لغتان لا واحدة

من أهم ما انتبهت له بحياتي أني عشت لغتين: لغة لا تحتاج لتدريس، يتعلمها الطفل كقدرة بيولوجية بعقله الفطري، لغة الحياة والتحادث والأهل والحي، نتعلمها عبر كتبٍ هي بيان يبيّن ما يختلج وينضج بالعقول والصدور والتي تشمل حكايات وأدب. أما اللغة الأخرى التي عشتها فتحتاج إلى تدريس وسيطرة وخداع وإلهاء وتقييم، لا تكوّن صورا بالذهن ولا فَهْمًا بالفكر، لغة كتب مقررة وكتب أكاديمية. بعبارة أخرى عشت لغة مؤسسية ولغة حيّة؛ لغة مؤذية مشوّهة ملهية ترتبط بسلطة وسيطرة وفوز ومراكز قوة، ولغة مغذية للعقل والقلب والروح والعلاقات وترتبط بالعيش بحكمة وعافية. اللغة الأولى تنتمي للأغصان بينما الثانية للجذور. أمثلة: التعليم ينتمي للأغصان، التعلم ينتمي للجذور؛ مواطنون للأغصان، أهالي للجذور؛ العلوم للأغصان، الحكمة للجذور؛ المحاورة للأغصان، المجاورة للجذور؛ بحث كرديف researchللأغصان، بحث كرديف searchللجذور؛ منهجية ودراسات للأغصان، تأمل واجتهاد للجذور؛ اللغة الأم للأغصان، لغة الأم للجذور؛ الملاهي للأغصان، اللعب للجذور. بالطبع، لا يعني أن يقبل القارئ الأمور كما صنفتها بأعلاه بل عليه أن يتفكر ويتأمل بخبراته وحياته ويكوّن إدراكه وفقا لذلك. الحرية والمسؤولية والتعددية وحكم الذات والكرامة والحق في الشراكة بتكوين معنى هي جوهر الإنسان.

ما حدث عبر تصميم وتخطيط وتنفيذ هو تحويل جنائن الكلام إلى كتب مقررة، وتحويل اللغة كمصدر فَهْم وتحرُّر إلى اللغة كمصدر وَهْم وسيطرة. لا تكمن مشكلة المناهج في التلقين وما شابه، بل بفكرة خبيثة قاتلة على صعيد الفكر: احتلال لغة تستعمل حروفا عربية لكن مرجعيتها ومعانيها واستعمالاتها مستمدة من القبيلة الأورو-أمريكية.

عشت احتلال لغة مصنّعة محل  لغة حيّة خلال العقود الثلاثة الأولى من حياتي. بدأ تحرري منها نتيجة حرب 1967. في العام 1971 بدأ تحرري من اللغة المصنعة وعودتي للغة النابعة من الحياة والتأمل والاجتهاد؛ عودة كان أول مظهر لانتزاعي من الاحتلال المعرفي عبر تكويني مع بعض الأصدقاء حركة العمل التطوعي بالضفة الغربية واستعادة الأصابع كوسيط للتعلم.

لفهم التمييز بين اللغتين (المصنعة والحية، المؤذية والمغذية) يمكننا النظر لما حدث للمأكولات منذ 100 عام حين بدأ احتلال مأكولات مصنعة محل مأكولات لا تحتاج لمؤسسات ومهنيين وخبراء وعلماء، تولّد ذاتها وتستمد قيمتها الغذائية من تربة حية سليمة. أسهل أن نفهم ما حدث على صعيد الأكل (غذاء الجسم) مما حدث على صعيد اللغة (غذاء العقل). يعي أغلب الناس حاليا التخريب على صعيد مأكولات مزيفة مليئة بما هو ضار تحتل محل مأكولات تنمو ضمن تربة أرضية حيّة حيويّة مليئة بمواد عضوية مغذية للجسم. هذا ما حدث للعقول منذ 350 سنة حيث الأمر أخطر إذ لا نعيه ولا ندركه ولا نحس به بنفس السهولة التي نعيها بالنسبة للمأكولات. احتلال لغة مزيّفة محل لغات حية تنمو ضمن تربة مجتمعية ثقافية مغذية للعقل يمثّل الجرثومة الأكثر تخريبا للحياة. بعبارة أخرى، وعي تخريب المأكولات لا يوازيه وعيٌ مشابه بالنسبة لتخريب اللغة الذي يؤدي لتخريب العقل. اللغة الحيّة تبدأ مع الأم والأهل والحي عبر تحادثات شفهية، وعبر أدب وشعر وحكايات وتربة ثقافية-مجتمعية سليمة. فاعل رئيسي في التربة الثقافية التي تنمو فيها اللغة العضوية هو الأم؛ وفي التربة الأرضية التي تنتج أطعمة عضوية دودة الأرض. أقوى ما يحرك .الأم قلبُها. دودة الأرض لها خمسة قلوب تضخ الغذاء في التربة – نتغذى كبشر من تربة أرضية وثقافية. 

ما حدث عبر تصميم وتخطيط وتنفيذ هو تحويل جنائن الكلام إلى كتب مقررة، وتحويل اللغة كمصدر فَهْم وتحرُّر إلى اللغة كمصدر وَهْم وسيطرة. لا تكمن مشكلة المناهج في التلقين وما شابه، بل بفكرة خبيثة قاتلة على صعيد الفكر: احتلال لغة تستعمل حروفا عربية لكن مرجعيتها ومعانيها واستعمالاتها مستمدة من القبيلة الأورو-أمريكية. خبيثة لأننا لا نعيها إلا بعد فوات الأوان كمرض السرطان ومرض الإيدز اللذين يقتلان مناعة العقل ونصبح دون وعي عبيدا وأسرى لمصطلحات وتصنيفات توحي لنا كأنها تنبع من الحياة مثل تعريف الشخص لنفسه عبرCV[التي من الصعب تخيُّل أي شيء أكثر احتقارا للإنسان]. المصيبة تكمن في أن عقولنا تُفْقِد الشخص قدرته على معرفة نفسه سوى عبر لغة بلاستيكية مهينة مهيمنة. احتلال لغة حروفها عربية لكن معانيها مستمدة من أيديولوجية هدفها السيطرة: مرض فكري-اجتماعي-إدراكي-نفسي خبيث، بمثابة فيروس ضد بالإنسان والمجتمع. أهم ما يميز لغة ليس حروفها بل مصدر معانيها.عشت لغتين طوال حياتي، لغة حيّة ترسم صورا بالذهن وتستمد معانيها من الحياة، ولغة بلاستيكية تحكمها مؤسسات وخبراء. الأبجدية ليست أداة محايدة: يمكن أن تكون أداة فَهْمأ وأداة وَهْم. اللغة المهيمنة (بشكل غير مسبوق مثيل) أداةوَهْم. سأختار3 كلمات: تعليم وتنمية وإستراتيجية. تعابيريمكن تكوينها منها:

  • إستراتيجية التعليم في التنمية
  • إستراتيجية التنمية في التعليم
  • التعليم وإستراتيجية التنمية
  • تنمية التعليم الاستراتيجي
  • الإستراتيجية في التعليم التنموي
  • تنمية استراتيجيات تعليمية
  • التعليم في التنمية الإستراتيجية
  • الإستراتيجية في تنمية التعليم
  • تنمية استراتيجيات تعليمية

يمكن إضافة تعابير أخرى تحتوي على نفس الكلمات، كما يمكن إضافة كلمات أخرى (كتطوير وتخطيط) ونحصل على تعابير بالمئات تلهي وتخدع وتخدّر. ألا يذكّرنا هذا بالرياضيات؟ بالتباديل من جهة، ومتغيرات جبرية (س ص ع) من جهة أخرى التي يمكن وضعها بأي ترتيب دون حرج إذ ليس لها معنى ولا ترسم صورة بالمخيلة. العبارات عبر التاريخ كانت دائما ذات معنى،والمعنى مرتبط بسياق.وفق منطق أرسطو، كلعبارة إما صائبة أو خاطئة ولا بديل ثالث. أما شيخنا الحكيم ‘جلال الدين الرومي’ فقد تعمّق بالجذور، وذهب أبعد من أرسطو بكثير، إذ قال: ‘ما وراء الصواب والخطأ، يوجد حقل؛ لنلتقي هناك’.

في المدنية المهيمنة، خاصة منذ إعلان عصر التنمية (1949)، بدأت تظهر لغة متمثلة بتعابير كالمذكورة بأعلاه؛ لغة تبدو على السطح علمية أكاديمية مهنية، ذات معان عميقة ومعارف متقدمة تحتاج إلى خبراء لتوضيحها، لكن عندما نتمعّن فيها نجد أنه يمكن وضع مفرداتها بأي ترتيب دون أن يؤثر ذلك على أحد، لأنها لا تقول شيئا، ليست صائبة ولا خاطئة ولا تقع ما وراء الصواب والخطأ، ولا تخلق صورة بالخيال ولا معنى بالذهن، ولا تشير لأي شيء بالواقع ولا تعكس خبرة ولا يمكن ترجمتها لأسلوب حياة، ولا تاريخ لها ولا مرجعية ولا دلالات. كلمات هي أداة رئيسية بأيدي المهنيين والأكاديميين والسياسيين والخبراء يتم عبرها تخريب العقول والسيطرة عليها. المؤتمرات والجامعات والوزارات والمنظمات الدولية مليئة بها، كلمات تعكس طغيان التجريدات الحديثة، تهزمنا كحصان طروادة من الداخل. ما سرّ انتشار هذه الترّهات ولماذا أصبحت هامة، وكيف نسترد لغة تستمد معانيها من الحياة والحضارة؟ أهمية هذه الكلمات يكمن بدورها في احتلال العقول. مقابل هذه الكلمات البلاستيكية (التي تشمل التقييم العمودي)، لدينا كمثال قول الإمام علي: ‘قيمة كل امرئ ما يحسنه’. هذه الأقوال تشفينا من أمراض فكرية إدراكية حديثة كثيرة. كيف نفسّر احتضان تعابير مريضة وإهمال أقوال فيها كل الحكمة؟!مختصر الكلام: المعرفة فِعْلٌ ضمن سياق ووفق قيم. من أجمل ما يميز اللغة العربية أن جذر كل كلمة فعل. ضروري الحذر من كلمات ليس لها فعل كجذر.

الخديعة الكبرى وكيفية انتزاع أنفسنا منها

أول شعوب خُدِعَت الشعوب الأوروبية. انتقلت الخديعة لنا ولغيرنا عبر جاليات غربية. الأوروبيون والأمريكيون غير محميين إذ من الصعب العودة إلى نقطة يستعيدوا عندها عافيتهم وسلامتهم الذهنية. نحن محميون ومحصنون بالشعر والأدب والقرآن. محميون بلغة متنوعة غنية بالمعاني والأنماط ومنطقية ومفعمة بالحكمة. محميون بالمثنى الذي لا رديف له بأي لغة أوروبية إذ يجسد منطقا يختلف عن منطق أرسطو ومنطق هيجل والمنطق الثنائي ومنطق ديكارت، فحيث أن ديكارت قال ‘أنا أفكر فأنا موجود’، المثنى يجسد منطق ‘أنت موجود فأنا موجود’. المثنى علاقة بين شخصين لا هي قانونية ولا اقتصادية ولا أي شيء من هذا القبيل بل علاقة بمثابة وليد مشترك. ‘أنت موجود فأنا موجود’ تتوافق مع مفهوم الهُوِيّة المرتبطة بِهُوَ (لا بأنا كما هي بالانكليزية Identityالتي تبدأ ب I) مما يجعل ترجمتها ب أنوية وليس هوية. المثنى يختلف عن منطق أرسطو بمعنى هو لا يكافئ ‘ليس أنا’ ويختلف عن المنطق الجدلي حيث يكوّن الاثنان ‘وحدة’ أعلى بل يبقى كل شخص على حاله لكن وجود الآخر يغني ويغذي. أي لا يكتمل وجودي دون وجودك. كذلك محميون عبر كلمات أخرى كثيرة مثل كلمة ‘أهالي’ التي تختلف جذريا عن ‘مواطنين’ إذ العلاقة الأساسية بين الأهالي تكمن بعلاقتهم بعضهم ببعض وعلاقتهم بالمكان والمجتمع والحضارة والذاكرة الجمعية، بينما العلاقة الرئيسية في مجتمع مواطنين هي مع الدولة ومؤسساتها. كذلك، نحن محميون بكلمة ‘بحث’ كما بقول الرومي: ‘أنت ما تبحث عنه’، والتي تختلف جذريا عن بحث بالمعنى المصنع في الأكاديميا والمؤسسات عامة حيث الباحث ونتيجة البحث بمثابة سلع في السوق. ونحن محميون بكلمة يحسن التي تتعامل مع المرء باحترام قلّ نظيره فقيمة المرء ما يحسنه (تتضمن إلى جانب الاحترام كرامة وتعددية ومساواة – بمعنى استحالة مقارنة قيمة شخص بشخص آخر). محميون في إتباعنا لرؤيا لا لأهداف. محميون بأن طريق التعلم وتثقيف الذات هو التأمل والاجتهاد وليس منهجية بلطجية كما في الأكاديميا. محميون بلغتنا وحضارتنا بطريقة تقوّي المناعة الذاتية على صعيد الفكر وحماية القدرة على توليد الذات. قول آخر يحمينا هو دعاء لإمام: أللهم أخرجني من ظلمات الوهم وأكرمني بنور الفهم’؛ قولٌ يشفينا من أوهام حديثة كالتمييز بين المتعلم والأمي، أو بين العالم والجاهل. الصفة الفارقة هي بين الواهم والفاهم وهو وصف ليس فيه احتقار وشعور بالفوقية والدونية.

الخطوة الأولى يجب أن تكون تنظيف عقولنا عبر تنظيف لغتنا وصقل معانينا وعافيتنا وتهذيب تعاملنا. تنظيف لغتنا من التلوث بكلمات مثل فاشل ومتخلف وتنمية وتميز… نعي تلوث الماء والهواء والتربة والمأكولات ولكن تلوث اللغة والفكر يبقيان قابعين بحيث لا نراهما. مشكلة التعليم الرسمي إذن لا تكمن في التلقين ولا في الحاجة إلى تطويره وتحسينه ولا في أنه تقليدي يحتاج لنظريات وأساليب حديثة، بل يكمن في تصميمه: أداة للتحكم والسيطرة عبر احتقار أنفسنا وحضارتنا واعتبار الغرب طريق الخلاص. جدير بالذكر تأكيد غاندي (لإنقاذ الهند) بكتابه “هند سوارج” (1909) ضرورة إبعاد (مدى الحياة) كل من ينشر المدنية الأوروبية في الهند وهذا غير كافٍ للتكفير عن ذنوبه!… … 

معارف فلّاح بلاد الشام مقابل علوم القبيلة الأورو-أمريكية

أقارن فيما يلي بين معارف الفلاح في بلاد الشام وعلوم القبيلة الأورو-أمريكية. عبر هذه المقارنة نجد أن

١- الفلاح يفضح ‘دارون’ صاحب نظرية ‘البقاء للأصلح’، فخبرات الفلاح عبر آلاف السنين تتوافق مع القناعة بأن بقاء البشر ببلاد الشام يرتبط ببقاء الأضعف: دودة الأرض. هذه القناعة ليست نظرية بل إيمان مرتبط برؤيا ونمط عيش يحميان قدرة الطبيعة على توليد ذاتها. علوم القبيلة المذكورة تقتل هذه القدرة بالذات وكل ما هو طبيعي: التعليم يقتل التعلّم كقدرة بيولوجية؛ الأكل المصنّع والأدوية تقتل القدرة البيولوجية للشفاء؛ السيفون يقتل دورة الحياة؛ العلوم تقتل قدرة البذور على توليد ذاتها.

٢- الفلاح يفضح ‘فرانسس بيكن’صاحب القول بأن العلم هو ‘إخضاع وقهر وتركيع’ الطبيعة، فقناعة الفلاح تكمن في أن الغرض من معرفة الطبيعة هو العيش وفقها وعدم تخريبها، وحمايتها ومعالجة ما خرّبته العلوم السائدة.

