أيضا صوت صراخ من بعيد ربما يكون منزل مدني قد قصف أو آناس تهرب من بيوتها، من البيت إلى الشارع إلى بيت آخر ربما يُقصف لاحقا.
أفكر مع نفسي بصوت منخفض، كيف يفهم العالم لغة العدوان دون أن يجربوه، أتذكر صديقتي في عدوان عام 2014 عندما جاء وفد أجنبي إلى غزة وبدأ الأصدقاء بالحديث معهم عن وحشية الأصوات التي كنّا نسمعها وعن بشاعة القتل والدم، لكنهم لم يستطيعوا تخيل ذلك، عندها بدأت صديقتي بالحديث عن خوفها من دخول الحمام أثناء الحرب وعن خوفها على قطتها من الموت بسبب القصف، هُنا بدأ الوفد بالانتباه أكثر والشعور بمدى قسوة العدوان.
يعني أن العالم لن يفهمني عندما أتحدث بلغة وجع الأصوات، الموت والوجع لديهم له معايير أيضا.
منذ 8 شهور وأنا أحاول أن ادخر المال من أجل السفر وإكمال الماستر كي أحصل على مستقبل أفضل لي ولعائلتي، 8 شهور حصلت فيهم على 500 دولار فقط، في يوم واحد انقلب كل شيء وانتقل حلمي في السفر والدراسة من صدري إلى مرحلة سكرات الموت وصار حلمي الأكبر أن أخرج حيا من هذا العدوان، في يوم واحد بدأت بالأنفاق من مدخرات الدراسة بسبب خروجنا من البيت وكأن الحلم يتلاشى أمام عيني.
هذا العالم وحشي بكل ما يملكه من قوانين لأن الشعور بوجع الآخر أصبح له أيضا معايير خاصة عليك أن تتقنها كي تخبرهم أن في هذه البقعة فيها أمل نحاول توليده لكنكم تقتلون هذا الأمل.
إذا كنتم تريدون إعادة تسمية الوجع كما تريدون ذلك يعني أنكم تتجردوا من إنسانيتكم وتتبعون المدنية الحديثة التي تحاول دائما وضع الإنسان في قالب بلاستيكي.
الأربعاء 2023/10/11 الساعة 5:21 صباحاً بتوقيت غزة
البرد قارص، بعد محاولات عديدة للنوم والتغلب على أصوات الانفجارات يقوم البرد بقرصك ختى لا يفوتك كل المشهد الذي يحصل فيك. الآن مجزرة جديدة في أبراج الكرامة في غزة، الناس تناشد الاسعافات لكن المنطقة ما زالت تُقصف، أخبار تتحدث أن الناس تفحمت ولم يصل لها أحد، القصف لم يتوقف والفسفور الأبيض والصواريخ الارتجاجية تهلك أجسادنا.
في هذه اللحظة ومع البرد ونخزات صدري وبالتزامن مع قصف شارع الرشيد يذكرني ذلك بالبحر، في كل شتاء من السنة تبدأ في صدري مثل ذبحة أو ما يشبه بالتشقق من البرد ولم أعرف سبب هذا الألم رغم عمل فحوصات كثيرة، شارع الرشيد المطل على البحر المسمى بالكورنيش والمتنفس الوحيد لأهل غزة يُقصف بشراسة.
هل عندكم بحر ؟
المقهى المجاور للبحر الذي جمعنا بالأصدقاء لسنوات والذي شهد على ارتفاع أصواتنا وصراخنا وضحكاتنا وبكاؤنا وشكوانا، لقاءات العشاق خلسة وأول مرة تتعلم فيها أن تمسك يد حبيبتك ليحميك البحر، كلها تُقصف.
بين كل كلمة أكتبها أسمع صوت انفجار وبينما أكتب تصلني رسالة من صديقي محمد من النصيرات، أربع منازل حول بيتي تم تهديدها، والحارة بأكملها نزحت، بين كل لحظة موت، ونزوح.
وصديقتنا تتسائل من الذي حول المدارس إلى ملاجئ.
المدارس على الرغم من أن هدفها تعليمي وخصوصا مدارس الأنوروا التي ينزح فيها السكان إلا أنها وجه آخر للاحتلال المعرفي والتفرقة، ميز من هاجر من أراضي الداخل إلى غزة بزي مختلف ويدس السم في المناهج ويمنعهم من التضامن مع القضية الفلسطينية بأي شكل، لم يكتفي الاحتلال بالسيطرة العسكرية يحاول أيضا السيطرة معرفيا حتى يطهر العرق الفلسطيني من الجذور.
74 عام من الاحتلال، ولدت عام 1996 ولم أقع في فخ الاحتلال المعرفي.
الأربعاء 2023/10/11 الساعة 10:32 صباحا بتوقيت غزة
اليوم الظهر راح تطفي الكهربا حسب شركة الطاقة.. بعد هيك ما في كهربا بغزة ما بنعرف لمتى وراح تنقطع أخبارنا.
حبيت اخبرك لتكوني عارفة لو ما قدرت اشحن الجوال واتواصل.
الأربعاء 2023/10/11 الساعة 8:10 ليلا بتوقيت غزة
10 أكتوبر يوم ميلاد أمي، بعد نزوحنا من البيت من حي الشجاعية وهي تجلس على الكرسي وفي يوم ميلادها تقول: إذا كل أم خبت ابنها مين راح يدافع عن الأرض.
10 أكتوبر يوم ميلاد أمي، بعد نزوحنا من البيت من حي الشجاعية وهي تجلس على الكرسي وفي يوم ميلادها تقول: إذا كل أم خبت ابنها مين راح يدافع عن الأرض.
كلامها يذكرني في كل مرة كانت تقول لنا توضئ قبل خروجك من البيت لا تعرف ماذا يحدث لك، أمي سلمت أمرها لله منذ زمن وهذا يفسر قوتي النفسية في التعامل مع ما يجري، الوضع كارثي لا أنكر ذلك، الموت في كل مكان، الصراخ يعلو المدينة، كلها حقيقة أسمعها وأراها، هناك تصريح أيضا من وزارة الصحة يقول: يوجد نقص في أكياس الجثث. لكن الأمر سهل، سترسل الدول العربية المزيد من الأكياس.
تحاول ابنة خالتي كسر كآبة الموت بكعكة عيد الميلاد مع مراعاة حرمة الموت، ما أخشاه أن تُزين الكعكة بالرماد لأنهم يغتالوا الحياة ونحن نحلب الحياة من شاه يقاوم الموت، لكن أمي بدلت كعكة الميلاد بوصيتها: إذا كل أم خبت ابنها مين راح يدافع عن الأرض.
نحن نتعرض لإبادة جماعية أمام الجميع وكل ما أريد قوله، سيلاحقك شبح ذنبنا بينما نحن في ضيافة الله.
الخميس 2023/10/12 الساعة 8:31 ليلاً بتوقيت غزة
نحن الآن في بيت خالتي، البيت الذي نزحنا إليه من العدوان الهمجي الصهيوني على غزة، في كل لحظة نسمع صراخ نساء وأطفال في الشوارع تأتي من بعيد كأنه وحش ينهش أرواحنا.
الساعة الرابعة عصرا اتصل الجيش بعائلة الجيران بإخلاء البيت لكنهم لم يقصفوا بعد ساعات من التوتر، أقول لكم هذا لكن لا تبتسموا الآن لأنهم يتصلون ويعني أنهم متمسكين بحقوق الإنسان، إنه فخ، حرب نفسية، يخرجوا العائلات إلى الشوارع ليلا حتى يزرعوا الرعب في قلوبهم كي يكرهوا هذه الأرض ويتركوها إلى الأبد.
