جَُمعات راديكالية

سلسلة من الندوات عبر الإنترنت حول التربية الراديكالية في فلسطين: تاريخ وتجارب

لقد دأب الفلسطينيون على مدار قرن من الزمان على تغذية أربعة أنواع من التربة كانت في صلب نضالهم من أجل التحرر، وفي قلب مفاهيمهم حول التربية والتعليم، ألا وهي: الأرض، والتربة الحضارية، والمجتمعية، والوجدانية. هذه “التربية الراديكالية” ربطت ما بين استيعاب وفهم الماضي، التحليل النقدي للحاضر، التخيل الابداعي لمستقبل بديل، واستراتيجية فاعلة للانتقال من واحدة إلى الأخرى. من هذا المنطلق يمكن اعتبار “التربية الراديكالية” في السياق الفلسطيني على أنها التربية والتعليم التي تقع بالضرورة في جوهر النضال المناهض للاستعمار من أجل التحرر وتتخذ أشكالا متعددة قد لا تكون هي التي اعتدنا على وضعها في خانة “التعليم”. 

سوف تستكشف هذه السلسلة من الندوات الافتراضية، من خلال رؤى وتجارب وأبحاث معلمين، منظمين مجتمعيين، دارسين، ممارسين، وطلاب، التجليات المختلفة للتربية الراديكالية الفلسطينية على مدار قرن من الزمان وما نتج عنها من أنماط تربوية، على أمل أن تساهم هذه الحوارات في حراك اقليمي وعالمي نحو شكل جديد من التربية والتعليم: عادل في تكوينه وراديكالي في غاياته.


 الندوة الأولى: مقدمة حول التربية الراديكالية  التاريخ: ١٣ نوفمبر/ تشرين ثاني ٢٠٢٠ المتحدثون: منير فاشه، مزنة القطو   إدارة الجلسة: ميسون سكرية

ماذا نعني بالتعليم الراديكالي؟

في تعريف ميسون سكرية، مديرة الجلسة، التعليم الراديكالي عملية بحث وكشف عن أمور فُرضَت علينا من خلال الاستعمار. ويتحقق التعليم الراديكالي من خلال ثلاثة شروط؛ نقد راديكالي لوضع قائم في مكان ما، تقديم رؤى بديلة واضحة لهذا الوضع، وأخيرًا بطرح أفكار واستراتيجيات من الواقع الذي نريد تغييره لنصل إلى ’اليوتوبيا‘.

وللفلسطينيين تجربة طويلة بالتربية الراديكالية غير الموثقة، وهذه الجُمعات ومن خلال جلساتها العشر تطمح لاستكشاف وإعادة اكتشاف هذه التجارب في فلسطين الحاضر وفي مراحل تاريخية سابقة. أما تبلور الفكرة فقد جاء من المتابعة المستمرة لواقع التربية الراديكالية في عالمنا العربي وملاحظة غياب توثيق لهذه التجارب وتأثيرها.

ولكن كيف لنا أن نستأصل الكولونيالية من هذا الإرث؟ 

مع مراجعة تاريخ التعليم الراديكالي لوحظ بأنه لا توجد عملية تربوية محايدة. فليس للتربية الراديكالية شكل موحد ولا وصفة سحرية لتطبيقها، فهي تعتمد على الزمان والمكان وما يحيط بها من ظروف. فالهدف من التعلّم من التجارب الراديكالية هو العمل والاجتهاد على أنفسنا. العمل والاجتهاد على أنفسنا هو أساس التعليم الراديكالي وهو يطمح إلى خلق عالم أفضل نكون فيه الأفراد الذين نتطلع لرؤيتهم بهذا العالم، وهو ليس بالعمل السهل.

أما هذه الجمعات فقد جاءت من وحي جُمعات وجَمْعات الربيع العربي، نعيد من خلالها إحياء الخيال والأمل في إسقاط ديكتاتورية ’اللابديل‘ عن التعليم الرسمي.

ربط منير فاشه التربية الراديكالية بسرده لتجربته الشخصية مع الفلسفة التي اتبعها في التربية، منذ عام ١٩٧١. هذه الفلسفة تَعتَبِر بناء القوة والمناعة الداخلية اللبنة الأساسية للتربية الراديكالية وهي المقومات الأساسية للشفاء من أمراض التعليم الأكاديمي.

قصة منير بدأت مع الرياضيات والتي لخصها بكلمة ’عبد‘، حيث يرى أنه كان عبدًا كطالب وعبدًا كمدرس لمادة الرياضيات يُنفّذ ما يُطلب منه، إلى أن جاءت حرب عام ١٩٦٧. هذه الحرب جعلته يدرك بأن ما يُدرّسه في الجامعة لا يُمَكّنه من فهم ما يحدث حوله في الحياة، هناك فجوة كبيرة بين رياضيات الأكاديميا ورياضيات الحياة.

وبما أن منير كان حكيم ذاته، فقد استطاع أن يضع إصبعه على أربعة أعراض يعاني منها نتيجة إصابته بهذا المرض. أولها الافتخار بالعبودية، حيث كان يفعل ما يُملى عليه، وفهمه للأمور بالحياة كان مستمدًا من الأكاديميا غير المرتبطة بالواقع. ثانيها عُقم اللغة، أدرك أن لغة الكتب المقرَّرة لغة ميتافيزيقية على طرف النقيض مما عبّر عنه الجاحظ في كتاب “البيان والتبيين” اللازمين لتشكيل النضج والوعي. ثالثها الإلهاء، لاحظ منير بأن الأكاديميا ألهته عن رياضيات الحياة والمنطق الخفي من ورائها. ورابعها اكتشافه بأنه كولونيالي معرفي، سلاحه الرياضيات، والادعاء بأن المعرفة أحادية عالمية.

إدراكه لأعراض هذا المرض ساعده على تشخيص حالته بأنه مريض بمرض ’الببغاوية‘ يعيد ما يسمع بفخر دون تكوين معنى وفهم.

وكما يقول على بن أبي طالب “دَواؤُكَ فيكَ وَما تُبصِرُ وَدَاؤُكَ مِنكَ وَما تَشعُرُ”، فكان طريق شفاء منير هو العودة إلى اللغة الحية وما وجد من ثراء في اللغة العربية. كان العرب يقولون “نروي حكايات ونروي نباتات” أي عندما نروي النباتات فإننا نغذى التربة الأرضية التي نتغذى منها، وعندما نروي الحكايات فإننا نغذي التربة الثقافية والاجتماعية والوجدانية للإنسان. ثراء هذه التربة أساس المناعة والمعنى وبناء المعرفة وتغذية وجَدْل الأنسجة.

ومن ثم تساءل منير عن سبب غياب ذكر أنواع هذه الأتربة في المدارس والجامعات. فقام بعكس ذلك على تجربته الشخصية، حيث أن عقله كان في حالة موت سريري بفعل الأكاديميا، بالإضافة إلى إصابته بداء ’الببغاوية‘ والنتيجة هي عدم قدرته على إدراك ووعي ما يدور حوله. أما ما يفعله الآن في حياته فهو إعادة تغذية الروح بالثقافة والجمال. وطريقه في الحياة لاستعادتهم هما المجاورة والعافية واللذان هما ملك الناس. العافية هي مسؤولية الناس وترتبط بشكل مباشر بالتربة، فأننا نستطيع أن ننقذ أنفسنا من خلال العودة إلى أنواع التربة هذه.

أما بخصوص معنى الراديكالية بالنسبة له، فهي تعني العودة إلى الجذور والتي يعود أصلها إلى الكلمة اللاتينية ’Radix‘  والتي شبهها بفلاح بلاد الشام. فالتعليم الإنجليزي عمل جاهدًا على تمزيق العلاقة مع الأرض ومع العائلة وهو ما أدركه فلاحو بلاد الشام عام ١٩٢٩ ودعوا ضده، أدركوا أهمية أنواع التربة منذ ذلك الحين ودور التعليم الإنجليزي في خلعنا من جذورنا.

وأخيراً كانت دعوة منير لأن نخرج من ’الببغاوية‘ ونحمي أطفالنا وأنفسنا منها وأن نبحث عن طرق تعلّم أخرى غير المدارس والجامعات. لدينا ما يلزم لنشفى من هذا المرض ومن هذه الهمجية. إن التأمل والاجتهاد هم طريقنا لندرك الثراء الذي يحيط بنا، كما أن تكوين معنى هو فعل تراكمي.

أما مزنة القطو فعرجت على الأمور المتعلقة بتاريخ التعليم الراديكالي في فلسطين التي لا يتم الحديث عنها وتم تغييبها. حاولت قلب الأمور عند سردها لهذا التاريخ عن طريق الانتقال من عَرْض تاريخ التعليم الراديكالي في فلسطين إلى عرض تاريخ فلسطين من خلال التعليم الراديكالي وتاريخ التعليم الراديكالي بشكل عام.

فتساءلت “ماذا تتطلب الكتابة عن التربية الراديكالية في فلسطين؟ وما هي الموضوعات التي من الممكن أن تُذكر؟ وكيف لنا أن نبدأ بإدراك أشكال التعليم الراديكالي وكيف تشكّـلت في فلسطين؟”

ربطت مزنة، في نقاشها، بين الخبرات والتجارب التي ساعدت على نشوء نظريات التعليم الراديكالي، من ناحية، وبين فهمنا للواقع الفلسطيني. كيف تحدّت هذه النظريات طريقة كتابتنا لتاريخ التعليم الراديكالي في فلسطين خلال القرنين الـعشرين والواحد والعشرين.

لفهم البعد التاريخي للتعليم الراديكالي ركزت مزنة على ثلاث نقاط رئيسية؛ التاريخ السياسي والتاريخ الاجتماعي والتاريخ الثقافي/الفكري.

في النظريات السياسية نجد بأن التعليم الأكاديمي مرتبط ومتداخل مع فكرة تشكيل الدولة القومية والهوية الوطنية ويؤثر على الطريقة التي تتشكل فيها المجتمعات السياسية. الواقع الفلسطيني ليس بعيداً عن هذا التداخل والترابط، ولكن نجد في التاريخ الفلسطيني تركيز كبير – في التعليم الأكاديمي – على موضوع تشكيل الدولة الوطنية وكأن دوره الوحيد هو كيف يفرز ويعيد إفراز هذا البعد. 

وعند النظر بموضوع التاريخ فإننا لا نستطيع أن ننظر له بمعزل عن الفترات والحقب التاريخية التي مرت على فلسطين. معظم المعلومات عن تاريخ التعليم في فلسطين الذي يمكن لنا تتبعه وتوثيقه يعود للفترة ما بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن الواحد والعشرين – أي التاريخ المعاصر. وخلال هذه الفترة، لا بد من أن نتساءل عن كيف تجاوب من مارسوا التعليم الراديكالي مع قضايا فلسطين، من تهجير واحتلال واستعمار وتدمير وانتصارات واعتصامات ومقاومة وثورات، بالإضافة إلى تتبعهم للحياة اليومية الاجتماعية خلال هذه الأحداث.

البعد الجغرافي للواقع الفلسطيني، بفعل الاحتلال، مرتبط أيضاً بالتعليم الراديكالي. فعندما ننظر للواقع الفلسطيني نجد أننا أمام أمكنة جغرافية متعددة؛ داخل الضفة، غزة، المناطق المحتلة عام ١٩٤٨، الدول العربية وكذلك مناطق الشتات الأبعد. في كل مكان يتواجد فيه فلسطينيون هناك تجارب وممارسات تعلّم راديكالي. الأحداث السياسية – مثل وعد بلفور والنكبة والنكسة – خلقت مناسبات ومجموعات وتجارب تندرج تحت مفهوم التعليم الراديكالي، في أماكن جغرافية مختلفة. على سبيل المثال إحياء يوم الأرض في المناطق المحتلة عام ١٩٤٨ مثّل نشاطا سياسيا اجتماعيا يبحث في التاريخ الكولونيالي، وساعد على فهم إطار عمل هذا التعليم وألقى الضوء على ثراء التعليم الراديكالي في السياق الفلسطيني.

ولفهم التاريخ الاجتماعي والثقافي للتعليم الراديكالي لا بد من مراجعة بعض النصوص التي كُتبت عن التعليم الراديكالي والقراءة للمفكرين الراديكاليين والنظر إلى الأفكار التربوية البداغوجية ليس فقط في فلسطين ولكن في الدول العربية والعالم أجمع. 

التعليم بالعادة مرتبط بالقياس. ولكن فيما يخص التعليم الراديكالي لا يمكن قياس أثره بالطرق التقليدية أو من خلال قياس كفاءة عمل الحركات الوطنية وعمل الأحزاب السياسية. ينظر للتعليم الراديكالي من خلال العمل المجتمعي وتجمعات الشباب والاجتماعيات العفوية البسيطة مثل جَمْعات العائلة يوم الجُمعة والجلسات في الطبيعة، وفي كل موقف يكون فيه الأشخاص في حالة تعلّم، عن ومع بعضهم البعض.

عند تناول البعد الاجتماعي و/أو الاقتصادي لا بد أن نلاحظ تأثير التعليم الراديكالي ومساهمته الكبيرة في التغيير والتحرر الاجتماعي في فلسطين، ومن الضروري نتتبع منظور قضايا حساسة مثل حقوق العمال ونشوء الأنظمة الاقتصادية المناهضة للرأسمالية وما أفرزت من ثورات وحركات اجتماعية. 

وفي نهاية الأمر فأن تناول تأثير التعليم الراديكالي يقربنا من الأعماق ومن الجذور بطريقة أشمل وأثر أطول عمرًا، بعيدًا عن الأهداف السياسية.


الندوة الثانية: تجول في الأرض تمتلكها  التاريخ: ٤ ديسمبر/ كانون الأول ٢٠٢٠ المتحدثون: سامر شريف، تجوال سفر/ فلسطين القدس.  أحمد أبو ارتيمة، مسيرات العودة/ فلسطين غزة.  هزار حجازي، مسيرات العودة/ فلسطين 48.  إدارة الجلسة: سيرين حليلة 

التجوال، المسير، المشي.

كلمات مختلفة لفعل واحد يعبر عن نشاط رئيسي من مكونات الثقافة الفلسطينية، والذي يعرف بلغتنا العامية بـ ’السرّحة‘. 

ولكن للمشي في فلسطين بُعد آخر، بُعد مرتبط بالمقاومة عن طريق استعادة العلاقة مع الأرض، وناسها، وحكاياتها، وعبور التقسيمات والأسلاك والحدود المرسومة بفعل الاحتلال. من هذه الفكرة، وهذه الرغبة، جاء فعل المشي في أجزاء فلسطين المختلفة، كل منطقة لها خصوصيتها مع الاحتلال. فِعل المشي واحد ولكن طُرُقه تختلف نتيجة لما يفرضه الاحتلال من شروط وقيود وحصار.

نَسَج اللقاء القُرب بين غزة وحيفا والقدس وباقي مناطق فلسطين، التي تعمل الغطرسة الاستعمارية على تقسيمها ذهنيًا وجغرافيًا وسياسيًا ولغويًا. الحركة والمسير تلملم ما يعمل الاحتلال على تقسيمه، فـ ’العودة‘ في هذا السياق هي وسيلة تعلّم وفهم. سار اللقاء بين البعد التاريخي لقوانين منع التجوال والحركة – التي سُنّت بعد جريمة النكبة، وأثرها النفسي على الجيل الأول للنكبة، وما ولّدت من خوف وصمت وشلل وانقطاع معرفة للأجيال اللاحقة – سار اللقاء إذًا من قوانين منع التجوال والحركة إلى فعل الحركة والمسير بأشكاله المختلفة كطريقة لمقاومة الصمت والتسكيت الإجباري والخوف. المسير مرافق لحياة الفلسطينيين منذ القِدَم ولكن مع الاحتلال رافقه فعل المقاومة.