٣- يفضح الفلاح نظرة الأوروبيين إلى الوقت على أنه يسير إلى الأمام إذ يربط الفلاحُ الوقتَ بدورة الحياة – أي الوقت دائري.

٤- يفضح الفلاح مفهوم التنمية المستدامة إذ عاش آلاف السنين وفق القناعة بأن الشيء الوحيد المستدام هو قدرة الحياة على توليد ذاتها (وليس التنمية). ما نما باستدامة عبر مائتي سنة: الأسلحة وتخريب الحياة في الجوهر والتراكم الأسي لرأس المال.

٥- يفضح الفلاح الحداثة عبر وعيه بأن الإنسان يتغذى من تربة أرضية وتربة ثقافية، فهو دوما يروي نباتات ويروي حكايات. يجب تجنُّب ما يخرّب التربتين (كما تفعل الحداثة). ما يسعى له خبراء الحداثة إقناع الناس بأن الماضي متخلف وولّى زمانه.

٦- يفضح الفلاح التفكير النقدي اللفظي في أغلبه ويذكرنا من الأفضل اعتباره تفكيرا ضمن سياق وفِعْل وتأمل واجتهاد .وحكمة

٧- يفضح الفلاح مفهوم القبيلة المهيمنة لمكونات المجتمع، إذ وفق هذا المفهوم، يتكوَّن المجتمع من ثلاثة قطاعات (حكومي ومدني وخاص)، كما يذكرنا الفلاح بأن المجتمع مكوّنٌ من تربتين أساسيتين تغذياننا عبر نباتات نرويها وعبر حكايات نرويها.

.٨- يفضح الفلاح قراءة كتب مقررة ويذكّرنا بأهمية قراءة الحياة كأساس وثم كتب تروي حكايات، أي كتب بيان وتبيين

.٩- يفضح الفلاح سيفون المياه وسيفون المعرفة (التعليم الرسمي) إذ نخسر في الحالتين ما يغذي الجسم والفكر

١٠- يفضح الفلاح المحاورة التي تفرّق عادة بين المتحاورين ويعيش وفق المجاورة التي تسهم بجدل نسيج بين المتجاورين. من أول قوانين الانكليز بعد احتلالهم القدس كان تحديد أيام للمسلمين لدخول باحة الأقصى وأيام للمسيحيين وأيام لليهود. كانت .الباحة عبر مئات السنين مباحة لأهالي القدس من مختلف الأديان والخلفيات. قضى القانون على التعددية وزَرَعَ الطائفية

.١١- يفضح الفلاح تغييب السياق والفعل والأصابع في بناء معرفة، كما هو الحال في التعليم الرسمي النظامي المركزي

١٢ -يفضح الفلاح الفكر الأحادي العالمي إذ يرتبط إدراكه ومعانيه بسياق وفعل

١٣- يفضح الفلاح الاستيطان المعرفي ويراه في جوهره كالاستيطان الأرضي: تمزيق على أصعدة شتى [جدير بالذكر هنا اللقاء الذي عقده فلاحو فلسطين (1929) بيافا انتقدوا فيه التعليم الانكليزي من حيث تمزيقه للعلاقات داخل العائلة ومع الأرض]

١٤- يفضح الفلاح مفهوم مواطنين ومفهوم مواطن صالح ومفهوم التقدم إذ يراها تحتل محل ما بالجذور: مواطنون حلّت محل أهالي؛ مواطن صالح (يتبع أوامر سلطة) حلّ محل إنسان صالح (يتبع ضميره)؛ تقدُّم على طريق الاستهلاك حلّ محل العافية.

.١٥- يفضح الفلاح التركيز على الحقوق ونسيان الكرامة؛ يعرف أن الاثنين مرتبطان لكن الكرامة أعمق

.١٦- يفضح الفلاح الفكر الثنائي الذي يُدَرَّس ضمن الرياضيات في كل الدول، إذ يعيش وفق المثنى فحياته تتكوّن من مثنيات

١٧- يفضح الفلاح كلمة مدنية (مرتبطة بمدن مديونة للريف إذ تأخذ منه ما هو مغذي وتعطيه ما هو استهلاكي). يعيش الفلاح ضمن أفق حضاري: في الحاضر بحضور الماضي والمستقبل وحضور آخرين وبمعنى أنه حاضر للقيام بما يجب القيام به.

بعبارة مختصرة، الفرق بين معارف فلاح بلاد الشام وعلوم القبيلة الأورو-أمريكية يكمن في الحكمة كقيمة: الفلاح يعيش وفق الطبيعة ولا يفعل شيئا يعرف أنه يضر بها. في أحيان يحتاج لما تنتجه العلوم السائدة لمعرفة ما يضر منها ولمعرفة تفاصيل لا يمكن معرفتها عبر الخبرة، لكن يبقى في الحالتين هو من يحكم ذاته وأفعاله. علوم ‘القبيلة’ تخرب الطبيعة عن تخطيط وسبق إصرار. [وضعتُ إلى جانب والدتي الأمية، دودة الأرض والدجاجة الفلسطينية كمراجع معرفية بالصيغة الأولى لرسالة الدكتوراه مما دعا أعضاء اللجنة المشرفة إلى اتهامي باستهزاء الأكاديميا. حاولت أن أوضّح لهم أني أنا الذي يقرر مصادر معرفتي لكن لم يقبلوا. إلى جانب المراجع، أكد الثلاثة على أن المنهجية غير واضحة، قلت: بل لا توجد منهجية؛ لا أستعملها ولا معنى لها بحياتي، هي من اختراعكم وربما تكون مفيدة لكم لكن لا تعني لي شيئا. فنهجي في بناء معرفة حياتية هو التأمل في خبراتي وقراءاتي وتحادثاتي، والاجتهاد لتكوين معنى وفَهْم.]

لا توجد محاولات بالعالم العربي حاليا تسعى للشفاء من كوننا ببغاوات ونسخا عن القبيلة الأورو-أمريكية التي أبدعت باختراع أدوات. أمران ضروري الانتباه لهما في هذا المضمار: تجنُّب الوقوع بوَهْم أن التقدم على صعيد الأدوات والأجهزة يعني تقدما على صعيد الحياة؛ والأمر الثاني أهمية استعمال هذه الأجهزة والأدوات بحكمة (بمعنى نحكم فيما إذا كنا سنستعملها وكيف وأين ومتى)، أي لا نكون عبيدا لها. ما زلنا نتباهى بكوننا نسخا عن مدنية دمرت شعوب وحضارات ثلاث قارات ونهبت قارتين أخريين – وما زالت تعاني! مدنية تُهدِّد علومُها الحياة على الأرض. يتحدث كثيرون عن إينشتاين كقدوة رغم وفق كل المقاييس هو أكبر إرهابي عرفه التاريخ من حيث الفكر والقول والفعل، ومن حيث خطر إفناء الحياة على الأرض نتيجة حثِّه ‘روزفلت’ على صنع القنبلة الذرية واستعمالها على مدن، إذ عندما لم يستطع علماء الذرة إقناع روزفلت دعمَ إنتاج القنبلة، لجئوا لإينشتاين لإقناعه بإنتاجها، وفعل ذلك عبر رسالة بعث بها عام 1939.

يجلب شخصٌ فكرة من جامعة بفرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا أو الولايات المتحدة ويطبقها على علّاتها ببلادنا – ويفتخر بذلك! بعثت عام 2009 رسالة إلى رؤساء الجامعات الفلسطينية، وتحدثت مع بعضهم، اقترحت فيها إنشاء ‘كلية’ صغيرة باسم ‘بيت الحكمة’ بجامعاتهم لعشرة طلبة فقط ممن يرغبون السير وفق طريق الحكمة بدلا من مساقات وما يرافقها، كي نبدأ بتجارب لاستعادة الحكمة في حياتنا وجامعاتنا؛ لا حياة لمن تنادي. ربما اعتبروها خطوة إلى الوراء. الحكمة، جوهر الحضارة العربية في أوجها، والتي تجسّدت بالعديد من بيوت الحكمة بين أصفهان شرقا وقرطبة غربا، كان أشهرها بيت الحكمة ببغداد. تتجنب جامعاتُنا الحكمة وكأنها وباء أو تخلُّف. إذا نظرنا إلى ما يجري حول العالم نجد أننا بحاجة لاستعادة الحكمة؛ بدونها يتقلّص الأمل ببقاء الحياة على الأرض. نحتاج إلى تذكير أنفسنا بما لدينا من مقومات على صعيد الجذور؛ مقومات هي جزء أساسي من مناعتنا على صعيد الفكر والمعرفة حيث يمكن بعدها إضافة ما نرغبه (كتكنولوجيا وعلوم) دون خوف. أكبر خطر لبقاء الحياة هو الاعتقاد بوجود مسار أحادي عالمي للتعلم والتقدم ووجود معانٍ أحادية عالمية. التحرر من هذا الاعتقاد ضروريٌّ لاستعادة الحكمة والعافية كبشر ومجتمعات وطبيعة. يجب تجنُّب  كلمات كانت الداء. نحن محظوظون إذ كثير مما نحتاجه متوفر لدينا.

يمكن أن نلعب كفلسطينيين دورا ملهما شافيا (مذكِّرين آخرين به) عبر استعمالنا لغة الحياة والحضارة، والتي لا تشمل فقط اللغة العربية بل أيضا لغات أخرى ضمن النسيج الفكري الثقافي بمنطقتنا. ما يعمّق مناعتنا أمران: الإيمان بأن كل إنسان شريكٌ في تكوين معنى، والمجاورة كوسيط للتعلم والبناء المجتمعي. الشراكة والمجاورة أدوات متوفرة لدى الناس وأساسية للشفاء من مرض الببغاوية. تتناقض الشراكة والمجاورة مع حلول ونماذج جاهزة. تجنُّب لغة ‘الخبراء’ هام لاستعادة العافية والحكمة بالحياة. ما نحتاجه للشفاء متوفر لدينا: المجاورة والتأمّل والاجتهاد وما يبحث عنه كل إنسان ومصدر قيمة المرء فيما يحسنه.

لم يعد الوضع حول العالم يسمح بالتحادث عن أي موضوع، بما في ذلك التعليم، كبُلَهاء ومخدَّرين وتائهين وجبناء حيث نبقى بين الأغصان ونهمل ما يحدث على صعيد الجذور. ما كتبته بأعلاه هو نتيجة جهد وتجارب وخبرات وتأمل واجتهاد امتد مدى عقود. ما كتبته هو بيان يبيّن ما اختلَجَ بداخلي ونَضَج؛ هو ليس حقائق مطلقة بل يعكس بصدق ما تكوّن لديّ من معانٍ وقناعاتٍ وفَهْم، وآمل أن يكون بمثابة دعوة لكل قارئ للتأمل فيما يمرّ به في حياته ويجتهد في تكوين معنى له. بدأتُ التأمل والاجتهاد في صقل المعاني وتعميق الفهم عام 1971، وبدأَتْ القناعة بأن كل إنسان مصدر معنى وفهم تتعمق منذ ذلك الوقت وأمارسها كل صباح. الشراكة في تكوين معنى أهم ما يميز الإنسان وأساس معرفته؛ قدرة بيولوجية ومسؤولية وحق (مغيّب من الإعلانات العالمية!). هي أساس الكرامة والحرية والتعددية والمناعة، كما أنها تجسّد ديمقراطية المعنى، أعمق الديمقراطيات. عندما نفتش عن معنى كلمة بمعجم نبحث بين الأغصان؛ الشراكة في تكوين معنى تنتمي إلى الجذور.

إلى جانب السعي لحمايتنا من الاحتلال العسكري-السياسي-المالي، ضروري أن نعمل أيضا لحمايتنا من احتلال مأكولات مصنعة مؤذية محل مأكولات مغذّية تستمد قيمتها من التربة الأرضية العضوية، ومن احتلال العقول عبر كلمات مصنّعة مؤذية محل كلمات مغذّية تستمد معانيها من التربة العضوية الحياتية الثقافية. نقلنا مواد مناهج مدرسية كببغاوات عن القبيلة الأمريكية التي قررتها ‘لجنة العشرة’ عام 1892 للصفوف الثمانية الأولى بدلا من معارف فلاح بلاد الشام المرتبطة بمكوّنات الحياة والمتمثلة بالتربتين الأساسيتين اللتين تغذيان الإنسان والمجتمع والطبيعة – معارف متداخلة متكاملة تكوّن صورا في الذهن والمخيلة حيث يدخل مواضيع موجودة في المناهج حاليا بشكل طبيعي يكمّل الصور بدلا من تمزيقها. وفق هذا المنظور، يعني العلمُ العيشَ وفق الطبيعة، ويكون الفهم أساس المعرفة بدلا مما هو سائد حاليا حيث تُركِّز الأيديولوجية المهيمنة على معلومات ومهارات ومعارف آلية تقنية مشرذمة لا تحتاج إلى فَهْم للتعامل معها واستعمالها. كذلك، وفق هذا المنظور، تكون اللغة العربية بمعانيها الغنية المتنوعة وجماليتها والحكمة في ثناياها بوتقة المعرفة وبيانها حيث تبيّن ما يختلج في القلوب والعقول والنفوس، وحيث نتكلم عن حكمة التعليم لا عن جودة التعليم حيث يُعْتَبَر هو والمدرس والطلبة عبارة عن سلع في سوق الاستهلاك.

العافية والصحة

كلمتان تجسّدان عالمين مختلفين جذريا، رغم أنهما في الإدراك العام وفي أذهان الناس ترتبطان كأنهما تشيران إلى نفس الشيء. توجد مثلا وزارة صحة وكليات صحة لكن لا توجد وزارة عافية ولا كليات عافية. العافية ترتبط بالعيش بحكمة، بنمط حياة الشخص وبمسؤولية على الصعيد الشخصي والجمعي (عبر المجاورة كوسيط). الصحة، بالمقابل، ترتبط بمؤسسات ومهنيين. تنطلق العافية من القناعة بأن الشفاء قدرة بيولوجية كل ما تحتاجه هو حماية وتقوية المناعة الذاتية لدينا كأشخاص مما يجعلها قضية جوهرية للتحادث حولها بلقائنا في فبراير. الخلل في عافية شخص تتطلب أحيانا إلى اللجوء لمهني.إلى جانب الشفاء على صعيد الجسم، هناك ضرورة (ربما تكون أهم وأعمق) للشفاء على صعيد الفكر. أقول ‘أهم وأعمق’ لأن تخريب العقول تمّ – بالتصميم – قبل تخريب الأجسام بقرون لكنه تخريبٌ خفيّ.
 
العافية تتطلب الاهتمام بنواحٍ شتى في الحياة: عافية الجسم وعافية العقل وعافية المجتمع وعافية الطبيعة. لذا، جزء هام من أحاديثنا في فبراير يتعلق بما يدخل الجسم من مأكولات وما يدخل العقل من أفكار وما يدخل القلب من مشاعر وما يدخل المجتمع والطبيعة من سموم. تركيزنا في فبراير سيكون حول ما يخرّب الجسم والعقل وكيف نستعيد عافيتنا في الناحيتين.

 هناك قولٌ لجلال الدين الرومي: “ربما تبحث بين الأغصان عما يظهر فقط في الجذور”. العافية والتعلم ينتميان إلى الجذور؛ الصحة والدراسة تنتميان إلى الأغصان. العالمان مختلفان جذريا لكن يكمّل بعضهما بعضا. العافية تتطلب معرفة الذات؛ الصحة تتطلب معارف تقنية.

 الأداة الرئيسية في استعادة عافيتنا على شتى الأصعدة  هي المجاورة. شكلت هذه الأداة الوسيلة الرئيسية في حياتي منذ 1971 – رغم أني لم أستعمل كلمة ‘مجاورة’ قبل عام 2004 والتي سمعتها لأول مرة من الفنان المصري العظيم ‘محيي الدين اللباد’ في لقاء لنا معه عام 2002 ونظمنا معه مجاورة في مرسمه شارك فيه 9 فنانين من عدة دول عربية. تشكّل المجاورة المحور الرئيسي في لقائنا في مصر.

