العلاقة العضوية بين الأهالي والمجاورة والتعلم

أقول دوما أني أنظر إلى فلسطين كمجهر يساعدنا على رؤية ما يجري في العالم الواسع. والسبب أن ما يحدث بفلسطينيحصل فجأة مما يساعدنا على رؤية حقيقة ما يجري؛ أي، تحدث التحولات على شكل صدمات تنبهنا إلى ما يحدث في العمق، بما في ذلك المنطق الخفي خلف الحدث. بعبارة أخرى، ما يحدث ينبهنا ولا يخدرنا كما هو الحال في بلاد تسير فيها الأمور ببطء. مثلا، تحوّلنا عام 1993 بين ليلة وضحاها من أهالي إلى مواطنين. في معظم البلدان، يولد الناس مواطنين جاهزين مما يحرمهم من خبرة العيش كأهالي، التي هي خبرة أعمق وأغنى بكثير. عندما نقول مثلا أهالي “بيت ساحور” فإننا نشير إلى أناس علاقتهم الأساسية بعضُهم ببعض وعلاقتهم بأرض وجغرافيا وثقافة وحضارة وتاريخ وذاكرة جمعية. في المقابل، العلاقة الرئيسية في مجتمع المواطنين هي مع سلطة ومؤسساتها. الخلل الأكبر الذي حصل عام 1993 أننا تحولنا من كوننا أهالي إلى مواطنين. مكونات مجتمع الأهالي والتي تغذّي الناس هي التربة الأرضية والثقافية والاجتماعية-الاقتصادية والروحية. فصل عام 1993 بين فلسطين الأهالي وفلسطين المواطنين. كانت العلاقات قبل ذلك بيننا ومع المكان والثقافة هي الأساس والمرجع والمعيار؛ أصبحت مع أجهزة رسمية وبدأت العلاقات بيننا كأشخاص تتلاشى أو تتحول إلى علاقات عدائية. تحوّلنا في ذلك العام أيضا من العيش بأمل إلى العيش بتوقعات؛ تحوُّلٌ يعتبره ’إيفان إليتش‘ سببا رئيسيا لحالة القلق والإحباط التي تميز الإنسان المعاصر. ما يميز الأهالي هو العيش بأمل، والذي بالضرورة يرافقه عمل. كذلك، تحوّلنا في ذلك العام من العيش بصبر كقيمة، إلى العيش بسرعة كقيمة؛ أصبحت السرعة بغض النظر عن نتائجها قيمة جوهرية. ولاء الأهالي بعضُهم لبعض بينما ولاء المواطنين لدولة ومؤسسات. في مجتمع المواطنين، يختفي ’الإنسان الصالح‘ الذي يطيع ضميره ويبرز مكانه ’المواطن الصالح‘ الذي يطيع الأوامر. الأمريكي الذي يذهب إلى العراق ليقتل ويدمر هو مواطن صالح لكن ليس إنسانا صالحا. استبدال أهالي بمواطنين ليس استبدال كلمة بأخرى، بل احتلال علاقات آليّة محل علاقات غنية ذات جذور قوية بالمكان والذاكرة والحضارة. اللبنة الأساسية في مجتمع الأهالي هي المجاورة؛ في مجتمع المواطنين هي المؤسسة. بعدٌ آخر يميز مجتمع الأهالي هو الثقة بين الناس، فالناس يعرفون بعضهم ويعملون ما يعطي معنى لحياتهم ووجودهم وعلاقاتهم… ما يفعلونه نابع من قلوبهم.

يذكر “واصف جوهرية” في مذكراته عن القدس (زمن العثمانيين ثم الاحتلال الانكليزي) أن من أول القوانين التي وضعها الانكليز في بداية احتلالهم كان يتعلق بدخول باحة الأقصى حيث حدّدوا أياما للمسلمين وأياما للمسيحيين وأياما لليهود (بحجة ضمان الحقوق للجميع!) والذي أدى إلى تحويل الباحة من مكان مُباح يتجمع فيه أهالي القدس من مختلف الأديان والخلفيات يتبادلون الأحاديث والقصص، إلى مكان يزرع بذور الطائفية. كما أدخلوا مع الوقت مفهوما آخر يبدو جميلا على السطح لكنه مُخَرِّب في العمق: المحاورة بين الأديان بدل المجاورة والتحادث بينها… الحوار اللفظي يفرّق، بينما الجوار عادة يقرِّب.

أذكر أمرا طريفا حول كلمة مواطنين. لم تُسْتَعْمَل الكلمة في رام الله عندما كنت فتيّا سوى بالانكليزية للإشارة إلى شخص عائد من أمريكا ويريد أن يتزوج فتاة من رام الله، إذ كانوا يقولون “تزَوَّجَت citizen” أي أمريكي. رام الله حاليا مكوّنة من سلطة ومواطنين؛ اختفت روح الأهالي. لا يوجد رديف ل”أهالي” بالانكليزية؛ ربما أقرب تعبير هو people-in-community.