ففي غزة سرد لنا أحمد أبو ارتيمه عن مسيرات العودة ودورها في عودة المقاومة الفلسطينية إلى المربع الأول من مقاومة الاحتلال. فبوصلة العودة في هذه المسيرات هو التوجه شمالاً، إلى الداخل، فالمسير يساوي العودة. العودة إلى المقاومة والأرض والجذور والعلاقات مع باقي الأهل في أراضي فلسطين المختلفة.

ذكّرنا أحمد أن الأفكار تولد من رحم الطبيعة، الاشتياق إلى الطبيعة والخَضار – حتى من خلف السياج – حرّك حالة السكون التي يعيشها أهل غزة. الاحتلال يقتل النفس البشرية ولكن أصوات الطبيعة كانت قادرة على بث روح المقاومة. هذه المسيرات أعادت إحياء الأماكن المهجورة في القطاع، مهجورة لقربها من السياج ووجود جنود الاحتلال. قدمت المسيرات حالة جديدة من الاشتباك – اشتباك بالحركة  باتجاه المكان الذي يعيق الحركة، ودبْ الحياة في هذا المكان عن طريق الحضور. أشكال الحضور كانت متنوعة، عائلات تأتي بكل أفرادها للأكل والجلوس والأطفال يلعبون. مهما تعددت الأفعال، فالفعل الجماعي ساعد على كسر سلسلة الخوف، تحويل الخوف من وجودهم في هذه البقعة قرب السياج إلى مواجهتهم بشكل مباشر لجنود الاحتلال. كل هذا ساعد على إحضار المقاومة لدى الأجيال الجديدة بشكل جديد قريب من أفعالهم اليومية، ولكن هذه المرة بالقرب من السياج. 

بالعودة إلى الحركة، لم تُحرِّك المسيرات الخوف فقط، بل حركت الخيال أيضاً، وغذّت القلب والروح. ما وراء السياج هو الأمل وكان لا بد من تغذيته. وصف لنا أحمد المشهد عند السياج بكل تفاصيله، فالناس لم تكن تسير وتتجول على أرجلها فقط وإنما سمحت لأعينها بأن تتجول باتجاه الأمل والبوصلة. العين مفتاح القلب، والقلب ينبض بوعي وطني مشترك، ولكن كل شخص أعطى لنفسه دفة القيادة، وتَحرك كما يشعر، وكان حاكماً لذاته لدرجة أن كل الألقاب ومصدر السُلطة الأحادي ذابوا وسط هذا الزخم الشعبي، فكانت المسيرات مِلكًا لكل شخص. كان ميلاد الفكرة نابع من روح كل فرد، فكسرت هذه المسيرات مُعادلة الموت ببطء داخل السياج، إلى استعادة القدرة على الحياة حول هذا السياج، بل والتمرد عليها.  

أما هزار حجازي من حيفا فذهبت في روايتها إلى الجزء التاريخي من علاقة الفلسطينيين مع التجوال لنفهم ما يحدث حالياً من مسيرات للعودة وأشكال التجول التي تحدث في القرى والمدن الفلسطينية المختلفة. عندما يكون الحاضر نابع من قصص وتاريخ المكان والزمان، يصبح الماضي بوصلتنا للتحرك باتجاه المستقبل.

من قصتها الشخصية في بيت العائلة في عكا بدأت عملية بحث هزار عما حدث لجدتها في حيفا بعد النكبة. قصتها الشخصية كانت المُحرّك للبحث ومعرفة حالة الصمت التي تشكلت عند جدتها أو الجيل الأول للنكبة، فما زالت حالة الفضول عند الجيل الثالث موجودة لمعرفة ما حدث. نحن لا نتوارث القصص فقط ولكن عملية البحث ومعرفة الحقيقة يصبحان أيضا جزءًا من هذا الموروث.

في الأعوام ما بين ١٩٤٨ – ١٩٦٦ كانت حركة الفلسطينيين في الداخل المُحتل تحت إمرة الحاكم العسكري، الذي كان يتحكم بتصاريح التنقل بين المدن والقرى الفلسطينية المحتلة. وفي عام ١٩٥٤ – أي بعد الجريمة بستة سنوات – سنّ الكنيست الإسرائيلي قانون ’منع التسلسل‘ لمنع اللاجئين الفلسطينيين من العودة إلى بيوتهم وأراضيهم. هذه القوانين أحكمت حجب الفلسطيني عن أرضه وبيته وتاريخه وأهله وناسه، وأيضاً أفقدته قدرته على فهم واستيعاب ما حدث، وشكلت عنده بالمقابل حالة من الصمت والخوف والانكسار. قانون ’منع التسلسل‘ من إسمه، أفقد الفلسطيني شرعيته بالعودة، وأعطته لقب ’مُتسلسل‘ أمام نفسه والعالم أجمع، ورافق هذا القانون خضوع الفلسطيني لأوامر الحاكم العسكري بمنع التجول. خلال هذه الفترة الزمنية عمل الاحتلال على تغيير ملامح القرى والمدن المهجّرة، وهدْم البيوت ومحوْ التاريخ المكاني، وهوّد أسماءَها لدرجة أن هذه الأماكن أصبحت غريبة على أهلها، وذلك من أجل تطويع المكان حسب الرواية الصهيونية. وهذا القانون المُسَن وما تبعه من تعليمات للحكام العسكريين لم تقيّد الحركة الجسدية للفلسطينيين فقط وانما انعكست على وجدانهم أيضاً.

مَنْع أهل البلد من التجول في أراضيهم وحصارهم داخل بقعة جغرافية معينة، أسس للعلاقة بين المُستَعمَر والمُستعمِر، وأصبح الفلسطيني في حالة من التطويع للواقع المفروض، وأوجدت شخصية مهزومة بلا جذور، فالتجوال هنا يجمع بين حركة الجسد والوجدان والتي عمل الاحتلال بكل قوانينه وجبروته على تقييدها.

الربط بن حركة الجيل الثالث من النكبة – بالتجوال في أراضيه المختلفة – بالسياق التاريخي لما بعد عام الـ ١٩٤٨ أعاد طرح فكرة لماذا يجب علينا أن نتحرك ونتجول. مسيرات العودة في غزة شكلت شعورًا بأن هذه المسيرات تخصنا في حيفا وأينما كنا، والأرض التي نتجول فيها تخصنا. هذه المسيرات تُحي حالة الانتماء إلى المكان والزمان والرواية، وتكسر حالة الصمت. المسيرات والتجوالات تجدِّل النسيج مع المكان ومع الأجيال المختلفة وتنقل المعرفة وتحرِّك الذاكرة وتعيد الصراع إلى أساسه، فالمسير هو الاستمرارية.

أما سامر الشريف من القدس فشارك تجربته مع مجموعة “تجوال سفر” والتي بدأت ب ١٨ شخصًا عام ٢٠١١ كان لديهم شغف التعرف على جبال وقرى ومناطق فلسطين المختلفة التي درسوها بالمدارس فقط. ولدت الفكرة لتؤكد على أن التعلم رفيق الحياة وأن قدرتنا كبشر على التعلم هي قدرة عضوية نغذيها بالتجول. في التجوال كل متجول مسؤول عن تعلمّه، ويحدث التعلم عن طريق الاحتكاك مع قصص الفلاحين وأهالي المناطق التي يتم التجوال فيها، وتعلُّم اللهجات المختلفة، والتعلم عن ذواتنا وما لا نعرفه عن تاريخنا. قصص التجوال من ’الختايرة‘ تسمح للخيال بأن يحلّق وللعقل بأن يتجوّل ليشكل صورة ذهنية عن المكان. بالنسبة للمتجولين خارطة فلسطين مثل الأحجية، في كل مرة يزورون مكان ويتجولون فيه يتم تركيب جزء من هذه الأحجية.

التجوال يقابله منع التجوال بين المدن والقرى الفلسطينية المختلفة. الطرق في الأذهان – بفعل ما عاشته الأجيال السابقة من صعوبات في التنقل بين حواجز مُهلكة – أصبحت أماكن سيطرة وقهر، وعززت الشرخ بين الأجيال اللاحقة. في “تجوال سفر” تم إعادة تعريف هذه الأماكن لمساحات تجول وتعارف وإعادة الوصل. ويقابل التجوال أيضا مفهوم السياحة، أجمل ما في التجوال أنه يبدأ بدعوة من أحد أهالي المنطقة “تعال تجول ببلدي” ويستضيف المجموعة التي أصبح عددها بحدود الـمائة شخص. في الاستضافة، يُشرع المُستضيف باب بيته وحياته وقصصه بكل صدر رحب. في هذه الضيافة يشارك المتجولون أهل البلد بالأعمال المختلفة، من بناء وحصاد وزراعة، ففي التجوال سفر وألفة وعونة وهو ما لا تقدمه السياحة المرتبطة بالمال والغربة والبرامج المحددة سلفاً. في التجوال يتم التعامل مع الجبال على إنها باب بيت وطريقهم لاكتشافها هي الميرمية والأعشاب البرية. ولأنهم يعرفون الفرق بين القرية والمستوطنة فهم يعرفون كيف يشقون طريقهم، بينما الاحتلال حوّل هذه الجبال لمجرد أماكن سياحية يتم المسير فيها من خلال تطبيقات لا تأخذ بعين الاعتبار المحيط وطبيعته، وتعمل على توجيه المسير باتجاه واحد يلغي قصة المكان، وماذا يحكي الجبل وماذا يَفصل.

رفقة السفر في التجوال هي فعل جماعي ليس فقط بالمشي وإنما التشاركية بالترتيب له وإحضار الوجبات وتناولها خلاله، وأيضا التشارك بتحديد إيقاع المسير، متى نتوقف وكيف نكمل المشي. عزز “تجوال سفر” كنشاط ثقافي فكرة الاعتماد على الذات دون الحاجة إلى ممولين، الناس تدعم بعضها البعض، فأهم مورد في التجوال هو الناس والفعل الأساسي هو المشي. في “تجوال سفر”، السفر يكون بهدف العودة للجذور، من خلال تعلم كيف ندعم أنفسنا ونتشارك ونتعلم عن تاريخنا وقصصنا وأرضنا وذواتنا. 

“تجول في الأرض تمتلكها” هو شعار مجموعة سفر الذي يعيد الصلة بيننا كأفراد وبين الأرض. عندما نتجول في ’الأرض المسلوبة‘ فإننا نمتلك قصصنا معها وذكرياتنا ودعسات أقدامنا تعيد تفكيرنا بعلاقة الإنسان بالطبيعة لنتذكر بأن الطبيعة هي التي تمتلكنا. ولكن في واقع الاحتلال المفروض في فلسطين نحن نمشي في جماعة لنعيد امتلاك ما سُلب منا ونكسر حاجز الخوف ونخلق الشعور بالأمان حتى مع وجود الحواجز الإسرائيلية، فمع الجماعة تأتي القوة والخيار المتاح هو أن نعيد وجودنا في أرضنا وإلا سوف يقوم غيرنا بأخذ المكان.

فالتجوال، أو المسير، أو المشي، هو الفعل الذي يتم خارج حدود الكتب المدرسية، وخارج الحدود السياسية الاستعمارية، وخارج الرواية المُسيطرة والمهيمنة، وخارج حدود الصمت وخارج الخوف، للعودة إلى الأصول والجذور والأرض والتاريخ غير المشوه، وإلى ذواتنا وامتدادنا التاريخي الجمعي. مسيرات العودة والتجوالات هي رد حي على الغطرسة الاستعمارية، والتي شكلت تحدي وطني جمعي بالعودة عن طريق المشي والتجول، وربط الحاضر بما حدث بالماضي، لنعرف كيف نكمل مسيرنا.

الندوة الثالثة: فن الأطفال الراديكالي  التاريخ: ١٩ أذار/ مارس٢٠٢١ المتحدثون: سهيل خوري، ناي إدريس، سلام البندك  إدارة الجلسة: ميسون سكرية 

هل هناك تربية راديكالية للأطفال؟

تقول الميسّرة ميسون سكرية: هناك اعتقاد سائد بأن الراديكالية والأطفال يشكلان تناقضًا لفظيًا، وهذا نابع من الاعتقاد أن الطفولة هي فترة البراءة، هناك قداسة حول الطفولة، وأنه يجب فصل الأطفال عما يجري حولهم في المجتمع وعن مشاكله. هذه وجهة نظر تعتبر إشكالية بشكل عام ولكنها إشكالية أكثر في حالة فلسطين، فالأطفال الفلسطينيون يُعتقلون، ويوضعون في زنازين منفردة كما الكبار. بين أعوام ٢٠٠٠ و٢٠٢٠ تم اعتقال حوالي عشرة آلاف طفل فلسطيني، مائة وخمسين منهم اعتقلوا العام الماضي فقط، عشرون منهم في زنازين منفردة. هم يُهجّرون كما الكبار، يشاهدون الاحتلال يهدم منازلهم ومدارسهم، خمسمائة طفل فلسطيني هُجّروا في الضفة والقدس فقط العام الماضي. كما أهاليهم، هم في سجن كبير في غزة، أو في حالة من النزوح المستمر بالنسبة لفلسطينيي سوريا، أو محرومون من حقوقهم البسيطة في لبنان. 

لذلك السؤال الحقيقي الذي يجب طرحه هو: ماذا يحدث إذا استبعدنا الأطفال عن التربية الراديكالية؟

هل هذا الاستبعاد سيحميهم من الظلم وعدم المساواة؟ هل سيحميهم من الاحتلال والتهجير القسري المستمر؟

هذه الندوة تطرح ثلاثة تجارب تربوية راديكالية في مجال الفن في الواقع الفلسطيني.

بدأ الحديث الأستاذ سهيل خوري حيث ذكر أن “علينا أن نحترم عقل الطفل، وهذا يحتم علينا موسيقيا طرح عمل جدّي حقيقي بدءًا من اختيار كلمات الأغاني، بحيث تتماشى مع الطفل، وأن تحمل وتعكس مضامين ومفاهيم مناسبة للطفل. كما أننا ارتأينا أنه من المهم أن تكون الأغاني بصوت الأطفال، لأن ذلك يطور علاقة مختلفة بين الطفل والأغنية، وأن تكون الموسيقى مبنية على منابع الموسيقى العربية من حيث الآلة الموسيقية كالعود والناي، ومن حيث البنية الموسيقية والمقامات العربية. كذلك كان العمل الفني يتم بالتعاون مع عازفين محترفين كأمثال أحمد الخطيب ويوسف حبيش وريم عطاري، لأن الطفل لديه ذائقة موسيقية وعلينا الاهتمام بالمنتج الموسيقي الذي نقدمه له شكلًا ومضمونًا.” 