 باختصار شديد، ما نسعى له في لقاء فبراير على طريق العافية هو العيش بحكمة عبر معرفة الذات كأساس والمجاورة كوسيط للتعلم والفعل المجتمعي.

نجاح شخص في العالم المهيمن هو مقياس حجم “الرجل الأبيض” القابع في عقله

أستعمل تعبير “الرجل الأبيض” لأنه التعبير الذي استعْمَلَه ضحاياه الأُوَل في القارات الأمريكية منذ 525 سنة. جدير بالذكر أنهم وصَفُوه بصفة لا احتقار فيها (كما تفعل القبيلة الأوروبية) بل بصفة رأوها بعيونهم: لونه أبيض. لا يزال أهالي تلك القارات الأصليين يستعملوا هذا التعبير. أستعمله للتذكير بأن ما فعلته القبيلة الأوروبية في القارات الأمريكية لا تزال تفعله بأماكن عديدة حول العالم بما في ذلك بلادنا. أستعمله لأن معظم ضحايا تلك القبيلة (ونحن منهم) نستعمل صفات ك “حديثة” و”متقدمة” لوصف تلك القبيلة’، صفات توحي بأنها مدنية عالمية. لم تصل مدنية قبل هذه القبيلة إلى ضحالة فكرية حيث تصف نفسها بالحديثة رغم أن كل المدنيات (بما في ذلك العربية الإسلامية) كانت حديثة وقت ظهورها. أخطر ما يهدد الحياة على الأرض هو استمرار “الرجل الأبيض” قابعاً بعقولنا يتحكّم بشتى نواحي حياتنا. انتزاعُه من عقولنا أصبح أمرا ضروريا في صراعنا كبشر من أجل البقاء. صعبٌ جدّا ذكر ناحية في التعليم الرسمي والأكاديمي حول العالم لا نجد “الرجل الأبيض” قابعاً فيها يعيث فساداً وتخريباً. [جدير بالذكر: لا أستعمل تعبير “الرجل الأبيض” من منطلق عنصري؛ زوجتي مثلا منذ 51 سنة من الجنس’ الأبيض.] فيما يلي مثال يوضّح ما أعنيه. في الصف التاسع، احتوى كتاب الرياضيات الآتي لتوه من لندن لمؤلفه “دوريل” على فصل حول الأسهم والسندات. حصلت على علامة كاملة في كل الامتحانات التي أُجْرِيَت في ذلك الفصل. حتى الآن لا أعرف الفرق لأني لم أقتني في حياتي أيا منهم. مثال صارخ حول كيف أنني لم أكن من يجيب على الأسئلة بل الرجل القابع في عقلي. مدحوني فأعموني. من بين المسائل التي كان عليّ أن أحلّها:

 (1) A man invests 450 pounds in Indian 2% stock at 69. Find, to the nearest penny, how much stock he buys and the income from it. (2) London Brick 8% (1 pound) shares stand at 36s., and Rio Tinto 5% shares stand at 4. Which investment gives the larger yield?”

هناك توضيحٌ آخر أرى ضروري ذكره: أبدعت القبيلة الأورو-أمريكية باختراع أجهزة وأدوات. يجب أن لا نقع بوَهْم التقدم على صعيد أجهزة بأنه يعكس تقدمًا في جوهر الحياة، إذ من الصعب ذكر ناحية في الجوهر تحسنت منذ استلام القبيلة الأوروبية دفّة القيادة. ما نعيشه من أزمات وأخطار عالميا، هو نتيجة وَضْعِ العقلَ على العرش وسجن الحكمة. العقل قوة هائلة في الإنسان لكن دون حكمة نكون كقارب وسط أمواج هائجة دون بوصلة. بوصلة البشر الحكمة. البوصلة المهيمنة الآن هي نمط الاستهلاك في العيش؛ نمط همُّه الأكبر الإسهام في تراكم رأس المال أسّيّا. يجب التمييز بين معارف تقنية ومعارف حياتية ترتبط بالعيش بحكمة. استعادة الحكمة تشكّل التحدي الجوهري الذي نواجهه حاليا. أعود لأؤكد أن العقل دون حكمة طاقة تستطيع فعل الكثير، لكن العقل يرى الإنجازات لا عواقب ما نقوله ونفكر به ونفعله. دون حكمة، لا أمل لاستمرار الحياة على الأرض.

ما يدعو للأمل حالياً ظهور حركات وتجمعات حول العالم، متزايدة باستمرار، تعمل على انتزاع الرجل الأبيض من عقولها وانتزاع نفسها من العبودية الفكرية المعرفية له. ربما تكون حركة “الزباتيين” بجنوب المكسيك أكثر الحركات إلهاما في هذا. أول فلسطيني قاوم دخول “الرجل الأبيض” إلى عقله كان خليل السكاكيني (خاصة في النصف الأول من عمره). كتب (عام 1896 وهو بعمر 18 سنة) كتابه الأول “الاحتذاء بحذاء الغير”، و”الغير” الذي عناه في رأيي هو الرجل الأبيض الذي تمثَّلَ بالمدارس الأوروبية والأمريكية التي كانت بمنطقة القدس. جسّد السكاكيني قناعاته بعد 13 سنة في أول مدرسة أنشأها عام 1909 حيث رفع شعار “إعزاز التلميذ لا إذلاله” وترجم ذلك عملياً بلا علامات ولا جوائز ولا عقاب فيها. لكن رغم بروز حركات وتجمعات تعمل حول العالم على التخلص من هيمنة التعليم الرسمي والأكاديمي وتصفه بالكولونيالي، لا يزال الضعف الأعمق والخطر الأكبر في رأيي يكمن في أن معظم الحركات الثورية الساعية للتغيير تقاوم على أصعدة شتى، لكنها تُبْقي الرجل الأبيض قابعا ينهش في المناعة الذاتية لدى الإنسان والمجتمع والطبيعة مما يجعلنا عرضة سهلة لأمراض وأوهام ينشرها “الرجل الأبيض” (عبرنا حاليا) والتي تشكّل سببا رئيسيا للتخريب والأزمات التي نعيشها في العصر الحاضر.

كان “نجاحي الباهر”، خلال السنوات الثلاثين الأولى من عمري، خاصة بالرياضيات، مكافئا لحجم “الرجل الأبيض” الضخم الذي كان قابعا في عقلي. (انظر المثال بأعلاه). لكن أعتبر نفسي محظوظا لأن ما احتجتُه لإخراجه من عقلي كان متوفرا لديّ: عشت معظم حياتي بفلسطين (التي لا تهدأ ولا تسمح للتخدير أن يترسّخ فينا)؛ وعشت دون دولة قومية (التي وصفها الشاعر الباكستاني “محمد إقبال” عام 1935 هي والبنوك بأفيون الشعوب). كما كنت محظوظا إذ عشت إلى جانب أمي الأمية التي كان عالمها أصيلا يستمد كلماته ومعانيه ومعرفته من الحياة والفعل والتأمل والاجتهاد. هذه الأمور ساعدتني بالتدريج عبر سنين في الشفاء من أمراض “الرجل الأبيض” على صعيد المعنى والفكر والتعبير والفِعْل والعلاقات (ووضعت “الرجل الأبيض” ضمن حجمه الحقيقي المتمثِّل بمعارف واختراعات تقنية). أما الناحية الرابعة التي كنت فيها محظوظا فهي أني عشت معظم حياتي قبل أن يُسْمَحَ لجرثومة “التنمية” (كما حددها “ترومان”) بدخول البلد، إذ تطلبت وجود “دولة قومية”، والذي حصل عام 93-1994.

أول حدث بدأ بخلخلة المقعد الذي كان يجلس عليه “الرجل الأبيض” في عقلي هو حرب 1967. كنت وقتها حاصلا على ماجستير أدرّس الرياضيات بكلية بيرزيت، كما كان زملائي أيضا حاصلين على شهادات عالية. نبهتني تلك الحرب إلى أن المعارف والشهادات التي اكتسبناها لا علاقة لها بما يحدث حولنا. لم نعرف لماذا حدث ما حدث ولماذا لم يحدث ما لم يحدث. لم تكن معارفنا مرتبطة بالحياة (سوى علاقتها بعالم الاستهلاك). أعيد: كانت تلك الحرب أول حدث خلخل الكرسي الذي كان يجلس عليه “الرجل الأبيض” في عقلي؛ خلخله لكن لم يخرجه كليا من عقلي. انتظرتُ 9 سنوات أخرى قبل الحدث الذي زلزل وهشّم الكرسي في عقلي مما جعل جلوس “الرجل الأبيض” عليه بأمان مستحيلا. بدأ شفائي على صعيد الجذور بوعيي أن الرياضيات التي كانت تمارسها والدتي الأمية تنتمي إلى عالم مغيّب وخفي، عالم ليس له وجود أو شرعية بالجامعات والكتب المقررة والأكاديمية ولا في أي مؤتمر حول الرياضيات. وعيت عام 1976 أن الرياضيات التي كانت تمارسها لا أستطيع فهمها ولا عمل مثلها مهما درست بجامعات حتى لو كان ذلك على أيدي رياضيين عظماء! لا يمكن وضع معرفتها ضمن نظريات ومصطلحات أكاديمية. كانت تتعامل مع أصعب أنواع الهندسة: أجسام النساء! ادعى “ديكارت” أن هناك أبعادا ثلاثة نستطيع عبرها تحديد كل نقطة والتحكّم فيها. لو ذكرتُ ذلك لأمي لربما شَعَرَتْ بشفقة عليه إذ لم يكن لهندسته موقع في فكرها وعملها. في حياكة ملابس كانت تتعامل مع عشرات الأبعاد. فَقَدَ ديكارت مقعده بعقلي وأصبح “صايع” يمشي على غير هدى. كذلك مع “برتراند راسل” (من أهم الرياضيين والمنطقيين في القرن العشرين، وكان أكثر شخص أحببته وقرأت له بالمدرسة والجامعة)، فرغم غزارة معرفته ومواقفه المشرِّفة في أمور السياسة والمجتمع، لم ينتبه لدور الرياضيات في التخريب الذي نشهده عالميا على أصعدة شتى، ولم ينتبه للرياضيات المعقدة التي يمارسها كثيرون كأمي دون دراسة وشهادات (ربما لأن المرأة التي ربّته كانت “كونتيسة” تتصرف في حياتها اليومية وفق لَقَبِها، بينما أمي كانت تعيش وفق قلبها وأصابعها سرّ معرفتها وفهمها). بقي ل “برتراند” مكان في عقلي لكن بلا كرسي، واتخذ حجمَه الحقيقي: بارع بالتعامل مع رموز وعلاقات ذهنية وأنظمة منطقية.

عام 1949، جاءنا “الرجل الأبيض” بلباس جديد اسمه “التنمية” والتي مثّلت نسخة طبق الأصل عن التعليم الرسمي الذي صممه نبريها قبل 500 سنة. لم نسمع كلمة تنمية في بداية الخمسينيات بل بتعبيرٍ غريب “النقطة الرابعة” والتي سمعناها تتردد عشرات المرات دون أن نفهم لماذا سًمِّيت بهذا الاسم. وعيت فقط بعد سنوات عديدة أن التعبير يشير إلى التنمية التي كانت النقطة الرابعة في خطاب ترومان عام 1949 والتي كانت في جوهرها طبق الأصل لفكرة التعليم الرسمي من حيث إقناعنا بأننا متخلفون وأن أمريكا وغرب أوروبا على استعداد لمساعدتنا في النمو وفق طريقهم! ارتبطت جرثومة التنمية بجرثومة “التقدم” التي أقنعونا عبرها أننا متخلفين وأن مسارهم هو مسار التقدم وأنهم لطيبة قلوبهم على استعداد لمساعدتنا للسير على طريقهم ونصبح مثلهم !

إذا صبّينا جرّة ماء نقي في بركة ملوثه فإن الماء النقي سيتلوث وليس العكس. إذا قمنا بتحسينات عديدة جميلة نظيفة فنية أدبية ثقافية تراثية تربوية لكن بقي الرجل الأبيض (كأيديولوجية وفكر ومصطلحات وقِيَم وتقييم) قابعا في عقولنا فإن كل ما نفعله من تحسينات على أصعدة أخرى سَيُلَوَّث. شفاؤنا من الأيديولوجية البيضاء على صعيد الفكر هو أساس تحرّرنا من الإخطبوط الذهني الأبيض. كيف يمكن أن يتم هذا؟ لحسن الحظ، معظم ما نحتاجه كمقومات متوفر لدينا كبشر وحضارة. تشمل المقومات البشرية القدرات البيولوجية بما في ذلك التعلم والشراكة في تكوين معنى وفهم (مما يعني تجنب استهلاك معانٍ جاهزة صادرة عن مؤسسات وخبراء القبيلة الأورو-أمريكية)، والنطق والإصغاء، وروح الضيافة، وروح الحكمة التي انطلقت في منطقتنا من مصر وإفريقيا وبلاد الشام وبلاد الرافدين وبلاد فارس والهند والسند واليونان. هناك أقوال عديدة لأنبياء وفلاسفة وحكماء وأئمة كما أن هناك أمثالا كوّنها أهالي هذه المناطق من تفاعلهم مع الحياة. كتبت في مقالات عديدة كلمات بالانكليزية التي تتوافق مع العلم كأداة لإخضاع الطبيعة والبشر، ورديفاتها المستعملة بالعربية التي تتوافق مع العلم كفهم الطبيعة لحمايتها وحماية البشر.

ًما قلته بأعلاه ينتمي إلى الجذور إذ يشكّل أساس حماية مناعتنا الذاتية على شتى الأصعدة. أي إضافة لا تسلبنا مناعتنا أهلا وسهلاً بها. لكن إذا أدت إلى ضعف المناعة، على أي صعيد، من الأفضل تجنبها – مهما كانت المكاسب على صعيد الأغصان.

الفاعل المتأمّل

إذا أردت أن أصف ما فعلتُه منذ 1971 فإن تعبير ‘فاعل متأمل’ هو أصدق وصف على مدى ما يقارب من خمسة عقود. كل صباح (باستثناءات قليلة جدا بسبب السفر أو ما شابه) أتأمل فيما مررتُ به في اليوم السابق وأجتهد في تكوين معنى وفهم له، ومن ثم أكتبه على ورق بخط يدي (حتى بعد أن أصبح الكمبيوتر وسيلة شائعة وسهلة). أجد الكتابة باليد تساعدني على ربط الفكر بالكلمات وبالأصابع والنظر؛ عندما أكتب عبر كمبيوتر تظهر الكلمات على شاشة وليس في المكان الذي توجد أصابعي فيه، ويكون نظري في اتجاه وفكري مشتت… لم أتوقّف عن الكتابة كل صباح منذ ذلك الوقت. فعلتُ الكثير وتأملت واجتهدت وصِغْتُ ما تكوّن لدي من معانٍ وفهم ومعرفة. كنت أفعل وأتأمل وأصيغ، والصياغة كانت دوما بيانا يبيّن ما تكوّن ونضج بداخلي من معنى وفهم ومعرفة. وفي نفس الوقت، كان الفِعْلُ دوما ضمن مجموعة (ما أُطْلِقُ عليه منذ 2004 كلمة مجاورة). الفعل والتأمل والاجتهاد والشراكة في تكوين معنى وفهم – ضمن مجاورة – كان نهجي في الحياة منذ 1971. ما أطرحه هنا أن يسعى كل شخص في النظر لنفسه ك‘فاعل متأمل’. يشكل هذا مناعة أساسية على صعيد الفكر. لو فعل كلٌّ منا هذا وتبادلنا ما نصيغه، سينتج زخمٌ له شأنه في شفائنا من كثير من الأوهام والخرافات الحديثة، وسنستعيد العافية والحكمة في أفكارنا وأقوالنا وأفعالنا وعلاقاتنا… يحتاج هذا إلى صبرٍ ومثابرة. إذا كنت تفعل لكن بدون تأمّل واجتهاد وبيان، سيخسر المجتمع إسهاما هاما يمكن أن يضيف إلى عافيته ومناعته ونسيجه على أصعدة شتى. كان أول مظهر لهذا التأمل كتاب ‘خلجات فلسطيني’ الذي جمعتُ فيه ما نشرتُه من 1972 وحتى 1975 في صحف ‘القدس’ و‘الشعب’ و‘الفجر’.