في الخبرة الفلسطينية، كان الأمل كبيرا والحل عميقا ومؤثرا عندما كان الأهالي بُناتَه والمجاورة أداتَه والتعلم جوهرَه. حدث هذا في كل مرة كانت المؤسسات مشلولة أو ضعيفة. بدأت هذه القناعة تتكون لديّ خلال عقد السبعينيات في الضفة الغربية وقطاع غزة وتعمَّقَت خلال الانتفاضة الأولى. ما ميز الفترتين هو ثالوثٌ مقدس: أهالي ومجاورات وتعلم. شكّلت الفترتان جذور الاقتناع بأن الأهالي هم الأمل والحل، والذي بدأ ينمو بداخلي عندما وجدنا أنفسنا (نحن أهالي الضفة والقطاع) بعد خروج منظمة التحرير من الأردن (عام 1971) نعيش دون وصاية من أحد، مما اضطرنا إلى القيام بمهام الحياة وإدارة شؤوننا اليومية بأنفسنا. شعرنا في البداية أننا أصبحنا بلا ‘أب’ يحمينا ويرعانا وأنه سيكون من الصعب علينا القيام بما يجب عمله. لكننا تفاجأنا بما حدث: شعرنا أننا ربما فقدنا ’الأب‘ لكننا لم نفقد ’الأم‘؛ لم نفقد مصادر قوتنا وتغذيتنا وحيويتنا المتمثلة بما لدى الأهالي والمجتمع والحضارة والطبيعة من قدرات ومقومات برزت دون تخطيط ومساعدات وورش عمل وبرامج تدريب ومشاريع تنموية. اكتشفنا الغنى الهائل فينا الذي غيّبته المؤسسات من خلال إيهامنا بأننا لا نستطيع عمل شيء بدونها. أي إسهام من مؤسسة يضيف دون أن يسلب الأهالي قدرتهم على القيام بما يمكنهم القيام به بأنفسهم، مرحَّبٌ به. لكن يجب مقاومة هيمنة المؤسسات عندما تُصبح بديلا للأهالي. لم نسأل خلال الفترتين ماذا نحتاج؟ بل ماذا يمكن أن نفعله بما هو متوفر؟’ اكتشفنا أن أغلى ما يملكه مجتمع هو النسيج بين الناس والنسيج مع الأرض والحضارة. وجدنا أنفسنا نتغذى من روح الأهالي والضيافة والكرم والصبر والكرامة وما هو متوفر في الطبيعة والحيّ والمجتمع والعائلة. كانت الروح التي دبّت في المجتمع مذهلة. عشتها شخصيا عبر أطر بنيتها مع أصدقاء بجامعة بيرزيت والعمل التطوعي ومع مدرسين وطلبة؛ كما عشتها عبر أطر بناها آخرون كفرقة بلالين المسرحية وفرقة الفنون الشعبية الفلسطينية. تألَّقٌت تلك الحقيقة مرة أخرى بالانتفاضة الأولى 87 -1991 عندما أغلقت السلطات الإسرائيلية المؤسسات الرسمية كالمدارس والجامعات لكنها لم تستطع إغلاق أطر تاريخية وحضارية كالعائلة والحي والجامع والكنيسة، ومثل مجاورات تكوّنت بين أصدقاء بفعل ذاتي، كما حدث في التعليم الشعبي والزراعة الجماعية ولجان الأحياء، التي أصبحت جميعا شرايين حية غذَّت المجتمع وقامت بعمل ما كان ضروريا عمله. عشت الفترتين بكل ما فيهما من ألم وأمل وحيوية، وشكلتا القناعة بأن الأهالي هم الأمل والحل، والتي تعمقت لديّ عبر أكثر من 40 سنة، واكتسبَت أبعاد جديدة عبر مؤسسة تامر ثم عبر الملتقى التربوي العربي، الذي من خلاله زرت 29 دولة عملت مع مجموعات، كثيرٌ منها يحمل روح الأهالي هم الأمل والحل. ما تحتاج له المجتمعات هو يقظة لا تنمية، وحماية لا تطوير. يقظة من أوهام سيطرت على إدراكنا مثل الاعتقاد بأن هناك مسارا أحاديا عالميا للتقدم ومسارا وحيدا للتعلم وأننا غير قادرين على العيش بما هو متوفر لدينا. تشمل اليقظة التحرّر من خرافات العصر الحديث، خرافات أدت إلى تخريب وتمزيق نواحٍ شتى في الحياة.

ما ميز الانتفاضة الأولى أنها قامت بفعل الأهالي دون وجود سلطة داخلية أو خارجية، ودون وجود زعيم أو قادة. حركة ملهمة جدا، ربما تكون أهم حدث فلسطيني منذ احتلال الانكليز لفلسطين. شكلت لجان الأحياء (أفضّل استعمال مجاورات إذ أن كلمة لجنة ترتبط عادة بمؤسسات) عصب الانتفاضة الرئيسي، وتشكل في رأيي أساسا لبناء رؤيا واسعة للتعلم والعمل المجتمعي وإعادة النظر في المصطلحات المؤسسية والتصنيفات الأكاديمية والتحرر من أوهام وخرافات القبيلة الأورو-أمريكية. معظم الناس ربطوا وما زالوا يربطون الانتفاضة الأولى بالحجارة، وعُرِفَت باسم انتفاضة الحجارة أو أطفال الحجارة. حتى محمود درويش ونزار قباني كتبوا أشعارا حول أطفال الحجارة، لكن لم يكتب أحد على حد علمي شعرا حول لجان الأحياء. أكثر ما لفت نظري وقتها أن إسرائيل لم تمنع عقد مؤتمرات دولية تدين إغلاق المدارس والجامعات وتطالب بفتحها بينما كانت شرسة جدا ضد قيام الأهالي بإدارة شؤونهم بأنفسهم. دعاني ذلك إلى كتابة مقال بجريدة القدس: “حرية الفكر والتعبير أم تحرير الفكر والتعبير؟” عقد مؤتمرات تدين وتطالب هو مثال على حرية الفكر والتعبير؛ قيام الأهالي بعمل ما هو ضروري دون مؤسسات مثال على تحرير الفكر والتعبير. تعمّق لدي الاقتناع بأن أخطر عمل على أية سلطة هو تعميق النسيج بين الأهالي وقيامهم بما هو ضروري بناءً على حيوية وقرارات ذاتية. عندما كتب ‘فانون’ ‘المعذبون في الأرض’ كان تعليق ’سارتر‘ الفرنسي ’أخطر ما في الكتاب أنه لا يتحدث إلينا‘. لا يأبه الغرب بانتقاده بل بإهماله. فكرت مليّا في الأمر ، وكان التفسير الوحيد الذي وجدته لتصرف إسرائيل أن الخطورة تكمن في الوسيط وليس في نوع العمل. الوسيط في الانتفاضة الأولى كان الشباب الذين شكلوا لجان أحياء وأداروا شؤونهم بأنفسهم دون الحاجة لسلطة أو مؤسسة أو خبراء أو أكاديميين أو سياسيين. قاموا بما هو ضروري بدافعٍ وتنظيمٍ ذاتيين. بالمقابل، انتفاضة الأقصى لم تكن مبنية على الشباب فقط بل شاركت فيها سلطات مما غيّر الوسيط. يرتبط هذا بالقضية التي ذكرتها سابقا ألا وهي أن العصر الحديث هزم الناس من خلال تحويلهم من أهالي إلى مواطنين.