في أحد تجارب العمل مع الأطفال، قام فريق العمل برفقة خوري على القيام بعمل مسرحي موسيقي بعنوان “فوانيس” عن قصة “القنديل الصغير” لـغسان كنفاني. كان العمل مبني على فكرة العمل الجماعي، والإنتاج الكبير، فدام العمل على تدريب الأطفال على أداء المسرحية الغنائية حوالي العام ونصف العام، من ورشات تدريبية جماعية وفردية ومخيمات صيفية. أضاف ذلك قيمة أخرى، أن الأطفال واليافعين المشاركين من خلال هذا العمل تعلّموا وصقلوا مواهبهم من خلال المدربين ومن خلال عملهم الجماعي مع بعضهم البعض بشكل احترافي.

ونتج عن هذه التجربة مسرحية حقيقية، كانت أول مسرحية غنائية وطنية متكاملة، برفقة أوركسترا، في فلسطين.

أن ما نتج عن هذا العمل هو خبرة جماعية لكل من شاركوا فيه، الكثير منهم أصبحوا فنانين وموسيقيين ومغنيين. أن هذا العمل بالإضافة لتجربة المعهد الوطني للموسيقى ساعد على صقل شخصيات الأطفال، وطرح مفاهيم مختلفة في تفكيرهم من خلال العمل الجماعي. وكذلك الاهتمام بموضوع الأوركسترا، فالأطفال يخوضون تجربة التعلم ضمن مجموعة منذ الصغر، لإنجاز عمل جماعي مميز يكتسب فيها الطفل خبرات مثل الدقة بالوقت والدقة بالأداء. أن هذه التجارب تترك أثرًا على حياة الطفل بشكل تربوي أصيل وحقيقي، الأوركسترا ليست فقط عمل جماعي في وقت العزف، بل هي عمل جماعي متراكم، حتى نتمكن من إنجاز هذا المستوى الاحترافي من أوركسترا الطفل يخوض الأطفال تجارب جماعية، وورشات، ومخيمات صيفية، وشتوية، يعيشون فيها مع بعض لفترات طويلة، ما نستمع له إذًا هو خلاصة هذه الرحلة التعلّمية الجماعية. 

الأوركسترا الفلسطينية تضم أطفال وشباب فلسطيني من كل أنحاء العالم حسب أماكن تواجدهم بالشتات أو في فلسطين، يجتمعون مع بعضهم لإنتاج مشروع سنوي، يعزفون مع بعضهم البعض، يتدربون سويا بشكل مكثف، وبالنهاية يقومون بجولة عروض عالمية بشكل احترافي وجمالي عالي. 

ومن بعد ذلك أخبرتنا الباحثة ناي إدريس عن تجربتها في قراءة غسان كنفاني مع أطفال المخيمات الفلسطينية، داخل إطار مؤسسة غسان كنفاني. بدأت ناي الحديث عن تجربة بحثها في مجال التربية الجذرية للأطفال من خلال قراءة أدب المقاومة.

تم تأسيس مؤسسة غسان كنفاني سنة 1974، بعد اغتيال الكاتب الشهيد غسان كنفاني على يد الموساد في 1972، تبدأ المؤسسة بالعمل مع الأطفال من الحضانة، وحتى يصبح عمر الطفل 18 سنة. 

تقول ناي “أن الأطفال لديهم القدرة على تحدي الحقائق المرسومة سلفا، ومن السهل عليهم استخدام الخيال والإبداع لتغيير الواقع من حولهم. في مؤسسة غسان كنفاني نعمل على تربية بديلة من خلال أنشطة متعددة، تضم جلسات قراءة جماعية، وجلسات نقاشية.”

تقوم المؤسسة بالعديد من المبادرات الجذرية التربوية، في سبيل مواجهة إشكالية المناهج والمنظومة المدرسية في المخيمات، حيث أن المناهج كانت تغلق الأفق الفكري، والانتماء التاريخي للأطفال. فمن جهة هناك غياب الكتب التاريخية، الموجهة للطفل، التي تتحدث عن فلسطين، ومن جهة أخرى أسلوب التعليم النظامي مبني على أساس الحفظ أكثر من التفكير الخلاق أو التفكير النقدي، من هنا تأتي فكرة أهمية جلسات القراءة الجماعية، والجلسات النقاشية، بحيث تستعرض الجلسات نصوص أدبية جذرية، وتتيح المجال للنقاش والتفكير النقدي كجزء من التربية الجذرية. أضافت ناي أن الأطفال يتعلمون القراءة المجازية في المركز، وكيفية ملاحظة الرموز والدلالات، وهذا ما يساعدهم بتشكيل فكر متحرر وشخصي بمواضيع مختلفة تخص الواقع وفلسطين والمستقبل. ومن الأشياء التي يهتم بها المركز هو فكرة اغتراب الجيل الجديد عن إمكانية التأثير بالقضية الفلسطينية، وعن المفاهيم المسبقة للمقاومة الجذرية والقضية الفلسطينية، وإن المفاهيم تستبعد طاقات الأطفال والفتيات والفتيان من إمكانية التأثير بالمقاومة والإنتاج الفكري الراديكالي من أجل فلسطين. 

وهنا نرى أهمية التفكير الجذري والثوري بشكل نقدي، لأن المفاهيم الثورية النضالية تأتي بشكل نهائي للطفل، ومطلوب من الطفل أن يرثها ويكررها مثلما هي من دون أي علاقة قائمة بين الطفل وهذه المفاهيم، وهذا عادة يعزز الاغتراب عن القضية عند الطفل، وقد يكون السبب برفض القضية وعدم الإيمان بها من أساسها.

في المركز، الأطفال لا تتعلم عن القضية والتاريخ، ولكن كذلك يشعرون بأنهم جزء منها، وجزء من عملية تغييرها، أو توسيعها من منطلق الالتزام لا الإلزام، ولهذا ففي جلسات القراءة الجماعية، القراء ليسوا متلقين بل هم مشاركين.

القراء مشاركين في بناء موقف خاص بهم عن القضية، وعن الواقع المحيط بهم، فالنص لا يحمل أفكارًا نهائية يستقبلها الأطفال بشكل مفروغ منه، وإنما يشكل النص مفتاحًا للتفكّر وتشكيل التوجّه بشكل ذاتي ولبناء ارتباط مع المفردات المكوِّنة للنص. 

ومن بعد ذلك حدثتنا الناشطة التربوية سلام البندك عن مبادرتها “فن وسلام”، التي تعمل على خلق بيئة تعلّمية تشاركية بديلة، مبنية على الاستكشاف وتفعيل الحواس بحيث تساعد الأطفال على إدراك دورهم بالحياة بطريقة عضوية وطبيعية بعيدة عن الأُطُر المحدّدة لشخصية الطفل وحياته.

قالت البندك “إن أطفالنا تكبر ببيئة مليئة بالنزاعات والخوف والتلوث، ومن هنا، في مبادرتنا، ننتهج مسار تعلّمي بيئي فني، يعتمد على الزراعة وعلاقة بالطبيعة مبنية على أساس الفضول والاستكشاف. والمبادرة بشكل عام هي مكملة للمراكز الثقافية والمعاهد الفنية المستقلة.”

تعمل المبادرة على خلق مساحة حرة ومريحة، خالية من المنافسة والمقارنة، لا على أساس العمر ولا الجنس، وهذا ما يفتح بشكل تلقائي مجالًا للتواصل والعلاقات المبنية على المشاركة والتعبير عن النفس بأريحية. لا تسعى هذه المساحة لاستخدام الفن بشكل محترف، ولكن كلغة أو أداة للتعبير من خلالها، وخلق علاقة حسية استكشافية وجمالية مع المحيط والبيئة، فالمصادر المعرفية في “فن وسلام” تكون مستمدة من الحياة والتجارب التي نعيشها أكثر من الكتب.

على سبيل المثال يتعلم الأطفال من خلال خوض تجارب مع مزارعين، من خلال أنشطة مختلفة مثل الحصاد والطبخ، حيث تعزز هذه الأنشطة علاقة الطفل مع الواقع والعالم الحقيقي. وكذلك توضح هذه التجربة للطفل أنه من الممكن للتعلم أن يكون ممتعاً ومشوقاً، وأن يدرك بأن العالم من حولنا يتأثر بنا كما يؤثر بنا. 

مثال آخر، هناك ورشات مختلفة مع الأطفال والأهالي، يلاحِظ الأهالي في هذه الورشات أطفالهم، وكيف يتفاعلون مع الاشياء المحيطة، من رسم أو عزف أو زراعة. في هذه الورشات يكون التعلم تشاركيًا سويًا عن الأرض والأشجار والطبيعة، وهذا ما ولّد مشاريع فنية وتعلّمية مرتبطة بإعادة التدوير والزراعة البيئية ضمن المبادرة.

يتعرف الأطفال في هذه الورشات على أدوار العمل المختلفة، كـطباخين ومزارعين ونجارين ومهندسين ومصممين وفنانين، وكل هذا ممكن ويحدث خارج الإطار المدرسي وخارج الغرف المغلقة. كما يتعرف الأطفال على أرضهم، وكيفية الحفاظ على الطبيعة، فيدركون فكريا وعاطفيا صمود المزارع الفلسطيني، ويقومون بعملية إعادة التدوير منطلقين من قناعاتهم بأهمية ذلك. هذا كله يعزز الهوية لدى الطفل، الهوية المبنية على أساس العلاقة مع المحيط والمكان والناس. 

وشاركت “سلام” كيف تعلمت الكثير من هذه التجربة، تعلمت أهمية خوض الحياة بشيء من المغامرة والمرح والاستمتاع، وأن تحتفل بالفضول والرغبة بالتعلم، وعن كيفية الخروج عن المنطقي والمألوف، وتعلمت من الأطفال أهمية الاستماع لهم، لتتمكن من تيسير تجربتهم التعلمية الذاتية. تعلمت منهم أنه لنصنع تغيير حقيقي في واقعنا علينا التفكير كلنا معا، أطفال وشباب وبالغين. لأننا بذلك نجمع بين الخبرة والأمل والمستقبل. 

وأضاف سهيل خوري بالنهاية أن المدرسة كمؤسسة لا تبني تجربتها التعليمية على أساس التجربة الجماعية، ولا تفتح المجال للطفل لخوض تجارب تعلّمية خاصة، وأن هذه هي المشكلة. ولذلك فبجانب هذا الكم من التجارب والمبادرات الراديكالية، لابد من خلق تغيير نوعي في المنظومة التعليمية والتربوية العامة، بحيث يحدث تغيير في المناهج الفلسطينية، لأننا بالنهاية نعلم بأن الكم الأكبر من أطفالنا يعيش تجربته التعليمية داخل ذلك إطار هذه المنظومة.

الندوة الرابعة: أدب الأطفال الراديكالي  التاريخ: ٢ نيسان/ أبريل ٢٠٢١ المتحدثون: نبيلة إسبنيولي/ مركز الطّفولة – الندوةالناصرة زينة معاصري / دار الفتى العربي رناد القبج/مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي   إدارة الجلسة: سيرين حليلة 

ماذا نعني بأدب الأطفال الراديكالي؟

تعرِّف سيرين حليلة، ميسرة الجلسة، أدب الأطفال الراديكالي بأنه الأدب الذي يلعب فيه الأطفال دورًا مركزيًا في النضال الجماعي، أدب يصورهم على أنهم يمتلكون القوة والعزيمة والإرادة ويعطيهم مساحة لإسماع أصواتهم.

في التجربة الفلسطينية في أدب الأطفال الراديكالي، هناك عدد كبير من المؤسسات والكتّاب والناشرين والمبادرات، ومن هذه المبادرات نستعرض في هذه الجلسة تجربة ثلاثة مؤسسات تركت أثرًا وبصمة على أدب الأطفال الفلسطيني الحديث وعلى الأطفال أنفسهم، في الوطن كانوا أم في الشتات: دار الفتى العربي – بيروت، مؤسسة تامر – القدس/رام الله/غزة ومركز الطفولة – الناصرة.

تحدثت الباحثة زينة معاصري عن تجربة دار الفتى العربي منذ انطلاقها في سنة 1974 وكيف أنها انطلقت من ضرورة إيجاد تعليم بديل يتناسب مع الحالة الثورية في تلك المرحلة على الصعيد الفلسطيني والعربي والعالمي تحت إطار مركز التخطيط الفلسطيني، حيث اتضح للجنة التعليم في المركز، في حينها، والتي كانت تهتم بقضايا أساسية في التربية، أن هناك انفصال معرفي عن الواقع الثوري والفلسطيني من ناحية التعليم في مدارس الأونروا وبالأخص لجيل من الأطفال الذي يتربى في مخيمات اللجوء، كما لاحظت اللجنة أن المناهج بشكل عام في العالم العربي كانت منفصلة عن الواقع الاجتماعي للأطفال من حيث المضامين والطرح. فجاءت دار الفتى العربي كبديل راديكالي لهذا التعليم لإنشاء أدب يخاطب الأطفال بالعالم العربي بغض النظر عن واقعهم الطبقي أو المكاني، يخاطبهم عن التراث الثقافي وعن قضايا وثورات عالمية وعن قضايا تتعلق بالمساواة والعدالة الاجتماعية لتعزيز الوعي بنضال الشعب الفلسطيني ونضالات حياتية أخرى في العالم العربي. استقطبت الدار فنانين وفنانات من فلسطين ومن شتى أقطار العالم العربي وتولت لجنة التحرير برئاسة الباحث الفلسطيني إحسان عباس تحديد خطة تربوية شاملة لدار النشر، وبناءًا عليه تم تقسيم المطبوعات إلى عدة سلاسل مختلفة، مثلا سلسلة قوس قزح للأطفال والمستقبل للأطفال والأفق الجديد بالإضافة لسلسلة من حكايات الشعوب. وكان المشرف الفني في الفترة التأسيسية لدار الفتى الفنان الفلسطيني كمال بُلاطة. 

أضافت معاصري بأن مشروع الدار كان مشروع ريادي وطلائعي بشكل واضح، فقد كان من أوائل المشاريع التي ركزت على أدب الأطفال وابتعدت بشكل جذري عن كتب الأطفال السائدة باللغة العربية والتي كان معظمها مترجمة من أدب الأطفال الغربي مما أدى إلى فصل وشرخ بين الطفل والمجتمع العربي من ناحية وتلك القصص والرسومات التي يجدها في الكتب من ناحية أخرى. وبهذا السياق كان دار الفتى العربي يهدف إلى تغيير أدب الأطفال ليصبح عربيًا من الناحية المعرفية ومن الناحية الجمالية لغرس خيال ووعي ثوري وهوية عربية في ذهن الأطفال. 

ومن بعد المرحلة التأسيسية استلم الفنان المصري محي الدين اللباد الإشراف الفني لتمضي الدار بمشروع تقديم جمالية جديدة تربط الطفل بعلاقاته اليومية والحياتية مختلفة عن ما هو شائع وطاغي على أدب الأطفال من الأدب الأجنبي البرجوازي. تمحور ذلك بإطلاق الدار كتب جريئة تطرقت لقضايا سياسية وخلافية ومفاهيم معقدة مثل “كتاب البيت” قصة زكريا تامر ورسوم محي الدين اللباد، وهو كتاب يفسر لطفل لا يتعدى عمره ال6 سنوات ما معنى الوطن وكيف أن السبيل الوحيد لاسترجاع الوطن هو المقاومة، وكتب أخرى طرحت مفاهيم كالحرية مثل كتاب “بالون ريما” رسوم يوسف عبدلكي وقصة دلال حاتم، أو مفهوم الانتماء والاختلاف بكتاب “غراب بالألوان” كتابة ورسوم محي الدين اللباد وعن مفهوم الأمل بكتاب “حياة شجرة” كتابة ورسوم حلمي التوني أو مفهوم التضامن في كتاب “عودة الطائر” للكاتب معين بسيسو ورسوم الفنان المصري حجازي. 