مررت بالفترة المدرسية والجامعية دون أن أفعل أي شيء كان نابعا من داخلي، أي دون أن ترتبط المعرفة التي اكتسبتها بسياق وفعل وشراكة في تكوين معنى. مررت بالفترتين دون أن يسألني أحد ‘ماذا تبحث عنه في الحياة؟’، ودون أن أعي ما أُحْسِنُه، ودون أن أشارك في تكوين معانٍ للكلمات التي كنت أستعملها. عندما تعمّقت لديّ القناعة بأن التعلم قدرة بيولوجية لم أستطع الاستمرار بالتدريس بمعنى إعطاء مادة جاهزة تدّعي أنها مفيدة وهامة. كان ذلك خلال الانتفاضة الأولى عام 1989، حيث توقّفْتُ عن التدريس وأنشأت ‘مؤسسة تامر’، التي كان جوهرها توفير أجواء تعلمية وليس مادة جاهزة.

منذ ذلك الوقت، وأنا أحثّ الناس، خاصة الطلبة، أن يكتبوا سِيَرَهُم الذاتية دون استعمال كلمات مؤسسية مهنية وتصنيفات أكاديمية، وذلك للتعرف على الذات في العمق وليس فقط فيما يظهر على السطح. فمعرفة الذات تشكّل أساس كل المعارف كما تشكل أساس الكرامة والمناعة والمساواة والتعددية والفهم واحترام الذات والحضارة.

تصوروا لو أصبح كلٌّ منا فاعلا متأملا وليس فقط فاعلا يفعل ما يُمْلى عليه، حيث يعيد كالببغاء ما يسمعه أو يقرأه دون فهم ودون سؤال ودون معرفة لماذا. هذا ما فعلتُه حتى حرب 1967. عندما بدأت تلك الحرب يوم الاثنين 5 حزيران كنت أراقب الامتحانات النهائية بقاعة كلية بيرزيت. جاء شخص من جهة الإدارة وأخبرنا أن الحرب قد بدأت وأن نخبر كل طالب بعد تقديم ورقته بأن يجمع حوائجه ويذهب إلى بيته. لم نفهم ما حدث ولماذا وكيف وما هي العواقب؛ كانت مفاجئة. جعلني ذلك لأول مرة أن أعيد النظر وأتأمل فيما حدث وأحاول فهمه. مضت 4 سنوات قبل أن أبدأ بكتابة تأملاتي فيما يحدث وأجتهد في تكوين معنى. بدأت عام 1971 دون تخطيط ودون وعي بممارسة ذلك؛ أي، كان عمري ثلاثين سنة عندما بدأت الكتابة.

قبل 1967 ما كنت أفعله لم يكن نابعا من داخلي. كنت أفعل ما هو مطلوب ومتوقّع مني في المدارس والجامعات – كطالب ثم كمدرّس. كنت أفعله كآلة، أتبع المعلومات كما هي. لم أتأمل فيما كنت أفعله ولم أحاول فهمه. بقولٍ أدقّ، كنت في بعض الأحيان أتفكر وأتأمل ولكن لم أكن أصيغ تأملاتي في بيان يبين ما بداخلي.

بدأت عام 1971 أفكّر وأتأمّل كيف يمكنني تجنُّب المرور مرة أخرى بالتيه الذي شعرت به عام 1967، وكيف تكون معرفتي أكثر ارتباطا بالحياة. أول قناعة تكونت لدي هي أهمية استعادة اليدين والرجلين والأصابع في الحياة وأتوقّف عن اقتصار عملي على كلمات مؤسسية. كان ذلك عبر العمل التطوعي الذي أنشأتُه مع بعض الأصدقاء، حيث كنا كل يوم جمعة ويوم أحد نتجمّع عند المنارة ونذهب إلى مكان ونعمل فيه، مشيا على الأقدام إذا كان قريبا، وعبر الباص إذا كان بعيدا.

في نمط الاستهلاك ينجز الفاعل وينتج عادة سلعا للسوق. الفاعل المتأمّل يغذي معانيه وفهمه وروحه وجسمه وقلبه وعلاقاته مع من وما حوله من ناس ومجتمع وطبيعة وحضارة. الحكواتي الذي تكون حكاياته ناتجة عن انتباهٍ شديد للحياة هو فاعل متأمل. من الصعب أن يكون بيان شخص يبين ما نضج بداخله دون أن يكون فاعلا متأملا. أفضل إطار مجتمعي لهذا هو المجاورة.

يتكلم الإعلام عن ناشطين في المجتمع؛ النشاط يكوّن ساقا في حياة الإنسان، لكن بدون الساق الثانية – التأمل – يعرج الإنسان.

رؤية السكاكيني في التعليم مقابل رؤية فنلندا

خليل السكاكيني

نسمع كثيرا هذه الأيام عن روعة التعليم بفنلندا. نسمع كيف تركّز فنلندا على تطوير نظام التعليم فيها حيث أصبحت أقوى دولة في التعليم عالميا وفق تقارير التنافسية العالمية. يُعتَبَر التعليم مكوّنا أساسيا للثقافة الفنلندية وبَنَتْ هويتها حوله. كذلك نسمع كيف يتم بعناية شديدة انتقاء معلمين ذوي كفاءة عالية (على الأقل ماجستير ومن الأوائل في الجامعات). يعمل المعلمون ساعات أقل وراحة أكثر. هناك تركيز على العمق بالمضمون بدلا فقط من زيادة المضمون والتعامل معه بسطحية. الساعات التي يقضونها يوميا بالصفوف أربعة، والباقي خارجها. لا يوجد فصل بين الطلاب على أساس مستواهم التعليمي مما يعني العمل على رفع المستوى التعليمي لدى الأطفال الذين يحتاجون إلى عناية أكثر ليصلوا إلى المستوى السائد بين زملائهم، وهو ما جعل فنلندا تمتلك عالميا (وفق دراسات مهتمة بالتعليم) أصغر فجوة بين الطلاب الأقوى والأضعف في مستوياتهم التعليمية. الارتباط بين المعلم والطالب قوي وطويل مما يوطد العلاقة بينهم. يبلغ عدد الطلبة 20 في الفصل الواحد. تُعْطى المساواة بين الطلاب أهمية قصوى في التعليم. هذا يجعل الطلبة هناك سواء أكانوا في مناطق ريفية أم مدينية، فقيرة أم غنية، يحصلون على جودة تعليم متساوية ويتم توزيع المال بالتساوي للمدارس. لا توجد تصنيفات ومنافسة بين المدارس؛ جميعها يعمل وفقا لأهداف قومية واحدة. باختصار، يحصل التعليم في فنلندا على أعلى التقديرات بين الأنظمة التعليمية بالعالم. عامل أساسي في هذا يعود لمعارضتهم للنموذج القائم على تقييم مركزي. نادرا ما تُجرى امتحانات أو تُعطى فروض بيتية (إلا بعمر أكبر). لا يوجد قياس خلال السنوات الستة الأولى. يوجد امتحان بعمر 16 سنة. 66% يذهبون إلى الجامعات (أعلى نسبة بأوروبا). المنهاج يتكون من إرشادات عامة…

*          *          *

ملاحظات سريعة:

أود قبل أن أبدي ملاحظاتي أن أذكر باختصار ما أراه يلخص ما سأقوله: رؤية التعليم بفنلندا تنتمي إلى الأغصان، بينما رؤية السكاكيني تنتمي إلى الجذور. [أستعير هنا قولا لجلال الدين الرومي: ‘ربما تبحث بين الأغصان عما يظهر فقط في الجذور’، والذي أجده قولا رائعا يوضّح لنا إذا كان انتباهُنا فيما نقوله ونفكر به ونفعله ينتمي إلى الأغصان أم إلى الجذور.]

الملاحظة الأولى: لاحظ السكاكيني (قبل فنلندا بأكثر من قرن) أن المشكلة الجوهرية في التعليم تكمن بوجود تقييم عمودي وأنشأ مدرسة بالقدس (1909) شعارها ‘إعزاز التلميذ لا إذلاله’ وترجمه ب‘لا علامات ولا جوائز ولا عقاب’. أنشأها بناءً على ما خبره في التعليم الذي جلبته جاليات أوروبية وأمريكية. لم يسْعَ أن تكون مدرسته نسخة عنه أو أفضل منه. فذلك التعليم لم يكن مرجعيته، وفكرة المنافسة كانت غائبة من فكره. كان همُّه خلق جوّ مليء بالحيوية والصدق والمحبة والكرامة. قناعة أخرى لديه هي تعرُّف الطلبة على فلسطين مشيا على الأقدام. كان نهجه البناء على مقومات متوفرة بما في ذلك التعلّم كقدرة بيولوجية. تأثّر بما قرأه بكتب عربية قديمة ملؤُها الحكمة. أفقه التربوي (خاصة قبل الاحتلال الانكليزي الفرنسي للمنطقة عام 1917) كان أفقا حضاريا. الحكمة والأفق الحضاري وقراءة الواقع هم ما ميّز السكاكيني، وهم ما أجد مفقودا من التعليم الفنلندي. ما قلّص ذلك الأفق لديه هو الاحتلال الانكليزي الفرنسي الذي قسّم بلاد الشام إلى 4 دويلات. فكرة الدولة ومكوناتها (خاصة التعليم الرسمي المركزي) كانت بمثابة أمراض فكرية إدراكية اجتماعية جلبوها معهم. جدير بالذكر أن السكاكيني حذّرنا من التعليم الرسمي قبل الاحتلال العسكري ب 20 سنة، إذ اعتبره إذلالا واحتذاءً بحذاء الغير؛ انتبه إلى ذلك بعقله الفطري وأمانته الفكرية.

الملاحظة الثانية: رفَضَ السكاكيني التقييم العمودي المركزي من منطلق كرامة الإنسان التي ترتبط باحترام التنوع في الحياة. ترفض فنلندا، في المقابل، التقييم من منطلق المساواة، مفهوم ذهني له إيحاءات إيجابية لكن عادة بمضمون سطحي إذ يتضمن عادة عدم احترام التنوع. المساواة ترتبط بالأغصان، الكرامة بالجذور؛ المساواة مفهوم ذهني، الكرامة سلوك اجتماعي. اللبنة البنائية الأساسية في مجتمعات الأهالي هي المجاورة التي تشكل رَحِم المجتمع إذ تحميه مما يمكن أن يضره. تأكيد فنلندا على أهمية أن يصل كل الطلبة نفس المستوى، لا يتوافق مع التنوع، وينطبق ليس فقط على المعارف بل أيضا على المأكولات التي تُقَدَّم للطلبة لضمان أن يحصل جميعُهم على مأكولات تُغذّيهم. عملٌ لا شك جميل، لكنه يهمل التنوع في التذوق (حاسة هامة بالإنسان) كما يهمل التنوع فيما تحتاجه الأجسام. فكما أن العقول تختلف بالنسبة لما تحتاجه بالنسبة لعافيتها الذهنية ولإرواء عشقها للمعرفة والفهم، كذلك الأجسام تختلف بالنسبة لما تحتاجه لعافيتها وعشقها للمأكولات. الكرامة تشمل احترام تنوع الناس بالنسبة للفكر والمأكولات وطرق العيش. فرقٌ رئيسي بين المساواة والكرامة أن المساواة تتطلب قوانين ومهنيين ومؤسسات ومقاييس، بينما الكرامة تتطلب حُكْمَ الذات؛ مسؤولية الشخص في أن يكون شريكا في تقرير ما يدخل عقله وجسمه وأيضا قلبه وروحه. بتركيزه على الكرامة، السكاكيني قريبٌ من قولٍ هنديٍّ قديم: ‘كل إنسان كامل بشكل فريد’. كل إنسان فريد وليس فردا: هو مصدر فريد للمعنى والفهم؛ ومكوّنٌ من علاقات. باختصار، اختلافٌ جوهري بين السكاكيني وفنلندا يكمن في الإدراك والوسيط.

الملاحظة الثالثة: السكاكيني بنى مدرسته بدون دعم حكومي أو خارجي وبدون أن تكون له أي علاقة مع جاليات أو مؤسسات أجنبية، وبدون الاستعانة بخبراء يُسْقِطون على الناس حلولا جاهزة ‘من فوق’ ويستعملون كلمات لا تستمد معانيها من الحياة بل من سلطة وخبراء وظيفتهم الرئيسية إقناع الناس بأن الماضي متخلف وولى زمانه.

الملاحظة الرابعة: لو وُلد السكاكيني بفنلندا، لرفضت السلطات هناك توظيفَهُ كمعلم، ولَمَنَعَتْهُ من إنشاء مدرسة لأنه لا يحمل شهادة ماجستير ولم يكن من الأوائل في الجامعة، بل لم يدخل جامعة أصلا! كم أنا سعيد أنه  وُلِدَ بفلسطين وليس بفنلندا وأنه لم يسلك طريق الجامعات؛ إذ لو وُلِد بفنلندا وسلك طريق الجامعات لخسرناه كمُلْهِمٍ لنا – على الأقل عربيا – إذ لَمَا سُمِحَ له أن يسهم في إدراكنا للتعلم بأنه قدرة بيولوجية وأن نرى جوهر التعليم بالوضوح الذي رآه (كإذلال واحتذاء بحذاء الغير)، ولَمَا تجرّأ على إنشاء مدرسة بالرؤيا المدهشة التي أنشأ وفقها مدرسته عام 1909، ولَمَا سمعنا من أحد أن أهم ناحية في حياة شخص هي الكرامة (ليس التفوق والتميز). النظر إلى المرء عبر رموز كشهادات وتصنيفات يتناقض مع الكرامة والتنوع. المعلم الناتج عن خطة ومقاييس هو معلم ‘مهني’ يمرّ وفق مسار محدد حيث يحصل على شهادة رسمية ورخصة. ما أراه مغيبا من التعليم في فنلندا هو الكرامة والحكمة واحترام العقل الفطري.