الآن الساعة 8:00 مساءا ونحن نصلي صلاة العشاء جماعة نسمع صوت صراخ أطفال ونساء في الشارع، فتح ابن خالتي باب البيت ودخلوا سريعا إليه، انهيت صلاتي ونظرت على شمالي، عشر أطفال صوت بكاءهم يكسر القلوب، لكني بكيت لأن طفلة منهم كانت تبكي أكثر من الباقية وعندما سألنا بسذاجة عن السبب، قالت أن حذاءها سقط في الشارع بينما هي تهرب من الموت وتريد الرجوع لتأخذه، عندها بكيت، كيف يا الله نقول لطفلة أن ما يجري أكبر من فردة حذاء سقطت على الأرض لا نستطيع الخروج لجلبها لها، كيف نشرح لها عُهر العرب وسكوتهم، كيف نقول لها أن إسرائيل تغتصب العالم وغزة قررت أن تغتصب اسرائيل بالنيابة عن العالم.
الجمعة 2023/10/13 الساعة 7:10 صباحا بتوقيت غزة
شاءت الأقدار أن تجمعني بأحد المقاتلين سنة 2000 من الذين تحاصروا في كنيسة المهد، هذا الرجل يفهم الوضع جيدا، قليل ما سمعت أحد يتحدث مثله، يفهم ما يدور حوله من خذلان الأنظمة العربية بشكل غريب، بعد حصارهم في الكنيسة تواصلت إسرائيل لتهجير جميع من تم حصارهم إلى دول أوروبية لكن أبو عمار ياسر عرفات رفض ذلك، كان عددهم كبير إلى أن تهجر منهم 100 شخص، المشاهد كانت دامية، الشهداء تملئ ساحة الكنيسة، أكلوا ورق الشجر، لم يشربوا لأيام.
حاولنا أن ننام قليلا لنعطي أجسادنا فرصة للراحة في حال جُبرنا على النزوج مرة أخرى، ننام على أصوات القذائف ونصحو عليها أيضا، لحظات قليلة بعد صلاة الفجر خرج الشاب وعائلته من المنزل وراحت الطفلة تجري إلى الشارع كي تبحث عن حذاءها الذي سقط منها البارحة أثناء الهرب.
على الأخبار، يطلب الجيش الاسرائيلي من أهالي شمال قطاع غزة إلى الجنوب ويبلغ عددهم 1.1 مليون فلسطيني، المقلق في الأمر أن الأمم المتحدة أبلغت موظفيها والهلال الأحمر بالخروج عبر رسائل الجوال من شمال القطاع إلى الجنوب، لا أحد يوضح حقيقة الأمر، لا أحد يعرف إذا كانت حرب نفسية لكن هناك مهلة 24 ساعة للخروج.
الناس خائفة تريد أن تصدق بأن ما يحصل هو فقط ترهيب، لكننا عشنا هذه الكارثة من قبل وهنا الخوف، عندما طلبت الجبهة الداخلية عدم الخروج من الشجاعية عام 2014 وبعد يوم عشنا أبشع المجازر، الوجع يُعطي درس.
نحن نعيش مهزلة التهجير أمام العالم منذ عام 48، العالم يتفق علينا كأننا دخلنا الحجرة على نساءهم خلسة ويريدون الثأر، لماذا هذا الإنكار تجاه ردة الفعل العالمية العربية.
يا الله أنني أفتقد مظفر النواب، أفتقد كلماته الصارخة سيئة المعنى لأنها تُرضي شيء ما بداخلي أو ربما تخفف عن غضبي.
الأتظمة فاسدة، الشعوب عارية الآن لكنها قادرة على تغيير الفرضية، والتاريخ ليس بهذه الأهمية أمام السؤال عند الله، ماذا فعلت !
السبت 2023/10/14 الساعة 12:27 ظهراً بتوقيت غزة
طلعنا مبارح
من الزيتون على دير البلح
سيل من الناس من الشمال للجنوب طالعين زي ما حكولهم اليهود يطلعوا
وهما طالعين قصفوهم بالطريق
السيارات كانت تنحرق قدامنا
والاشلاء بكل مكان
نمنا ليلة في دير البلح والصبح رجعنا ع الزيتون جمب الشجاعية عند خالتي
وقررنا بعد هيك مش طالعين مكان لو بدهم يهدوا الدار فوق روسنا
خلص بكفي
ستي طلعوها من النصر للزيتون الساعة 10 في الليل مشي
من النصر للزيتون تقريبا 6 كيلو وستي مقعدة تجرحت وتبهدلت
قعدت جمبها وبوست ايدها وحكتلها اني بكتب عشان العالم يعرف الحقيقة بس ما قدرت وبكيت
السبت 2023/10/14 الساعة 1:38 ظهراً بتوقيت غزة
دوامة النزوح ترافقنا كل يوم في مكان جديد، ومثلما قال عامر حليحل في مونودراما "طه" عن نزوح الفلسطينين عام ١٩٤٨، " بناكل وبنشرب وبننام بس إحنا بدناش ناكل ونشرب وننام إحنا بدنا نروح"، عاد طه من لبنان إلى فلسطين حتى لو كانت العودة ثمنها الموت.
بعد طلب الجيش الاسرائيلي من سكان القطاع بالنزوح من الشمال إلى الجنوب ما بعد وادي غزة، اشتدت الأوضاع البارحة وخرجت الناس وخرجنا معهم كما طلبوا وفي الطريق قصفونا، أكثر من مائة شهيد على خط سير واحد والناس هاربة من الموت إلى قضاء الله.
وصلنا إلى بيت في الجنوب وفي صدورنا غضب وحسرة لا توصف، جلسنا على مقاعد اسفنجية وبعد لحظات قلت بصوت عالي " أنا وصلت معي لهان_ وأشرت على أنفي_ بكرة راجع على البيت"، وقالت أمي في ١٩٤٨ بقي من بقي حتى اللحظة ولم يخرج وكان هدفهم الترهيب.
في الصباح عدنا إلى البيت، نحاول الآن الحصول على لتر بنزين لتشغيل ماتور الكهرباء لتعبئة المياه وشحن البطاريات لنتواصل مع العالم ونعرف ما يدور حولنا، قال لنا صاحب المحطة بكل دم بارد " أُمرت بعدم بيع البنزين" عدنا إلى البيت في الزيتون، بيت خالتي بالقرب من الشجاعية، ربما نفقد التواصل بشكل نهائي هذه المرة لكننا لن نخرج من البيت، نموت أو نخرج سالمين.
الأحد 2023/10/15 الساعة 12:59 ظهرا بتوقيت غزة
لست خائف من الموت، إذا كان ولا بد أن يأتي الصاروخ فليكن قاسيا جدا ولا يترك مني شيء، الحياة ضيقة جدا والخوف يأكلها إذا ما تركته يعيش فيك، يسري مثل السم.
نحن لا نريد القتال ولا نحب الموت ولا رائحة الدماء لكن هذا ما فرضه العالم علينا، سنترك خلفنا كل أفكارنا عند الأصدقاء، كل ما كتبنا وكل الأمنيات التي خرجت من صدورنا والتي بقيت عالقة في المحادثات.
على من يبقى أن يفهم جيدا أن العالم الغربي والكثير من العربي لا يفهم ما يحدث لنا ولا يفهم مجريات الأحداث بشكل صحيح.
لذلك أدعوكم إلى العمل على تحرير الفكر الاستعماري من عقولنا العربية والتوجه إلى الحضارة العربية الإسلامية لنفض الغبار، أدعوكم لفهم الاحتلال المعرفي وكيف يلعبون بالكلمات، كلمة واحدة بمفهوم خاطئ قد تصل إلى الشعوب بمفهوم ينسف حقنا.
إن الدول التي تنادي بحرية الرأي والتعبير هي من أوائل الدول التي منعت شعوبها من مناصرة غزة وفلسطين،وهم يعرفون جيدا أنهم السبب فيما يحدث لنا لأنهم من زرعوا اسرائيل في الشرق الأوسط.
لقد شهدنا الكثير من الموت ولم يبقى للخوف من الموت مساحة، لكننا نخاف الشعور بالحياة.
الاثنين 2023/10/16 الساعة 7:03 ليلا بتوقيت غزة
يقتلهم هذا العناد، يستفزهم حد الجنون، كيف لشعب أن يحب بلاده لدرجة الموت، كيف لهم أن يتخلوا عن أرواحهم في سبيل قول كلمة لا في وجه الظلم.
تجري منذ أيام محادثات من أجل هدنة إنسانية لدخول المواد الغذائية والطبية وفي كل مرة يتأمل الشعب بفتح معبر رفح البري لدخول المساعدات يقصف الاحتلال المعبر بشكل عنيف، يقصفوا كل الشوارع المؤدية إلى المعبر، نقص في المستلزمات الطبية والاحتلال يطالب باخلاء المستشفيات أيضا، كل ما يحدث يدل على أن الاحتلال يريد أن يذل الشعب الفلسطيني، أين تذهب المستشفيات وأين يذهب الجرحى والمرضى وما الكارثة التي ستحل بنا إذا فعلنا ذلك، نحن أصلا تحت هجوم فاشي.
البارحة فتحت وزارة الصحة مقابر جماعية، الموتى تدفن دون التعرف على أسماءهم، أهاليهم تحت الأنقاض ولم يتعرف عليهم أحد لأنهم أشلاء ونقترب من حدوث كارثة بيئية وانتشار الأمراض، أول مقبرة دُفن فيها 75 شهيد والثانية 35.
أعرف أن العالم سيرى كلمة شهيد .
كلمة إرهابية لكننا لسنا كذلك، جميع من ماتوا أبرياء وكلمة شهيد تكريم لهم عند الله ولا تعني كما يروج لها العالم، نحن أبرياء ونتعرض لإبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني.
الأربعاء 2023/10/18 الساعة 3:27 ظهراً بتوقيت غزة
صديقتي تقول أن أكتوبر شهر الوقوع في الحب، ينتقل الجو من الحرارة الشديدة إلى نسمات الهواء الباردة، وعندما نخرج ليلا لنسهر مع الأصدقاء نأخذ معنا شيء ثقيل لنغطي أنفسنا من برد النسمات ومن ينسى أن يجلب معه شيء يحتمي في كتف صديقه حتى يعود إلى البيت ويحتمي بالجدارن.
الليلة كانت قاسية جدا، جيش الاحتلال حول أكتوبر من شهر الوقوع في الحب إلى شهر قتل الأصدقاء، البارحة الساعة السابعة مساءا قصف الاحتلال مستشفى المعمداني في قطاع غزة قتل أكثر من 500 شهيد والكثير من الاصابات، مات من بينهم صديقي محمد قريقع، محمد شاب طويل القامة حسن الوجه، محمد كانت لوحاته الفنية تعبر عن وحشية الاحتلال، خرج محمد من بيته في الشجاعية إلى مستشفى المعمداني ليحتمي من القصف، ترك كل لوحاته في البيت، ترك روحه هناك ونزح ولم يكن يعرف أن الموت ينتظره.
الاحتلال يُنكر المجزرة التي قام بها ويقول بأن المقاومة من فعلت ذلك لكن حجم الدمار في المستشفى واضح أنهم من قاموا بهذه المذبحة، لا أحد يستطيع فعلها غيرهم.
جفت الكرامة من وجه العالم وهم يشاهدون ما يحصل، جفت العروبة والإنسانية من قلوب الناس، حتى منظمة حقوق الإنسان وجودها كعدمه لأن في نظرهم أن الفلسطيني ليس إنسان، ربما إذا بدلوا إعلانهم العالمي بمصطلح الحقوق الإنسانية عندها يمكنهم التحرك وأن لكل إنسان حقوق إنسانية كحقه في الأمان.
الآن يقع الشباب في الحب في باريس وبرلين وبرشلونة، محمد لم يكن في أي منهم، بل كان في مستشفى المعمداني ليقول للعالم، لوحاتي تشهد أن أكتوبر شهر الموت.
الخميس 2023/10/19 الساعة 11:31 ليلاً بتوقيت غزة
الموت يقترب أكثر، معالم الحياة هنا تختفي، مساحة ذاكرتي أصبحت ممتلئة وأقتربت من
نسيان وجوه أصدقائي وشوارع المدينة التي كنّا نمشي فيها، كنّا نركب السيارة وننزل وسط البلد ونتابع المحلات التجارية والمارة بأعيننا، الآن دُمر كل شيء لم يبقى لنا شوارع نمشي فيها، دُمرت المساجد والكنائس بقصف الاحتلال الصهيوني.
الساعة 11 مساءا بدلا من أن نشتم رائحة الزهور المزروعة على باب البيت نشتم رائحة الرماد والفسفور الأبيض.
قبل يومين وصلنا خبر أن بيتنا قُصف جزئيا، اليوم وصلنا خبر أن البيت كله قُصف، لا نعرف حقيقة الخبر لكننا قرأنا على الأخبار أن حي الشجاعية أصبح مدينة أشباح كما وصفها المراسل.
البيت، البلكونة التي أنام فيها المطلة على حدائق الجيران، مكان السهر مع الأصدقاء حتى طلوع الفجر وصوت الجيران لوقت متأخر المكان الذي شهد على كل ندباتي، كتبت فيه حتى أصابعي جفت، الكنب الذي اشترته أمي قبل شهر باللون الفيروزي، أمي ذوقه رفيع في كل شيء، بلاط الجدارن الذي عمل عليه والدي حديثا، وصوت صراخنا على بعض.
في كل مرة يدخل فيها صديق إلى بلكونتي يقول "في حد بدهن الحيط أسود"
الآن البيت كله أصبح رماد، باللون الأسود.
الطقم الفيروزيالبلكونة قبل القصفالبلكونة بعد القصف
الجمعة 2023/10/20 الساعة 9:30 ليلاً بتوقيت غزة
بخطوات ثقيلة تأخذني إلى ملاذي سابقا، إلى حجرات الذكريات، والوصول الأخير بعد كل ليلة منهكة خارج البيت، مكان المشاكل العائلية والجمعات التي تُشعر الإنسان بالدفء.
صوت أمي من بعيد يقول لنا أجلب لنا الطحين معك.
ذهبنا إلى البيت بالسيارة وقبل بلوغه بمسافة 300 متر توقفت السيارة بسبب الطرقات المتكسرة، عندما رأيت الشارع بهت وجهي وذبلت عيناي، تعبير المراسل على الإذاعة أن حي الشجاعية مدينة أشباح كان صادقا فيه بشكل مرعب، الصدمة تعتلي وجوهنا وتسيطر عليه دون سابق إنذار، في الطريق بيوت الجيران خالية منها ما هو تحت الأرض وأخرى كأنها متآكلة مع مرور وقت على تركها وحيدة لكن الحقيقة أنها تُركت لينجو أصحابها من القصف.
بيتنا أمامي الآن رأيت الجزء العلوي من المنزل خالي وكل شيء في الطابق مندفع إلى الشارع بفعل الإنفجار، حائط البيت على الأرض، في البيت، لا يوجد أبواب ولا نوافذ، بكلونتي دُمرت، بلكونة أبي مع جزء من سقف البيت دُمرت، نال الإنفجار من كل شيء، عشر دقائق دخلنا فيها البيت والمنطقة وأنا أعرف جيدا سياسة الأرض المحروقة وأن كل شيء يتحرك في المكان سوف يُقصف وأن نسبة نجاتي 1%، لكني أردت الذهاب.
ابن خالتي كان معنا، عندما نظرت إليه وحدت لون وجهه تغير من الخوف تذكرت حينها قبل خروجنا من بيت خالتي عندما قالت أنا لا أريد ماء للشرب كي لا يكون ذنبك في رقبتي وتذكرت أيضا أننا خرجنا نبحث عن الماء الشرب.
ناديت على أخي كي لا أحمل ذنب أحد وخرجنا من المنطقة إلى السيارة إلى بيت خالتي ونحن نحمل وجوه رمادية.
السبت 2023/10/21 الساعة 12:43 فجراً بتوقيت غزة
الساعة تقترب من منتصف الليل، صوت الانفجارات لم تهدأ منذ 14 يوم، أنا وأخي ننام في بيت الدرج باقي العائلة تنام داخل البيت بالقرب من بيت الدرج أيضا، نحن في البيت 16 شخص، كل منّا له قصته الخاصة به التي سوف يرويها يوما ما، ينام الجميع عدا شخص ينام عندما نصحو.