وفي النهاية ركزت الباحثة زينه بأن دار الفتى ضمت عددًا من الفنانين العرب وهذا ما جعل الدار غنية جماليًا متعددة في أساليبها الفنية وتعبيراتها مثل كمال بلاطة ونوال عبود طرابلسي والفنان السوري نذير نبعة والفنان السوري يوسف عبدلكي والفنان المصري محي الدين اللباد وكذلك أحمد حجازي ومحمود فهمي وعدلي رزق الله، بالإضافة لحلمي التوني، وقد أغنت تجربتهم كأفراد في مجال الصحافة والكاريكاتير تجربتهم الجماعية داخل الدار. ففي خلال السنة التأسيسية فقط تم إنتاج 67 مطبوعة وهذا ما يدل على الاندفاع والانتماء لمشروع وفكرة الدار، وأشارت الباحثة إلى أن انطلاق الدار من بيروت كان له أثر مهم، حيث أنها كانت ملتقى للفنانين ومركزا للنشر باللغة العربية بالإضافة إلى احتضانها لأحد أهم معارض الكتاب العربية “معرض الكتاب العربي.” 

كما تحدثت مديرة مؤسسة تامر، رناد القبج، عن تجربتهم في النشر وكيف أنه لا يصح فصل النشر عن المؤسسة. فقد انطلقت مؤسسة تامر خلال الانتفاضة الأولى في عام 1989 في فترة الإغلاقات المستمرة والطويلة المفروضة من الاحتلال على المدارس والجامعات، وفي ظل حركة التعليم الشعبي قام عدد من الناشطين في الحركة بتأسيس هذه المؤسسة حيث كان من ضمنهم المعلم منير فاشه. رأى هؤلاء الناشطين الحاجة لوجود مؤسسة تساعد المجتمع الفلسطيني على تطوير بدائل تعليم وتعلم بعيدة عن المدرسة وكانت الفكرة أن التعلم يمكن حدوثه في أي زمان ومكان وأن التعلم جزء من سياق الحياة اليومية. من هذا المنطلق بدأ برنامج تشجيع القراءة والكتابة والتعبير عند الأطفال والفتيان والفتيات سنة 1992 ولا يزال مستمرا إلى اليوم والذي يشمل ضمن أنشطته حملة تشجيع القراءة في المجتمع الفلسطيني. وكمؤسسة تعمل مع الأطفال بشكل رئيسي يوجد لدى المؤسسة مساحة للنشر تحت اسم “كتابي الأول.” إنطلقت تجربة “كتابي الأول” سنة 1996 وتحتفل المؤسسة هذا العام على مرور 25 سنة على هذه التجربة الملهمة التي تعكس الواقع الفلسطيني بمضامين يكتبها الأطفال. مثلًا خلال فترة الانتفاضة الثانية بين 2000 ل 2005 كانت الانتفاضة حاضرة في كتابات الأطفال بمفاهيم كالعدوان والحصار وحظر التجوال، كما تعكس أيضا مواضيع أخرى مثل حب شجرة الزيتون أو الشهداء وهذا ما يوضح لنا وعي الطفل بمحيطه وبالواقع الذي يطرأ على المجتمع ككل. فبرنامج “كتابي الأول” يعني الكتابة بعيدًا عن المعلم وبعيدًا عن تدخل الأهل، بالتالي الكتابة هي فعلا مرتبطًا بمكنون الطفل وتجربته الذاتية، وتعكس صورة عن الشأن العام من محل إنساني ولا شك أن هذه التجربة الحياتية وتجربة الكتابة تدخل في وعيهم وبعلاقتهم مع محيطهم ومقدرتهم على التواصل والتعبير وبناء علاقة مع اللغة كأداة تعبيرية. ولدى المؤسسة مساحة أخرى وهي “يراعات” والتي هي تجربة انطلقت بالـ 1996 ولازالت مستمرة إلى الآن. “يراعات” هي مساحة مختصة بنشر المنشورات والصور الفوتوغرافية والرسومات والنصوص الأدبية والنقدية والتحليلية لقراءات أو أعمال فنية للفتيان والفتيات أنفسهم، وان هذه التجربة انعكست بدورها على العديد من المنخرطين في هذا المجال والذين لهم حضور في المشهد الثقافي الفلسطيني أو العربي حاليًا.

أما المساحة الثالثة والتي أضاءت الضوء عليها القبج ألا وهي مساحة التاريخ الشفوي أو القارة الصغيرة التي ترتبط بتجربة الشباب وتجربة الأطفال، حيث بدأ الاهتمام بهذا الموضوع من أهمية وجوب وجود رواية فلسطينية عن كل شيء في محيطنا سواء في الزراعة أو المدن أو الموروث الثقافي يعزز هذه الرواية في ذهن الشباب. لذلك يعمل المشروع مع مجموعات شبابية في مسارات متعددة في البحث والتوثيق بمواضيع مختلفة، مثلا خط سكة الحديد ومن أين كان يمر، وفي مثال آخر بدأت المجموعة بالبحث بمفردات مرتبطة بزراعة الزيتون ومواسم القطاف وما إلى ذلك، إلى أن أنتجوا قاموس حولها. ويرافق المجموعات الشبابية باحث يدعم البحث ويساعد المجموعة على إيجاد أسئلتها ومسار بحثها حيث أن الانخراط في هذه التجربة يعزز الارتباط مع الوطن والمكان منطلقين من تجربتهم الذاتية العملية. 

أما السيدة نبيلة اسبانيولي، مديرة مركز الطفولة، فبدأت كلامها بالتأكيد على الربط بين النشر والعمل وأن مركز الطفولة يعمل على نهج شمولي تكاملي تحرري مرتبط بالطفل. وجود المركز في الناصرة ساعد على أن تكون نقطة الانطلاق الأولى مستمدة من الشعور بالتهديد على الهوية العربية في مواجهة الهيمنة الثقافية التي تحاول المؤسسات الإسرائيلية فرضها على أطفال فلسطين، فكان لابد من العودة إلى الجذور ليس من منطلق الحفظ فقط، وإنما من منطلق الشعور بالانتماء وهذا ما جعل العلاقة مع الموروث الثقافي مبنية على علاقة نقدية يتم من خلالها تفكيك الموروث وإعادة إنتاجه بما يتناسب مع توجهات ومبادئ المركز الأصيلة. 

من الشائع أن تكون ردة الفعل للغزو الثقافي هو التسجيل والأرشفة لحفظ الإرث، وعلى الرغم من أهمية التوثيق إلا أن ذلك لا يحفظ الهوية المعاصرة، لأن الهوية المعاصرة وإن كانت تنبت من الجذور إلا إنها تتجدد دائما بما يتلاءم مع احتياجات المجتمع. ومن هنا نَبَعت الحاجة لدعم الجذور وتجديدها بحيث أصبح الهدف الاستراتيجي تطوير وتعميم نهج نسوي شمولي تكاملي تحرري في مجال الطفولة المبكرة والمرأة من أجل التكافل المجتمعي. ومن المهم الإشارة إلى أن مركز الطفولة هو مؤسسة تابعة لـ “مؤسسة حضانات الناصرة” التي بدأت بالعمل في سنة 1984.

وأضافت اسبانيولي بأن خلال البحث عن الهوية وبلورتها كان لابد من البدء بتفكيك مفهوم الهوية للتعرف على مركباتها، فكانت التجارب الحياتية الأولى هي المنطلق كتجاربنا مع البيئة ومحتوياتها، أكلاتنا وموسيقانا ومبانينا والنباتات والأصوات والروائح المحيطة بحيث تشكل جميعها جزءًا أساسيًا من هويتنا، مثلا أن علاقتنا كفلسطينيين بنبتة الزعتر مختلفة عمن ليس فلسطيني، فالتجارب الحياتية كلها مؤسِّسة ومؤثـِّرة بالهوية.

من هنا انطلق كتاب “يومياتي في عامي الأول” مبنيًا على نهج الأصالة والتحديث. في هذا الكتاب تم تجميع الموروث الثقافي للطفولة المبكرة في السنة الأولى. كمثال عن التحديث، الأب في الموروث الشعبي لا علاقة له بتربية الطفل في أعوامه الأولى، ولكن مع التوجه النسوي تم إعادة كتابة بعض الأغاني لتتواءم مع الأب، مثلا “نياله يا نياله هالطفل الشايف حاله بيو يهزلّو السرير وامّو تقلّو مكيغالو” وهكذا تم إدخال دور الأب في العملية التربوية للطفل في الأعوام الأولى.

ومن نفس المنطلق لم تتوفر كتب مرتبطة بالأكل للطفل باللغة العربية، فكان كتاب “ما أحلى أكلاتي” مبني على حدّاواية تراثية عن الأكلات الفلسطينية كُتب على نسقها مثلا “سعدة سعدة السعداني شوفيني ما أحلاني صرت أقعد واشرب الحليب من فنجاني.” 

وكذلك العديد من الكتب ككتاب “طيارة حرامية”، وكتاب “التربية الجنسية في الطفولة المبكرة” وكتاب “رزنامتي” وكتاب “من النقب لبيسان” والعديد من الكتب الأخرى. 

أما سلسلة الكتب الجديدة التي يعمل عليها المركز الآن فهي بعنوان “قرانا الباقية”. تتحدث السلسلة عن القرى المهجرة قبل عام 1948، فهذه السلسلة هي محاولة لربط الأطفال عاطفيًا مع تاريخنا وقرانا المهجّرة وحتى يكون للأطفال مفاهيمهم ورؤاهم الخاصة عن واقعنا.

وأضافت السيدة نبيلة أنه علينا التركيز على التفاعل مع الطفل وأهمية استقلاليته والحوار مع الطفل ليتمكن من بلورة هويته الذاتية، فمثل أي موضوع آخر، هناك دور للراشد كميسر في تعلم الطفل، وهذا ينطبق على الهوية والتربية السياسية. مسؤوليتنا تجاه أطفالنا ومستقبلهم هو أن نفتح معهم هذا الحيز للنقاش والتعبير، حيث أنه ليست الفكرة فكرة نشر للأطفال، الفكرة والقضية هي منهجية العمل التي تعزز وتدعم الطفل في تكوين مفاهيمه. ما نكتبه يفتح مجال للحوار والاسئلة، مثلا في كل نص تبدأ اسبانيولي بقول “كان ياما كان في قديم الزمان ومش من زمان كتير، قبل الـ 48” من الممكن أن تثير هذه الجملة أسئلة عند الطفل عن ما حدث قبل 1948 أو عندما نحكي عن تفاصيل معينة أو أسماء عائلات في بعض القرى، تحاول اسبانيولي بناء هذه القرية في مخيلة الطفل. ولكن الأسئلة والفضول وبلورة الهوية والمفاهيم هي رحلة الطفل وحده وليست رحلة أي شخص آخر، القصة تفتح إمكانية المعرفة وأسئلة خاصة بالطفل حسب سياقه.

الندوة الخامسة: الانتفاضة الأولى، التربية الشعبية ودور المرأة  التاريخ: الجمعة ٢١ أيار / مايو ٢٠٢١ المتحدثون: اصلاح جاد، جميلة شنان، رمزي أبو رضوان   إدارة الجلسة: ميسون سكرية 

استهلت مُيسّرة الجلسة، ميسون سكرية، كلامها بالحديث عن بروز التعليم الشعبي كنقطة تحول في نظرة الفلسطينيين للتعليم، كأداة ومركز للتحرّر. وتزامنا مع ما يعيشه الفلسطينيون الآن من انتفاضة ثالثة مستمرة، يدركون من خلالها أن الحراك الشعبي والهتافات والأغاني والمظاهرات والرقصات والخطابات، تمثل تعليمًا غير رسميًا يؤدي إلى تغييرات جذرية في الخيال السياسي، وتصنع لغة جديدة تسمي الأمور بأسمائها.

وتناولت الميسرة بعدها كيف كانت انتفاضة عام 1987 بمثابة انتفاضة على الأعراف الاجتماعية وخاصة بما يتعلق بدور المرأة، لذا فإن الانتفاضة الحالية تشكل استمرارًا لما تم تحقيقه من قَبل وتذكيرًا بأن المأسسة أو ’أنجزة‘ (NGOization) الحركة النسوية – أي تحويلها من حركة إلى منظمات. ولكن هذه المأسسة التي بدأت خلال الانتفاضة الأولى – لم تتمكن من إبعاد المرأة الفلسطينية عن نضالها الوطني، وها نحن نرى النساء اليوم يتصدّرن المظاهرات والهتافات والحراك الشعبي بكل أشكاله، والتي ربما تكون أقرب لانتفاضة ضد مأسسة أو أنجزة الحركة النسوية، من كونها انتفاضة ضد الأعراف الاجتماعية.

لحق ذلك الحديث عن الأوجه الراديكالية الأخرى للانتفاضة الأولى، وتحديدًا الدور المركزي الذي لعبه الأطفال في مواجهة الاحتلال والدور التربوي الراديكالي الذي لعبته الانتفاضة ضد الإقصاء السياسي وتهميش الأطفال، بحيث كان الأطفال في طليعة المواجهات مع الاحتلال. وهو ما يثير أسئلة كثيرة حول خطاب حماية الأطفال وعزلهم عن النضال واعتبارهم مخلوقات عاجزة.

وفي الفقرة الثانية من الجلسة، تحدثت الدكتورة إصلاح جاد عن دور النساء في انتفاضة عام 1987، وكيف أن النساء في حينها كنّ منتميات لتنظيمات سياسية يقُمن من خلالها بدور هائل، وهو ما شكل رافعة لدور النساء في الانتفاضة، مشيرة إلى دور الناشطات المستمر بجمع التبرعات وتنظيم البازارات التي تم من خلالها الأعمال اليدوية للأسرى والمنتجات المنزلية، وهو ما سمح بتمويل العديد من الأنشطة المختلفة. كذلك، تحدثت عن دور معلمات رياض الأطفال اللاتي كان لديهن مخزونًا كبيرًا من الأغاني الوطنية التي زرعت في ذهن الأطفال حب الوطن والانتماء.
لقد وسعت الانتفاضة هذا الدور النسوي بشكل كبير، دفعت بالعديد من المبادرات النسوية المبدعة، مثل تشكيل لجان لحماية وتوثيق الممتلكات العامة، في الحالات التي كان الاحتلال يكسر أقفال المحال التجارية ويفتحها عنوة خلال الإضرابات العامة. بالإضافة لما سبق، أشارت المتحدثة إلى مساهمة النساء في إيصال المؤن للأماكن المحاصرة أو المستهدفة بالعقاب الجماعي. مثلًا، في بلدة بيرزيت، كانوا أهالي البلدة يدحرجون أكياس المؤن على المنحدر نحو مخيم الجلزون، فتصل المؤن للناس بفعل الجاذبية الأرضية والتعاون.