باختصار: يُعرَّف المواطن برقم ’وطني‘، علاقته الأساسية بحكومة ’وطنية‘ تسرقه من خلال بنك ’وطني‘، ويحمي الحكومة والبنك جيش وقوى أمن ’وطنية‘، ويقوم بتخدير المواطن منهاجُ تعليمٍ ’وطني‘! أداة رئيسية في هذا التخدير الرياضيات التي تُسْتَعْمَل لقياس التنمية الزراعية بكمية الإنتاج فقط (بغضّ النظر عن العواقب)، وقياس تنمية المجتمع بإحصائيات استهلاكية، والاعتقاد بأن الحياة تسير على خط مستقيم (متناسين دورة الحياة)، وقياس قيمة المرء وتقدم المجتمع بواسطة أرقام، متناسين أننا كعرب نملك منذ 1400 سنة مبدأً فيه من الغنى والحكمة والاحترام ما يمكن أن يجعله أساس رؤيا تربوية، المبدأ المتضمن بعبارة الإمام علي: ‘قيمة كل امرئ ما يحسنه’ بالمعاني المتعددة ل’يحسن‘ بالعربية: الإتقان والجمال والعطاء والاحترام والنفع

‘سلاح’ الأهالي في البناء المجتمعي هو المجاورات، وسلاحهم على صعيد المعرفة هو التأمل بخبرات والاجتهاد في تكوين معنى لها. تغييب معارف الأهالي تطلّب إلغاء الأهالي كمكوّن اجتماعي، وإلغاء الطبيعة والثقافة كمصادر تغذي الجسم والعقل. كذلك، تطلّب هذا التغييب مصادرة كلمات ومعان منبعها الحياة، وتصنيع كلمات مصدرها مؤسسات. صودرت الضيافة ليحل محلها استهلاك؛ وصودرت الكرامة ليحل محلها حقوق؛ واختفت المجاورة والتحادث لتحل محلهما محاورة؛ وتراجع احترام الطبيعة ليحل محلّه إخضاع الطبيعة. تمت هذه الأمور عبر مهنيين مدججين بكلمات ومعانٍ مرتبطة بالسيطرة ومراكز القوة. تمّ طمس أنظمة معرفية، وبروز أنظمة معرفية أصولية كالعلوم والرياضيات بمفاهيمهم السائدة. وُضِع العقل على العرش وسُجِنت الحكمة. تمّ تمزيق نسيج الأهالي لتحل محله علاقات رسمية هرمية. نحتاج إلى استعادة الحكمة في الحياة، وموطنها الأهالي.

ضروري التمييز بين معرفة وتعلُّم مرتبطين بالطبيعة ونابعين من الحياة وعبر مجاورات وبين معرفة وتعلم مرتبطين بسلطة وصادرين عن مؤسسات؛ بين المعرفة كأسلوب حياة والمعرفة كسلعة معروضة للبيع. المعرفة الأولى مرتبطة بأهالي، والثانية بمؤسسات. التعلم في الحالة الأولى شيء يفعله الشخص لنفسه (صقل فكره وبيانه وتعامله)، بينما في الثانية شيء يعطيه شخص لآخر. من أهم أعضاء جسم الإنسان بالنسبة لتعلُّمٍ ذي معنى هي الأصابع إذ تربط الفكر بالواقع. ويمثّل بيان الشخص المظهر المرئي لمعرفته. الأصابع مغيّبة من التعليم؛ تُستعمَل فقط لطلب السماح بالتكلم أو لضغط على زر. المعرفة في عالم المؤسسات غالبا ما تكون أداة إلهاء وتخدير وتشويه وسيطرة. لعل أسوأ ما يفعله التعليم الرسمي هو النظر إلى الحياة من خلال كلمات.

في مجتمعات الأهالي، المعرفة فِعْل. جذر كل كلمة بالعربية فِعْل. جزء من جمال اللغة العربية أن جوهرها أفعال وليس أسماء أو صفات؛ أي أن الفعل هو الأصل. هذه الحقيقة تجعل العربية لغة مرتبطة بالحياة، فالحياة فِعْلٌ وليست اسما أو صفة. في الفِعْل حركة وفي الحركة بركة. أهمية التأمل والتفكّر تكمن في ارتباطهما بفِعْل أو خبرة أو حَدَث أو ظاهرة. ضروري التحرر من جمل مكونة كليا من أسماء وصفات مثل ‘استراتيجية التعليم في التنمية المستدامة’ التي تحوي أربع كلمات ليس لأيٍّ منها مدلولٌ محدد، وليس في الجملة فعلٌ واحد. الفعل الرئيسي المستعمل بالمؤسسات هو فعل الأمر! عبارة الإمام علي “قيمة كل امرئ ما يحسنه” تربط قيمة المرء بفعل. في المقابل، ترتبط قيمة المرء في المؤسسات برقم. عبارة الإمام لا تقسم الناس إلى صفات مثل عارفين وجاهلين أو ناجحين وراسبين أو متعلمين وأميين بل تردّ قيمة الشخص إلى ما يحسنه. لغة الأهالي تحتوي في أغلبها على أفعال تستمد معانيها من الحياة: ضَحِكَ، لَعِبَ، مشى، أكل، زرع، تحدّث، ناقش، سبح، طبخ، زرع، شرب، غنّى… في عالم المواطنين والمؤسسات، لا يمكن مثلا ترجمة تعبير ‘الأول على الصف’ إلى فعل ، كما أن معظم الكلمات المستعملة هي أسماء وصفات: تنمية حقوق هوية دولة تطوير تكنولوجيا علم صحة تميُّز تمكين…

مجتمع المواطنين (وفق الفكر المهيمن) يتكون من ثلاثة قطاعات: حكومي ومدني وخاص. مجتمع الأهالي يتكون من أنسجة تغذي الإنسان والمجتمع: نسيج مع التربة الأرضية التي تغذي الجسم، والتربة الثقافية التي تغذي العقل والإدراك، والتربة الاجتماعية-الاقتصادية التي تغذي العلاقات، والتربة الروحية التي تغذي الجزء الخفي من الحياة. لعل أهم مخلوق في توليد تربة الأرض هو دودة الأرض، وأهم مخلوق في توليد تربة المجتمع هو الأم. هذه الأنسجة المتداخلة هي مكوّنات المجتمع ومناعته الداخلية التي تحميه. من بين أخطر الاختراعات الممزِّقة للنسيج مع التربة الأرضية هو السيفون الذي بلا شك اختراع علمي هائل لكن يفتقر إلى حكمة، فلو نظرنا إلى عواقبه نجده من أخطر الاختراعات: يسلبنا الماء والفضلات والتربة، ويلوّث الطبيعة. أما بالنسبة للنسيج الثقافي الاجتماعي فأكبر مُمَزِّق له هو التعليم الرسمي بكل مكوناته. وأكبر ممزّق للنسيج الاقتصادي التركات والبنوك ’الوطنية‘. السيفون والتعليم الرسمي المركزي والدولة الحديثة التي ادعى الغرب أنها أدوات تقدم وتمدن هي أدوات تخريب رئيسية لمجتمعات الأهالي. ترك الانكليز فلسطين لكن بقيت مؤسساتهم تمزق المجتمع وتقتل مناعته الداخلية وتشلّ قدراته وتنهب مقوماته. كان تخريب الحياة في العصور السابقة ناتج عن جهل؛ في العصر الحديث ناتج عن علم وتخطيط وتصميم وتنفيذ. لم يَحِدْ إلا القلة من العلماء عن مفهوم ’فرانسس بيكن‘ بأن العلم هو إخضاع الطبيعة. كذلك، كوّنت التنمية كما صاغها ترومان قبل 70 عاما عاملا هاما في التخريب والتمزيق. هذه أول مرة منذ آلاف السنين تتحول الأرض الفلسطينية من مصدر رزق وكرامة وانتماء إلى سلعة معروضة للبيع، وأول مرة يعهّر فيها المتعلم نفسه لمن يدفع أكثر. هذه الظاهرة حصلت في كل بلد دخله “البنك الدولي” لل’مساعدة‘ في تنميته، والتي في الواقع أدت إلى هزيمته وتمزيقه ونهبه وقتل مناعته.