الملاحظة الخامسة: تمثلت الكرامة في فكر وعمل السكاكيني (إلى جانب ما ذكرته بأعلاه) باعتبار اللغة العربية أساسا للمعلم في المجتمعات العربية. اللغة العربية كنز حضاري هائل وأداة رائعة لجدْل نسيج فكري بياني اجتماعي روحي في المجتمع، ومع التاريخ والحضارة والفنون والحكمة. فإذا لوّثنا ‘بوتقة’ الفكر هذه (كما يفعل التعليم الرسمي المبني على قيمتَيْ السيطرة والفوز) يتحوّل المدرّس إلى أداة مخدَّرة تعيد كالببغاء ما في الكتب المقررة. كان السكاكيني مقتنعا بأن اللغة العربية يجب أن لا تُدَرَّس عبر قواعد ونَحُو وصرف بل عبر منطقها الداخلي وعبر الغنى في معانيها والجمالية في بيانها والحكمة في ثناياها، والذي يتمّ عبر معايشتها وعبر تفاعلاتٍ تعتمد بالأساس على نُطْقٍ وإصغاء متبادل، وعبر أدب وشعر وحكايات. اللغة العربية منطقية بمعنى جذر أي كلمة هو فِعْل والذي منه يستطيع الطفل تكوين كلمات عديدة. يستطيع مثلا، بالفطرة، أن يشتق من ‘كَتَبَ’ كلمات مثل كاتب ومكتبة وكتاب ومكتوب ومكتب (ونَشَرَ عام 1943 كتيبا بهذا الخصوص). عشِقَ السكاكيني اللغة وسعى أن يعيش الطفل روحها ومزاياها، ليس بشكل آلي بل عن طريق أن تصبح جزءا من نمط تفكيره وبيانه وأسلوب حياته. من أجمل ما يميز العربية وجود المثنى (إلى جانب المفرد والجمع) وهو أمر مفقود في اللغات الأوروبية. المثنى علاقة تختلف جذريا عن ‘العلاقة مع الآخر’. من أسوأ ما خلّفته المستوطنات المعرفية الغربية (مدارس وجامعات) هو تشويه هذا الكنز. الخلل الأعمق في التعليم الرسمي هو ليس التلقين بل استبدال لغات حية بلغة رسمية لا تستمد معانيها من الحياة. تفاعُل الناس عبر لغاتٍ تستمد معانيها من الحياة يشكل خطرا كبيرا على من يريد السيطرة على الناس. من أخطر ما فعله الاحتلال المعرفي هو ليس استبدال لغة عربية بلغات أجنبية بل استبدال لغة حية بلغة حروفها عربية لكن مرجعيتها ومعانيها مستمدة من مصادر غربية. كلمتا ناجح وفاشل مثلا حروفهما عربية لكن معناهما يعودان إلى القبيلة الأورو-أمريكية. خبراء التربية والتنمية والحداثة والتقدم والعلوم والتكنولوجيا يغيّبون اللغة العربية ككنز حضاري فكري اجتماعي روحي ويحوّلونها إلى مادة دراسية! رغم إعجاب السكاكيني بالمتنبي وغيره، إلا أنه عندما بدأ بتوليف كتاب ‘الجديد في القراءة العربية’ (1924)، قرر أن يستعمل لغة أقرب إلى الحياة التي يعيشها الأطفال، حيث معانيها ودلالاتها مرتبطة ونابعة من حياتهم وخبراتهم، بحيث يحسّ بها الطفل ويعيشها، لا أن يتقنها آليا حيث تصبح سلعة كما يحصل عبر لغة الكتب المقررة: لغة اصطناعية تركيبية زائفة. همُّهُ أن لا تفقد اللغة العربية حيويتها وارتباطها بالحياة. تسليع الحياة (تحويلها إلى بضائع وخدمات) بدأ باللغة، وعبرها تحوّل الإنسان إلى مخلوق جلّ همّه المطالبة بسلع وخدمات! سؤال مغيَّب من التعليم الرسمي: كيف نفسر أن الأطفال يتعلموا ويتقنوا اللغة العربية قبل دخولهم المدرسة ثم يرسبون فيها كمادة مدرسية؟!

الملاحظة السادسة: الشرط بأن يكون المدرس حاصلا على ماجستير ومن الأوائل بين خريجي الجامعات يتناقض مع التأكيد بأن إحدى أهم ميزات التعليم الفنلندي هي معارضته للنموذج القائم على تقييم، إذ نجد أن معظم المؤشرات التي تُذْكَر لتميّز التعليم في فنلندا تعتمد على مستوى يُقَرَّر محليا ومقاييس وتقييمات دولية! هناك كما يظهر مستوى منشود على الطلبة والمدرّسين أن يصلوه. بالمقابل، عاش السكاكيني بعيدا عن العبودية لمقاييس على شتى الأصعدة؛ لا يوجد شيء واحد في فكره وعمله استند إلى مقياس، لا محلي ولا عالمي. جوهر ما ركّز عليه هو قِيَم وقناعات كالكرامة، لا عن طريق أن يصل إلى مستوى معين بل عدم الاحتذاء بحذاء الغير. تمثلت الكرامة في فكره وعمله بعدم استعماله أي كلمة تعكس فكرا أو معيارا عالميا. الكرامة تتناقض مع سعي الشخص كونه نسخة عن آخرين أو نموذجا يحتذي به آخرون (إذ ينزلق عندها نحو الاستهلاك ويصبح هو والمعرفة سلعا). فنلندا تعارض تقييم الطلبة لكنها لا تعارض، بل تفتخر، بتقييم التعليم فيها وفق مقاييس دولية! عارض السكاكيني فكرة التراتبية برمتها؛ لم يمارسها على الطلبة ولم يسْعَ لبرهنة أن مدرسته أفضل من غيرها.

* * *

كيف نفسر أن شابا من فلسطين بعمر 18 سنة  قبل 120 سنة (دون الذهاب إلى جامعة وقراءة كتب تربوية) فكّر وعمل في مجال التعليم على صعيد الجذور، مما ساعده على تجنب كثير من أمراض الأيديولوجية المهيمنة؟ تفسير ذلك في رأيي أنه لم يتبع نموذجا جاهزا بل انطلق من انتباه شديد للواقع وحدّد القيم التي لا يناقضها في أفعاله. نعم، يحصل التعليم الفنلندي على أعلى التقديرات بين أنظمة التعليم في العالم لكن السكاكيني سلك طريقا لا ليبرهن أنه أفضل من غيره بل ليكون صادقا مع نفسه ومع الأطفال ومع واقعه وحضارته. ما رآه في الجذور خفيٌّ عن الأنظمة التعليمية الرسمية وحملة الشهادات العالية. ارتباطه بالجذور هو ما حماه من الانزلاق وراء ما هو مبهر في الأغصان. اللغة العربية في الكتب المقررة تنتمي إلى الأغصان؛ اللغة العربية الحيّة تنتمي إلى الجذور. لم يستعمل كلمات ممزِّقة ومحقِّرة كنجاح وفشل وتقدم وذكاء وقياس وتميُّز وتفوّق، مما ساعده في أن يتحكّم في اختيار كلماته ومعانيه. اختيار العرب قبل أكثر من ألف سنة اسم ‘بيت الحكمة’ لأول جامعة بنوها ببغداد (والتي تختلف جذريا عن تعبير ‘تعليم عالي’) ينطوي على روح ضيافة على صعيد الفكر والتعبير والمعنى والفهم، روح تتناقض مع الفوقية والشعور بأفضلية. تشكل الضيافة أحد أعمدة الحضارة العربية، وتمثّلت تاريخيا باستقبال غريب في بيتك دون أن تسأله من أنت ومن أين جئت وماذا تريد، مدة 3 أيام، وتمثلت في ‘بيت الحكمة’ باستقبال أفكار ‘غريبة’ من شتى الحضارات. شكّلت هذه الأمور جذور فكر السكاكيني في التعامل مع التعلُّم من منظور مغاير لفنلندا التي وجودها بأوروبا ربما أفقدها علاقتها بجذورها. ‘بيت الحكمة’ كان مكانا يدخله من يأتي إلى بغداد طلبا لتعميق فهمه ومعرفته وصقل فكره وبيانه؛ ‘بيتٌ’ مليء بمصادر مخطوطة وبشرية ولم يدّع أن لديه أجوبة جاهزة لتغيير العالم كما تفعل جامعات ‘النخبة’. يوجد مثلا في كلية التربية بجامعة ‘هارفارد’ برنامج learning to change the world . التركيز في ‘بيت الحكمة’ كان على تغيير الذات وصقل المعنى والعيش بحكمة. صديقٌ بكلية التربية طُلِبَ منه الذهاب ضمن لجنة إلى مصر لتحسين التعليم فيها. سألتُه: هل زرت مصر؟ قال: كلا. قلت: لا تعرف مصر لكن تعرف ما يناسبها؟! الاعتقاد بوجود نموذج عالمي يصلح لكل المجتمعات هو مرض فكري خبيث لعله الأخطر إذ يحتمي بكلمتين خبيثتين: خدمة (من فوق) وتنمية! كلمة ‘خبيث’ تصف التعليم الرسمي بدقّة: يُظْهِر شيئا بأنه حسن لكنه في العمق مُؤْذٍ بالتصميم. ربما يشكل التغلب على ادعاءات عالمية من أكثر التحديات التي نواجهها حاليا فهي أنجع قاتل للتعددية. بالنسبة لِمَنْ يؤمنون بأن طريق التقدم هو الاحتذاء بحذاء الغير، آمل أن يعيدوا النظر وينطلقوا من مقومات ذاتية كأساس ومرجع (بعد ذلك، يمكن أن يضيفوا أي شيء يشعرون أنه يعمّق ويوسع إدراكهم وفهمهم). المناعة الذاتية أغلى ما يملكه الإنسان والمجتمع لحمايتهما مما يمكن أن يضر بهما. هذه مسؤولية الناس على الصعيد الشخصي والجمعي. هذه المناعة على الصعيد الفكري ترتبط باعتبار ‘واجبي أن أتعلم’ أهم من ‘واجبي أن أدرس’، فالتعلم في رأيي هو أهم صفة في المعلم الجيد. في الوضع السائد، مسموح للمعلم أن يتعلم فقط عبر ورش عمل وبرامج تدريب يُعْطَى فيها معلومات ومهارات جاهزة؛ واجب الدراسة يلهينا عن التعلّم. فرق هام جدا بين السكاكيني والتعليم الفنلندي يكمن في أن السكاكيني لم يدرس، لا في جامعات ولا في ورش عمل ولا عبر مساقات وكتب مقررة وتقييمات، بل قضى حياته يتعلم.

تعامُل السكاكيني مع الجاسوس اليهودي يعكس بعدا آخر في حضارته: إجارة المستجير. بنهاية الحرب العالمية الأولى (1917) قرع باب السكاكيني شخص يهودي كان ملاحقا من قبل الجنود الأتراك بتهمة جاسوس. كان هناك قانون يحتّم على كل جاسوس أن يسلّم نفسه للسلطات. قرع ذلك الجاسوس أبواب يهود قبل السكاكيني، لم يقبله أحد. عندما قرع باب السكاكيني تساءل: أرفض خوفا من العواقب أم أفعل ما تمليه عليّ حضارتي العربية وأجير المستجير مهما كانت العواقب؟ تغلبت حضارته على خوفه. كانت امرأة يهودية تُحْضِر الأكل (كوشر) يوميا وتضعه على شباك غرفته دون علم السكاكيني. لاحظ بعض الجنود ذلك فقرعوا الباب وعثروا على الجاسوس؛ قادوه هو والسكاكيني مقيدين بالأغلال إلى سجن دمشق. كاد أن يخسر حياته لولا انتهاء الحرب وخروج السجناء – قصة السامري الصالح تعاد حرفيا بشكل مدهش؛ في هذه الحالة السامري هو الفلسطيني! تشير هذه القصة إلى ناحية أخرى في حياة السكاكيني تتناقض مع الأيديولوجية السائدة: الفرق بين المواطن الصالح والإنسان الصالح. ‘مواطن’ كلمة ترتبط بدولة حديثة حيث كل شخص يختلف عن الآخر برقم وطني. الجندي الإسرائيلي الذي يرفض الذهاب إلى الضفة الغربية ليهدم ويقتل ويعتقل يُعْتَبَر مواطنا غير صالح في إسرائيل ويعاقَب، لكنه بدون شك إنسان صالح بمعنى يحكم فِعْلَهُ.

مثال آخر ينتمي إلى الجذور وينبع من أفقنا الحضاري هو عبارة الإمام علي (التي تمثّل أروع ما قرأت في التربية): ‘قيمة كل امرئ ما يحسنه’ بشتى معاني يحسن بالعربية (الإتقان والجمال والنفع والعطاء والاحترام). تشكل العبارة مصدرا لقيمة المرء يجسّد احتراما وكرامة وتنوعا وحكمة، وتعتمد على فِعْل. لا يوجد أي شيء شبيه أو قريب من هذه العبارة، لا في فنلندا ولا في غيرها من المجتمعات الغربية. لا أرى مبررا لإهمالنا لها والتمسّك بمقياس يمسخ الإنسان إلى رقم سوى تخديرنا عبر رموز توحي بوَهْم إيجابي. لم يرسم السكاكيني صورة محددة في ذهنه، ولا مستوى معين، على كل طفل أن يصلهما بل كان همُّه أن لا يكون الطفل نسخة عن أحد بل صادقا مع نفسه وشديد الانتباه لما يجري حوله ويعمل ما فيه خير لمجتمعه. هذا بالنسبة له جوهر الحكمة والكرامة والتحرر – القيم التي عاش وفقها. كذلك، حاول التخلص من شرذمة الحياة وتجزئة المعرفة. ارتكز في عمله على ما هو متوفر لدى كل شخص ولا يرتبط بأجوبة جاهزة ومعايير عالمية بل بأفعالٍ وسياقات. اهتم السكاكيني بهذه النواحي ب‘الفطرة’ وعبر تأمّلٍ واجتهاد لفهم ذاته والعلاقة بين داخله وخارجه والتعبير عن ذلك بصدق وإخلاص. لا شك أنه احتاج حتى يصل إلى ما توصل إليه إلى أمانة فكرية، مغيبة عادة من المؤسسات. شخصيا أُومِنُ بأن أهم ‘موضوعين معرفيين’ للأطفال هما التربة الأرضية والتربة الثقافية اللتان تغذيانهم. الحكواتيّون الذين يحملون بداخلهم نبض الحياة وروح الحضارة والثقافة والمجتمع وتكون معارفهم ظاهرة في أسلوب حياتهم، ومجبولة بكيانهم، يشكلون أفضل المعلمين ضمن التربة الثقافية. الحكواتي ينقل عبر حكاياته عالما متناغما عن طريق رسم صور عن الواقع والتاريخ والبشر في مخيلات الأطفال. يفعل ذلك عبر بيانٍ حيٍّ حيوي جميل. ما يميّز الحكواتي قراءةُ الحياة. المعلم الملهم ليس من يحمل شهادة بل من يشارك الناس بما تبلور ونضج بداخله وما يجسده في أسلوب حياته. لم يستعمل السكاكيني كلمات لها إيحاءات إيجابية بدون دلالات أو أن دلالاتها تعود إلى ‘الاحتذاء بحذاء الغير’ أو إلى نمط الاستهلاك في العيش، مثل حداثة وتقدُّم وتميّز ونخبة وتفوق والتي تمزق النسيج المجتمعي بل عن كرامة وحكمة وتحرُّر – قيم مغيبة من التعليم الفنلندي. لم يتكلم عن تحسين التعليم وتطوير المناهج، ولا عن التخلص من التقاليد بل جسّد (دون وعي) مبدأ ‘الزباتيين’ (أهالي ولاية ‘تشياباز’ جنوب المكسيك) في حركتهم (1994): ‘تغيير التقاليد بطرق تقليدية’، أي بدون تمزيق المجتمع ومناعته الذاتية. الزباتيون ذاقوا الأمرّين من الأوروبيين؛ هم فلسطينيو المكسيك منذ 500 سنة، لم يفقدوا الأمل ووضوح طريق التحرر.  أجدهم أكثر الناس إلهاما حاليا بالنسبة لقضايا كثيرة، خاصة في التعلم والتعليم.

يبرز هنا سؤال: كيف نفسّر الصخب والمديح الكبيرين حول التعليم الفنلندي، وعدم الانتباه لرؤى عديدة حول العالم تشمل كرامة وحكمة وتحرر؟ يكمن السبب برأيي أن أوروبا منذ أكثر من 400 سنة بَنَتْ سيطرتها على ادعاء التفوق الذهني والأخلاقي. وفّرت فنلندا للأوروبيين والأمريكيين (في وقت تتحرر فيه مجتمعات عديدة من هيمنة التعليم الرسمي المركزي) مثالا أبقى المرجعية للتقدم ضمن الفلك الغربي. نجد أنفسنا نقع بالفخ مرة أخرى حيث ندعو للاحتذاء بالتعليم الفنلندي. الأوروبيون وضعوا الفكر فوق الحياة وتعاملوا معها كتطبيق لنظريات ومفاهيم. نحن في وضعٍ أفضل؛ ما زال لدينا فسحة ننطلق من الحياة والحكمة التي تراكمت عبر عصور – تماما كما فعل السكاكيني. العيش وفق الكرامة والحكمة والتحرر لا يظهر في عالم المفاهيم بل في نمط حياة الشخص والمجتمع. فنلندا لم تستطع كما يظهر أن تتحرر من البقاء بين الأغصان إذ استمرت في العمل ضمن أهداف لا ضمن رؤيا. السكاكيني عمل ضمن رؤيا لا ضمن أهداف؛ الرؤيا تنتمي إلى الجذور. معظم الطلبة العرب الذين يذهبون إلى جامعات أوروبية وأمريكية ينبهرون بخبراتهم الأولى والتي عادة تكون أفضل من التعليم الذي مروا به في المدارس. لكن أطلب منهم أن ينظروا في الأمر: التحسين الذي يشعرون به، هل هو على صعيد الأغصان أم في الجذور؟ قوة حضارتنا تكمن في الخلطة. كثير من الممارسات السائدة في مجتمعاتنا ضروري معالجتها، لكن ضروري أن يتم ذلك دون تمزيق النسيج فيها، بل وفق مبدأ الزباتيين الذي ذكرته سابقا. 