وانتقلت المتحدثة للحديث عن الدور العملاق للنساء في التعليم الشعبي، حيث نجحت تجربة التعليم الشعبي وعوضت الطلاب عمّا فقدوه خلال فترة إغلاق المدارس أو مؤسسات التعليم الرسمية. كما أشارت إلى أن الاحتلال جرم التعليم الشعبي، حيث أنّه عمل على تفتيش الأطفال بحثًا عن الكتب والدفاتر، وصادروا منهم كتب المدرسة، وهو مثال واضح على الإرهاب في حق الأطفال والأهالي لإيقاف عملية التعليم الشعبي. كما ونجحت النساء في تحويل حدائق المنازل الصغيرة إلى حواكير ومزارع منزلية لإنتاج الخضار والفاكهة، إلى جانب تشكيل لجان للإغاثة الزراعية ساهمت باستصلاح الآبار وتنقيتها لتصبح صالحة للشرب. تشير إصلاح جاد إلى أنّه وفي خضم هذا الحراك كلّه، فلم يكن هناك أي فوارق بين الشباب والفتيات تجسدت بأشكال العمل المشترك المستمر سواءً في المجال التعليمي أو الزراعي أو الإغاثي أو الاقتصادي أو حتى الفدائي.

بالإضافة لذلك، شاركت النساء في المظاهرات والمواجهات بشكل يومي، وأحضرت الأمهات أطفالهن للتظاهر، ليكون الأطفال شركاء في المظاهرات والمواجهات، لتصبح المظاهرات مساحة تربوية حقيقية للأطفال يتعلمون فيها القيم الوطنية والشعارات والأغاني والأهازيج.

واختتمت المتحدثة بالإشارة إلى أنّ النضال خلال الانتفاضة كان حيزًا جامعًا لكل الطبقات والشرائح، وهو ما يعيد تجسيد ذاته فيما نراه في الانتفاضة الحالية. حيث أنها، الانتفاضة، جمعت الناس على الرغم من اختلاف منابتهم وخلفياتهم وانتماءاتهم في لحمة اجتماعية قوية على امتداد الوطن من غزة إلى أريحا ومن الناقورة إلى النقب في ثورة مبدعة بأشكال متعددة.

كما تحدثت الباحثة والمعلمة جميلة شنان عن الانتفاضة الأولى وعن جبهات المواجه المختلفة كالمواجهة المباشرة والاشتباك مع العدو وكذلك المواجهة غير المباشرة الذي تمثلت بالدعم المجتمعي والمساندة في مواجهة العقوبات الجماعية أو الفردية كالحصارات أو الاعتقالات، مشيرة إلا أن الانخراط في أعمال الانتفاضة لم يكن يحتّم الانخراط في الأحزاب أو التنظيمات السياسية.

وركزت المتحدثة إلى أن التعليم الشعبي يعتبر واحدًا من أكثر التجارب راديكالية لأنه تعليم من الناس إلى الناس. حيث أنه كان تعليمًا سياقيًا ولم يكن تعليمًا مسبق الصنع، كانت عملية تحرك وتحرر كلي من مؤسسة التعليم، كان تعليمًا مختلفًا بشكل جذري من حيث المضمون والشكل والناس. في الأيام العصيبة يطرح هذا النوع من التعليم حلولًا إبداعية، كتعليم اللغة عن طريق الأناشيد الوطنية – يغني الأطفال النشيد ويحفظوه ويحللوه ويناقشوه ويكتبوه ويقرأوه ويكون هناك مناقشات على صعيد المضمون وعلى صعيد اللغة وعلاقتها بنا وكذلك كان تعليم التاريخ والجغرافيا. على سبيل المثال، في كوبر، قام الناشطون بالتعليم الشعبي بالدق على بيوت أهل البلد ليخبروهم بأنهم سوف يبدأون تعليمًا شعبيًا، ويدعوهم ليرسلوا أطفالهم. في البداية لم يكن هناك إقبال لعدة أسباب، الخوف على الأطفال من قوات الاحتلال المنتشرة وأيضًا حاجة بعض الأهالى لأولادهم لمساعدتهم في أعمال الزراعة، فكان الحل بنقل التعليم إلى الأرض. وبنقل التعليم إلى الأرض تمكنت اللجان من مساعدة الأهالي في الزراعة وتحول هذا الفعل إلى درس في الأرض. التعليم الشعبي ليس تعليمًا جامدًا عن التاريخ والجغرافيا وإنما تجربة حقيقية في العمل والمساندة وترابط عضوي بين التعليم والحياة. 

تحرَّر التعليم الشعبي في بعض المناطق من كل قيود المؤسسة المدرسية ولكن في أماكن أخرى كان محاولة لتكرار ما يحصل في داخل الصف المدرسي. من ناحية أخرى كان القائمون على التعليم الشعبي ناشطين بأمور اجتماعية وسياسة أيضًا ويقومون بأدوار مختلفة في المجتمع. لذلك كان التعليم إعادة تخيّل لمعنى التعلّم والتعليم، كان تعليمًا متبادلًا.

طرحت الباحثة شنان عدة أسباب عملت على عدم استمرار تجربة التعليم الشعبي، فقد كان الاحتلال يتأرجح بقرارته، فيقوم بإغلاق المدارس تارة ومن ثم يسمح بفتح بعض المدارس تارة أخرى وهذا خلق بلبلة لم تساعد على بناء منهجية للعمل، بالإضافة للتخويف والترعيب، فمن كان تثبت عضويته في لجنة شعبية كان يتم اعتقاله، والتهديد بهدم البيوت التي يحصل فيها التعليم الشعبي، أدى هذا إلى تنقلات كثيرة بين البساتين والجوامع والبيوت القديمة والكنائس مما زاد من صعوبة الأمر.
كما أن القيادة الوطنية الموحدة لم تعطي اهتمام للتعليم الشعبي على سلم الأولويات النضالية وهذا يرجع للرؤية المهيمنة للتعليم بشكل عام وربطه بمؤسسة التعليم ألا وهي المدرسة، وهذا ما جعل بعض الأهالي قلقين على غياب التقييم المؤسساتي لأطفالهم.

وأشارت المتحدثة إلى أنه بالرغم من كل المحاولات التي يقوم بها الاحتلال ليؤثر على عقولنا إلا أن حس المفاجئة ما زال موجودا وفي الهبة الأخيرة أثبت الوعي الجمعي في فلسطين ضرورة إسقاط المشروع الصهيوني. التعليم بالنسبة للشعب الفلسطيني لا يمكن حصره داخل إطار المؤسسة، التعليم الشعبي هو مساحة للتعلم والتجريب والبناء لإكمال بناء شعب مثقف وطني.

وهنا تحدث رمزي أبو رضوان عن تجربته كطفل خلال الانتفاضة، كيف كان يذهب إلى بيت في المخيم ليتعلم بشكل سري، حيث حاول ككل الاطفال من أبناء جيله، الدفاع عن مخيمه وأخذ دورٍ حقيقي في الانتفاضة. كان المخيم بيت كبير، الكل كان يساهم فيه.

ساعد على مشاركة الأطفال في الانتفاضة منع التجوال الذي تم فرضه من قبل قوات الاحتلال، فكما قال أبو رضوان “كنت أستطيع القفز والتنقل عبر الأسطح وكنا نقوم بتوصيل الخبز أو المؤن والأشياء الضرورية.”

وضع الحراك حلولًا فعلية لكل الأمور وكان تجربة تعلمية كبيرة في التعامل مع الواقع والتصرف تبعًا لمجريات الوضع، حصل التعليم بشكل تلقائي بالإضافة لتعلم القراءة والكتابة، كان هناك تأكيدًا لكل الأفراد باختلاف أعمارهم بأهمية وقيمة دوره داخل المجتمع.

أخبرنا أبو رضوان عن قصة ظهور صورة له في الجريدة وهو يرمي الحجارة وكيف أنه فرح بهذه الصورة وبالشهرة ولكنه في نفس الوقت أحس بالخوف من الاحتلال، أصبح يعرف شكله، وبعد ذلك اكتشف أنه كان لهذه الصورة صدى كبير، فقد أصبح طفلًا يتحدث مع الصحفيين ويجري مقابلات يتحدث فيها عن وطنه ويوصل رسائل للعالم.

انتفاضة ال 87 شكلت تجربة ساهمت في خلق الهوية الفلسطينية وساهم كل فرد فيها بما يقدر عليه، فلم تكن تجربة فصائلية أو حزبية، بل كانت تجربة وطنية فطرية تربوية نوعية للأجيال التي خاضتها على صعيد المشاركة المجتمعية والعمل الجماعي. اختتم أبو رضوان اللقاء بالحديث عن الهبة الفلسطينية الأخيرة كتجربة مهمة تثبت وتوضح للعالم وحدة الشعب الفلسطيني من البحر للنهر وضرورة التعلم من التجارب السابقة حتى لا تُسرق هذه الهبة من قبل السياسيين والمتسلقين.

وبهذا أنهى المتحدثون الجلسة.

الندوة السادسة: الانتفاضة الأولى، الجامعة الراديكالية  التاريخ: ١١ حزيران / يونيو ٢٠٢١ المتحدثون: روجر هيكوك، تيري بلاطة، نهاد الشيخ خليل  إدارة الجلسة: ميسون سكرية 

افتتحت ميسون سكرية الجلسة بالحديث حول تشييع جامعة بيرزيت لأحد طلبتها، الشهيد فادي وشحة، الذي اغتالته قوّات الاحتلال في الثاني من حزيران من العام الحالي. مضيفة أن جامعة بيرزيت قدّمت شهداء كُثر مثل يحيى عياش، وصلاح تلاحمة، وأيمن حلاوة، وضياء الطّويل، وموسى حنفي وكثيرين. وأن هذا فرع من اعتداءات الاحتلال المستمرة على الجامعات الفلسطينية، إلى جانب ممارسة اختطاف الطلاب، تعذيبهم، واعتقال المحاضرين. كما فرضت اسرائيل حالة الحصار على التعليم العالي الفلسطيني عبر نفي الأساتذة الذين يعملون في الجامعات وعدم تجديد التأشيرات لهم. فضلا عن الحصار المستمر في غزة الذي شمل الجامعات أيضا.

أن القراءة الواعية لتاريخ نظام التعليم العالي الفلسطيني يقدّم لنا نموذجًا عن ارتباط الجامعة بالنضال الوطني، وكيف يمكن ويجب أن تكون الجامعة منخرطة بنضالات واحتياجات المجتمع حولها. ولعل الجامعات في الانتفاضة الأولى قدّمت نموذجا استثنائيا، حيث أصبح المجتمع حرما جامعيا، والجامعة منصّة احتضان وانطلاق لهذا المجتمع.

ضمّت هذه الجلسة ثلاثة متحدثين، من الجامعة الإسلامية في غزة وجامعة بيرزيت. استحضروا وشاركوا تجاربهم خلال الانتفاضة الأولى.

يستهل الحوار الدكتور نهاد الشيخ خليل، بالحديث حول تأسيس الجامعة الإسلامية في غزة، وكيف أنها كانت معركة مع الاحتلال تخللها الكثير من التحديات. ويوضّح أن السبب الرئيسي خلف التأسيس يعود لتوجه مصر للصلح مع الاحتلال، بالإضافة إلى إغتيال الوزير المصري يوسف السباعي، الأمر الذي زاد من صعوبة وتعقيد قبول الطلاب في الجامعات المصرية. إن الجامعة الإسلامية – منذ اللحظة الاولى التي تأسست فيها – كانت تدرك أن وجودها مرتبط بقدرتها على الصمود في وجه إجراءات الاحتلال.

ومع اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987، أُغلقت الجامعة بوجه الطلاب ومن بعد ذلك بوجه الإداريين والمحاضرين. لتبدأ حالة جديدة تمثّلت بانتقال العملية التعليمية والإدارية إلى منازل المحاضرين والإداريين، وتحوّل التعليم بالتدريج إلى المجتمع. وبسبب ضيق مساحة القطاع وانتشار قوات الاحتلال على الشوارع الرئيسية، كانت المواجهات تندلع في كل وقت. كما كانت فكرة توقيف الدراسة – حتى انتهاء الأحداث – مطروحة بشكل حقيقي، لولا طول مدّة الأحداث وإصرار الطلبة على الاستمرار.

يضيف نهاد بأن عملية التدريس من المنازل لم تكن سهلة، فبعض البيوت كانت ضيّقة ولم يكن هناك متسعًا لاستقبال الطلاب، بالإضافة إلى أن عملية التواصل لترتيب اللقاءات لم تكن يسيرة، كما لم يكن التنقل بين أرجاء القطاع أمرًا ممكنًا. ورغم صعوبة إدارة هذه الأوضاع الا أن العملية التعليمية استمرت، حتى أن بعض الأهالي منحوا منازلهم أو أجزاء منها ليتمكّن المعلّمون من استقبال طلبتهم فيها، وكذلك فعل اتحاد الكنائس، بالإضافة إلى الجوامع والشركات. في هذه الفترة من نهاية عام 87 لغاية خريف 91 خرّجت الجامعة حوالي 633 طالب وطالبة بطريقة ’التدريس في البيوت وتبنّي المجتمع لعملية التدريس الجامعي‘.

تاليًا، تحدثت السيدة تيري بولاطة عن جامعة بيرزيت وتجربتها كطالبة جامعية فيها فقالت “أعتقد أن تجربتي في الجامعة في مرحلة الثمانينات كانت تجربة تعليم راديكالي، وأعتقد أن الكثيرين ممن شاركوني سنين الدراسة يتفقون معي على ذلك، حيث كنا نخوض الكثير من النقاشات الحيوية، الخارجة عن النمط التقليدي الذي اعتدنا عليه في المدارس، كان ذلك يحدث في قاعات المحاضرات، ومقهى الجامعة. تم طرح الكثير من المواضيع في مقهى الجامعة وانتقلت إلى داخل قاعة المحاضرة أو بالعكس، وهذه العملية كانت تشكل مساحة لربط النص الأكاديمي بالسياق الحياتي، وهذا برأيي أحد ممارسات التعليم الراديكالي.”

وتطرّقت بولاطة إلى موضوع ديمقراطية إنتاج التعليم، وكيف أن هذه العملية تعني أن المناهج ومخرجات التعلّم يجب أن تساهم في صناعة قرارات جماعية. ومثالًا على ذلك مجالس الطلبة في بيرزيت، التي مثّلت إطارًا فعليًا وعمليًا لممارسة الديمقراطية المباشرة عن طريق الانتخاب، وتفاعل هذه المجالس مع إدارة الجامعة كان تفاعلا راديكاليا تضمن احتجاجات واعتصامات لتحقيق المطالب.

وكذلك لأن التعليم الراديكالي يقترن بالقدرة على تمكين الجميع – فرديا وجماعيا – من التفاعل لإيجاد الحلول، ما يتطلب بالضرورة إلغاء الفروقات الطبقية والاجتماعية. ومثالًا على ذلك ما حدث عند إغلاق الجامعة لمدة أربع سنوات، كان طرح الحلول لاستمرار العملية التعليمية عملا تشاركيا على صعيد الأفراد والمجموعات، وتشكلت مساحة حقيقية للطلاب والإدارة والجهاز التعليمي للانخراط في تجربة تعليمية تشاركية تضع حلول تناسب الجميع وتتناسب مع المراحل المختلفة التي تمر بها الجامعة. وتستشهد أيضا بما حدث عند صدور القرار العسكري الذي نص على منع طلاب غزة من التعلم في الضفة، وما تمخض عنه من آليات حماية لهؤلاء الطلبة حتى يتمكنوا من إكمال رحلتهم التعليمية. كذلك تجربة العمل التطوعي، التي عرّفت الطلاب على العديد من مناحي الحياة في قرى ومدن فلسطين وعززت التجربة انتماء الطلبة لأرضهم. 