الحياة أغنى وأعمق مما يستطيع العقل إدراكه وما تستطيع اللغة التعبير عنه. خلافا لما هو سائد في الغرب بأن الحياة مكونة من مادة وفكر، وبالتالي يمكن التعبير عنها كليا من خلال مفاهيم وكلمات، فإن القناعة بأن ’الأهالي هم الأمل والحل‘ تشمل بُعدا ثالثا خفيا عن العقل واللغة بحيث يعجز الاثنان عن فهمه والتعبير عنه كاملا: البعد المتمثّل بالحكمة والعمق الحضاري، وأهمية استعادة مواطن القوة فينا وفي مجتمعاتنا وحضارتنا. بهذا المعنى، “العودة إلى الوراء” ليس تخلفا وإنما ضرورة للتحرر من هزيمتنا من الداخل. تتمثل هذه العودة مثلا بالعودة إلى شرب الماء بدل سوائل غازية، والتعلم الذي لا يحتاج إلى تدريس، ومأكولات لم تخربها العلوم. تتم العودة على صعيد المعرفة والفهم من خلال التأمل بخبرات، والاجتهاد في تكوين معنى لها. هذا ما حصل معي منذ 1971 حين وعيت ضرورة الشفاء من المعرفة المرتبطة بقيم السيطرة والفوز والإلهاء والافتخار بالعبودية. اختراع شهادات تشهد بنجاح أو فشل شخص، أو بتقدم أو تخلف مجتمع هو جريمة ضد الحكمة. لا توجد وحدة لقياس البشر والحضارات. كل إنسان كامل بشكل فريد، وكل حضارة عالَمٌ قائمٌ بذاته، بعلاقة تبادلية حيّة مع حضارات أخرى.

استعادة روح الأهالي يتطلب أمرين: انتزاع أنفسنا من أوهام المدنية الحديثة، واستعادة ما سلب منا من مقومات شخصية ومجتمعية وحضارية. قصة الغراب والحجلة بكتاب ‘كليلة ودمنة’ تنطبق على العصر الحاضر. منذ ‘محمد علي’ نحاول تقليد الغرب الذي اعتقدنا أنه أفضل؛ نجد أنفسنا في نفس مأزق الغراب: لم ننجح في تقليد الآخرين وفقدنا القدرة على استعادة مشيتنا.

 

…سكر بحت… ورياضيات بحتة

على مدى العصور كان السكر موجودا ضمن مأكولات طبيعية مثل الفواكه. في يومنا هذا، يُنْتَزَع السكر ويباع ك”سكر بحت” ويُعْطى إيحاء بأنه تطور عبر تكنولوجيا تستطيع فصله وبيعه مستقلا عن سياقاته الطبيعية. مضار السكر البحت كثيرة وعميقة وتظهر في نواحي عديدة، خاصة بالنسبة للأطفال… كان الإنسان يستهلك كميات قليلة معقولة من السكر دون أي عواقب جسمية أو صحية. في العصر الحديث يتم استخراجه من أغذية طبيعية ويستهلك منفصلا عنها، ويسبّب ما يسببه من أذى.

كذلك الحال بالنسبة للرياضيات، التي على مدى العصور كانت موجودة ضمن ظواهر عديدة كالفلك والزراعة وكأداة للعيش بحكمة. انتُزِعَت في العصر الحديث وأصبحت ‘تباع’ للطلبة ك”رياضيات بحتة”. درست الرياضيات ثم درّستها سنوات عديدة. عشت شائعة أن الرياضيات البحتة هي أرقى أنواع الرياضيات، إذ تعكس معرفة فكرية عالية مجردة عالمية. وصدّقت ذلك. انتزاع الرياضيات من سياقها وتجريدها من أي معنى هو عمل تخريبي للعقل والإدراك وتحويلنا إلى عبيد نفتخر بعبوديتنا. مضار الرياضيات البحتة كثيرة لكنها غير ظاهرة للعين وخفية عن العقل. تشمل هذه المضار المنطق الثنائي الذي هو منطق مفيد لصناعة أجهزة وآلات، ولكن ليس للحياة؛ هو منطق ممزّق للإنسان والمجتمع وناجع للسيطرة عليهما. نواحي أخرى في الرياضيات البحتة تدمّر الفكر والحياة تشمل ادعاء العالمية بالنسبة لنتائجها ونظرياتها وتعاريفها، بينما في الواقع لا يوجد أي كلمة أو ادعاء له معنى عالمي. كذلك الحال بالنسبة لادعاء الرياضيات البحتة بأن البرهان الاستنتاجي هو أرقى أنواع البرهان مما يخفي أنواع أخرى في موضوع البرهنة، موجودة عبر التاريخ وفي الحياة.

أي شيء في الحياة يُنْتَزَع من سياقه الطبيعي، ويُحَوَّل إلى حالة نقية بحتة، يصبح ضارا، بما في ذلك المعرفة والعلوم والدين والسياسة والسكر والملح والمحبة؛ إذا جردناها من سياقاتها الطبيعية تصبح مؤذية. وينطبق هذا أيضا على أمور مثل فيتامينات بحتة يحشرونها في حبوب ويدّعون أنها جيدة. ربما تكون مفيدة في بعض الأحيان مثلا في حالات ليست متوفرة في مأكولات طبيعية في بيئة المحتاج، لكن في الحالات الطبيعية من الأفضل أن تتوفر الفيتامينات في أطعمة حقيقية.

لذا فإن المطلوب في التعليم هو ليس تغيير المناهج بل تغيير إدراكنا للتعلم. التعلم في جوهره قدرة بيولوجية تتم ضمن أجواء حقيقية وظواهر طبيعية وليس عن طريق شرذمة المعرفة إلى مواد متفرقة، ثم لملمتها تحت عنوان مثل ‘متعدد الاختصاصات’ interdisciplinary .  تشبه هذه اللملمة لملمة أجزاء صحن مكسور ومحاولة إعادة تكوين الصحن الكامل منها. ‘تكسير’ المعرفة إلى مواد متفرقة ثم محاولة لملمتها هو مسعى هدفه عدم تنمية قدرة الإنسان على رؤية الصورة الكلية، وعلى ملاحظة العلاقات بين الظواهر المختلفة في الحياة. هي جريمة مقصودة هدفها ككل نواحي الأيديولوجية المهيمنة: السيطرة على العقول وبالتالي على شتى نواحي الحياة. تصوروا مثلا لو كان منهاج المرحلة الابتدائية (السنوات الستة الأولى) والذي يتراوح عدد المواد فيه بين ست مواد في الصف الأول و12 مادة في الصف السادس،  لو كان يقتصر على موضوعين فقط: الطبيعة والثقافة لكان سيؤدي إلى ربط الأمور والفهم ورؤية الصورة الكلية في معرفة وحياة وفهم الشخص. سيتعلم الطفل كل المواد الحالية وغيرها ضمن سياق وضمن فعل وبشكل مترابط وضمن قيم تتوافق مع الحكمة… وبدون منافسة حول أمور سخيفة مثل علامات. لذا عندما أسمع شخصا يتساءل: ما هو البديل؟ أشعر بشفقة…

البحث عن المنطق الخفي لما نراه ونعيشه من ظواهر، وملاحظة وجه الشبه بين ظواهر عدة، يشكلان في رأيي جوهر الفكر الرياضي والرياضيات، ولكنهما مغيّبان. ما ذكرته بأعلاه من ملاحظتي لوجه الشبه بين الرياضيات البحتة والسكر البحت يمثل قدرة رياضية. فالإثنان يُجَرَّدان من سياقهما الطبيعي.

لا أمل للبشرية دون انتزاع أنفسنا من التعليم الرسمي بكل عيوبه وأوهامه وأمراضه وخرافاته، واستعادة التعلم وفق الحكمة كقيمة جوهرية.

“اللغة الأم” و”الكتب المقررة”

تعبيران يبدوان بريئين، بل يوحيان بتقدم وتطوّر. لكنهما في الواقع يغلّفان تخريبا خفيّا كأدوات سيطرة على العقول، أدوات تنطوي على خبث بحيث لا نراها بسهولة. اللغة تقع في صلب الحضارة العربية. كيف نفسّر إذن عدم استعمال العرب لتعبير ‘اللغة الأم’ عبر تاريخهم وكتاباتهم وآدابهم، وأنهم بدأوا باستعماله فقط بعد سماع الرديف بلغات أجنبية ك mother tongue ؟ كذلك الحال مع تعبير ‘كتاب مقرر’ الذي استعملناه فقط كترجمة ل textbook والذي يعني حرفيا كتاب نصوص. التعبير الذي نستعمله بالعربية يفضح حقيقة الكتب المدرسية إذ ينصّ على أنها مقررة من قبل سلطة، وليست كتبا نابعة من الحياة.

استعمل العرب تعبير ‘أمهات الكتب’ لكن لم يستعملوا تعبير ‘اللغة الأم’. يجب أن ينبّهنا هذا إلى أن في الأمر شيئا مريبا في أقل تقدير. إذن أول ملاحظة حول الموضوع هي أن تعبير ‘اللغة الأم’ لم يتكون عبر التفاعل مع الحياة بل ناتج من سلطة حديثة لغرضٍ في نفس يعقوب. هو تعبير مصطنع وليس أصيلا. نشأ تاريخيا مع قيام الدولة القومية ضمن القبيلة الأوروبية، وكانت فرنسا أول بلد احتاج إلى هذه اللغة الرسمية، لغة السلطة والسيطرة، وعلى جميع الأطفال أن يدرسوها، ويعاقَبوا (أو يُسْتَهْزَأ بهم) إذا لم يجيدوها كما تملى عليهم [سأحكي قصة احتلال ‘اللغة الأم’ محل ‘لغة الأم’ في مدونة أخرى]. الهدف الرئيسي من اللغة الأم هو السيطرة على العقول والإدراك؛ هي لغة ترتبط بالدراسة لا بالتعلم؛ هي لغة المناهج والكتب المقررة ولغة المؤسسات عامة والتي تحكمها قيم السيطرة والفوز والاستهلاك، لا لغة الحياة. انتقل التعبير إلى بلداننا كجزء من الهجمة الكولونيالية عبر إنشاء ‘قواعد معرفية’ (مدارس وجامعات) مهّدت الطريق لإنشاء قواعد عسكرية وسياسية ومالية فيما بعد. أُطْلِقَ على هذه اللغة المصنّعة اسم ‘اللغة الأم’ للتمويه ولإعطائها إيحاءات إيجابية لكنها في الواقع كانت بمثابة احتلال لغة رسمية محل لغات حية يتعلمها كل طفل بعقله الفطري الحدسي إذ كل ما تحتاجه هو العيش في أجواء حقيقية تستعملها مثل اللغة في البيت واللغة التي يكتسبها الطفل عبر تعرضه لكتب أدب وشعر وقصص؛ كتب هي بمثابة بيان يبيّن ما نما ونضج لدى الكاتب أو ما زال يغلي بداخله.

مقابل ‘اللغة الأم’ توجد لغة الأم، وهي لغة عشناها جميعا وارتوينا منها؛ هي لغة الحياة يتعلمها كل طفل وهو بعمر 3 أو 4 سنوات (مما يدل بشكل صارخ أن الناس متساوون في الذكاء). لغة الأم هي بمثابة اللغة الشاعرية الأولى التي يسمعها ويستمتع بها الطفل، هي لغة تخرج من القلب فتصل ليس فقط أذني الطفل بل أيضا قلبه ومشاعره. هي لغة تعبّر عن حب وعاطفة صادقة، تهيّئ الطفل لاستقبال لغة الشعر والأدب. لكن ما يحدث هو تدخّل ‘اللغة الأم’، اللغة الرسمية المصنعة التي تستعمل حروفا عربية لكن معانيها ومرجعيتها القبيلة الأورو-أمريكية التي تحكمها قيم السيطرة والفوز والاستهلاك. نهمل ونحتقر اللغة الحية وندرس وندرّس لغة ميتة لم تنبع من الحياة، بل لا حياة فيها. مثلا، لا يوجد في التاريخ العربي (ولا في تاريخ الشعوب عامة) كلمات رديفة ل‘ناجح’ و‘راسب’ بالمعنى الذي يصدر بشهادة رسمية من مؤسسات ومهنيين مرخصين. خطورة هذه الكلمات تكمن في أن هدفها هو تمزيق الإنسان والمجتمع والسيطرة على الاثنين من خلال الادعاء بأن معانيها علمية موضوعية حيادية. وهذا حدث فقط نتيجة احتكار القبيلة الأوروبية لتصنيع هذه الكلمات وإضفاء صفة ‘مصطلحات مؤسسية’ و‘تصنيفات أكاديمية’ عليها، مما يجعل من الصعب جدا على الإنسان المتعلم أن يتحدث عن حياته خارج هذه المصطلحات والتصنيفات. الكتب المقررة هي أدوات ذكية في تخريب العقل والإدراك والعلاقات والعالم الداخلي للإنسان. جدير بالذكر أن هذه السيطرة بدأت ضد شعوب الدول الغربية ثم انتقلت إلى بلادنا. أي، تمّ تخدير شعوب القبيلة الأورو-أمريكية لتكون أداة في تخدير الشعوب الأخرى. وفيما بعد أصبحنا نحن الذين درسنا على شيخ تلك القبيلة الأداة في السيطرة على شعوبنا.

الكتب المقررة سلعة غريبة لا يحتاج البائع (المدرّس) أن يقنع الزبون (الطالب) باقتنائها.، إذ كل طالب بأمرٍ من السلطة القائمة يجب أن يقتنيها ويقرأها مكرها دون سؤال ودون قناعة بأنها مفيدة. كل طالب حول العالم يدرس المنطق الثنائي في الرياضيات الذي له أهمية في صنع أجهزة وآلات وأهمية في السيطرة على الإنسان والمجتمعات وإذلالهم، لكن ليس له فائدة إيجابية بالنسبة لعافية الإنسان والمجتمع والطبيعة. تصوروا لو خلال 12 سنة التي يقضيها الطالب في المدرسة يتعرف على اللغة العربية عبر كتب أدب وشعر وكتب تعكس تأمّل الكاتب في حياته وخبراته، واجتهاده في تكوين معنى لكل ذلك – بدلا من إعراب ما تحته خط! جدير بالذكر أن هذا المسار عمل بموجبه ‘خليل السكاكيني، في تعامله مع الأطفال ونشر كتابه “وعليه قس” (إذ رأى أن اللغة العربية منطقية تتبع أنماطا)، كما أنه كان مولعا بقراءة كتب أدب مليئة بالجمال وغنية بالحكمة… هنا بالضبط تكمن أهمية وجود مكتبة غنية ومتنوعة في مقتنياتها في المدرسة أو في مكتبة عامة في البلد وتصبح مورد اللغة الرئيسي بالنسبة للطفل.

أعود لألخّص: تعبير ‘اللغة الأم’ هو تعبير خبيث إذ عبره يتم إدخال كلمات لها إيحاءات أكثر مما لها دلالات، كلمات تلهينا عما هو هام وفيه غذاء للفكر والتعبير والفهم. الهجمة الثقافية المعرفية على منطقتنا لم تتم عبر لغة أجنبية محل عربية وإنما بطريقة أخبث بكثير: لغة تستعمل أحرف عربية لكن معانيها ومرجعيتها هي القبيلة الأورو-أمريكية. من هنا المشكلة الجوهرية في التعليم لا تكمن في التلقين كما هو سائد بل في استبدال لغات حية بلغة رسمية مصنعة، لغة الكتب المقررة، مما يعني ضرورة ممارسة حقنا في أن نكون شركاء في تكوين معانٍ للكلمات التي نستعملها – حق مغيّب من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومن وثيقة حقوق الطفل! لكن يمكننا ممارسته دون إذن، إذ يشكل قدرة بيولوجية.

بحث أم إعادة بحث أم بحث يتمّ وفق ما تمليه سلطة ما؟

لعل من أهم ما نحتاجه للسير على طريق الحكمة هو انتزاع أنفسنا من اعتبار المصطلحات المؤسسية والتصنيفات الأكاديمية مرجعا وأساسا وأنها تعكس الحقيقة وتصف الواقع، فهي مصطلحات وتصنيفات تصدر عن مؤسسات عبر مهنيين مرخصين وخبراء هم بمثابة شرطة على الفكر والتعبير – شرطة لضمان السيطرة على عقول الناس وتخريبها عبر كلمات مصنّعة، تماما مثل ما تفعل المأكولات المصنعة بالنسبة لتخريب الجسم. سأختار كلمة ‘بحث’ لتوضيح ما أقوله.

من أكثر الكلمات الأكاديمية التي تلفّها هالة مبهرة لكنها في الواقع وفي معظم الحالات تلهينا عما هو هام وجوهري في الحياة هي كلمة ‘بحث’ التي نستعملها كرديف research بينما هي في الواقع رديف search . جدير بالذكر كذلك أن الترجمة الدقيقة لكلمة research هي ‘إعادة البحث’ والتي لا تعني ما نفعله فيما نطلق عليه research إذ من الأنسب أن نطلق عليه صفة “بحث محكوم من سلطة”.

لا شك أننا نحتاج إلى إجراء بحوث بالشكل السائد في حالات محدودة ومحددة، لكن بالنسبة لغالبية الناس وفي معظم نواحي الحياة، يحتاج الشخص إلى التركيز على ما يبحث عنه في حياته والبناء عليه. “أنت ما تبحث عنه”… هذا ما قاله جلال الدين الرومي قبل 700 سنة، وهذا ما هو مغيّب في الوقت الحاضر لأنه يصبح من الصعب عندئذ السيطرة على الشخص في هذه الحالة. إذا ركّز الإنسان على ما يبحث عنه يكون حاكما لذاته ولمعانيه ومواقفه وأفعاله؛ بينما إذا قام بأبحاث كمتطلب للحصول على شهادة أو مقابل مال أو كجزء من وظيفة فإنه يكون محكوما في حياته وفكره وفق ما تمليه عليه سلطة ما. ما يبحث عنه الشخص يشكل جزءا هاما مما نشير إليه كهُوِيّته؛ أما الجزء الآخر الهام جدا كمكوِّن لهويته فيكمن في عبارة الإمام علي: “قيمة كل امرئ ما يحسنه”. سأعود إلى مقولة الرومي ومقولة الإمام علي في مدونات قادمة، فَهُما مكوِّنان هامّين جدا في العيش بحكمة. جدير بالذكر هنا أيضا أن المقولتين ترتبطان برؤيا حول الحياة وليس بمفاهيم ونظريات…

منذ 1971 وأنا أبحث عن معانٍ لكلمات مثل تعلم ومعرفة وعلم ورياضيات وأيضا عن مصدر لقيمة المرء مغايرة للتقييم العمودي السائد والذي يمزق الإنسان والمجتمع ويسلبهما من الكرامة (التي في رأيي أهم ما يميز الإنسان). في سعيي للبحث (بمعنى search ) عن مصدر لقيمة المرء يحترم الإنسان وجدت نفسي أبحث (بمعنى research ) عن كيف العرب القدماء تعاملوا مع مصدر قيمة المرء، ووجدته كما سبق وذكرت في عبارة الإمام علي والتي قرأتها لأول مرة في كتاب ‘البيان والتبيين’ للجاحظ. ومنذ قراءتي تلك (عام 1997) عشت القناعة بأن البحث (بمعنى research ) يخدم البحث بمعنى ما يبحث عنه الإنسان في حياته.

يشكّل ما ذكرته بأعلاه – أيضا – مثالا على قضية هامة أخرى سأسهب فيها لاحقا ألا وهي: تحرير الفكر والتعبير في عالمنا المعاصر أهم بكثير من حرية الفكر والتعبير.

لا أمل في استمرار الحياة على الأرض دون استعادة الحكمة كبوصلة في العيش والفكر والتعامل

البوصلتان الرئيسيتان اللتان تحكمان تصرف أغلبية الناس والمجتمعات في الوقت الحاضر هما: العيش وفق نمط الاستهلاك في الفكر والقول والعمل والتعامل، والعيش وفق الاعتقاد بأن هناك مسارا أحاديا عالميا للتقدم (وهو اعتقاد يشكّل جوهر الأصولية الحديثة التي يجسدها وينشرها التعليم الرسمي، خاصة الرياضيات والعلوم كما نَمَت ضمن القبيلة الأورو-أمريكية). فالتعليم الرسمي يهيّئ الطلبة للعيش وفق نمط الاستهلاك ووفق هذا الاعتقاد، إذ يتعامل مع الإنسان والمعرفة كسلع لها سعر في سوق الاستهلاك كما ينشر في نفس الوقت خرافة وجود مسار أحادي عالمي للتقدم. البوصلة التي ميزت معظم الحضارات قبل هيمنة القبيلة الأوروبية كانت الحكمة. الوضع الحالي حول العالم يتطلب استعادة الحكمة كبوصلة في العيش والفكر والتعلم والتعامل. نحتاج إلى استعادة الحكمة في صراعنا من أجل البقاء وحماية الحياة. من أخطر ما حدث عبر التاريخ كان وَضْعُ القبيلة الأوروبية (قبل قرابة 400 سنة) العقلَ على العرش وسَجْنُ الحكمة. أدى ذلك إلى تقدُّمٍ هائل على صعيد اختراع أدوات لكن بسبب عدم مرافقة الحكمة للعقل، عاث العقل فسادا لا مثيل له في التاريخ، فالعقل غير محصّن ضد السموم التي يمكن أن تدخله وتفسده من الداخل (بعكس المعدة التي إذا دخلتها سموم فإنها تتقيأها). إذا قارنّا ما كسبناه من المعارف التي لا ترافقها حكمة مع ما خسرناه عبرها، نجد أن التخريب والدمار والأخطار التي نعيشها الآن تفوق أضعافا مضاعفة ما كسبناه من العلوم المهيمنة.

تشكّل هذه المدونة محاولة متواضعة لإبراز أهمية استعادة الحكمة في الحياة حيث نبدأ بالعيش وفقها قدر الإمكان، كما تذكّرنا بالمجاورة كأفضل أداة لاستعادة الحكمة. بعثت برسالة عام 2008 إلى رؤساء الجامعات الفلسطينية لإنشاء ‘بيت حكمة’ فيها (لعشرة طلبة فقط) تجسّد روح بيت الحكمة ببغداد قبل 1200 سنة كتجربة نتعلم منها، ونُشِرَت الرسالة في جريدة ‘الحال’ بجامعة بيرزيت، لكن لا حياة لمن تنادي: أي اقتراح لا يتطابق مع القبيلة الأورو-أمريكية غير مقبول في جامعاتنا! استعادة الحكمة في حياتنا وجامعاتنا مسؤولية جوهرية ملقاة على عاتقنا كعرب. أستعمل كلمة ‘عرب’ للإشارة إلى مجتمعات تعددية أهم ما ميزها وجود نسيج مجتمعي فكري روحي بين مختلف الشعوب والثقافات. تشكل الحكمة الخيط الجوهري في جدل هذا النسيج

قوتنا الرئيسية كفلسطينيين تكمن في أننا مؤهلون – بسبب وضعنا وظروفنا منذ 1948 – لطرح رؤيا مغايرة. ففلسطين بمثابة مجهر نستطيع أن نرى عبره ما يجري في العالم الواسع. كذلك، نحن مؤهلون بسبب ما نملكه من مقوّمات، ففلسطين ملتقى ثلاث قارات وثلاث أديان، ومثّلت دوما أفقا حضاريا ورؤيا واسعة (مما يعني أن حشرها في دولة هو بمثابة حشرها في قفص حيث كل ‘جنسية’ تبقى في قفصها لا تخرج منه إلا بإذن السجان). فلسطين تشكل أفقا حضاريا علينا أن نشجع أطفالنا رسمه في أذهانهم ومخيلاتهم وإدراكهم وفق خبراتهم وتجاربهم واجتهاداتهم، وهذا يعني الشفاء من الأقفاص الفكرية والتعبيرية والإدراكية التي تعمل المؤسسات الحديثة حشرنا فيها والتي تتمثل بمصطلحات مهنية وتصنيفات أكاديمية. ويتطلب هذا الشفاء الانتباه لما يدخل عقولنا وإدراكنا وعلاقاتنا بهدف هزيمتنا من الداخل، كما يتطلب استعادة مصادر القوة فينا وفي مجتمعاتنا وحضارتنا والبناء عليها، والتي أهملناها منذ انبهارنا ببريق القبيلة الأوروبية الذي أعمانا عن رؤية الواقع. ما نحتاج له هو توليف رؤيا تجمع هذه المقومات وتستعمل لغة متعافية من مصطلحات مؤسسية وتصنيفات أكاديمية، لغة تستعمل كلمات ومعانٍ هي بيانٌ يبيّن ما يختلج وينضج بدواخلنا. انبهارنا بالقبيلة الأوروبية اعتمد على اعتقادنا بأن التقدم على صعيد الآلات والأجهزة (والذي أبدعت فيه أوروبا وأمريكا) يعني تقدما على صعيد الحياة. عندما أسمع أو أقرأ بأن المدنية الغربية هي امتداد للحضارة العربية الإسلامية، أقول: يا ليت هذا حدث، لَمَا كنا نعيش الأخطار والتخريب وتهديد الحياة على الأرض التي نعيشها جميعا حاليا نتيجة الأصولية المتمثلة بالاعتقاد بوجود مسار أحادي عالمي للتقدم. أخذت أوروبا الكثير من الحضارة العربية الإسلامية لكنها تجنّبت ما مثّل جوهر تلك الحضارة: الحكمة. أخذت أوروبا ما رأت أنه يدعم ادعاءها بالفوقية الفكرية والأخلاقية. لذا ركزت على ابن رشد لأنها استطاعت إقناع نفسها بأن ما فعله ابن رشد هو ترجمة أرسطو وأهملوا نواحي أخرى فيه كمفكر ملهم. وحديثا بدأ بعض الأوروبيين الانتباه ل‘ابن عربي’. لا أمل للبشرية إذا استمرينا بسجن الحكمة وإطلاق العنان للعقل ليسير دون ضابط ودون بوصلة سوى السيطرة والنمو الأسّي لرأس المال الذي كانت الدولة القومية والتعليم الرسمي والبنوك أهم أدواته.

أود أخيرا ذِكْرَ ناحية جديرة بالذكر هنا: ‘هارفارد’ التي تُعْتَبَر من أرقى جامعات العالم سميت باسم الشخص الذي دفع أول شيك لها، وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على فكر سوقي استهلاكي. كذلك يعكس اسم MIT  (من أهم الجامعات العلمية) اسم الولاية (ماساتشوستس) والوسيط (مؤسسة) والأداة (تكنولوجيا). في المقابل، عندما شيّد هارون الرشيد وابنه المأمون دار معرفة، لم يسموها جامعة الرشيد أو جامعة بغداد أو الجامعة العربية أو الإسلامية بل “بيت الحكمة”، وإنْ دلّ هذا على شيء فإنما يدل على أن جوهر وهدف المعرفة والعلم هو الحكمة… نحتاج إلى يقظة لوعي ما لدينا بدلا من الاحتذاء بأحذية الغير.

بين المجاورة والمحاورة

يذكر ‘واصف جوهرية’ في مذكراته (التي كتبها عن القدس أثناء الحكم العثماني ثم أثناء الاحتلال الانكليزي) أن من أول القوانين التي وضعها الانكليز عقب احتلالهم لفلسطين في نهاية الحرب العالمية الأولى، كان القانون المتعلق بدخول باحة الأقصى، حيث حددوا أياما للمسلمين وأياما للمسيحيين وأياما لليهود، والذي كان من أخبث القوانين وأكثرها تمزيقا للمجتمع إذ يزرع بذور الطائفية. أما التبرير الذي أعطاه الانكليز لوضع ذلك القانون فكان “ضمان حقوق الجميع”! عبر أكثر من 1300 سنة كانت باحة الأقصى مفتوحة للجميع. كان أهل القدس يذهبون إليها متى شاءوا، حيث كان التحادث والتفاعل وجها لوجه – أي التجاور – الوسيلة الرئيسية للتعارف وجدل نسيج فيما بينهم، وحيث كان أطفالهم يلعبون معا. بعبارة أخرى، كان التجاور لا التحاور هو الوسيط الذي يتعلم عبره الناس، عن بعضهم البعض وعما يجري من حولهم، مما كان يجدل نسيجا في المجتمع على أصعدة شتى. تحويل المجاورة إلى محاورة – ربما يبدو بريئا على السطح – إلا أنه عملٌ خبيثٌ في العمق. فالحوار عادة يتكون من ألفاظ وكلمات لا ترتبط معانيها بفِعْلٍ وسياق ولا تتكون نتيجة تأمّلٍ واجتهاد، مما يؤدي عادة إلى تنافر وتباعد ومشاعر سلبية، إذ تتحوّل في أغلب الأحيان إلى حرب ألفاظ واتهامات مرتبطة بقناعات تدّعي العالمية لدى كل طرف.

كانت العائلة عبر التاريخ أول مجاورة يعيشها الطفل، لكن أخذت حديثا بالضمور كمجاورة هامة في حياة الإنسان لأسباب كثيرة منها التواصل الإلكتروني. أهم الفترات التي عشتها وخبرتها، والتي شكّلت المجاورات فيها شريان حياة المجتمع وحيويته، كانت خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي وخلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى (87-1991). تكوّنت خلال السبعينيات مجموعات/ مجاورات عديدة بشكلٍ ذاتي تلقائي نتيجة حرب 1967 ونتيجة إخراج المنظمة من الأردن عام 1971، ونتيجة شعورنا – نحن الذين كنا نعيش في الضفة الغربية وقطاع غزة – بأن ملاذنا وحمايتنا تكمنان في العلاقات فيما بيننا. تكونت تلك المجاورات من مريدين ومرادين، دون سلطة داخلية أو خارجية، وسارت وفق انتباهٍ شديد للواقع الذي كنا نعيشه ووفق تأملٍ فيه واجتهاد في فهمه، ووفق قيمٍ تتوافق مع عافية الإنسان والمجتمع. من أول المجاورات التي تكونت في تلك الفترة كان العمل التطوعي الذي بدأ بالتكون في نهاية عام 1971 والذي كان بمثابة مجاورات تكونت وحكمت عملها ذاتيا. إلى جانب العمل التطوعي تكونت فرقة بلالين المسرحية، وفرقة الفنون الشعبية الفلسطينية، ومجاورات في مجالات تربوية كان من بينها نوادي العلوم والرياضيات في المدارس وفرق معلمين في مجالات عدة. أهم ما ميّز تلك المجاورات الربط بين الفكر والقول والعمل وفق قِيَمٍ اختارها المتجاورون مما عَكَس صدقا واحتراما.

المجاورة هي اللبنة البنيوية الأساسية في المجتمع التي تتضمن صدقا واحتراما وحيوية ومساواة وتربط الفكر والقول والفعل وحيث يمكن للمتجاورين أن يختاروا العيش والعمل والتعامل وفق الحكمة. أي بنية في المجتمع تضيف أبعادا تُغْني وتغذّي المجتمع لا ضرر منها شرط أن لا تكون بديلا للمجاورات، إذ إذا كانت، سيفقد عندها الأشخاص والمجتمع مناعتهم الداخلية ويصبحوا معرضين لأمراض وأوهام وخرافات ترتبط بقيم السيطرة والفوز وتكون بمثابة ملهيات تلهينا عما هو جوهري.

المجاورة هي الوسيط الأمثل للتعلم والعمل المجتمعي؛ هي طريق الحكمة وحاضنتها. هي شريان الحياة والعافية، وهي طريق الكرامة والمساواة والتعددية. تتطلب المجاورة تأملا واجتهادا وجدْلا للنسيج في المجتمع على شتى الأصعدة. لذا، ضروري أن نكون حذرين من أن تحتل المؤسسات محل المجاورات. لن نستطيع إلغاء المؤسسات بل نستطيع – وضروري جدا – أن لا نتعامل معها وكأنها الأساس والمرجع والمعيار. كما يمكن في بعض الأحيان حتى أن نرحّب بها إذا كانت تضيف دون أن تسلب.