لا أحد يعلم متى يسقط الصاروخ فوق البيت، لا نعلم متى يشتد الوضع أكثر، ربما نضطر للنزوح مرة ثالثة، يبقى شخص واحد يحرسنا ونحن نيام ليوقظنا إذا اضطر الأمر لننجو بأنفسنا.
عيناي تلتصق ببعضها من النعاس لكن قذيقة سقطت بالقرب قررت أن تفزع نومي، الحجارة ضربت باب بيت الدرج.
أريد النوم مرتاح البال دون الشعور بضرورة الهرب من قذيفة تلاحقني أينما ذهبت.
اسمي عصام من غزة أحاول النوم في بيت الدرج أطالب منظمة حقوق الإنسان بحقي في النوم دون تهجم القذائف على منزلي. كلام فارغ.
الأحد 2023/10/22 الساعة 2:02 ظهراً بتوقيت غزة
من بيت الدرج إلى المدى البعيد الذي فيه رحمة الله عن رحمة البشر، أشعر بالهزلان، يبدو أن الانفلونزا أصابتني، كعادتي لا أحب استخدام الأدوية لمساعدتي في الشفاء، يأتي المرض ثم يذهب كما أتى، تعافي ذاتي دون تدخل لأنني أعرف قدرتي على الشفاء ولا أعرف صدقهم في صُنع الأدوية. لتحافظ على عافيتك يجب ألا تدخل أجسام غريبة لا تعرفها، لتحافظ على ذاتك من الخذلان عليك أن تحيط نفسك بالأتربة الصالحة. حلقي جاف، الليمونة التي خلف البيت أعطتني حبة كي يذهب شعوري بالرمادية، أشعر أنني داخل علاقة مع فتاة لا تعرف ماذا تريد، مرة تريد أن نكون أصدقاء وأخرى عُشاق حتى إذا طال الوقت بقينافي المنتصف وبقيت ثقوب القلب تُلهبه. اليوم السادس عشر من العدوان على غزة أشعر بالرمادية، لا أنا في مكان آمن ولا أنا ميت.
الإثنين 2023/10/23 الساعة 5:45 ظهراً بتوقيت غزة
“من المكان المطل على عظمة الله في السماء إلى الخراب الذي يحدثه الاحتلال “
عصام
من المكان المطل على عظمة الله في السماء إلى الخراب الذي يحدثه الاحتلال، الجو ملبد بالغيوم منذ العصر يقترب إلى نزول الأمطار، المشهد الذي ينتظره الكثير من محبين الشتاء والساخطين على الصيف، اشتقت لتلك العبارة على صفحات السوشال ميديا بسبب حرارة الجو "مبسوطين محبين الصيف"، اشتقت لها رغم تناقض الخطاب، يعني مثلا لو أن محبين الصيف توقفوا عن حب الصيف هل سيتوقف الصيف عن القدوم. الأصوات التي تخرب سماء الله وأرضه عالية جدا، أشعر بالتعب الشديد من قلة النوم أذني أصابها الوش ورأسي أصابه الطنين. من هذا الشباك الذي تود لو تنظر إليه وعند الدخان المتصاعد تماما هناك منزل من ثلاثة طوابق قُصف قبل أسبوع من الآن فيه 8 أشخاص لم يأتي أحد ليخرجهم طيلة هذه المدة، اليوم جاء الدفاع المدني أخرج منهم 4 شهداء وبقي 4، ثم هرب الدفاع المدني من المكان لأن الاحتلال ما زال يقصف المكان ولا وقت لديهم إما الفرار أو الموت.
الثلاثاء 2023/10/24 الساعة 7:06 صباحاً بتوقيت غزة
تراودني فكرة الموت منذ أيام، أشعر أنني في قاع من الوحل، أشعر أننا في كذبة كبيرة لا أستطيع تصديقها، قلتها سابقا أنني لست خائفا من الموت لكني خائف من الشعور بالحياة.
لو أن العالم سوف يسمعني لدقيقة واحدة سيكون سؤالي لماذا نموت بهذه الطريقة البشعة.
اليوم ومنذ ثمانية عشر يوم لم أشعر كما الآن، أنني حائرا في أمري، أشعر أن القذائف تأكل قلبي، لقد كنتُ قاسيا جدا في التعامل معي كل تلك الأيام، تعاملت دون مشاعر مع نفسي وتفاعلت مع أوجاع الآخرين بالبكاء مرات قليلة.
كل ما أردته في حياتي بعض الأمان وتحقيق حلم أمي، بيت أرضي فيه مدفأة حجرية تخرج من سقف البيت.
لا أدري ما الذي يحصل لنا، أنني في فاجعة مع نفسي.
الأربعاء 2023/10/25 الساعة 10:15 صباحاً بتوقيت غزة
الشتاء قادم، كنّا أنا والأصدقاء نشبه شوارع مدينة غزة بشوارع باريس متهكمين على ردائة البنية التحتية للمدينة، في الشتاء تغرق الأحياء السكنية، تدخل المياه داخل البيوت وفي بعض الأوقات ينتقلون من مكان لآخر عن طريق الحسكات. تغرق أنابيب الصرف الصحي وتبدأ الرائحة الكريهة بالفوحان في المكان.
الذين يحبون الشتاء ينتظرونه مثلهم مثل العشاق الذي يريدون عيش حالة فريدة من مشاعرهم تحت المطر، بعض الأحيان يستطيعوا عيش هذه التجربة لكنها تكون خاطفة جدا، لأنهم يسرقوا حبهم من الأباء، المدينة هنا لا تعترف بالعشاق إلا عن طريق الزواج، يسرقون القُبلات والعناق في الشوارع الضيقة أو على درج البنايات.
هذه المرة يتراسلون عبر رسائل الجوال تحت القصف الاسرائيلي دون عناق، يقفون على طوابير ماء الشرب أو المخابز بالساعات للحصول على القليل من الماء والخبز، سيكون قارصا جدا، بيوت مُدمرة بالكامل، بيوت فيها فتحات في الأسقف والجدران، ولا عناقات تخفف البرد.
الكثير من العائلات نصّبت خيام في الجهة الجنوبية من القطاع.
لاحقا عرفت أن شوارع باريس مليئة بالجرذان وحشرات البق وأن شوارع غزة أجمل لولا ما يفعله الاحتلال.
الخميس 2023/10/26 الساعة 7:12 مساءً بتوقيت غزة
خلطة من المشاعر، مزيج عدائي عاطفي، في الخلفية صوت جورج وسوف بأغنية "لسا فاكر قلبي يديلك أمان ولا فاكر كلمة حتعيد إللي كان"، من أمامي أصوات الانفجارات، منذ ثلاث ساعات لم يتوقف الصوت، لم يتوقف الدخان عن التصاعد إلى السماء، خرب دخان الصواريخ السماء وغيم عليها بالسواد.
متناقضة الحياة مثل ما يبكي طفل على لعبته ثم يرميها بعدما حصل عليها، مشاعري باردة وقلبي فيه القليل من الوخز أما روحي مُتعبة.
يخاطبني جورج من خلال أغنيته قائلا أن لا تُعطي الأمان للحياة مرة أخرى.
بصوت منخفض، بارد، أنا متعب.
رأسي مثل دوامة بحر تدور دون توقف، كأن جارتنا الحامل تصرخ من شدة الطلق في رأسي، كل شيء متكدس والأفكار مثل وحش، واحد وعشرين يوم على العدوان أفقدني شعوري بالحياة العادية، النوم الباكر، السهرات مع الأصدقاء، المشي في الشوارع صباحا، الجلوس على البحر، بحر أكتوبر المتناغم بين الحرارة والبرودة.
الجميع هُنا أصابتهم حالة من الاختناق، واحد وعشرين يوم من كبت المشاعر، الخوف، النوم الخائف، والبكاء على الأصدقاء والأقارب الذين فارقونا.
الناس في الخارج تأكل وتنام وتستيقظ على صوت المنبه، ونحن نأكل، ننام، ولا نستيقظ لأن قذيفة قتلتنا.