خلال الانتفاضة الأولى كانت نظريات الفلسفة وعلم الاجتماع متجسدة في الحيّز العملي، النساء كانوا في مقدمة المظاهرات، في مقدمة المعتقلات، وفي قيادة مجلس الطلبة. هذا يؤكد على أن التعليم كان حقيقيا وراديكاليا على أوجه عدة، وبالذات عبر إدخاله إلى حيز التجربة والتطبيق. هذا ما كان يُنتج إنسانا فلسطينيا منتميا يبحث ويفكر ببناء وطن حر وكريم، له وللأجيال القادمة. لا زالت جامعاتنا – بالرغم من كل التراجع الذي مررنا به خلال السنوات الماضية – وسطا اجتماعيا تعليميا وراديكاليا، قادرًا على فرز أجيال مؤهلة لحمل رسالة التحرّر والاستقلال، بدليل الأحداث الاخيرة، التي جرت من شمال إلى جنوب فلسطين، فهي دليل كاف على ذلك.

بعد ذلك تحدث الأستاذ روجر عن جامعة بيرزيت في منتصف الثمانينات، وكيف أن معهد علم الآثار بإشراف ألبرت غلوك كان يطرح مراجعة راديكالية بالنظر إلى فلسطين بعيدا عن المنظور الديني، والتحليل من منظور سكان هذه الأرض. كان طرحًا يتحدى الرواية الصهيونية، ومن الممكن أن يكون هذا الطرح هو السبب بمقتل غلوك في عام 1991.

كما تم العمل على طرح التأريخ الشفوي، الذي تبناه وعمل به عدد من طلاب الجامعة عبر نشر مفاهيمه وأدواته كوسيلة للنضال. الأمر الذي ترك أثرًا كبيرًا على سرديّة التاريخ الفلسطيني، وشكل تحديًا كبيرًا أمام الخطاب الصهيوني عبر إضفاء مصداقيّة لروايات النكبة وثورة 1936 وغيرها. 

ثم يتذكر روجر عندما قام مستوطن بإطلاق النار في ديسمبر 1986 على طالبين في قرية بيرزيت خلال مظاهرة فقام صالح عبد الجواد بقيادة اعتصام على الطريق إلى الجامعة، شارك في الاعتصام مئات الطلاب، فتحرك الجيش وقام بإطلاق الغاز المسيل للدموع، واعتقل صالح عبد الجواد. يقول روجر “كنا في حينها في رام الله ننتظر وصول الشهداء وبدأت مظاهرة كبيرة انطلاقا من المستشفى ودخل الجنود إلى المستشفى وقاموا بإطلاق النار، هنا قام الطالب علي الجرباوي بمواجهتهم، وطلب منهم أن يغادروا المنطقة المحمية حسب القوانين الدولية، بحكم أنها مستشفى.”

ويضيف روجر أن تلك الاحداث مهدت لما حدث في 1987، حيث أنه حين انطلقت الانتفاضة كان الجميع في حالة جاهزية مسبقة، نتيجة ما تم خوضه سابقا من مظاهرات، وقمع، واعتقالات، وإغلاقات متكررة للمدارس والجامعات وغير ذلك الكثير. وبرز في تلك المرحلة النشاط الفعّال للطلاب والأساتذة كمثقفين عضويين ومتفاعلين مع الأحداث والظروف بكافة الوسائل، واضعين حيواتهم وحرياتهم على المحك.

واختتم الجلسة بالحديث عن الفترة التي تلت إغلاق الجامعة في يناير 1987، حيث توقف التعليم لمدّة 6 شهور واستعاض الناس بالجوامع والبيوت كبديل للصفوف الدراسية. بذل الجميع قصارى جهودهم من أجل التعاون لمتابعة العمليّة التعليميّة، إضافة إلى أشكال النضال الفكري الأخرى من مقالات وندوات وكتب.

الندوة السابعة: تحرير الفلاحة، الزراعة من أجل التحرير  التاريخ: الجمعة ٢٥ حزيران / يونيو ٢٠٢١ المتحدثون: سعد داغر، فيفيان صنصور، محمد أبو جياب  إدارة الجلسة: سيرين حليلة 

 كيف يمكن أن يساهم تحرير الفِلاحة والزراعة في مسيرة التحرير؟ وهل هنالك فروق بين الفلاحة والزراعة؟ 

 يستهل منير فاشه – ضيف الجلسة – مقدمته بمشهد تاريخي من زمن الانتداب البريطاني ليوضح إشكالية التحرر وارتباطها بالنسيج والوعي المجتمعي. يستحضر منير باحة المسجد الأقصى كمكان حي للمجاورة المجتمعية والثقافية، وكيف أثّر التدخل البريطاني – في محاولته لتشويه الوظيفة العضوية للمكان – عبر تلاعب بسيط في المفاهيم. يقول منير “هلا الانجليز غيّروا المجاورة نقطة واحدة، قاموا النقطة من الجيم وحطوا محلها الحاء، صارت ’محاورة‘ وصار فيه إشي إسمه ’حوار‘ للأديان، حوار الأديان مشكلته أنه ما به روح وما بيَنتج عن تربة، الجوار دائما يَنتُج عن تربة ويؤلف تربة. يعني لما الناس كانوا يجتمعوا بباحة الأقصى، كان فيه تربة مجتمعية، كان فيه تربة ثقافية، كان فيه تربة وجدانية، كان فيه تربة روحية، يعني كل أنواع التربة كانت موجودة. حوّلوا الجوار لحوار، يعني حولوا الواقع الحي إلى أبجدية، كلمات وأحرف الخ…”

في نظر منير فاشه، التخريب الذي اتبعته أوروبا لم يبدأ بالعسكر، الاقتصاد أو السياسة، بل بدأ بالعقل، أخطر الأدوات الإنسانية. خرّب العقل عبر اختراق التعليم الرسمي، الأمر الذي ينتُج عنه لا محالة تغيير في التربة الثقافية – التربة الأقوى من منظور منير – لأنها الأساس الذي ننطلق منه لكافة الأتربة والبنى المجتمعية في الطريق نحو التحرير.

وفي الإجابة على السؤال المقارن بين الفلاحة والزراعة، يوضح سعد داغر أن الفرق جوهري، حيث أن الزراعة باتت مجرد مهنة مفرّغة من عمقها ومن بعدها الإنساني، مستعيرًا لفظة ’عسكرة‘ لوصف الزراعة الغربية الأحادية، وكيف لعبت دورًا في احتلال العقول من خلال فرض الغذاء الأحادي، وانعكاسه لاحقا في إنتاج الفكر الأحادي التبعي. أما الفلاحة فهي منهج حياة ريفي يقوم على أساس الانسجام مع كل عناصر الطبيعة، والانسجام مع الذات. وعودة إلى مفهوم المجاورة منها يستلهم سعد تعريفه العميق للفلاحة، حسب تعبيره “الفلاحة هي عملية مجاورة متواصلة دائمة، بدون انقطاع. الفلاحة منهج مبني على أسس التطور المتواصل في الوعي عبر إدراك الطبيعة المحيطة فينا”.

هذه الفروقات الجوهرية في المفهوم والمضمون بالإضافة إلى المنهج السلبي المعتمد على المبيدات الكيماوية في الزراعة الغربية الحديثة، كل ذلك كان المحرك الأساسي لتوجه سعد نحو ما يُعرف بالفلاحة البيئية باعتبارها أسلوب من أجل الحرية والتحرر، تحررنا من الاعتماد على الشركات المنتجة للمبيدات والبذور المعدلة جينيا، وتعيد لنا بوصلة العمل من أجل إنتاج بذورنا ’بذور الحرية‘.

لكن ما الذي تضيفه التجربة الملتحمة مع المحيط بعيدًا عن مناهج التدريس التقليدي؟

تشاركنا فيفيان صنصور تجربتها الشخصية في دراسة الزراعة في أمريكا، مستكشفة الانسلاخ العميق بين المعرفة النظرية المجردة وبين التواصل الحقيقي مع التربة والفلاحين الممارسين. مؤكدة خطورة التعليم التقليدي في احتلال العقول والانسلاخ عن الواقع الأرضي. وتستحضر فيفيان أمثلة على الممارسات الفلاحية المتجذرة مثل: مشاركة ومبادلة المحاصيل مع الجيران والمحيط، الاندماج مع الطبيعة ومجاورتها.

هل نملك القدرة على تخيل أن نكون أحرارا؟ 

الممارسة الفِلاحية، والحفاظ على البذور والامتداد الحضاري أكثر من مجرد مادة ومضمون، هي تجسيد لحقنا في الخيال والحرية، وهي نتيجة جرأة الأجيال السابقة ومحاولاتهم لاكتشاف الخيال مع الأتربة المحيطة. وتستشهد فيفيان: “تخيلوا لما إحنا بنحكي عن إنه القمح مثلا هو عبارة عن حشيشة كانت في البرية وحدا اتجرأ أنه يتخيل إنها ممكن تكون القمحة اللي ممكن يصير منها خبز أو كعكة، وهاد الإشي بالنسبة لإلي كان ’واو‘، قديش جريء وعبقري أنه إحنا نقدر نتخيل!”. 

في منظور محمد أبو جياب، المجاورة تستحضر المكان والأرض، لأن الأرض حسب تشبيهه نقطة الصمغ التي تربط كل عناصر وأبعاد المجاورة، وأن الاستعمار الاستيطاني في صلبه هو صراع حول المكان، كما حدث في باب العمود وحي الشيخ جراح. نشأ أبو جياب في مخيم لللاجئين في غزة بعيدًا عن مجتمعه الفلاحي، لكنه تلقى الممارسات الفلاحية بتفاصيلها البسيطة والارتجالية من جدته، موضحا أن الممارسة الفِلاحية هي ذاكرة ممتدة ومتناقلة بين الأجيال، بالضرورة، حتى تستطيع البقاء والاستمرار.

ويعود ليؤكد أن الفِلاحة والزراعة لا يمكن أن تكونا منفصلتان عن البعد السياسي “يعني لما احنا بدينا العمل 2015 كان واضح جدًا أنه العمل الاقتصادي والعمل الاجتماعي والعمل البيئي كلهم بتقاطعوا بعمل سياسي، يعني العمل في الأرض هو عمل سياسي بحت، كل هاي الأوجه تاعتها بتتقاطع في العمل في المزرعة.” ومن هنا تظهر ضرورة تواجد المزارع في المكان الجغرافي، لأن هذا التواجد هو بحد ذاته مقارعة للاحتلال ونضال حيوي للبقاء والاستمرار. ويشير أبو جياب أن أهم الأفعال الراديكيالية في الوقت الراهن هي محاولة خلق مساحة وسطية تتركز فيها قيم الناس وتعيد المفردات والأفكار الأساسية لمركز الثقة الرئيسي لعملنا وفكرنا، ’الأرض‘.

وفي الإجابة على الأسئلة الختامية، يتطرق أبو جياب لأهمية المجاورة في الأرض من أجل تعلم الفلاحة والزراعة بالممارسة المباشرة. كما يتناول آليات دعم الفلاحين الفلسطينيين من خلال تفعيل دور المؤسسات الاستهلاكية في داخل وخارج فلسطين، والتعاون مع المؤسسات الزراعية الفلسطينية الناشطة على الأرض. 

كما تجيب فيفيان في تساؤل حول الاعتداءات الحاصلة على الأراضي الزراعية، مبينة الأخطار الواقعة نتيجة تغوّل النهج النيوليبرالي والرأسمالي في استغلال الأراضي الزراعية لغايات استثمارية ومنفعة مادية، وضرورة مكافحة هذا الفكر المتوغل في سبيل الحفاظ على مركزية الأرض والفكر الفِلاحي. 

واختتمت فيفيان بالتأكيد على أن المفهوم الفلسطيني ليس بالضرورة مفهومًا قوميًا، هو مفهوم للعافية والحرية، وسعي لتحويل فلسطينيتنا إلى روح جديدة وحنونة للعالم بأكمله. وأنه علينا أن نتواضع أمام الأرض وعطاياها في أي من بقاع الأرض نكون، ليس فقط في فلسطين.

ويعود سعد في مداخلته الأخيرة مشددًا على أن غياب الشعور بالمسؤولية والاعتداء الفلسطيني على الأراضي أكثر إيلاما، متمثلا فيما نشهده من تدمير مساحات واسعة من الأراضي الخصبة وتحويلها لمناطق صناعية ومشاريع خاصة. إضافة إلى غياب الوعي والمسؤولية في قوانين استخدام المبيدات في الأراضي الزراعية، الأمر الذي لا يقل خطورة في نتائجه عن التجاوزات الأخرى. 

في ختام الجلسة، يستحضر فاشه الحكمة باعتبارها سلاحنا الأكبر، مذكّرا “لن نهلك إذا عرفنا قدر أنفسنا، على المستوى الشخصي، وعلى المستوى الجمعي.”

الندوة الثامنة: التعلم الأهلي كما يتجلى في العمارة والتطريز  التاريخ: الجمعة ٣ أيلول / سبتمبر ٢٠٢١ المتحدثون: سعاد العامري، وداد قعوار، ماري قعوار، ناديا عبد النور  إدارة الجلسة: ميسون سكرية  

لا تزال المرأة الفلسطينية تمارس دورها الطبيعي في صياغة مفهوم وشكل التعلّم الأهلي في مختلف المجالات، ومن ذلك ما برعت به في مجالي العمارة والتطريز صناعة وحفظًا. ولكن كيف يكون التعلم الأهلي راديكاليا بمضمونه ونتيجته؟ وكيف يمكن أن يتجسد ذلك في ممارسات التعليم والتعلّم ضمن مجالي العمارة والتطريز؟

تبدأ الحديث سعاد العامري بتعريف الراديكالية بأنها: جرأة الإنسان على اكتشاف أشياء جديدة، مصحوبة بحب الاستطلاع والمغامرة. ثم تنتقل لمشاركة حكاية تأسيس مكتب رواق لترميم وحفظ التراث المعماري في فلسطين، الذي تم تأسيسه كأداة مقاومة لحماية ما تبقى من تراث معماري في فلسطين. وتوضح سعاد أن الرؤية الأكاديمية والنظرية تختلف تماما عن الواقع، حيث لم تكن استجابة المجتمعات لمحاولات التوعية تجاه حفظ التراث والترميم بالصورة المتوقعة، لتبدأ بعد ذلك مرحلة الممارسة الراديكالية في محاولة لإدماج وإشراك تلك المجتمعات في قرارات وواقع محيطهم وبيئتهم المبنية والثقافية. 

ولم يقتصر الإشراك على عملية صناعة القرار، ليتعداه بشكل أكثر متانة في السعي المستمر لإدماج النساء في التشغيل والإشراف، حيث تسعى المؤسسة إلى إعادة تفعيل الدور التاريخي للنساء في مجالي البناء والترميم. أدّى هذا الأمر إلى زيادة ارتباط وتقبّل المجتمعات لهذه المساحات والمشاريع التراثية والثقافية. وتضيف سعاد أن هذا الفكر الراديكالي انتقل إلى داخل مؤسسة رواق، سعيا إلى ترسيخ دور النساء في إدارة المؤسسة ونموها، ما انعكس إيجابا على نظرة ووعي المجتمعات المتفاعلة مع مشاريع الترميم والتنمية التراثية.