السكاكيني لم يجسد ما يشار له اليوم ب‘برادايم شفت’ paradigm shift بل تحرير الفكر من مفهوم البرادايم بالذات. ينقلنا إلى عالم نحكم فيه حياتنا. بوصلتنا كما قلت ثلاثية المكونات: حكمة وكرامة وتحرر (ولا أقول حرية). ضروري ذكر أن السكاكيني الذي أتكلم عنه هو الذي عاش قبل الاحتلال الانكليزي، حيث كان فكره مثل نبع صاف من الماء. الاحتلال الانكليزي (رغم مقاومة السكاكيني له) إلا أنه لوّث إدراكه وتعبيره وفكره وحتى عمله. ما لم يتلوث هو صدقه مع ذاته ومع ما يفكر به وما يقوله.

* * *

من الأسباب التي دفعتني أن أكتب ما كتبته بأعلاه هو ما حدثتني عنه ‘دينا بطاينة’ عن صديقة Vanessa قابلَتْها في أحد اللقاءات حول التفكّر ببدائل للتعليم الرسمي السائد بما في ذلك الجامعي. عندما سمِعَت تلك الصديقة التي تعمل بجامعة في كندا عن التعليم بفنلندة قررت أن تأخذ ابنتها (10 سنوات) إلى فنلندا. بعد فترة، قررت العودة إلى كندا. كتبت عن تجربتها بفنلندا. من أغرب ما صادَفَتْه بالنسبة للتعليم هناك ما يمكن أن نشير له ب‘أكل إلزامي’، تماما مثل تعليم إلزامي، حيث ‘خبراء’ يقررون ما يدخل أمعدة وعقول الأطفال! كانت Vanessa مثلا تحضّر الأكل بعناية كبيرة بالنسبة لما تحبّه ابنتها وما هو مغذي وعضوي. تمّ إنذار البنت وأمّها حول إرسال أكل مع ابنتها، وعلى الابنة أن تأكل ما يُقَدّم لها بالمدرسة! الأكل لا يرتبط فقط بتذوّق بل أيضا من أهم ما يجدل نسيجا بين أفراد العائلة، مما يجعل استبدال الأهل بخبراء أكل وفكر عملا خطيرا يغيّب المسؤولية لدى الطلبة والأهالي معا. أنهي هذا المقال بشعرٍ يلخص ما شعَرَت به Vanessa وعَنْوَنَتْهُ ب‘لطف متوحش’ brutal kindness 

Brutal kindness

By Vanessa de Oliveira Andreotti

We welcome you to our nation
Our borders open only to a few
We ask for nothing in return, except
That you recognize the deepest wisdom
That when in Rome you should pay tribute to the Romans

Therefore, you must
speak our language
admire our deeds
adopt our dreams
obey our laws
embrace our values
praise our intelligence
like our food
fulfil our expectations
mimic our behaviour
contribute to our economy
aspire to be like us
commit to serving this country
dedicate your life to our people
and be thankful for our efforts to help you

We offer you unlimited hospitality
We chose you amongst countless others
We ask for nothing in return, except
That you acknowledge the natural exceptionality of our people
Expressed precisely in your inclusion in our society

Therefore, you must
know your place
do as you are told
strive for your best
work twice as hard
feel indebted
show good manners
be clean and organized
get an education
dress appropriately, smell nice
pay your duties
lay low, be happy, focus on positive things
use language that we can understand
entertain us with your culture, when requested
and jump off the balcony, if required

We give you access to the best welfare and education system
We expect you to show us that you truly deserved it
We ask you for nothing in return, except
That you appreciate the privilege of being allowed amongst us

Therefore, under no circumstance, 
should you break our trust
complain or communicate disapproval
expose our inadequacies, reveal our contradictions
disclose our insecurities,  question our values
challenge our authority or understanding of reality
make up unreasonable accusations
fuel internal dissent
defy our right to distinguish our heroes
remind us of what we choose to deny
speak of the past we want to forget
outperform, outsmart , outshine us
or bite the hands that feed you

We will do everything in our power for you to properly fit in
We are certain you will acknowledge our benevolence
We expect nothing in return, except
Your gratitude and compliance 

Therefore, you will not mind when we lovingly
limit your autonomy
mute your conscience
undercut your confidence
interrupt your dreams
place your body and mind under surveillance
and shape your subjectivity into conformity
for your own good


We will give you incredible opportunities
in an incomparable country
We ask for nothing in return, except 
…that you salute our openness, altruism and sense of justice

[Vanessa de Oliveira Andreotti is Canada Research Chair in Race, Inequalities and Global Change. University of British Columbia, Canada. She was chair of global education from 2010 to 2013; University of Oulu, Finland. The poem appeared in an article in the  European Journal of Cultural Studies (2015)]

 

الديمقراطية

الديمقراطية التي تمارسها وتصدّرها القبيلة الأورو-أمريكية إلى أنحاء العالم هي أكثر أشكال الديمقراطية ضحالة إذ تتمثل بإدلاء صوت يوم الانتخاب، ومن ثم السبات حتى الانتخابات التالية. هذا النوع من التصويت بلغ درجة معيبة حيث يتخذ حاليا شكل تصويت like الشائعة التي تجسّد سطحية وغوصا في نمط الاستهلاك بطريقة تدعو للغثيان، كما تجسّد المنطق الثنائي المرتبط بسيطرة وأدوات ولا يعكس عمقا وتنوعا. أي، الديمقراطية السائدة تتعلق بالأغصان ولا تمسّ الجذور. الفكرة الجوهرية في ديمقراطية الجذور تكمن في أن رأي كل شخص مساوٍ لأي شخص آخر، وتتعلق بنواحٍ حيّة حقيقية في الحياة وترتبط بالحرية والكرامة وحكم الذات وبعلاقة الناس فيما بينهم ومع ما حولهم. فيما يلي أنواع من الديمقراطية المرتبطة بالجذور: 

ديمقراطية المعنى. كل إنسان مصدر معنى، شريك في تكوين المعنى. هذه الشراكة قدرة بيولوجية وواجب وحق (حق رغم أهميته القصوى مغيّب من الإعلان العالمي للحقوق!) أفضل إطار يجسّد ديمقراطية المعنى هو المجاورة حيث ‘يدلي’ كل شخص بالمعاني التي تكوّنت لديه نتيجة تأمّلٍ واجتهاد وحيث تتداخل المعاني وتنضج لدى المتجاورين.

ديمقراطية وسيط التعلم. ديكتاتورية الوسيط السائد – منهاج، كتب مقررة، أقفاص (صفوف)، تقييم عمودي – وهو الوسيط المعروف بالتعليم الرسمي يتناقض مع ديمقراطية المجاورة كوسيط، إذ لا توجد في المجاورة سلطة داخلية أو خارجية. المجاورة هي اللبنة الأساسية في البناء المجتمعي الديمقراطي.

ديمقراطية قيمة الإنسان، والمتمثّلة بعبارة الإمام علي ‘قيمة كل امرئ ما يحسنه’، حيث يوجد لكل شخص قيمة لا يمكن مقارنتها مع قيمة أي شخص آخر – أي، قيمة كل شخص معادلة لقيمة أي شخص آخر.

ديمقراطية البيان. لكل شخص بيانُه الذي يبيّن عبره بصدق ما يختلج وينضج بداخله؛ بيانٌ يعكس قدرة بيولوجية.

ديمقراطية التعلم. التعلم قدرة بيولوجية، قريبة من أن تكون رديف للحياة. فالتعلم مثله مثل التنفس والهضم، لا يحتاج إلى مؤسسات ومناهج وتقييم. أعني بالتعلم صقل وتهذيب الفكر والفهم والبيان والتعامل والعلاقات وهو مصدر جذري لكرامة الإنسان. ‘الحق في التعليم’ يطمس التعلم كقدرة بيولوجية ويغيّب الكرامة كليا. الحق الذي يجب أن يُتَضَمَّن في الإعلان العالمي هو حق كل شخص في حمايته مما يسلبه قدرات بيولوجية كالتعلم. ترتبط ديمقراطية التعلم بحقيقة أن واجبي أن أتعلّم أهم بكثير من واجبي أن أدرس؛ فالواجب الأول هو نحو الذات والمجتمع والطبيعة، أي عدم الإضرار بهم؛ واجبٌ يتوافق مع العيش بحكمة وعافية. واجبي أن أدرس يرتبط بمؤسسات ومهنيين ويخدم الاستهلاك والسيطرة

ديمقراطية المساعدة. مساعدات القبيلة الأورو-أمريكية مساعدات باتجاه واحد: من فوق إلى تحت. كانت المساعدات عبر التاريخ تبادلية أفقية، وعاملا أساسيا في جدل نسيج في المجتمع الذي يتكون من أهالي لا مواطنين (حيث تصبح العلاقة الرئيسية مع دولة ومؤسسات، ولا تجدل نسيجا بين الناس). عندما أغلقت إسرائيل المؤسسات على اختلاف أنواعها في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، قام الناس بإدارة شؤونهم الحياتية على أكمل وجه وكانت المساعدة تبادلية.

ديمقراطية البحث. يقول جلال الدين الرومي ‘أنت ما تبحث عنه’ والذي يختلف جذريا عن البحث بمفهومه الأكاديمي (الذي يعني حرفيا ‘إعادة بحث’ research ). وفق مقولة الرومي، الإنسان كباحث يعكس ديمقراطية متوفرة لدى كل إنسان، وما يبحث عنه يشكل جزءا هاما من هُوِيّته، وبالتالي يعكس مساواة وتنوعا وصدقا واحتراما. البحث بمفهومه الأكاديمي يحوّل الإنسان في أغلب الأحيان إلى أجير يفعل ما يملى عليه من قبل مؤسسات مرخصة حيث يخدم سلطة سياسية أو مالية أو تجارية. ‘بيت الحكمة’ في بغداد قبل 1200 سنة كان يرتبط بما يبحث عنه الشخص وبالتالي يتوافق مع كرامته وحيث كان ‘البيت’ يُغْني ما يبحث عنه. حاليا، من الصعب إيجاد مؤسسة تعليم عالٍ تسأل القادم إليها: عما تبحث عنه في حياتك؟ كأساس لبناء تعلمه ومعرفته.

ديمقراطية حكم الإنسان لذاته، والتي تتناقض مع ما يجري في المؤسسات حيث تحكم الشخصَ أيديولوجيةٌ ترتبط بقيم السيطرة والفوز والتراكم الأسي لرأس المال.

الديمقراطيات المذكورة بأعلاه تطمسها وتغيّبها المؤسسات الرسمية والأيديولوجيات المرتبطة بالسيطرة. الديمقراطية بشكلها السائد تنتهي بإدلاء الصوت ولا تؤثر على حياة الشخص أو نمط عيشه؛ ترتبط كما سبق وذكرت بالأغصان. في المقابل، ترتبط الديمقراطيات المذكورة بأعلاه بالجذور، بنمط حياة الشخص والتحكم في معانيه وعلاقاته وتعامله، مما يجعلها ملك الناس بمعنى لا تحتاج إلى مطالبة وإذلال ومشاركة سطحية؛ هي عصب الحياة. من هنا أرى أن شراكة الإنسان في تكوين معنى، وفي العيش والعمل ضمن مجاورات كأطر مجتمعية أساسية، يشكلان أساس الديمقراطيات على الصعيد الشخصي والجمعي والمجتمعي.

التحرر من بلطجة لغة الكتب المقررة

كلمة ‘بلطجة’ تصف شخصا أو شيئا ليس له قيمة لكن يفرض سطوته على الناس. أكثر لغة عبر التاريخ جسّدت ضحالة وبلطجة هي لغة الكتب المقررة، فهي بمثابة مرض على صعيد اللغة والبيان والإدراك والفكر والمجتمع، وأصبحت بقدرة قادر ‘اللغة الأم’، يتفانى الناس في نشرها، وفي مقاومة أي محاولة للتعرف على لغات فيها جمال وغنى وحكمة وعمق ومعنى وإلهام. مثلا، إذا رأوا أولادهم يقرأون كتبا غير مقررة يوبخونهم ويحثونهم على تركها والاهتمام فقط بالكتب المدرسية.

الحياة المعاصرة مليئة باحتلالات من شتى الأنواع: احتلال مأكولات ومشروبات مصنعة ومؤذية محل مأكولات ومشروبات طبيعية عضوية مغذية، واحتلال مؤسسات محل مجاورات، واحتلال مواطنين محل أهالي، واحتلال أنواع من الترفيه تقتصر على مشاهدة (عبر شاشات أو عروض الخ) بدلا من ترفيه مليء بالحيوية والحركة والتفاعل. لكن كما ذكرت في أكثر من مدونة، أخطر الاحتلالات وأقلها وضوحا هو احتلال لغة مصنّعة لا تستمد معانيها من الحياة بل من سلطة رسمية، لغة مؤسسية مهنية لعل أخطرها التصنيفات الأكاديمية، محل لغات حيّة مليئة بالحكمة وغنية بالمعاني. التحرر من لغة المؤسسات ومن التصنيفات الأكاديمية كأساس ومرجع هو أساس كل تحرر. أي تحرر على أصعدة أخرى إذا لم يشمل تحررا على صعيد اللغة والفكر والمعرفة لا يلبث أن يعود بنا إلى حالة العبودية.

وُلِدَ ابني الثاني ‘تامر’ يوم 20 / 12 / 1977. فاجأني وهو بعمر 9 سنوات (عام 1986 وكان بالصف الرابع الابتدائي بمدرسة الفرندز برام الله) إذ قال: لا أريد الذهاب إلى المدرسة. قلت: “ما شاء الله، وعيتُ هذا عندما كان عمري 30 سنة. أنا سعيد أنك اكتشفت حقيقة التعليم الرسمي وأنت بعمر 9 سنوات. لا يوجد لدي اعتراض لترك المدرسة لكن البديل ليس التلفزيون وإخوانه وأولاده وأحفاده بل أمران أساسيان: نذهب كل شهر إلى مكان لشراء كتب حقيقية (لا مقررة) وتختار، والأمر الثاني أُطْلُب أي شيء تستعمل فيه أصابعك”. فالكتب الحقيقية والتحادث وجها لوجه والأصابع هي التي تربط العقل والفكر بالواقع والحياة، وبالتالي تكوّن فَهْمًا ومعرفة. وافق تامر؛ ترك المدرسة. فاجأني بعد يومين بسؤال: ألم تقل لي أي شيء أستعمل فيه أصابعي؟ قلت نعم. قال: أرغب في أن يكون عندي معزة حلوب أحلبها كل يوم. قلت فليكن. اتصلت مع الصديق ‘هشام الخطيب’ (توفي شابا رحمه الله) والذي عرفته طالبا بجامعة بيرزيت ثم عملنا معا ضمن “مجموعة التنمية الاقتصادية”. قلت له: أريد شراء معزة حلوب ل‘تامر’. قال: لنذهب إلى منطقة الخليل. ذهبنا، أنا وهشام وتامر. وجدنا معزة حلوب، اشتريتها ب 75 دينارا وعُدْنا بها بالسيارة. جلسنا أنا وهشام في المقعدين الأماميين وجلس تامر في المقعد الخلفي محتضنا المعزة. في تلك الليلة حلبها! سخّنا الحليب وشربناه. لم أذق في حياتي أطيب منه. لم يحتاج تامر إلى تدريس وكتب مقررة وتقييم وشهادة ليحلب المعزة، تماما كما لم يحتاج إلى كل ذلك وهو بعمر 3 سنوات ليتعلم ويتقن اللغة العربية. التعلم قدرة بيولوجية تتم إذا وُجِدَ جوٌّ حقيقي وتوفرت حرية وجرأة وشغف. “المريد خير المتعلمين” قولٌ للإمام علي. نحتاج إلى تدريس في نواحٍ تقنية، لا في أمور تتعلق بالفهم والناحية الروحية والعيش بعافية وحكمة.

بقي تامر خارج المدرسة ثلاث سنوات، اشتاق بعدها إلى رفاق وطلب أن يعود إلى المدرسة. لم أشجعه على ترك المدرسة ولم أشجعه على العودة لها. فالمهم هو ليس وجوده أو عدم وجوده بمدرسة بل عدم اعتبار المدرسة مرجعا وسيّدًا بل أداة يستعملها كما يشاء. عاد إلى المدرسة عام 1989 ليس برام الله (فالمدارس كانت مغلقة بأمرٍ عسكري إسرائيلي نتيجة الانتفاضة، وأيضا لأنني لم أستطع الحصول على لمّ شمل لتامر). دخل مدرسة قرب بوسطن. طلب المدير أوراق المدرسة السابقة قلت: لم يذهب إلى مدرسة مدة 3 سنوات. قال كيف أدخله الصف السابع دون المرور بالرابع والخامس والسادس؟ قلت: “جرّبه. قرأ وعمل وتعلم أشياء كثيرة، لا أعتقد أنه سيجد صعوبة”. قال: سأجربه مدة فصل، ونرى. دخل الصف السابع وكان على لائحة الشرف، لكن ذلك لم يجعله يحب المدرسة، ظلّ يشعر بأنها مكان إذلال وقولبة. اختار المسار المهني وتخرج من المدرسة لكنه لم يرغب بالذهاب إلى جامعة. اندمج في نواحٍ عديدة بالحياة ورسا في النهاية على قناعة تفرَّغ لها: المأكولات المتوفرة في السوق مزورة وغير مغذية. اندمج مع مجموعات تسعى لتعيش وفق العافية بالنسبة للمأكولات، وتبلورت لديه قناعة أن المأكولات المتوافقة مع عافية الإنسان هي المحلية العضوية الطازجة غير المطبوخة. أنشأ مطعم صغير في بلدة صغيرة اسمها “طاوُسْ” في ولاية “نيو مكسيكو” بالولايات المتحدة، أسماه Raw to Go . كان ذلك عام 2009.

يمكن تلخيص مسار التعلُّم الذي سلكه تامر بما يلي: تحرُّر من كتب مقررة وتخصصات، وتَعَرُّف على كتب حقيقية اختارها وفق ما كان يبحث عنه في حياته، وانطلاق من نواحٍ ومكوّنات حقيقية في الحياة. لم ينطلق من نظريات ثم تطبيقات ضحلة سخيفة ملهية (كما في الكتب المقررة) بل من أمور واقعية حياتية. لم يحدث عبر التاريخ في أي مجتمع أن أُجْبِرَ الصغار في أعمار محددة على قراءة نفس الكتب على مدى 12 سنة – سوى القبيلة الأوروبية ثم الأمريكية، ثم انتقلت العدوى عبر مدارس وجامعات أنشأوها في بلادنا. ثم استفحل المرض في مجتمعاتنا حيث نقوم حاليا بأنفسنا بنشر أوهام وخرافات تلك القبيلة، مثل أن بالإمكان حشر المعرفة بين دفّتَيْ كتاب، ومثل مسخ قيمة الطالب إلى رقم، ومثل أن المعرفة تقتصر على معلومات مشرذمة ومهارات آلية، ومثل الاقتناع أن بالإمكان قياس ذكاء الطلبة وفق مقياس (وضعه فرنسي وتلقفته جامعة ستانفورد وعُرِفَ بمعامل الذكاء IQ، غير آبهين بالتشويه والاحتقار الذي يسببه ذلك). عندما كنت في الهند عام 2001 سمعت عبارة: ‘كل إنسان كامل بشكل فريد’. وقبل ذلك كنت قد قرأت (عام 1997) في كتاب ‘البيان والتبيين’ للجاحظ عبارة للإمام علي ‘قيمة كل امرئ ما يحسنه’. شكلت تلك العبارة منذ قرأتها بوصلة تشير إلى قيمة المرء مليئة بالاحترام. ننسى حكمة الهند وحكمة الإمام علي، ونحتضن مقياسا يميّز بين الناس على خط عمودي وهمي بهدف احتقارهم والسيطرة عليهم.

المشكلة الجوهرية في التعليم ليست التلقين كما هو شائع بل احتلال لغة كتب مقررة لا تنبع معانيها من الحياة محل لغات حيّة؛ احتلال لغة رسمية بلاستيكية محل جنائن الكلام التي تتمثل بلغة الأم مع أطفالها ولغة العائلة والجيران ولغة الأدب والشعر ولغة التحادث وجها لوجه. هذا الاحتلال في نظري أخطر احتلال حصل تاريخيا. هو احتلالٌ انطلق من فرنسا قبل حوالي 350 سنة، تبعتها السويد ثم انكلترا، ثم جاءت إلى بلادنا عبر قواعد معرفية – مدارس وجامعات – مهّدت الطريق لقواعد عسكرية ومالية وسياسية. ربما ليس من السهل التخلص من وباء الكتب المقررة لكن (كما هو الحال بالنسبة للمأكولات) علينا وعي أن المعارف التي تنشرها هي مصنّعة وفق قيم السيطرة والفوز؛ ربما نُجْبَر عليها لكن ضروري أن نتغذى من خارجها.

ما زال ‘تامر’ يسير وفق طريق العافية. كان أول المستفيدين أنا وأمّه بالنسبة لما نأكله. إلى جانب ذلك، هناك ناحيتان أخريان أود ذكرهما، ناحية ترتبط بأمّه، وناحية ترتبط بي. عندما تقاعدت زوجتي من شركة الطيران، ووجدت نفسها بدون شيء تعطيه وقتها وطاقتها ويعطيها معنى لحياتها، بدأت تندمج مع تامر في مسعاه لتوفير مأكولات عضوية غير مطبوخة. يشكل هذا الاندماج منذ 8 سنوات عاطفتها الرئيسية في الحياة والتي تعطيها حيوية ومعنى. أما بالنسبة لي، حصل أن ذهبت عام 2012 إلى مختبر طبي لفحص الكولسترول؛ أخبرني الفاحص أنه 284 وأن عليّ أن آخذ حبوبا طبية للتقليل منه. ذهبت إلى البيت وذكرت ما حصل لزوجتي وتامر، وعليّ أن أشتري حبوبا لعلاج ذلك. فما كان من تامر إلا أن قال لي محتدا: “كيف تصدّق رقما خارج سياق وفعل ونمط حياة؟ الأمور لا تُحْكَم برقم بحت. غيِّر نمط أكلك وزِدْ حركتك ثم افحص الكولسترول بعد فترة”. فعلت ذلك وذهبت إلى نفس المختبر بعد 3 أشهر؛ كان المقياس 224. سأل الفاحص إذا أخذت حبوب. قلت: لا. قال: مستحيل، لا يمكن أن يهبط ذلك دون حبوب. ذكرت له ما قاله تامر وما فعلته؛ لم يصدّق… المهني في أي مجال لا يعي عادة قدرات الإنسان البيولوجية، وأن علينا أن نحترمها ونبني عليها. حتى الآن لم آخذ حبّة ضد الكولسترول. عندما صدّقت ذلك المخبري، وكنت على وشك أن أشتري حبوبا، كنت مخدّرا بالعالم المهني الأكاديمي والمؤسسة الصحية ونسيت الحكمة والعافية. أيقظني تامر وذكّرني بما كنت دوما أقوله له عن كيف تُسْتَعْمَل الأرقام في خداع الناس بحيث يكونوا أعداء أنفسهم في طرق عيشهم.

التعلم قدرة بيولوجية

لا حاجة لمؤسسات وخبراء وأكاديميين وعلماء ومهنيين وتقييم لتعليم الناس كيف يهضموا المأكولات، فالهضم قدرة بيولوجية كل ما تحتاجه هو تربة صالحة ومأكولات عضوية مغذية. كذلك الحال بالنسبة للتنفّس: لا حاجة لمؤسسات وخبراء وأكاديميين وعلماء ومهنيين وتقييم لتعليم الناس كيف يتنفسوا، فالتنفس قدرة بيولوجية كل ما تحتاجه هو جو نظيف وهواء نقي مغذي. لماذا إذن رغم أن التعلم/ التفكير قدرة بيولوجية (كل ما يحتاجه هو تربة ثقافية جذورها في الحياة، وأجواء حقيقية حيوية، ومصادر غنية متنوعة، وأفكار مغذية للعقل والفكر وملهمة للقلب والنفس والروح والعلاقات) إلا أننا نتعامل معه، أي مع التعلم، وكأنه يحتاج إلى وزارات ومؤسسات ومهنيين وخبراء ومناهج وكتب مقررة وتقييم وميزانيات ضخمة ودورات تدريب وورش عمل؟! لماذا عندما تصل الأمور إلى العقل الذي يمكن أن يتعلم الكثير – بيولوجيا دون تدريس – نتدخل بقوة ونمنع ذلك من أن يحدث؟! نتعلم كل ما هو هام دون الحاجة لما تدعيه المؤسسات والخبراء. أكبر مثال على ذلك أن كل طفل في مجتمع عربي يتقن العربية (والتي يعترف كثيرون أنها من أصعب الأمور) بعمر 3 أو 4 سنوات، دون مناهج وأساليب تدريس وكتب مقررة ومدرسين وتقييم وخبراء. هذه الحقيقة تصفع كل من يدعي أن التعلم خارج أقفاص غير ممكن أو أقل قيمة أو غير معترف به! نضع كل جهدنا في تغييب هذه الحقيقة. أمرٌ يدعو للتفكّر؛ وشغلني مدة طويلة. التفسير الوحيد الذي أراه يوضح السبب يكمن في أن تغييب وقمع التعلم كقدرة بيولوجية، واستبداله بالتعليم الرسمي، يشكّل الأداة الأكثر نجاعة في السيطرة على العقول، على صعيد الفرد والمجتمع. السيطرة على العقول تُعَبِّد الطريق للسيطرة على أصعدة أخرى. لهذا، مثلا، غزو بلاد الشام في القرن التاسع عشر لم يتمّ بغزو عسكري بل بغزو معرفي عبر التعليم الرسمي والأكاديمي، بدأ بالجامعة الأمريكية في بيروت عام 1869، واتبع إستراتيجية “ماكولي” البريطاني التي تنطلق من إقناع الأهالي بأن المعارف والثقافة المحلية ليست بذي شأن، وأن معارف وثقافة القبيلة الأورو-أمريكية أرقى بكثير، وأن خبراء تلك القبيلة على استعداد لمساعدة الناس في بلاد الشام ليصبحوا نسخا عن تلك القبيلة – التي بلا شك أبدعت في صنع أجهزة واختراع أدوات يرتبط أغلبها بالسيطرة والفوز والتراكم الأسي لرأس المال، ولكنها حوّلت المعرفة والمعلم والتلميذ إلى سِلَعٍ في عالم الاستهلاك، لهم سعر في السوق والذي يشكل سر انجذاب الناس لأيديولوجية تلك القبيلة. من الصعب ذكر أي ناحية في الطبيعة أو الحياة لم تُخَرَّب نتيجة معارف تلك القبيلة: الهواء والماء والتربة والمأكولات والعالم الداخلي للإنسان والنسيج الفكري الاجتماعي الاقتصادي الروحي في المجتمع.

هناك عدة تعليقات حول ما ذكرته بأعلاه: أولا، غزوة نابليون العسكرية لم تنجح عسكريا لكنها مهدت الطريق لغزو ثقافي معرفي عبر التعليم الرسمي والأكاديمي. ثانيا، نحتاج إلى مؤسسات عندما يتعلق الوضع بأمور ومهارات ومعارف تقنية ولكن ليس بأمور تتعلق بالحياة. ثالثا، إذا تدخّلت المؤسسات والعلماء ليعلمونا كيف نهضم وكيف نتنفس، سيصبح الهضم والتنفس – كما حدث للتعلم والتفكير – أمرين عسيرين، وسيكون دور المؤسسات والعلماء تخريب المأكولات عبر تصنيعها وتعليبها وعبر إضافة مواد ضارة لها، مما يتطلب تخريب التربة والهواء والمياه والبيئة بوجه عام.

يبرز سؤالان: لماذا كل هذا التخريب؟ وكيف يتم تخريب العقول؟

السبب الرئيسي في التخريب يكمن في الأرباح الهائلة التي يجنيها الرأسماليون والشركات والمؤسسات والخبراء والعلماء من جراء هذا التخريب. مثل هذا التخريب صعب إذا تمردت العقول عليه، لذا كان من الضروري السيطرة على العقول كتمهيد لهذا التخريب وهذه الأرباح. أما كيف يتم تخريب العقول والسيطرة عليها فقد كتبت عنه في مدونات سابقة، لعل أهمّها: احتلال لغة بلاستيكية مصنعة (لغة الكتب المقررة) محل لغات حية؛ لغة مصنّعة لها إيحاءات أكثر من دلالات، لغة لا تستمد معانيها من الحياة بل من خبراء جلّ همهم إقناع الناس بأن الماضي متخلف وولّى زمانه. عندما نقول مثلا معدل فلان في امتحان هو 90% فإن ذلك يوحي أن الشخص متفوق وأنه أكثر ذكاء؛ لكن لا يدلّ ذلك على أي شيء في الحياة. فمثلا، أستاذ رياضيات جامعي يدرّس مساق “المتغيرات المعقدة” أو “التحليل الرياضي” يوحي بذكاء ومعرفة عالية لكن من الصعب على ذلك الأستاذ أن يذكر سببا شخصيا لماذا يدرّس مثل تلك المساقات – سوى المعاش آخر الشهر، وأنه درسه في جامعة ‘مرموقة’. في المقابل، عندما نقول أن فلان يعزف على العود ويطرب له الناس فإن لذلك معنى ملموسا ودلالة واضحة. أي شيء يمكن تحويله لشيء يمكن قياسه حسابيا (مثل العلامات والتنمية) ضروري الحذر منه. روعة عبارة الإمام علي “قيمة كل امرئ ما يحسنه” تكمن في أن من المستحيل تخريبها عبر الرياضيات، عبر أرقام. أي ناحية تَمُتُّ إلى جوهر الحياة، إذا قيست بأرقام، تُخَرَّب وتفقد معناها المرتبط بالحياة. الضيافة مثلا لا يمكن قياسها رياضيا، وكذلك الصبر والجمال والذكاء والحكمة والكرامة.

اللغة الرسمية المرتبطة بسلطة، والاعتقاد بان التعلم يحتاج إلى تدريس، والتقييم العمودي تشكل جميعا أساس تخريب القدرة البيولوجية للتعلم. لذا، فإن استعادة إدراكنا للتعلم كقدرة بيولوجية يشكل أهم تحدٍّ نواجهه كبشر في الوقت الحاضر. (الحاجة إلى تدريس تعني جلوس الطالب على قفاه سنوات عديدة، لا ينطق خلالها ولا يتحرك ولا يستعمل يديه ولا ينغمس بأجواء حقيقية، بل يستبطن خلالها طبيعة غريبة على الإنسان ألا وهي الافتخار بالعبودية وأن يصبح عدو نفسه بالنسبة لما يدخل جسمه من مأكولات ومشروبات ضارة، وما يدخل عقله من مصطلحات مؤسسية وتصنيفات أكاديمية تنتزعه من الحياة. فالتعلم والتفكير ذو معنى يحدثان ضمن سياق وعبر أفعال وتفاعل وتأمل واجتهاد… ويفضّل ضمن مجاورات.

جدير بالذكر أن تخريب العقول عن طريق تخريب القدرة البيولوجية للتعلم سبق تخريب المأكولات بثلاثة قرون. لذا، من الضروري أن ينطلق أي تحرر من تحرير العقل من هيمنة المصطلحات المؤسسية المهنية والتصنيفات الأكاديمية والتي يصبح العقل عبدا لها دون أن يدري. ويتمثّل هذا التحرر باستعادة حق وواجب وقدرة كل إنسان أن يكون شريكا في توليف معنى وفهم مرتبطين بفعلٍ وسياق، ونابعين من تأمل واجتهاد ورؤيا واسعة.

 

ربما تبحث بين الأغصان عن أشياء موجودة فقط في الجذور

كم ينطبق قول ‘جلال الدين الرومي’ هذا (والذي قاله قبل 750 سنة) على العصر الحاضر، حيث نبحث عن حلول سطحية في مظاهر الأمور، بين الأغصان، ونهمل النظر في بواطن الأمور، في الجذور. معظم الأبحاث حول التعليم يتعلق بالأغصان، بأمور ترتبط بالنمط الاستهلاكي في الفكر والعيش: تدريب المعلمين، تطوير المناهج والمواد التعليمية، الاتجاهات الحديثة في التدريس، تنمية مهارات التفكير، مراعاة الاتجاهات العالمية في بناء المناهج، وكلمات وتعابير مثل تنمية مستدامة وجودة التعليم والإبداع والتميّز والتفوّق وتعليم التفكير والإنجاز وتغيير المجتمع والتفكير النقدي… جميعها يعكس جهودا تبحث بين الأغصان. نلتهي بالمظهر وننسى الجوهر؛ نقضي وقتا طويلا في تحسين القفص ونهمل ما يحدث لمن هم داخل القفص؛ نحسب مكاسب ضحلة أو رمزية وننسى الثمن الذي ندفعه في العمق نتيجة تلك المكاسب؛ نتعلق بأمور تلهينا عن وعي الوسيط الذي نتبعه للتعلم والمنطق الخفي للظواهر التي نعيشها بما في ذلك القيم التي تحكم إدراكنا وأفكارنا وعلاقاتنا وسلوكنا، والتي تعمينا عن رؤية جذور ما نراه على السطح. نتقن مهارات آلية وتقنية ونخسر القدرة على الفهم ورؤية الصورة الكلية وعواقب ما نفعله…

المرحلة المدرسية، التي يشار لها بالأساسية، تنطلق من تغييب الحياة وشرذمة الفكر والمعرفة، إذ يبدأ المنهاج المدرسي بمواد قررتها لجنة من عشرة مهنيين وأكاديميين عام 1892 كما يبدأ بكتب مقررة تستعمل لغة رسمية تستمد معانيها وإيحاءاتها وأهميتها من مؤسسات ومهنيين وأكاديميين وخبراء همّهم الرئيسي هو الإيحاء بأن الماضي متخلف وولّى زمانه، ويصفون ما يقدمونه للناس بأنه عالمي وحديث. ادعاء العالمية هو أخطر أنواع الأصولية وسبب كثير من الخراب الذي نشهده في معظم نواحي الحياة حاليا. أما ادعاء الحداثة (مثل أساليب حديثة ونظريات حديثة والمدنية الحديثة وما بعد الحداثة) فيقدمونه وكأنه مرجع وأنه الأفضل. عندما كنت أُسْأَل: ماذا درست؟ أُجيب: رياضيات. الآن أجيب ‘رياضيات القبيلة الأورو-أمريكية’. الجواب الأول يوحي بأن الرياضيات عالمية. كل الحضارات التي سبقت مدنية القبيلة الأورو-أمريكية كان لها أسماء: المصرية الهندية الصينية الفارسية العربية الإسلامية. تسمية مدنية القبيلة الأورو-أمريكية بالحديثة هو لإضفاء العالمية والأفضلية عليها. الإشارة إليها بالقبيلة الأورو-أمريكية تعيد الإدراك إلى نصابه. الأداة الرئيسية في هيمنة هذه المدنية، كما ذكرت بمدونة سابقة، هي لغة رسمية تحكمها سلطة تقرر وتكافئ، وتعاقب من يخرج عن قواعد وحدود استعمالها وعن معانيها الصادرة من سلطة مرخّصة. هذه اللغة الرسمية هي السلاح الهادئ الأنجع في السيطرة على البشر. عندما وضَعْتُ والدتي الأمية والدجاجة الفلسطينية ودودة الأرض كمراجع معرفية في الصيغة الأولى لرسالة الدكتوراه التي قدمتها للجنة المشرفة، طار صوابهم. لجأوا إلى ناحية أخرى لتقليل أهمية ما كتبته، حيث ذكر أحدهم أن المنهجية التي اتبعتها غير واضحة، قلت ‘بل لا توجد منهجية؛ هي كلمة اخترعتوها على مقاسكم ولها معنى لكم لكن بالنسبة لي لم أستعملها في حياتي ولا حاجة لي بها في معرفتي؛ أرجو أن لا تقحموها عليّ، إذ لو فعلتم ذلك تقوموا بإجباري على استعمال مفهوم ليس له معنى في حياتي وفكري”. ثم أضفت: “ما استعملته منذ 1971 في توليف معنى ومعرفة وفهم كأساس كان التأمل بخبراتي وتجاربي وقراءاتي وتحادثاتي، واجتهادي في توليف معنى لها، وهو معنى يتغير مع خبرات جديدة وتأمل جديد واجتهاد جديد.” لم يَرُقْ ما قلته لهم واختلفنا وتركت الجامعة مدة سنة عدت إلى بيرزيت عام 1986 وعملت عميدا لشؤون الطلبة. ثم قررت أن أعود وتوصلنا إلى حلّ وسط.

مَثَل صيني قديم: “من يعرّف الكلمات يكسب الحجج”. لذا أركّز منذ 1971 على أن أهم فِعْل يحرر الإنسان من المصطلحات المهنية وغطرسة التصنيفات الأكاديمية هو ممارسة حقّه وواجبه وقدرته البيولوجية ليكون شريكا في تكوين معنى للكلمات التي يستعملها. الدليل على أهمية هذا الحق أنه مُغَيَّب من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان!! الشراكة في توليف معنى هو أهم تعبير عن حرية الإنسان وبالتالي أهم حق، لذا تغييبه هو ضد كرامة الإنسان وضد التنوع في الحياة. لحسن الحظ، هو حق لا يحتاج إلى مطالبة بل ممارسة؛ هو حق يكمن في الجذور. أعود لأذكّر بأن ‘خليل السكاكيني’ (نتيجة انتباهه الشديد لما كان يجري بمدارس منطقة القدس التي كانت أجنبية) ربما كان الوحيد الذي نبّه أن المشكلة تكمن في جذور التعليم الرسمي حيث رآه إذلالا واحتذاءً بحذاء الغير، إذ يمزق عالم الأطفال الداخلي والنسيج المجتمعي. لم يبحث السكاكيني (كما نفعل الآن) بين الأغصان عن المشكلات وحلولها، بل نظر في الجذور وترجم وَعْيَهُ ذاك بالمدرسة التي أنشأها بالقدس عام 1909 إذ اختار ‘إعزاز التلميذ لا إذلاله’ شعارا لها، وترجم الشعار عمليا من خلال ‘لا علامات ولا جوائز ولا عقاب’ فيها، كما ركّز على أهمية التعرف على المكان مشيا على الأقدام، والتعرف على اللغة من خلال القصص والأدب. هذا ما عشته في المدرسة التي درست فيها – الكلية الوطنية – التي أنشأها ‘خليل أبو ريا’ الذي كان يغلق المدرسة كل يوم سبت ويأخذنا مشيا على الأقدام في تلال ووديان وقرى حول رام الله والتي تعرفنا خلالها على الأهالي وعلى أنواع كثيرة من النباتات والينابيع. لم يحاول السكاكيني تحسين التقييم بل رفض فكرة تقييم الطلبة على خط عمودي، أي رأى العلة والحل في الجذور. رفض أي شيء فيه إذلال للتلميذ. ما غيّب ذلك الوضوح ودمّر ذلك المسار كان احتلال الانكليز لفلسطين عام 1917 الذين نشروا نظامهم التعليمي المبني على الاحتذاء بحذاء الغير؛ تعليمٌ تحكمه قيمتا السيطرة والفوز، واللتان تمزقان الإنسان والمجتمع من الداخل. ما يعمينا عن رؤية هذه الحقيقة هو أننا ما زلنا ننظر بين الأغصان ونرى تقدما وتحسينا هناك. نحكم عبر إيحاءات وادعاءات تعمينا عن رؤية الخراب الذي يحدث في العمق. العلوم بشكلها السائد مثلا حلّت كثيرا من المشكلات لكن ما خلقته من أزمات وتخريب وتدمير يفوق محاسنها أضعافا مضاعفة. لا يوجد كتاب مدرسي في أي دولة يذكر الخراب الذي أحدثته العلوم والرياضيات بالمفاهيم والممارسات السائدة. من الصعب ذكر ناحية في جوهر الحياة لم تُخَرَّب أو تُلَوَّث: الهواء والماء والتربة والأنهار والبحار والعلاقات والأفكار والمشاعر وحتى الجينات! يمثّل اختراع ‘إنسان فاشل’ بشهادة رسمية مختومة من وزارات التربية حول العالم انحطاطا فكريا وإدراكيا، بل وجريمة، لم تصله البشرية من قبل، ونمارسه يوميا دون شعور بالذنب! كذلك الحال بالنسبة للعبودية التي وُجِدت في شتى المجتمعات عبر التاريخ، لكن لم ينجح أيٌّ منها بأن يجعل الناس يفتخرون بعبوديتهم – باستثناء القبيلة الأورو-أمريكية. أذكر دوما أني درَسْتُ ودرَّسْتُ الرياضيات كما أمليت عليّ دون سؤال ودون معرفة لماذا؛ أي كنت عبدا في الحالتين. لم أَعِ ذلك لأني كنت أعيش بين الأغصان، لا أعي ما يحصل في الجذور.

*          *          *

تصوروا لو انطلقنا في التعامل مع الأطفال (من عمر 6 سنوات وحتى 13 سنة) بالتركيز على ثلاثة مجالات هامة في الحياة مغيبة من التعليم الرسمي (بدلا مما هو موجود) ألا وهي الطبيعة والثقافة والمجتمع. لو فعلنا ذلك، نكون نبحث في الجذور، إذ تُكَوِّن هذه المجالات ما يغذي أو يؤذي الإنسان، مما يعني أن تغييبها يحوّل التركيز في التعليم على الاهتمام بالأغصان وإهمال الجذور؛ الاهتمام بالقفص وإهمال الروح. ارتباط التعلم والمعرفة والفهم بالمجالات الثلاثة يعيد الحكمة كقيمة جوهرية في التعلم. والحكمة هي ما يميّز بين معرفة مغذية ومعرفة مؤذية؛ بين معرفة لها قيمة نفعية ومعرفة لها قيمة تبادلية. يتطلب الانطلاق من هذه المجالات انتباها شديدا لما يجري داخل الأطفال وحولهم، وعلاقة داخلهم بخارجهم؛ كما يتطلب توليف معانٍ وفهم بناءً على خبرات وتجارب ضمن سياقات وأوضاع حقيقية مما يخلق صورا حيّة في المخيلة عن الواقع. الطبيعة مصدر غذاء الطفل وحواسه وخبراته؛ هي البوتقة التي تعكس دورة الحياة وتحمي قدرتها على توليد ذاتها. والمجتمع مصدر تكوين الطفل إدراكه لذاته ولعلاقته بمن وما حوله وجدل نسيج مع الآخرين بدلا من المنافسة حول مكاسب رمزية ضحلة. أما الثقافة فترتبط بما يقوله الجاحظ: “الدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان”؛ ويقول في مقدمة “البيان والتبيين”: “اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل”. مثل هذه الأقوال تتعلق بالجذور. في المقابل، تعبير مثل ‘معدل فلان 90’ أو ‘الأول على الصف’ لا يعنيان شيئا بل يمزقان ويفرقان ويخلقان شعورا بالفوقية أو الدونية، ومنطقهما الداخلي هو ‘فرّق تسد’. هذان التعبيران ليس لهما معنى بالحياة ولا يمثلان بيانا يدل على معنى خفي، بل تعبيران يعكسان فتنة في القول وفتنة في العمل في نفس الوقت. الطبيعة والمجتمع والثقافة ينتمون إلى الجذور؛ الأبحاث بمفهومها السائد تبحث بين الأغصان، بينما قول الرومي “أنت ما تبحث عنه” ينتمي إلى الجذور. التقييم على خط عمودي يبحث بين الأغصان، بينما قول الإمام علي “قيمة كل امرئ ما يحسنه” ينتمي للجذور؛ المؤسسات تنتمي للأغصان بينما المجاورات تنتمي للجذور؛ المنطق الثنائي ينتمي إلى الأغصان بينما ملاحظة المنطق الخفي في ظاهرة ما تنتمي إلى الجذور؛ فلسطين كهوية تنتمي إلى الأغصان بينما فلسطين كأفق حضاري تنتمي إلى الجذور.

هل يعني ما سبق أن ننتظر حتى يتغير التعليم ويصبح مهتما بما يحدث للبشر والحياة في العمق؟ بالطبع لا. فكما نتعامل مع المأكولات الجاهزة، لا نستطيع منعَ المصانع والشركات من صنع مأكولات مؤذية، وربما لن يكون بإمكاننا تجنبها كليا. لكن يمكننا إلى حد كبير أن نتحكم فيما يدخل أمعدتنا. كذلك الحال بالنسبة للمعرفة. لا يمكن منع الجامعات ومراكز الأبحاث والخبراء من تصنيع كلمات ومفاهيم مؤذية للإنسان، لكن يمكننا إلى حد كبير أن نتحكم فيما يدخل عقولنا وحماية أنفسنا. تشكل الشراكة في تحضير مأكولات، والشراكة في توليف معانٍ، حماية أساسية لنا ولمناعتنا الداخلية. وتشكل المجاورة أفضل وسيط لهذا التحكم وهذه الحماية. ربما يسأل البعض: لماذا كل هذا التخريب وعدم القدرة على إيقافه؟ لسبب بسيط: لأن التراكم الأسي لرأس المال يتناسب طرديا مع التخريب. لم يكن بإمكان رأس المال أن يتراكم أسّيا عبر 300 سنة دون تخريب شتى نواحي الحياة.

المشكلة في التعليم لا تكمن كما هو شائع في التلقين (والذي هو جزء من الأغصان) بل في الجذور. المشكلة تكمن في جعل قلة تفتخر بعبوديتها وأغلبية تغار من هذه القلة لأنه لم يتسنّ لها أن تفتخر! التعليم الرسمي والأكاديمي يركّز على اكتساب مهارات ومعارف ونواحٍ تقنية ويغيّب الحكمة. ترتبط المعرفة في العصر الحاضر بالسيطرة والفوز، لذا تركّز المعارف (خاصة العلوم والرياضيات) على مهارات ونظريات ومعلومات تغذي السيطرة والجشع وليس على الحكمة التي كانت عبر التاريخ هدف التعلم والمعرفة؛ كانت مسعى رئيسيا ضمن الحضارة العربية الإسلامية كما تجسدت في بيوت الحكمة من أصفهان شرقا وحتى قرطبة غربا. التفاعل الحيوي الذي انتشر عبر تداخل حضارات شتى شكل جذور الجو الذي انتعشت فيه الحكمة وضروري استعادتها. لا أمل للبشرية إذا بقيت الحكمة مغيبة. لا أرى أن بإمكان شعوب القبيلة الأورو-أمريكية أن يقوموا بهذا الدور حاليا. تقع المهمة على أكتاف شعوب آسيا وأفريقيا ومن تبقى من أهالي القارات التي دمرتها القبيلة المهيمنة. عنوان هذه المدونة يجسّد حكمة علينا أن نأخذها بعين الاعتبار. علينا أن نتوقف عن الاهتمام بالأغصان وأن نهتم مرة أخرى بالجذور.