الأحد 2023/10/29 الساعة 8:37 مساءً بتوقيت غزة
“يوم الجمعة الساعة 6:15 مساءا تحولت جلسة الحكايات في بيت خالتي إلى مقبرة جماعية. قصف الاحتلال الاسرائيلي البيت فوق .رؤوسنا دون سابق إنذار“
عصام
يوم الجمعة الساعة 6:15 مساءا تحولت جلسة الحكايات في بيت خالتي إلى مقبرة جماعية. قصف الاحتلال الاسرائيلي البيت فوق رؤوسنا دون سابق إنذار.
كنت أتحدث مع خالي أدهم من برلين لحظة الاعتداء على البيت، لحظة واحدة كنت أجلس فيها على كرسي على سطح البيت مع عائلتي، لحظة واحدة وجدت نفسي تحت الركام، لا أدري متى قُصفنا، فقدت الوعي لثواني ثم فتحت عيناي شعرت أني دُفنت وأنا حي وسط أطنان من الدخان في فمي، سحابة الدخان التي كنت أراها عندما تُقصف البيوت كنت داخلها.
بدأت بالبحث عن من كان عندي لحظة الاعتداء، أختي، ابنة خالتي، ابن خالتي، وجدتهم وفتحت التسجيل لصديقتي ريف من الأردن وخالي كي يعرف العالم بهذا الاعتداء الهمجي. نزلت عن الدرج بعد عشر دقائق داخل سحاب الدخان بعدما نادى أخي من الطابق الأرض بأن الطريق مفتوح، نزلنا إلى الطابق الأرضي تفقدنا جميع من البيت، الجميع قال نعم إلا والدي، بدأنا ننأدي ونحفر في كل مكان حتى سمع صوتنا، صرنا نحمل الركام بايدينا وأجسادنا المكسورة حتى نخرجه، دخل الجيران علينا كي يخرجونا من البيت لأنه من المحتمل أن يُقصف مرة ثانية كعادتهم مع كل البيوت، لم نهتم لذلك وبقينا ساعة نحفر ونزيل في الركام بايدينا العارية حتى أخرجناه، الجميع أخذ قرار في لحظة، لن نخرج بدونه لأننا نعرف جيدا، المسعفين يخافون من الليل ولا تستطيع الاسعافات العمل ولن يأتي أحد له إلا بعد أيام بسبب عدد الضحايا الكبير في اليوم الواحد.
وضعنا البنات في بيت الجيران، حملنا والدي على النقالة و دخلنا في الإسعاف إلى مستشفى الشفاء مباشرة، في المستشفى قاموا بعمل الاسعافات الأولية، كسر في القدم اليمنى واليد اليسرى.
بقي والدي أكثر من ثلاث ساعات بعدما اخرجناه من تحت الأنقاض على أرض المستشفى دون شيء تحت جسده يخفف عليه الوجع، جن جنوني وأخذت ما أخذت مرة بالقوة وأخرى باللين كي أخفف عنه، بعد أكثر من خمس ساعات حصلنا على فرشة تخفف عنه الوجع، بعد ساعة غرز الطبيب رأسه دون بنج بسبب قلة المستلزمات الطبية ولأن البنج لحالات أصعب من حالته.
مستشفى الشفاء مليء بالناس في كل مكان، في الطرقات، في الشوارع الخلفية، الكثير نزح للاحتماء بالمستشفى، الكثير من الاصابات، الكثير من الموتى وسط خيمة في ساحة المستشفى نشتم رائحتهم كل ثانية، داخل الخيمة يوجد طبق، طبق من أشلاء، طبق من أشلاء أطفال غزة في طبق كبير.
في اليوم التالي حولوا أبي إلى مستشفى الأوروبي لعمل عملية في قدمه ويده وبعد التشخيص الثاني عرفنا أن عينه اليسرى فيها نزيف داخلي وتمزق في القزحية وأنخلاع في عدسة العين، ثلاثة أيام دون تشخيص واضح لحالته وغدا العملية، اليد ربما فيها مشكلة في الأعصاب، القدم بلاتين في عظمة الفخذ، هذا أيضا بشكل مبدئي.
اسمي عصام هاني حجاج من غزة، خرجت من بيتي في الشجاعية مع عائلتي قبل أن يُقصف إلى بيت خالتي في حي الزيتون ليُقصف علينا بيت خالتي، اسمي عصام من غزة أصابتي في الرأس والكتف الأيمن لم يتم فحصي حتى اللحظة لأني قادر على الحركة ولأن هناك من هم أكثر أهمية مني، اسم أخي أحمد حُرق ظهره، اسم أختي شيماء نجت من الموت بأعجوبة وجرحت قدمها، اسم ابن خالتي أحمد عمره 8 سنوات جُرح رأسه، وخالتي طوال الليل تقول لي سمي هذه القصة بمقبرة الحياة يا عصام، ونحن نجونا بأعجوبة من هذه المقبرة بعدما دخلنا البيت صباح يوم التالي ورأينا البيت ورأينا آية الله فينا بأن لنا بقية في العمر.
الإثنين 2023/10/30 الساعة 4:38 صباحاً بتوقيت غزة
بعد يوم واحد من قصف البيت على رؤوسنا، فكرت أني سأكتب عما حدث ثم قلت لا شيء سوف يصف ما حصل معنا، سيكون شعوري بالخيانة طاغي، أنني خنت كل الخوف والصراخ والموت، واختزلته في بعض كلمات، أشعر بالخيانة لتلك المشاعر.
كان لابد أن يتماسك أحد فينا ولا يبكي، أعلم بأن البكاء رحمة لكن لا خيار، الحياة تفرض عليك أحيانا ما لا تستطيع احتماله. الجميع بكى وعندما كان يأتي دوري كنت احبس دمعي كأني سجان محترف.
اليوم الثالث بعد القصف ويا ليتني بكيت مثلما فعل الجميع، يا ليتني خنت كل شيء ورميت دموعي، كل مشاعري محبوسة، عالقة في صدري، صوت صراخ أخوتي وأخواتي، نظرات أختي وهي تقول للمسعف أن أبي تحت الركام تعال واخرجه، وبكاء أمي وصراخها على أبي، الذهول في عيونهم، ارتجاف ايديهم، وكل اللمسات التي طمنا بعضنا بها.
يا ليتني بكيت بصوت عال حتى نسيت من أكون.
الثلاثاء 2023/10/31 الساعة 11:58 ليلاً بتوقيت غزة
إمرأة تصرخ للمرضى في المستشفى، تتوسله من أجل تقديم موعد عمليتها، عملية بلاتين في يدها اليسرى.
لم يدخل والدي العمليات حتى اللحظة، ثلاثة أيام بعد قصف البيت على رؤوسنا وهو بحاجة لتدخل جراحي، طلب منه الممرض الصيام للتحضير للعملية منذ يومين.
ذهبت للدكتور سألته عن موعد العملية قال لي، لا أعرف موعد عملية والدك بالتحديد، ربما تكون بعد ساعة ربما في الغد، عدد الاصابات يزداد في كل لحظة ونوقف العمليات للطوارئ. ممرض آخر في الممر الجانبي قال للطاقم الطبي، إذا لم يكن هناك مسكنات للمرضى لن أعمل، لا أريد تعذيب الناس.
70 حالة كسر تحتاج بلاتين في اليوم الواحد والجميع هنا ينتظر دوره، هذا المكان أقرب بالمشرحة التي تلاحق نفسها لتبتلع أكبر عدد من أطنان اللحم.
الممرضين والدكاترة أصابتهم حالة من التبلد، البرود في الرد على أسئلة المرضى موجع، الحالة التي يعيشها الشعب الفلسطيني أقرب للانسلاخ عن أرواحهم، حالة الرمادية، تريد البكاء لكنك لا تقدر وفي ذات الوقت لا تستطيع الانهيار.
منذ ثلاثة أيام لم آكل الخبز إلا اليوم، المستشفى هنا في مكان بعيد عن مركز مدينة خانيونس والمرضى يحتاجون أكل صحي، قبل أيام هدد الحيش مطعم في وسط خانيونس بالقصف لأنه يُعطي الطعام للناس مجانا.
يقول والدي لا أريد أخذ دور أحد، إذا كانت العملية اليوم سأكمل صيامي، إذا كانت غدا سأفطر على البسكويت.
مرة أخرى أشعر أنني أخون كل تلك المشاعر بالكتابة عنها وهي أكبر من الكتابة، تحتاج فقط أن نصيح.
الأربعاء 2023/11/1 الساعة 11:58 صباحاً بتوقيت غزة
الحصول على حمام بارد بعد أربع أيام يُعطيك شعور بالآدمية، دخلت الحمام كي استحم فوجدت فتاة صغيرة تنتظر هي أيضا تريد الاستحمام، حنطية اللون وعيونها عسلية، ابتسمت لي عندما وقعت عيني في عينها وبدأت بالحديث معي، سألتها عن اسمها وعمرها، قالت لي اسمي وئام وعمري عشر سنوات، أصرت وئام أن أدخل الحمام قبلها، هذه الصغيرة الشقية جعلتني أبتسم رغم كل الوجع الذي نعيشه، كأنها مسحت على قلبي بكفها. بعدما قررنا أنا ووئام أني سأدخل أولا قالت لي الآن تحتاج إلى كيس كي تضع ملابسك فيه وذهبت مسرعة لتحضر لي واحد، دخلت الحمام خلعت ملابسي ووضعتها في الكيس الذي أحضرته وئام، فتحت المياه وبعد دقائق خرجت لأجد وئام مازالت تنتظر، بدأت بمسح الأرضية فسألتني عن عمري، قلت لها خمني فقالت أحب من يقول لي خمني لأني أحب التوقع، وصارت تخمن حتى وصلت إلى عمري، 27 عام، ثم قالت نحن خرجنا من بيتنا لأن أخي طلب ذلك لم يقبل أن ننتظر لحظة واحدة في البيت لكنهم قصفوا أخي في المقهى لكنه نجا، ثم سألتني عن اسمي، قلت لها عصام وإذا أردتِ أي شيء مري من هنا وأخبريني.
انهيت مسح الأرضية وتركت وئام تأخذ حمامها البارد ووقفت في الخارج تحت أشعة الشمس وبعد دقائق خرجت وئام بشعرها المبلول مثل أميرة تمشي في لتلقي التحية على شعبها وابتسمت لي ابتسامة عريضة وراحت إلى نصيبها.
بعد اختفاء ابتسامها من أمام عيني نادى الممرض ليقول أن عملية والدي الآن، جهز والدك للعملية، يبدو أن ابتسامة وئام كانت سارقة جدا لدرجة أن كل شيء صار في لحظة.
دخل والدي العملية وخرج منها بسلام وهو يحمل في يده وقدمه مسامير بلاتينية تثبت عظمه من الداخل، لكن لا شيء يكتمل، قال لنا الدكتور أن والدي فقد عينه اليمنى وأن يستعوض الله، ربما نعيد له النظر لأن الضرر لم يصل إلى شبكية العين لكن يحتاج ذلك العلاج خارج غزة، كل ثانية إنتظار يعتبر طريق لا رجعة فيه ويخسر فيها بصره.
مع كل هذا الوجع، من جهة أخرى أمي وأخواتي في الجهة الشمالية من قطاع غزة تحديدا حي النصر، لم نستطيع أن نخرجهم إلى الجنوب حيث نحن.
الجمعة 2023/11/3 الساعة 10:08 مساءً بتوقيت غزة
أصبحت لا أعد أيام العدوان والهجوم الوحشي الذي يفلت أنيابه علينا كأننا فريسة خُلقت لتكون ضحية موت تحت أسنان الاحتلال الاسرائيلي، مازلنا في مستشفى الأوروبي مع والدي بعد إجراء عمليته في القدم واليد، لكن دكتور العيون قال لنا أن نفقد الأمل في عينه اليمنى وأنه لا يستطيع أن يرى فيها لكن هناك إحتمالية لعمل شيء إذا ذهب لخارج غزة، لكن الاحتلال يغلق جميع المنافذ علينا ولا نستطيع الخروج حتى للعلاج.
أشعر أني أرى العالم بعين واحدة بعدما فقد والدي عينه، عالم أعور يرى ما يريده ويحس بما يريده. لا سبيل لنا أن نشتري حياة أخرى لم تهترئ مثل هذه التي مضغتها أرصفة الطريق، بعد وجودنا بثلاثة أيام في مستشفى الأوروبي وبعد وصول كل عائلتي إلى المستشفى بعدما دمر الاحتلال جميع بيوتنا قررنا أن نصنع خيمة في باحة المستشفى، خيمة من أغطية وحجارة وأعمدة حديدية جمعناها من محيط المستشفى، مناخها معتدل، حارة في النهار باردة في الليل، وهذا هو المناخ المعتدل الجديد حسب خيمة عام 2023، خيمة ممتدة من عام 1948.
كتب لنا الطبيب اليوم خروج لنا من المستشفى، خروج يعني أن يذهب المريض إلى بيته بعد الشفاء الأولي، لكننا لا نملك هذا الحق في العيش لأن بيتنا دُمر ولأن والدي أصلا ينقصه الكثير من العلاج والمتابعة لكن المستشفى تعاني من ناقص حاد في المستلزمات الطبية، أخرجتنا المستشفى من القسم الذي مكث فيه والدي فترة العملية إلى قسم آخر، قسم في مستشفى فيه السرير خشبي لا يستطيع فيه والدي الحركة مع صعوبة أصابته، لا يوجد لديه كرسي متحرك حتى ليذهب به إلى الحمام.
أيام قليلة هادئة دون سماع صوت انفجارات، لكن الصوت اليوم اخترق هذا الهدوء، ربما نصنع خيمة في مكان آخر، ربما لن نكون موجودين أصلا، ربما نصبح رماد، لكني متأكد أن العالم أصبح أعور أمامي.
الاثنين 2023/11/6 الساعة 8:25 صباحاً بتوقيت غزة
(كتب عصام هذه الشهادة يوم 2023/11/5 وبسبب قطع الاحتلال للاتصالات وصلت الشهادة متأخرة يوم)
إن الأنثى تقهر كل شيء بلمستها، تحرر الغضب وترفع شعورك بالاستقرار، هذا ما يحتاجه الإنسان في العدوان، لا سلاح ولا طائرات.
الدائرة الرمادية تتسع أكثر فأكثر والهمجية الاسرائيلية مازالت تسيطر على العالم منذ 7 أكتوبر بوجه واضح وجريء، إن إسرائيل مجرمة حرب كما العرب الذين يتفرجون على الأطفال وهم يذبحون.
اليوم كالبارحة، والبارحة فقدت معنى التعبير وتوصيف الأشياء. يدخل الممرض الممر يفتح ستارة غرفة شاب فقد والده وزوجة أخيه وأخته يُمسك بيده فرشته ويسحبها خارج الممر إلى مصاب جاء قبل لحظات لأن الشاب كُتب له خروج من المستشفى، ربما هذا المشهد يشرح قسوة ما يمر به الكثير من العائلات التي نزحت من الشمال إلى الجنوب.
المشاعر هنا مثل الرصيف بصلابته والوجوه مرة ضاحكة وأخرى عابسة بين النقمة على الحال والخيبة من جهة أخرى. البكاء صار عادة سيئة من يُلقى عليه القبض بالدمع يسخر منه الجميع لأن دموعهم جفت.
إن كل ما يحتاجه الإنسان هو حقيقة الأمر، أن الأنثى تحرر كل شيء، تُمسك به صعبا معقدا يصبح في يدها سهلا ناعما، وهذا كل ما أريده لأن صوتها أقوى من صوت القذائف ولغتها التي تتحدث بها لها معنى أكبر من الموت، هي فقط تُطعمك الحياة.
الأربعاء 2023/11/8 الساعة 10:15 مساءً بتوقيت غزة
أشعر بالقليل من الراحة، لا صداع ولا أحمرار عينان، البارحة كانت أول ليلة أنام فيها على فرشة كاملة، بعض الأيام نمت فيها على الأرض وبعضها الآخر الجزء العلوي من جسدي على الفرشة والجزء السفلي على الأرض، البرد يقرص أجسادنا كأنه ينتقم منّا، كأننا أبتعنا الدجاجات ولم نعطيه حقه.
مشاعري باردة إلى دافئة قليلا، أصوات قصف تأتي من بعيد تزعج الهدوء الذي منحك إياه أول ليلة نوم مريحة منذ 27 أكتوبر، اليوم الذي قُصف البيت فيه فوق رؤوسنا.
الناس هنا يقرصها البرد ويقرصها الجوع أيضا، الأسواق ما عاد فيها إلا القليل، قبل يومين ذهبت إلى السوق كي اشتيري معلبات الفول والجنبة لكني لم أجد شخص واحد يبيع، كل شيء سحبه الناس.
لذلك أعرف عن نفسي مجددا، اسمي عصام من غزة نزحنا من الشجاعية إلى حي الزيتون وقُصف البيت فوق رؤوسنا ونحن الآن في مستشفى الأوروبي في خانيونس بعد أصابة والدي، أزمة كهربا وماء في البداية، ثم أزمة بنزين، ثم كارثة بيئية بسبب عدد الشهداء الذين لم يدفنوا، الآن سوف ندخل على مجاعة.
يا الله نحن نؤمن بك وبقدرك الذي لا مفر منه، نعلم أنك أحن على الأطفال من أمهاتهم، نعلم أنك تُعطي من صبر وانقطع عنه من البشر، يا الله أنت صاحب القوة كلها أجعل الأرض تبلعنا الآن ليرتاح كل من فيها.
الجمعة 2023/11/10 الساعة 11:40 مساءً بتوقيت غزة
إنسان، ماذا تعني هذه الكلمة أو بما تفكر عندما تنطقها.
ربما تجد نفسك تتحدث عن التعامل برفق لكن ما لا تعرفه أننا ننتقل الآن إلى زمن الهمجية على أساس أن ما كان يحصل سابقا ليس له علاقة بالهمجية، ما كان همجية وما يحصل تفتيت الإنسان ووضعه على آلة الذبح.
يتكرر المشهد يوميا، يتكرر مشهد النزوح القسري للفلسطينين.
يحاول الناس الخروج الآن من شمال قطاع غزة ،صوبهم الرشاشات الإسرائيلية ومن حولهم الدبابات وفوق روؤسهم الطائرات يقطعون آلاف الأمتار مشيا على الأقدام للوصول إلى جنوب قطاع غزة الذي هو أيضا تحت القصف.
يقول شاهد تحدث معي اسمه أحمد كان قد مر من خلال الحاجز الاسرائيلي بالقرب من وادي غزة، يقول لي: رفعت يدي فوق رأسي والأخرى بها هويتي ثم جاء الجندي و بدأ بإطلاق النار وجعلنا ننبطح على الأرض، بعد دقائق بدأ بالنداء علينا من خلال ألوان ملابسنا بأن نمر إلى الجهة الجنوبية للقطاع.
في الأثناء التي كان يمر بها أحمد من خلال الحاجز كنت قد ذهبت لأحد مراكز الايواء في خانيونس لحجز صف مدرسي له ولعائلته باسم أمي كي يقي نفسه من الشتاء هو وعائلته، بقينا ساعات ننتظر ودخل أشخاص بعدنا وتم تسجيلهم وعند دورنا قال المسؤول نكتفي بالعدد، أخبرته أنني سأكتب عما يحصل هنا وذهبت خارجا، في طريق العودة للخيمة في مستشفى الأوروبي لحقت فتاة بخالتي وقالت لها: لا تجعليه يكتب أي شيء لأن التعليمات جاءت من "فوق" ولن يستفيد شيء.
ساعات قليلة ووصل جدي إلى المستشفى بعدما قطع نصف الطريق من الشمال للجنوب مشيا على الأقدام وهو قبل ثلاثة أشهر قام بزراعة مفصل في قدمه.
المستشفى هنا أصبحت مثل خلية النحل، المصابين في كل مكان والنازحين لا مكان لهم، الشهداء بالعشرات كل دقيقة، الموت يحوطنا من جهة والخوف من البرد والشتاء من جهة أخرى.
10 نوفمبر
الأربعاء 2023/11/14
المطر كالعدوان، يمطر بغزارة ويأخذ معه أمان المكلومين ثم يستريح ويعود، أيام ثقيلة تمر علينا تحت العدوان الاسرائيلي وجاء المطر ليكمل المعاناة، غريبة هي الحياة في أدراك الأشياء لأن الله لا يرسل لنا إلا الخير، لكن المطر يسرق أمان الخيام في المستشفى، يسرق أماكن نومهم ويطردهم خارجا كما يفعل الاحتلال، الله رضينا بما أنزلت، عصينا وغفرت فأغفر ذلتنا الكبيرة.
البارحة في منتصف الليل بعد أن جهزنا خيمتنا بغطاء بلاستيكي كي يحمينا من الشتاء، لكن المطر كان أقوى من أعمدة خيمتنا وسقفها فصار الماء ينزل على روؤسنا، بدنا نخرج من الخيمة ونحمل أغراضنا بعد محاولات كثيرة لأبعاد الماء، أخذنا كل شيء يخصنا وذهبنا به إلى مدرسة حكومية مجاورة قالوا بأن الوكالة سوف ترفع علمهم عليها كي تصبح آمنة على أساس أن مدارس الوكالة لم تقصف من قبل، قضينا ليلتنا في صف نبكي حالنا.
الساعة الرابعة عصرا أخذت الباذنجان إلى فرن الطينة بالقرب من المستشفى، وجدت طفلة هناك اسمها حنان عيناها جميلة تنسيك الوجع للحظة لكنها تسرق منك الاطمئنان الذي منحته بالتعب في وجهها كأنها لم تكن طفلة يوم، حنان مثلي جاءت من أجل الباذنجان، ابتسمت لي وأخذت لها صورة، يأتي الناس إلى فرن الطينة يوميا من أجل أن يخبزوا عليه بالدور بسبب انقطاع الكهرباء وعدم توفر البنزين.
في الصباح أخذت والدي للغيار على جروحه، دخلت معه ودخل معنا طفل وأمه يريد فك الغرز من ظهره وأمه مصابة في قدمها ويدها، بعد أن طببنا جروح والدي نادى الممرض "حجاج" وقال امسك لي الطفل ولا تجعله يتحرك، ثبته من ظهره جيدا و بدأ يصرخ من الألم، الطفل فيه عافية كبيرة كان قادر أن يتحرك من تحت يدي وكنت خائف من الضغط أكثر ويُكسر حوضه في يدي، والد الطفل قال له قول يارب، صار الطفل يقولها بصوته البريء الغارق في الدموع، في هذه اللحظة سلب مني ثباتي وجعل دموعي تنزل لكني حبستها.
انتيهنا وخرجنا كل واحد في طريقه، وذهبت إلى الخيمة كي نعيد بناءها من جديد، بقينا لساعات حتى حل علينا الليل، الساعة السابعة مساءا نزل المطر مجددا، خلع أغلب الخيام في ساحة المستشفى و خيمتنا أيضا التي قضينا فيها النهار كامل وغرقنا مرة أخرى.
حملنا كل شيء وذهبنا للمدرسة بعد أن تركناها، بعد ساعات سمعنا صوت قصف هز المكان، جيش الاحتلال يقصف بيت بالقرب من المستشفى وإصابات في الشارع القريب من المستشفى الذي نذهب منه لشراء ما هو متوفر، أسرع الاسعاف إليهم ودخل بهم شهداء أحدهم مقسوم إلى نصفين.
الحال هنا كارثي، الناس في المستشفى حالها يبكي الحجر والمواد الغذائية شحيحة وإذا توفرت بسعر مضاعف، لا مكان لهم ،لا جدران تحميهم من البرد ولا شيء يحميهم من القصف لأننا معرضي للموت في أي لحظة لأن الجيش معه الضوء الأخضر من العالم لقتلنا.
تقول الأخبار أن الخميس آخر يوم للشبكات في قطاع غزة بعدها ستتوقف ويطالب نتنياهو كل فلسطيني في قطاع غزة الذهاب إلى سيناء المصرية، ربما يتم تهجيرنا قسرا لذلك، اسمي عصام نزحنا من الشجاعية بعد قصف بيتنا إلى حي الزيتون وقًُصف البيت فوق روؤسنا يوم الجمعة 27 أكتوبر الساعة 6:14، تم تحويلنا من مستشفى الشفاء إلى مستشفى الأوروبي لعلاج والدي، ربما يكون هذا آخر اتصال لنا، ربما يكون الاتصال القادم من سيناء أو من خلال الدعوات إلى أرواحنا.
الأحد 2023/11/19 الساعة 6:36 صباحاً بتوقيت غزة
على الإنسان أن يعرف نقيض الشيء حتى يقدر على موازنة حياته، لتعرف الراحة يجب أن تتعب كثيرا، لتشعر بالهدوء عليك أن تخرج من الضجيج، أيام تمر علينا داخل مستشفى الأوروبي يصعب وصفها خلال يومين دخل المستشفى الكثير من الشهداء والمصابين، حالة من الذعر داخل المستشفى لأن القصف يقترب أكثر من المنازل المجاورة للمستشفى، خلال يوم واحد قُصف بيتين، سمعنا ورأينا الصواريخ وهي تنزل على البيت وبعدها يعلو الصراخ.
قررت أن أفصل نفسي عن كل ما يحدث وأذهب إلى مكان لا أتحدث فيه مع أحد فقط اتأمل ما حولي ووجوه المارة وحركاتهم وسكونهم، شهدت الغروب وتنفست قليلا، شعرت أن لي روح مجددا، جلست بالقرب من مدخل الطوارئ وأخذت أراقب العصافير والحمام فوق خزانات الماء على سطح المستشفى، الكثير من الطيور داخل المستشفى، على ما يبدو أن البشر ليسوا وحدهم من نزحوا إلى المستشفى خوفا من القصف الذي لحق بهم، في كل قصف كانت الطيور تطير وتعود بعد القصف إلى الخزانات.
القصف الأول كان الساعة 7 مساءا تقريبا، دخلت الشظايا إلى القسم الذي فيه والدي، والدي قالوا له أنه فقد شبكية العين و بدأنا باجراءات التحويلة للعلاج في الخارج، ربما بقي لديه وقت يستعيد فيه نظره لكن من كان سبب في تأخير التحويلة له يد في الإهمال الذي أوصلنا لفقدان الشبكية، الأمر كان يحتاج كلمة واحدة من دكتور.الآن الساعة 6:28 صباحا فزعنا من نومنا قبل ساعة على صوت قصف في بيت قريب جدا من المستشفى، بعد دقائق دخل الإسعاف بالشهداء والمصابين مغطين من البرد كانوا قد ناموا مع أحلامهم واستيقظوا مع أجسادهم المصابة.
أجلس في ممر ضيق يصل له انترنت المستشفى بصعوبة كي أكتب لكم وكي أقول أن أحد جيراني من الشجاعية وصل من الجنوب اليوم كان في مدرسة الفلاح في حي الزيتون يقول لنا، أن جيش الاحتلال قصف المدرسة عليهم وفي نفس اللحظة استشهد ما يقارب 70 شخص وأُصيب ما يقارب 200 لم يصل لهم أحد ولا حتى الصليب الأحمر في ساعات قطع الاتصال عن القطاع، بقوا على الأرض حتى تصفت دمائهم.
١٩ نوفمبر
الأربعاء 2023/11/22 الساعة 6:43 مساءً بتوقيت غزة
إلى سعيد زوج هديل الذي كان يخترق هدوء المكان بكلماته السريعة ومزاحه الثقيل على كل من حوله، عندما كنّا في حي الزيتون في بيت خالتي قبل قصف البيت علينا، كان سعيد يدهشنا دائما بقدرته على جعل الأمور الكبيرة تافهة ولا تعني له شيء ظاهريا لكنه ماكر جدا ويلعب دور العبيط.
كان يحلم من بداية العدوان أن والده قد مات ويستيقظ من نومه وهو يبكي يريد أن يذهب لرؤيته، وعندما يذهب إلى البيت بالقرب من الحدود الشرقية يجد والده جالس أمام البيت وفي يده النرجيلة وبجانبه عصا وعندما يلمح سعيد، يترك النرجيلة من يده ويلحق به ليقول " ما ترجع يا ابن الكلب".
اتصال الساعة 2 فجرا بصوت خافت على أختي، ردت عليها الجميع نائم ثم عادت لنومها مجددا، في الصباح اتصل سعيد بصوته العالي وقال لنا أن والده وأخوانه قد قتلوا على يد جيش الاحتلال في حي الصبرة في شمال قطاع غزة.
تزوج سعيد هديل عن حب كما يقول هو لكنها تنكر ذلك دائما وتقول أنه هو من أحبها، لم يمر على زواجهم سوى ثلاثة أشهر وكان يخطط لقضاء شهر العسل في جزر المالديف وكنّا نقول له لا تنام بعد صلاة العصر، لأنه لا يقدر على تكلفة هكذا رحلة.
ما فعله الناس في بعضهم أكبر ما فعله العدوان بهم، التجار ينهشون أجساد المواطنين وهم أحياء، لم يدخل على غزة بضائع، لم يدخل طعام، لم يدخل شيء، لكن الأسعار أصبحت ثلاثة أضعاف، عائلات ماتت بالكامل، أطفال لم يتبقى لهم أحد من أهلهم، المصابين في المستشفى، في الشوارع، الجزء الشمالي من القطاع مدمر بالكامل والناس فيه تحت الأنقاض والجزء الجنوبي دُمر فيه الكثير من البيوت على روؤس ساكنيها وبعض الناس تجمع المال من أجل لا شيء.
22 نوفمبر
الخميس 2023/11/23
يوم هادئ وشاق، منذ ساعات الصباح لم نسمع سوى القليل من أصوات القذائف التي تنزل علينا، يوم عادي في مكان غير عادي، يوم يذكرنا بروتين حياتنا التي تركناها خلفنا، جاء أصدقائي لزيارة والدي ثم أكلنا بعد ذلك ذهب كل واحد إلى طريقه، وأنا ذهبت إلى الفرن كي نخبز الخبز مع أولاد خالتي، بدأت رحلتنا مع الطابور الطويل الذي تنتظر فيه ليأتي دورك. كان أمامي طفل وحده، سألته عن سبب وجوده وحده قال لي أن أخيه وزوجته في الخيمة وهم من أرسلوه إلى هنا، ثم قال لا أعلم، انتظرنا طويلا حتى صارت الساعة 12 منتصف الليل، جاء دور الطفل المشاغب الذي كان يشكي طوال الوقت من مدة الانتظار ومن تعب قدميه، بدأت بمساعدته في الخبيز وعندما انتهى جاء دورنا ونحن نخبز سألتنا امرأة أنا وابنة خالتي كم طفل لديكم ضحكنا وقلنا لها 15 ضحكت أكثر وقالت لا هذا لا يصدق، انتهينا وكانت خالتي تقف على الجانب الآخر، كنا قد قسمنا الخبز إلى نصفين كي لا يأخذ وقت أكبر ولأن عددنا كبير.
كان بجوارنا رجل امسك بقطعة من العجين ووضعها على "طنجرة الكهرباء" وقال هذه "عوقة" أي كعك محشي بالشوكولاتة فقلت له عوقة غزاوية فرد علينا آخر لا عوقة من خانيونس، فقلت كله قطاع غزة.
عندما اقتربنا من الانتهاء مازحت خالتي قائلا أن الأولاد الآن جياع بما أن الساعة صارت الواحدة والنصف ليلا فنظر رجل لي وقال، لقد خبزت في الجانب الآخر، نظرت له وقلت بصوت مرتفع قليلا "ًهاد أنت بتراقبني" فضحك الجميع بصوت مرتفع، سألت الرجل عن اسمه قال بسام، فقلت له بركة يا عم وعدنا إلى المدرسة.