كما سعت مؤسسة رواق لنقل هذه التجارب النظرية والعملية وتوثيقها من خلال إنتاج الكتب والأبحاث، الأمر الذي يساعد على حفظ المعرفة ونقلها إلى الأجيال اللاحقة، وإتاحة فرصة الوصول إلى هذه الإنتاجات المعرفية. وتشير سعاد إلى ضرورة التعاون المؤسساتي وخلق شراكات بناءة مع كل الأطراف الفاعلة في العمل الشعبي والساعية لنقل تجربة التعلم الأهلي.

وبالإضافة إلى التعلم الأهلي وحفظ التراث المؤسساتي، أنتج الواقع الفلسطيني تجارب راديكالية فردية قادرة على النمو والتحول. وتشاركنا ميري قعوار تجربة والدتها وداد قعوار بتأسيس مشروع “طراز”، الذي بدأ كردة فعل على التهجير من فلسطين بحفظ ما تبقى من الذاكرة المتروكة في الوطن من خلال جمع الأثواب الفلسطينية وحمايتها من الاندثار والتشويه، ليتحول المشروع لاحقا لشغف يتسع لحفظ التراث والهوية المتعلقة بمختلف الدول العربية المحيطة.

ولم يقتصر نشاط “طراز” على العمل الثقافي والتوثيقي، فقد تعدّاه ليقدم تصورًا لتمكين المرأة اقتصاديا من خلال التطريز ونقل حرفته إلى نساء أخريات عبر البرامج التدريبية المتنوعة، ما ساعدهن على تحقيق عوائد مادية من خلال العمل والإنتاج. وتشير ميري إلى أن المساحة الإبداعية في مجال حفظ التراث لا تقتصر على جمع العينات وحفظها، بل أن هناك دائما خيارات للتطوير وابتكار طرز جديدة وإنتاج أعمال فنية عصرية تقدم موروث التطريز وتفاصيله بشكل جديد.

ورجوعا إلى العمل الأهلي المؤسساتي، تشارك ناديا بالحديث عن مؤسسة “إنعاش”، التي ظهرت كأول جمعية أهلية لبنانية تنشط في المخيمات الفلسطينية لترقية أحوال الفلسطينيين. ومن مشغل لحياكة الصوف تحولت إنعاش إلى مشغل تطريز، باعتبار التطريز جزء حقيقي من التراث الفلسطيني الأهلي.

وإضافة إلى إعادة إحياء التراث وإعادة الاعتبار إلى هويته المسروقة، كان تركيز جمعية “إنعاش” على التدريب وتأسيس المشاغل ونقل المعرفة بين نساء المخيم الراغبات بتعلّم الحرفة تحت إشراف صاحبات الخبرة في التطريز. ومن ثم تسويق هذه المشغولات والمطرزات، والاعتماد على المعارض لتقديم هذه الأعمال، وفتح آفاق جديدة أمام الحرفة والحرفيّات العاملات بها. وفي محاولة جديدة لتوسيع مداخل وآليات التعليم، تسعى المؤسسة، بمحاولة ريادية، لتأسيس مدرسة متخصصة لتعليم التطريز للشابات والشباب ولا يزال المشروع قيد التحضير في الوقت الحالي.

وفي معرض الإجابة على بعض الأسئلة المطروحة حول آليات نقل المعرفة والتعلّم الأهلي، تشرح سعاد مفهوم العمارة المحلية بأنها ’عمارة من غير معماري‘، بمعنى آخر هي العمارة العامّة الناتجة عن احتياج المجتمع وتعاونه، والتي تكون معتمدة بشكل أساسي على العناصر والمواد المحلية، والتي تمثل بالوقت نفسه طريقة تعلّم مجتمعية متناقلة. وهذا ما يطلق عليه مفهوم العونة، “العونة أنه كل أهل القرية بيجوا وبساعدوا الشخص اللي بده يبني، الستات بروحوا بجيبوا المي والولاد الصغار بجيبوا الحصمة والكبار بجيبوا الحجر، فهي عملية المشاركة المجتمعية في عملية البناء شغلة كتير كتير مهمة”. كما تمثل هذه الحالة من البناء المجتمعي الأهلي حالة تعليمية يتم عبرها تناقل المعرفة الشعبية، من خلال التجربة والمشاركة الملتحمة بالواقع. 

وختاما تجيب ميري عن تساؤل حول إمكانيات وفرص إدماج وتثقيف الأطفال بمجال التطريز، مشيرة إلى السعي المستمر لخلق نشاطات وفرص إبداعية لتعريف الأطفال والطلاب بهذه الفنون الشعبية، وخلق قنوات تواصل لربطهم بهذه المفاهيم وتشكيل علاقة مبكرة مع التراث والثقافة الشعبية. 

الندوة التاسعة: الفنون الأدائية والتربية الراديكالية  التاريخ: الجمعة ٢٩ تشرين أول / أكتوبر ٢٠٢١ المتحدثون: سعاد العامري، وداد قعوار، ماري قعوار، ناديا عبد النور  إدارة الجلسة: ميسون سكرية  

هل يستطيع الفن أن يساهم في خلق الهوية الجماعية والمخيّـلة الراديكالية؟ وكيف تتجسد قدرته في التغيير الاجتماعي والسياسي والعمل التربوي؟ تتناول هذه الجلسة من جمعات راديكالية موضوع التربية الراديكالية في فلسطين، بمشاركة مجموعة من الفنانات والفنانين من مختلف مجالات الفنون الشعبية الأدائية.

يستهلّ الحديث ولاء سبيت مشيرًا إلى أن الفنون الشعبية تشكل أولى العلاقات بالتربية الراديكالية، كممارسة مجتمعية فطرية وشعبية متوارثة. ويستشهد بالدبكة كأول المداخل نحو الفن الشعبي، التي يتم ممارستها وتعلمها دون الحاجة للدخول في مسارات التعلم الأكاديمي الرسمي، كنموذج على التعلم غير المنهجي الذي يتم اكتسابه بالمشاركة مع الآخرين وعبر الممارسة الشعبية. 

يوضح ولاء أن أهم إشكاليات التربية المتعلقة بالفنون الشعبية هو تغيير المنظور السائد باعتبار الفنون أداة ترفيهية بعيدة عن الواقع المعيشي والحياتي، الأمر الذي بدأ بالتغير مع الأجيال الجديدة الباحثة عن التطوير والتجديد وإيجاد وسائل أكثر فاعلية في تحويل وتمكين الفنون كأداة إنتاجية حقيقية مشتركة في الواقع الاقتصادي. 

ويشير ولاء إلى إشكاليات مناهج التربية التقليدية أنها قائمة على التلقين بعيدًا عن التحليل والتفكير النقدي، تربية مرتكزة على الاستقبال والتلقي، الذي بدوره يعكس العلاقة القمعية مع المحتل أو القامع كائنًا من كان. ولزامًا من الضروري تحويل هذا النهج التقليدي في التربية لعلاقة متوازية ومحفّزة للطفل وصولًا لغاية تقوية شخصيته وتفكيره الناقد والتحليلي، لإنتاج أفراد مؤثرين وقادرين على المنح والعطاء.

واستكمالاً في مساحة الدبكة والفنون الشعبية الراقصة، تشبه نورا أبو بكر التجربة التربوية عبر الفن الشعبي بأنها عملية خلق للفرد داخل المجموعة. عملية تراكمية لخلق أجيال تؤثر وتتأثر بالمحيط والواقع وتساهم في التغيير المجتمعي وتكون جزء من العملية التحررية، حيث أن البناء الفني الواعي هو تملّك جماعي خلّاق، يسعى إلى استيعاب الأفراد وإدماجهم ضمن المجموعة وأعرافها، وذلك يتم بواسطة آليات التعليم التشاركية الساعية للخلق والتفاعل والنقد البناء المستمر.

“الفلكلور حي، يتنفس، يتغير، يتأثر ويؤثر بنا!”

 وتستكمل نورا الحديث بأن الفلكلور يحتمل الإبداع والتجديد، من أجل أن يكون أكثر جاذبية في الوسط المعاصر، وفي ذلك أيضا حفظ للتراث واستعادة للهوية الجمعية الثقافية الفلسطينية ’المشتتة‘. وهذه الحيوية في التراث والفلكلور تتجلى في عملية التعليم والتعلّم، فهي عملية مشاركة ارتجالية ولحظية، لا يمكن حفظها ونقلها بالتلقين، إنما بالمشاهدة والتجربة، ما يجعل احتمالات التغيير والمرونة ممكنة دائما، فيصبح العمل الفني قابلا للتساؤل والنقاش والحوار. 

كما يكون الفن الشعبي راديكاليا في طرح الأفكار والمضامين، من خلال تناول قضايا خاصة وحساسة مجتمعيا وتقديمها أمام الجمهور لتحليلها ونقدها، إضافة إلى مساهمة هذه الفنون في نشر الفكر الثوري والمقاوم عبر الحوار الفني المتجسد في المسرح أو أي مجال فني آخر، كل ذلك يشكل حالة تربوية فعالة وحيوية ومتفاعلة بين الفنان والجمهور.

ومن فنون الرقص الشعبي ينقلنا عامر خليل إلى فن المسرح، المسرح الفلسطيني الحديث نشأ، بحد وصفه، كمسرح مقاوم، سياسي وجماهيري. ويعود بالمرحلة الزمنية ليوضح كيف أدى المسرح الفلسطيني في مرحلة ما بعد حرب 1967 دورًا بارزًا في الحشد الشعبي باعتباره مساحة تعبير وانطلاق إلى الشارع والساحات، وأداة تغيير حقيقية في المجتمع.

وعن علاقة المسرح المباشرة بالتربية، يوضح خليل حجم الصعوبات والعقبات التي واجهها الفن والمسرح من أجل الاندماج في الواقع التعليمي التقليدي. صعوبات تشبه، بحد وصفه، لفعل مقاومة، وذلك في سبيل التمكن من الوصول إلى المدارس والمساحات التعليمية. عقبات سواء من قبل المجتمع غير المتقبل للفكر الفني أو بسبب البيروقراطية المؤسساتية التي تعيق الأدوات اللامنهجية الساعية للتدخل في عجلة التربية. وفي الوقت ذاته يشير إلى أن هذه المقاومة تحقق نتائجها تدريجيًا ولو لم تكن بالشكل الكامل، تلك النتائج التي أثمرت – على سبيل المثال لا الحصر – في إشراك الأهل بالعملية التعلّمية مع أبنائهم، وإزالة الفروق بين الأجيال في التعاطي مع الفنون الشعبية، إضافة إلى خلق حالة من الوعي السلوكي لدى الأطفال الذين شاركوا في النشاطات المسرحية.

“نروي الحكايات حتى نرى الشمس”
يتحدث الحكواتي حمزة العقرباوي عن دور الحكايات في التعليم الراديكالي، ويوضح أن أهم أدوارها هو شق الطريق للحرية والخيال. وكما الدبكة، فأن الحكاية والمثل الشعبي هي أفعال فطرية ومجتمعية لا يتم تعليمها بالتلقين والممارسة المنهجية.

هل الحكايات لا تزال تلعب دورها في التعليم التحرري؟
في الإجابة على هذا التساؤل يوضح حمزة أن الحكاية لا يمكن سلخها عن دورها الوظيفي التربوي، فهي كانت ولا زالت حاضرة في التعليم والتوجيه، على صعيد بناء الهوية والنضال الوطني للمجتمع. وأن السرد والحكاية هي عناصر فاعلة في بناء شخصية الفلسطيني. ويشير حمزة إلى أن هناك مستويات متعددة للحكاية والسردية الشعبية، في كثير منها يتبطن سلوك يرجى الحفاظ عليه مجتمعيًا أو رسائل مجتمعية يسعى القاصة أو الحكواتية إلى إيصالها. 

واستكمالًا عن الدور الراديكالي للفنانين والباحثين في التعليم والتربية، من الضروري البحث عما هو مفيد ونافع في الموروث وفي هذه الفنون الشعبية بمختلف أشكالها وإعادة إنتاجه وتقديمه للجمهور من أجل استمرار هذا الموروث وليساهم في خلق فعل تعليم تحرري قادر على صنع إنسان حر، إنسان نبيل تحركه القيم الإنسانية العليا.
“إحنا بنحكي منشان نعيش، بنحكي ليعيش تراثنا ونعيش بكرامة ونعيش ببلد حرّ.”

ويختتم حمزة بالحديث عن خصوصية الموروث الشعبي الفلسطيني قائلا أنه “قد نكون نحن الفلسطينيون من أغنى الشعوب في تراثها وموروثها، بحكم التنوع الإنساني والتتابع الحضاري والوفود العرقي والعربي. هناك تنوع من ناحية السكان في فلسطين، عربًا وغيرهم، هذا التنوع والخليط اللي بنشوفه في ممارستنا، في معتقداتنا، في أكلاتنا، في لهجاتنا وفي لكناتنا، مهم ننتقي أجمل ما فيه كفنانين ومؤدين ونقدمه ليضل التراث والموروث قادر على أداء رسالته التعلّمية التحررية اللي هي جزء من رسالتنا.” ويوضح أن المسؤولية تنقسم ما بين حفظ وتوثيق التراث الشعبي وما بين إعادة إنتاجه وصياغته وعدم احتكاره وتخزينه بالمتاحف، إنما تلزم مواصلة السرد والتناقل بين الأجيال حتى يستطيع هذا الفلكلور أن يبقى حيًا ومتجددا، وشريكًا حقيقيًا في عملية التربية والتعليم الراديكالي. ويضيف حمزة أن الأشكال الفنية المختلفة كانت دائمًا تحمل نكهة العصر والزمن الذي عاشت به. ولا زال التراث يؤكد حيويته وقدرته على ممارسة التربية بفضل مرونته وقدرته على التعايش وإعادة التشكّل مع الواقع المعاصر.

وفي معرض الحديث عن دور التجديد في الفلكلور والفن الشعبي، يوضّح ولاء أن الهوية الفلسطينية لم تعد حكرًا للفلسطينيين فقط، بل أضحت هوية عالمية متفاعلة تؤثر وتتأثر بموروثات الآخرين، سواء على صعيد الأدوات والتقنيات المادية، أو عبر شق قنوات الفكر والاستلهام من الثقافات والموروثات المقاومة للشعوب الأخرى. وتشير نورا إلى أن الفلكلور أشبه بالجذور الأصيلة التي نستطيع دائمًا العودة لها من أجل توجيه النمو والابتكار، مع الاحتفاظ بأحقية الأبداع والتجديد، دون الخوف من الفشل أو فقدان البوصلة.

كيف تؤدي الفنون الراقصة والجسدية دورها في التربية الراديكالية والفكر التحرري؟
تجيب نورا بأن الفنون الشعبية الراقصة تساعد عبر التواصل والتفاعل في خلق حالة من التصالح مع الجسد، الذي يؤدي بدوره إلى تحرير هذا الجسد والعقل تباعا. وتشير إلى أن المرأة أكثر من يعاني مجتمعيًا من أجل كسر القوالب النمطية وتحصيل مساحة الحرية خصوصًا فيما يتعلق بالجسد، الأمر الذي تساعد الفنون الشعبية الراقصة والأدائية في إزالته وتعويد الجمهور على تقبلّه. 

وفي مداخلات الجمهور، يتحدث نهاد الشيخ خليل أن أهم جانب في التراث وحفظه هو ابرازه للهوية الفلسطينية المناقضة لهوية المحتل. مؤكدا أن العمل الذي لا يقل أهمية عن حفظ التراث وتجديده هو اكتشاف وتفكيك منهجيات إنتاج التراث القصصي والفني والمادي بمختلف أشكاله، وهي منهجيات مستمدة من البيئة المحيطة والتحديات القائمة. ويشير إلى خطورة استسهال إدخال الوافد على التراث، وضرورة الحذر في تقبل العناصر والأدوات الخارجية المستخدمة في تجديد الموروث الشعبي، ورفضها باعتبارها دخيلة غريبة على الواقع والاحتياج وغير منتمية لخصوصية البيئة الشعبية. البيئة التي تحتاج لخلق أدوات حقيقية وأصيلة تعزز الصمود والقدرة على البقاء في ظل التحديات القاسية.

وفي مداخلة أخرى، يعرج خالد قطامش على مفهوم الفلكلور الحي، داعيًا للتحلّي بالجرأة من أجل الإبداع والتجربة، حفاظًا على حق الجميع بالمشاركة في تشكيل التراث الشعبي الذي يؤدي المجتمع فيه دور الحكم الأساسي لقبول أورفض أي دخيل فني متجدد أو حديث. 

كيف تكون المساحة الثقافية الفنية مساحة تعليمية راديكالية؟

في معرض الإجابة عن هذا التساؤل، يجيب عامر خليل مستعيرًا تجربة المسرح في القدس كتجربة ذات واقع سياسي وجغرافي وثقافي خاص وحساس. ورغم التحديات الصعبة والمعيقات إلّا أن المسرح الثقافي في القدس يسعى دائمًا لخلق مساحة تغيير فنية وتربوية تحاول بشكل أساسي أن تحافظ على التراث والهوية الفلسطينية، وفي الوقت ذاته أن تشكل حالة تربوية تفاعلية بين الشباب والفنانين وسائر الفئات المجتمعية خاصة المدارس.

وختاما، وحول تأثّر وتفاعل الجمهور مع العمل الفني الراديكالي، يوضح خليل أن الجمهور مرن ومستعد دائمًا لاستقبال الفكر والطرح الجديد والمختلف، وانه لا بد للفنان أن يتلاعب بالحدود المألوفة، لان ذلك هو الطريق الوحيد لإبداع أفكار وأعمال فنية جديدة وغير نمطية. وفي منظور قطامش، فإن العلاقة مع الجمهور هي علاقة حوار وصراع، وهي علاقة طبيعية وضرورية لإيصال الفكر المختلف، شريطة أن يكون هذا الطرح يحمل في داخله رؤى حقيقية ووعي، ليس بغية التحدي واستفزاز الجماهير فقط. 

الندوة العاشرة: التربية الراديكالية والتحرر الوطني  التاريخ: الجمعة ١٧ كانون أول / ديسمبر ٢٠٢١ المتحدثون:غوستافو إستيفا، أباهر السقا، نبيلة اسبانيولي، منير فاشه، نسرين عبد العال  إدارة الجلسة: ميسون سكرية 

 كيف تكون تجاربنا محركا يدفعنا للتغيير والمضي قدما؟ وكيف نسخّرها لتحقيق كفاءة جمعية أعلى وأكثر تأثيرًا؟ 

تتناول الجلسة الأخيرة من جمعات راديكالية موضوعًا إشكاليا من حيث التعريف والمضمون، موضوع الوطنية والتحرر الوطني. التحرر الوطني بمفهومه الأوسع، تقرير المصير. التحرر الوطني الذي يشمل أنواع التحرر المختلفة: المرأة، الاستعمار، العنصرية وغير ذلك. سارت هذه الجلسة على ثلاثة محاور رئيسية، تمت مناقشتها مع المتحدثين تباعًا.

تناول المحور الأول التقاليد المختلفة للتربية الراديكالية كما يفهمها ممارسوها.
كيف تنظرون إلى عملكم باعتباره إرث واسع للتربية الراديكالية؟ 

 من وجهة نظر نبيلة اسبانيولي، يبدأ العمل التحرري بالعودة إلى الجذور، العودة إلى الإرث الثقافي والوطني من أجل الانطلاق نحو المشروع التحرري الأوسع، فيما أطلقت عليه ’الحلم‘. وترى نبيلة أن الصراع الحقيقي في المجتمعات المضطهَدة يتمثل في حماية الهوية، هوية البقاء والاستمرار، وتشير إلى أن العمل المبكر على ترسيخ هذه الهوية من شأنه أن يساعد على بلورة هوية متحركة، يستطيع متبنيها أن ينطلق في مسار بناء حلم تحرري مستقبلي مرتبط بخصوصية واقعه. 

وفي اعتقاد أباهر السقّا أن أحد أهم الصراعات التي يجب خوضها مع المستعمر هي السجال المعرفي، السجال حول احتكار المنظومة المعرفية وحول المعرفة التحررية والبديلة. ويشير إلى ضرورة الخروج المعرفي من عباءة المستعمر، ومأسسة معرفة مستقلة خاصة بشعوب المنطقة، مناقضة للاستعمار وتسعى لتحرير المجتمع بالمعنى الشمولي. ويوضح أن الجامعات تمثل أحد أهم المعتركات المعرفية التي يتجسد فيها صراع إنتاج المعرفة والخطاب المعرفي الموجه. وأكد على الحاجة لتقليص الهوة بين المجتمع الأكاديمي وباقي شرائح المجتمع، الذي يمكن أن يؤدي إلى خلق معرفة أكثر التحاما بحاجات مستخدميها وواقعهم.

ثم يحاول غوستافو إستيفا ربط الحراك التحرري في فلسطين بما يحدث في المكسيك، مشيرًا إلى التشابه الشديد بين الحالات النضالية والمقموعة في البقاع المختلفة. وعلى صعيد التربية التحررية، يعتقد غوستافو بضرورة عدم استخدام كلمة تعليم بمفهومها التقليدي والمؤسساتي، والاستعاضة عنها بمفهوم التربية الراديكالية، الذي يتيح لنا الهروب من التقليدي والضيق إلى التعلّم بحرية، بداية من أن نفعل ما نريد فعله.

“التربية التحررية هي الخروج من حالة الشعور بأننا أدنى”
يوضح منير فاشة أن التحرر يبدأ لزاما من استعادة معرفة قدر أنفسنا، والتخلي عن الشعور بالدونية. وأن الفكر التحرري يحتاج إلى التحام واعتقاد بخصوصية وأصالة حضارتنا، خاصة بسبب حجم وفرادة المخزون المعرفي والحضاري الذي تزخر به المنطقة.

وفي ختام المحور تنتقل نسرين عبد العال للحديث حول الأدوات التربوية الراديكالية المستخدمة في المجال البصري، وتوضح أن المواد البصرية يمكن أن تشكل رسالة فكرية وفاعلة في تغيير نمطية السردية الوطنية والنضالية عبر تقديم محتوى في متناول الجميع، محتوى يقدم رسائل فاعلة واضحة للمتلقي.

ما هو الدور الذي يلعبه إنتاج المعرفة في التحول وإلهام خيالنا السياسي؟

تتحدث نبيلة في صدد الإجابة عن تساؤلات المحور الثاني بأن معايشة المعرفة هي العنصر الأساسي لخلق المخيال السياسي. وهو ما يتم عبر تطوير معرفة خاصة بنا، معرفة واقعية مستلهمة من التجربة والمحاكاة، تخضع للنقد والتجديد وتساهم في توليد معرفة حية من رحم المعرفة المتواجدة. معرفة قادرة على المساهمة في بناء حلم التحرير. وتوضح نبيلة أن مساحات التعلم متعددة ولا تقتصر على المدارس والجامعات، بل هو فعل طبيعي يمكن أن يحدث في أي حيز تفاعلي.

في حين يشير أباهر إلى إشكالية فهم المخيال السياسي الواقعي، موضحا أن المخيال السياسي لا يجب اختزاله بالاحتلال الذي يشكل الجزء ’الأبسط‘ من البنية الاستعمارية، حسب رؤية المتحدث. بل يجب أن يتعدى فكرة الاحتلال إلى طرح فكرة ’العام‘، فكرة الجمعي والمشترك، في مواجهة سيطرة الفردانية والوطنية المحدودة. بالإضافة إلى طرح مِخيالات سياسية تتعامل مع القضايا المجتمعية والجمعية باهتمام كبير يوازي الحِراكات الوطنية التقليدية.

وفي اعتقاد غوستافو أن الاحتلال الحقيقي يبدأ باحتلال الروح الحرّة، الذي يؤدي إلى احتلال المخيال السياسي بالضرورة. وفي رؤيته أن الانطلاق لخلق مخيال سياسي جديد يبدأ بالفهم والتحرر من المِخيالات السياسية الحالية. كما يشدّد على ضرورة التركيز على الحاضر والواقع قبل الانطلاق في المخيلة بكامل طاقتها نحو المستقبل، حيث لا مستقبل متحرر دون فهم ومعايشة للحاضر. وذلك لا يختلف كثيرًا عن رؤية منير بأن صناعة مخيال سياسي جديد لا بد أن تنطلق من التحرر من المعرفة الكولونيالية الطاغية، أو كما وصفه بـ’حالة التحرر من هذيان المدينة المهيمنة‘. وإعادة تعريف المرجعيات المعرفية، التي تتشكل من الواقع والمعاينة. 

وبالعودة للأدوات المعرفية، توضح نسرين إمكانيات استخدام هذه الأدوات كوسيلة لخلق وتشريع المخيال السياسي، وتقديم السردية الفلسطينية كوجود شرعي حقيقي. كما ترى أن بناء المخيال السياسي يحتاج إلى الانفتاح على القضايا والمِخيالات السياسية الأخرى، دون تحويل قضايانا إلى مشاريع مركزية محدودة الأفق.

دار المحور الثالث حول الطرق التي تمكننا أن نعمل من أجل ربط التربية الراديكالية مباشرة مع النضال التحرري؟ 

 تشير نبيلة إلى أن النضال التحرري هو فعل ممارسة يومية ولحظية، فعل يبدأ من الذات البشرية في سبيل الوصول للتحرر الجمعي. وتؤكد أن من الضروري أن تنبع جميع هذه النضالات من مرتكزات قيمية مشتركة، مثل العدالة والمساواة، حتى لا يتم الخروج من استعمار لاستعمار آخر داخلي. وحول عولمة النضال، ترى نبيلة أنه لابد من إلغاء تراتبية وهرمية النضال، واعتبار القضايا جميعا بالقدر ذاته من الشرعية والأهمية. وهو ما يوافقه أباهر، ويضيف إلى أن النضالات التحررية تستهل طريقها عبر الخروج من الذات الاستعمارية، والعودة إلى الندية واستعادة الذات، وذلك عبر ترسيخ مفهوم ’اليومي والمعاش‘، الذي يشكل بوصلة تقود الحراك النضالي نحو حلول واقعية وميدانية. 

 ثم يعود غوستافو لإسقاط النضال التحرري في المكسيك، ويستحضر هذه المسيرة النضالية كفعل متفاعل مع الظروف والمتغيرات، وكيف أن التجربة تعمل كأداة تعلّم فعالة. ويشير إلى أن مواجهة الرأسمالية والديمقراطية الزائفة مسار حتمي لخلق مخيّلة سياسية حرّة، مخيّلة حقيقية وواقعية، تستهل طريقها بانتزاع الهرميّة من كل طبقات المجتمع.

 وكما يصيغ منير، أن النضال والتحرر هو استعادة حضارة، أو استعادة عمق حضاري. مؤكدا على تحفظه حول استعمال مفهوم التحرر الوطني، وذلك بحد وصفه يعتبر تناولًا سطحيًا بعيدًا عن العمق والجذور، جذور الحالة الجمعية والخاصة ذات البعد الحضاري المتأصل التي يمارسها أصحابها بشكل فطري وطبيعي.

وفي سؤال المشاركين حول أهمية الأمل في الممارسة التربوية الراديكالية، ترى نبيلة أن الحب هو المحرك الأساسي للعمل والاستمرار، الحب بكافة أشكاله الذي يشكل دافعًا حقيقيًا لتوليد مشاعر الأمل. ويعلّق أباهر بأن التغيير المستمر، التغير المجتمعي وتبدل الأجيال تمثل دافع حقيقي للأمل، ويستعير في هذا السياق تعبيرًا حول ’الإرادة المتفائلة‘ التي تحفزنا دائما للتفكير بالخروج من المأزق. أما بالنسبة لفاشه، فيلخص هذه التساؤلات بالمفارقة بين العيش تحت مظلة الأمل أو العيش خلف التوقعات، مشيرًا إلى أن التوقعات تتسبب لا محالة في الكثير من الضغوطات والإحباط والقلق المستمر. بينما تحدثت نسرين عن الأمل بمنظور التناقض، التناقض بين الرغبة في إنتاج الأعمال المعرفية الموجهة نحو خدمة القضية، وفي نفس الوقت الأمل في انتهاء الحاجة لإنتاج هذه الأعمال، الذي يتحقق بالتحرر وانتهاء الاستعمار.

وفي مداخلات الجمهور، توضح جيهان أن أهم التحديات التي تواجه المسيرة التحررية تتمثل في معرفة الواقع، المعرفة الممتدة بأطرها التاريخية التحليلية المعاصرة. وتضيف بأن معرفة الواقع وفهمه تشكل لبنة أساسية في حماية السردية وصياغتها بشكل أكثر ثباتا وواقعية. ويؤكد أباهر على ضرورة ترسيخ الواقع والمعرفة، مشيرًا إلى أن المسؤولية تقع على عاتق الجميع في السعي نحو هذه الغاية. 

أما فيما يخص استراتيجيات نقل هذه المعرفة وترسيخها، ففي اعتقاد نبيلة أن الاستراتيجيات الأهم هي التفعيل والتعلّم المستمر، وتستحضر ’القصة‘ باعتبارها وسيلة فعالة للحوار والتفاعل ونقل المعرفة، إضافة إلى تسليط الأضواء على المشاريع والمبادرات الساعية لإحداث تغيير معرفي وتحرري في الواقع المحيط. في حين يتحدث منير عن المجاورة باعتبارها ’اللبنة الأساسية في المجتمع‘، ويشدد على ضرورة العودة إلى المجاورات كونها ناقل طبيعي وأصيل للمعرفة، تساعد في قراءة الواقع وإعادة تشكيل روح المجتمع. 

وفي مداخلة أخرى، تتطرق سامية للأثر السلبي الذي أحدثته التكنولوجيا على الحوار والإصغاء، وما نتج عنهما من انفصال للأجيال الجديدة عن محيطهم الخارجي. بالمقابل طرح المتحدثون أفقا ممكنا لتطويع هذه الأدوات كي تكون وسيلة معرفية جديدة إذا ما تم استخدامها بحكمة، خصوصا بسبب الإمكانية العالية للوصول إلى أعداد كبيرة من المتلقين. كما تنوّه أريج في مداخلتها حول ضرورة التوعية السلوكية والتصميمية للأدوات التكنولوجية، باعتبارها نوافذ قمعية محتملة، من حيث النمط والتواجد العميق حول مستخدميها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *