أقول دوما أني أنظر إلى فلسطين كمجهر يساعدنا على رؤية ما يجري في العالم الواسع. والسبب أن ما يحدث بفلسطينيحصل فجأة مما يساعدنا على رؤية حقيقة ما يجري؛ أي، تحدث التحولات على شكل صدمات تنبهنا إلى ما يحدث في العمق، بما في ذلك المنطق الخفي خلف الحدث. بعبارة أخرى، ما يحدث ينبهنا ولا يخدرنا كما هو الحال في بلاد تسير فيها الأمور ببطء. مثلا، تحوّلنا عام 1993 بين ليلة وضحاها من أهالي إلى مواطنين. في معظم البلدان، يولد الناس مواطنين جاهزين مما يحرمهم من خبرة العيش كأهالي، التي هي خبرة أعمق وأغنى بكثير. عندما نقول مثلا أهالي “بيت ساحور” فإننا نشير إلى أناس علاقتهم الأساسية بعضُهم ببعض وعلاقتهم بأرض وجغرافيا وثقافة وحضارة وتاريخ وذاكرة جمعية. في المقابل، العلاقة الرئيسية في مجتمع المواطنين هي مع سلطة ومؤسساتها. الخلل الأكبر الذي حصل عام 1993 أننا تحولنا من كوننا أهالي إلى مواطنين. مكونات مجتمع الأهالي والتي تغذّي الناس هي التربة الأرضية والثقافية والاجتماعية-الاقتصادية والروحية. فصل عام 1993 بين فلسطين الأهالي وفلسطين المواطنين. كانت العلاقات قبل ذلك بيننا ومع المكان والثقافة هي الأساس والمرجع والمعيار؛ أصبحت مع أجهزة رسمية وبدأت العلاقات بيننا كأشخاص تتلاشى أو تتحول إلى علاقات عدائية. تحوّلنا في ذلك العام أيضا من العيش بأمل إلى العيش بتوقعات؛ تحوُّلٌ يعتبره ’إيفان إليتش‘ سببا رئيسيا لحالة القلق والإحباط التي تميز الإنسان المعاصر. ما يميز الأهالي هو العيش بأمل، والذي بالضرورة يرافقه عمل. كذلك، تحوّلنا في ذلك العام من العيش بصبر كقيمة، إلى العيش بسرعة كقيمة؛ أصبحت السرعة بغض النظر عن نتائجها قيمة جوهرية. ولاء الأهالي بعضُهم لبعض بينما ولاء المواطنين لدولة ومؤسسات. في مجتمع المواطنين، يختفي ’الإنسان الصالح‘ الذي يطيع ضميره ويبرز مكانه ’المواطن الصالح‘ الذي يطيع الأوامر. الأمريكي الذي يذهب إلى العراق ليقتل ويدمر هو مواطن صالح لكن ليس إنسانا صالحا. استبدال أهالي بمواطنين ليس استبدال كلمة بأخرى، بل احتلال علاقات آليّة محل علاقات غنية ذات جذور قوية بالمكان والذاكرة والحضارة. اللبنة الأساسية في مجتمع الأهالي هي المجاورة؛ في مجتمع المواطنين هي المؤسسة. بعدٌ آخر يميز مجتمع الأهالي هو الثقة بين الناس، فالناس يعرفون بعضهم ويعملون ما يعطي معنى لحياتهم ووجودهم وعلاقاتهم… ما يفعلونه نابع من قلوبهم.
يذكر “واصف جوهرية” في مذكراته عن القدس (زمن العثمانيين ثم الاحتلال الانكليزي) أن من أول القوانين التي وضعها الانكليز في بداية احتلالهم كان يتعلق بدخول باحة الأقصى حيث حدّدوا أياما للمسلمين وأياما للمسيحيين وأياما لليهود (بحجة ضمان الحقوق للجميع!) والذي أدى إلى تحويل الباحة من مكان مُباح يتجمع فيه أهالي القدس من مختلف الأديان والخلفيات يتبادلون الأحاديث والقصص، إلى مكان يزرع بذور الطائفية. كما أدخلوا مع الوقت مفهوما آخر يبدو جميلا على السطح لكنه مُخَرِّب في العمق: المحاورة بين الأديان بدل المجاورة والتحادث بينها… الحوار اللفظي يفرّق، بينما الجوار عادة يقرِّب.
أذكر أمرا طريفا حول كلمة مواطنين. لم تُسْتَعْمَل الكلمة في رام الله عندما كنت فتيّا سوى بالانكليزية للإشارة إلى شخص عائد من أمريكا ويريد أن يتزوج فتاة من رام الله، إذ كانوا يقولون “تزَوَّجَت citizen” أي أمريكي. رام الله حاليا مكوّنة من سلطة ومواطنين؛ اختفت روح الأهالي. لا يوجد رديف ل”أهالي” بالانكليزية؛ ربما أقرب تعبير هو people-in-community.
في الخبرة الفلسطينية، كان الأمل كبيرا والحل عميقا ومؤثرا عندما كان الأهالي بُناتَه والمجاورة أداتَه والتعلم جوهرَه. حدث هذا في كل مرة كانت المؤسسات مشلولة أو ضعيفة. بدأت هذه القناعة تتكون لديّ خلال عقد السبعينيات في الضفة الغربية وقطاع غزة وتعمَّقَت خلال الانتفاضة الأولى. ما ميز الفترتين هو ثالوثٌ مقدس: أهالي ومجاورات وتعلم. شكّلت الفترتان جذور الاقتناع بأن الأهالي هم الأمل والحل، والذي بدأ ينمو بداخلي عندما وجدنا أنفسنا (نحن أهالي الضفة والقطاع) بعد خروج منظمة التحرير من الأردن (عام 1971) نعيش دون وصاية من أحد، مما اضطرنا إلى القيام بمهام الحياة وإدارة شؤوننا اليومية بأنفسنا. شعرنا في البداية أننا أصبحنا بلا ‘أب’ يحمينا ويرعانا وأنه سيكون من الصعب علينا القيام بما يجب عمله. لكننا تفاجأنا بما حدث: شعرنا أننا ربما فقدنا ’الأب‘ لكننا لم نفقد ’الأم‘؛ لم نفقد مصادر قوتنا وتغذيتنا وحيويتنا المتمثلة بما لدى الأهالي والمجتمع والحضارة والطبيعة من قدرات ومقومات برزت دون تخطيط ومساعدات وورش عمل وبرامج تدريب ومشاريع تنموية. اكتشفنا الغنى الهائل فينا الذي غيّبته المؤسسات من خلال إيهامنا بأننا لا نستطيع عمل شيء بدونها. أي إسهام من مؤسسة يضيف دون أن يسلب الأهالي قدرتهم على القيام بما يمكنهم القيام به بأنفسهم، مرحَّبٌ به. لكن يجب مقاومة هيمنة المؤسسات عندما تُصبح بديلا للأهالي. لم نسأل خلال الفترتين ماذا نحتاج؟ بل ماذا يمكن أن نفعله بما هو متوفر؟’ اكتشفنا أن أغلى ما يملكه مجتمع هو النسيج بين الناس والنسيج مع الأرض والحضارة. وجدنا أنفسنا نتغذى من روح الأهالي والضيافة والكرم والصبر والكرامة وما هو متوفر في الطبيعة والحيّ والمجتمع والعائلة. كانت الروح التي دبّت في المجتمع مذهلة. عشتها شخصيا عبر أطر بنيتها مع أصدقاء بجامعة بيرزيت والعمل التطوعي ومع مدرسين وطلبة؛ كما عشتها عبر أطر بناها آخرون كفرقة بلالين المسرحية وفرقة الفنون الشعبية الفلسطينية. تألَّقٌت تلك الحقيقة مرة أخرى بالانتفاضة الأولى 87 -1991 عندما أغلقت السلطات الإسرائيلية المؤسسات الرسمية كالمدارس والجامعات لكنها لم تستطع إغلاق أطر تاريخية وحضارية كالعائلة والحي والجامع والكنيسة، ومثل مجاورات تكوّنت بين أصدقاء بفعل ذاتي، كما حدث في التعليم الشعبي والزراعة الجماعية ولجان الأحياء، التي أصبحت جميعا شرايين حية غذَّت المجتمع وقامت بعمل ما كان ضروريا عمله. عشت الفترتين بكل ما فيهما من ألم وأمل وحيوية، وشكلتا القناعة بأن الأهالي هم الأمل والحل، والتي تعمقت لديّ عبر أكثر من 40 سنة، واكتسبَت أبعاد جديدة عبر مؤسسة تامر ثم عبر الملتقى التربوي العربي، الذي من خلاله زرت 29 دولة عملت مع مجموعات، كثيرٌ منها يحمل روح الأهالي هم الأمل والحل. ما تحتاج له المجتمعات هو يقظة لا تنمية، وحماية لا تطوير. يقظة من أوهام سيطرت على إدراكنا مثل الاعتقاد بأن هناك مسارا أحاديا عالميا للتقدم ومسارا وحيدا للتعلم وأننا غير قادرين على العيش بما هو متوفر لدينا. تشمل اليقظة التحرّر من خرافات العصر الحديث، خرافات أدت إلى تخريب وتمزيق نواحٍ شتى في الحياة.
ما ميز الانتفاضة الأولى أنها قامت بفعل الأهالي دون وجود سلطة داخلية أو خارجية، ودون وجود زعيم أو قادة. حركة ملهمة جدا، ربما تكون أهم حدث فلسطيني منذ احتلال الانكليز لفلسطين. شكلت لجان الأحياء (أفضّل استعمال مجاورات إذ أن كلمة لجنة ترتبط عادة بمؤسسات) عصب الانتفاضة الرئيسي، وتشكل في رأيي أساسا لبناء رؤيا واسعة للتعلم والعمل المجتمعي وإعادة النظر في المصطلحات المؤسسية والتصنيفات الأكاديمية والتحرر من أوهام وخرافات القبيلة الأورو-أمريكية. معظم الناس ربطوا وما زالوا يربطون الانتفاضة الأولى بالحجارة، وعُرِفَت باسم انتفاضة الحجارة أو أطفال الحجارة. حتى محمود درويش ونزار قباني كتبوا أشعارا حول أطفال الحجارة، لكن لم يكتب أحد على حد علمي شعرا حول لجان الأحياء. أكثر ما لفت نظري وقتها أن إسرائيل لم تمنع عقد مؤتمرات دولية تدين إغلاق المدارس والجامعات وتطالب بفتحها بينما كانت شرسة جدا ضد قيام الأهالي بإدارة شؤونهم بأنفسهم. دعاني ذلك إلى كتابة مقال بجريدة القدس: “حرية الفكر والتعبير أم تحرير الفكر والتعبير؟” عقد مؤتمرات تدين وتطالب هو مثال على حرية الفكر والتعبير؛ قيام الأهالي بعمل ما هو ضروري دون مؤسسات مثال على تحرير الفكر والتعبير. تعمّق لدي الاقتناع بأن أخطر عمل على أية سلطة هو تعميق النسيج بين الأهالي وقيامهم بما هو ضروري بناءً على حيوية وقرارات ذاتية. عندما كتب ‘فانون’ ‘المعذبون في الأرض’ كان تعليق ’سارتر‘ الفرنسي ’أخطر ما في الكتاب أنه لا يتحدث إلينا‘. لا يأبه الغرب بانتقاده بل بإهماله. فكرت مليّا في الأمر ، وكان التفسير الوحيد الذي وجدته لتصرف إسرائيل أن الخطورة تكمن في الوسيط وليس في نوع العمل. الوسيط في الانتفاضة الأولى كان الشباب الذين شكلوا لجان أحياء وأداروا شؤونهم بأنفسهم دون الحاجة لسلطة أو مؤسسة أو خبراء أو أكاديميين أو سياسيين. قاموا بما هو ضروري بدافعٍ وتنظيمٍ ذاتيين. بالمقابل، انتفاضة الأقصى لم تكن مبنية على الشباب فقط بل شاركت فيها سلطات مما غيّر الوسيط. يرتبط هذا بالقضية التي ذكرتها سابقا ألا وهي أن العصر الحديث هزم الناس من خلال تحويلهم من أهالي إلى مواطنين.
باختصار: يُعرَّف المواطن برقم ’وطني‘، علاقته الأساسية بحكومة ’وطنية‘ تسرقه من خلال بنك ’وطني‘، ويحمي الحكومة والبنك جيش وقوى أمن ’وطنية‘، ويقوم بتخدير المواطن منهاجُ تعليمٍ ’وطني‘! أداة رئيسية في هذا التخدير الرياضيات التي تُسْتَعْمَل لقياس التنمية الزراعية بكمية الإنتاج فقط (بغضّ النظر عن العواقب)، وقياس تنمية المجتمع بإحصائيات استهلاكية، والاعتقاد بأن الحياة تسير على خط مستقيم (متناسين دورة الحياة)، وقياس قيمة المرء وتقدم المجتمع بواسطة أرقام، متناسين أننا كعرب نملك منذ 1400 سنة مبدأً فيه من الغنى والحكمة والاحترام ما يمكن أن يجعله أساس رؤيا تربوية، المبدأ المتضمن بعبارة الإمام علي: ‘قيمة كل امرئ ما يحسنه’ بالمعاني المتعددة ل’يحسن‘ بالعربية: الإتقان والجمال والعطاء والاحترام والنفع
‘سلاح’ الأهالي في البناء المجتمعي هو المجاورات، وسلاحهم على صعيد المعرفة هو التأمل بخبرات والاجتهاد في تكوين معنى لها. تغييب معارف الأهالي تطلّب إلغاء الأهالي كمكوّن اجتماعي، وإلغاء الطبيعة والثقافة كمصادر تغذي الجسم والعقل. كذلك، تطلّب هذا التغييب مصادرة كلمات ومعان منبعها الحياة، وتصنيع كلمات مصدرها مؤسسات. صودرت الضيافة ليحل محلها استهلاك؛ وصودرت الكرامة ليحل محلها حقوق؛ واختفت المجاورة والتحادث لتحل محلهما محاورة؛ وتراجع احترام الطبيعة ليحل محلّه إخضاع الطبيعة. تمت هذه الأمور عبر مهنيين مدججين بكلمات ومعانٍ مرتبطة بالسيطرة ومراكز القوة. تمّ طمس أنظمة معرفية، وبروز أنظمة معرفية أصولية كالعلوم والرياضيات بمفاهيمهم السائدة. وُضِع العقل على العرش وسُجِنت الحكمة. تمّ تمزيق نسيج الأهالي لتحل محله علاقات رسمية هرمية. نحتاج إلى استعادة الحكمة في الحياة، وموطنها الأهالي.
ضروري التمييز بين معرفة وتعلُّم مرتبطين بالطبيعة ونابعين من الحياة وعبر مجاورات وبين معرفة وتعلم مرتبطين بسلطة وصادرين عن مؤسسات؛ بين المعرفة كأسلوب حياة والمعرفة كسلعة معروضة للبيع. المعرفة الأولى مرتبطة بأهالي، والثانية بمؤسسات. التعلم في الحالة الأولى شيء يفعله الشخص لنفسه (صقل فكره وبيانه وتعامله)، بينما في الثانية شيء يعطيه شخص لآخر. من أهم أعضاء جسم الإنسان بالنسبة لتعلُّمٍ ذي معنى هي الأصابع إذ تربط الفكر بالواقع. ويمثّل بيان الشخص المظهر المرئي لمعرفته. الأصابع مغيّبة من التعليم؛ تُستعمَل فقط لطلب السماح بالتكلم أو لضغط على زر. المعرفة في عالم المؤسسات غالبا ما تكون أداة إلهاء وتخدير وتشويه وسيطرة. لعل أسوأ ما يفعله التعليم الرسمي هو النظر إلى الحياة من خلال كلمات.
في مجتمعات الأهالي، المعرفة فِعْل. جذر كل كلمة بالعربية فِعْل. جزء من جمال اللغة العربية أن جوهرها أفعال وليس أسماء أو صفات؛ أي أن الفعل هو الأصل. هذه الحقيقة تجعل العربية لغة مرتبطة بالحياة، فالحياة فِعْلٌ وليست اسما أو صفة. في الفِعْل حركة وفي الحركة بركة. أهمية التأمل والتفكّر تكمن في ارتباطهما بفِعْل أو خبرة أو حَدَث أو ظاهرة. ضروري التحرر من جمل مكونة كليا من أسماء وصفات مثل ‘استراتيجية التعليم في التنمية المستدامة’ التي تحوي أربع كلمات ليس لأيٍّ منها مدلولٌ محدد، وليس في الجملة فعلٌ واحد. الفعل الرئيسي المستعمل بالمؤسسات هو فعل الأمر! عبارة الإمام علي “قيمة كل امرئ ما يحسنه” تربط قيمة المرء بفعل. في المقابل، ترتبط قيمة المرء في المؤسسات برقم. عبارة الإمام لا تقسم الناس إلى صفات مثل عارفين وجاهلين أو ناجحين وراسبين أو متعلمين وأميين بل تردّ قيمة الشخص إلى ما يحسنه. لغة الأهالي تحتوي في أغلبها على أفعال تستمد معانيها من الحياة: ضَحِكَ، لَعِبَ، مشى، أكل، زرع، تحدّث، ناقش، سبح، طبخ، زرع، شرب، غنّى… في عالم المواطنين والمؤسسات، لا يمكن مثلا ترجمة تعبير ‘الأول على الصف’ إلى فعل ، كما أن معظم الكلمات المستعملة هي أسماء وصفات: تنمية حقوق هوية دولة تطوير تكنولوجيا علم صحة تميُّز تمكين…
مجتمع المواطنين (وفق الفكر المهيمن) يتكون من ثلاثة قطاعات: حكومي ومدني وخاص. مجتمع الأهالي يتكون من أنسجة تغذي الإنسان والمجتمع: نسيج مع التربة الأرضية التي تغذي الجسم، والتربة الثقافية التي تغذي العقل والإدراك، والتربة الاجتماعية-الاقتصادية التي تغذي العلاقات، والتربة الروحية التي تغذي الجزء الخفي من الحياة. لعل أهم مخلوق في توليد تربة الأرض هو دودة الأرض، وأهم مخلوق في توليد تربة المجتمع هو الأم. هذه الأنسجة المتداخلة هي مكوّنات المجتمع ومناعته الداخلية التي تحميه. من بين أخطر الاختراعات الممزِّقة للنسيج مع التربة الأرضية هو السيفون الذي بلا شك اختراع علمي هائل لكن يفتقر إلى حكمة، فلو نظرنا إلى عواقبه نجده من أخطر الاختراعات: يسلبنا الماء والفضلات والتربة، ويلوّث الطبيعة. أما بالنسبة للنسيج الثقافي الاجتماعي فأكبر مُمَزِّق له هو التعليم الرسمي بكل مكوناته. وأكبر ممزّق للنسيج الاقتصادي التركات والبنوك ’الوطنية‘. السيفون والتعليم الرسمي المركزي والدولة الحديثة التي ادعى الغرب أنها أدوات تقدم وتمدن هي أدوات تخريب رئيسية لمجتمعات الأهالي. ترك الانكليز فلسطين لكن بقيت مؤسساتهم تمزق المجتمع وتقتل مناعته الداخلية وتشلّ قدراته وتنهب مقوماته. كان تخريب الحياة في العصور السابقة ناتج عن جهل؛ في العصر الحديث ناتج عن علم وتخطيط وتصميم وتنفيذ. لم يَحِدْ إلا القلة من العلماء عن مفهوم ’فرانسس بيكن‘ بأن العلم هو إخضاع الطبيعة. كذلك، كوّنت التنمية كما صاغها ترومان قبل 70 عاما عاملا هاما في التخريب والتمزيق. هذه أول مرة منذ آلاف السنين تتحول الأرض الفلسطينية من مصدر رزق وكرامة وانتماء إلى سلعة معروضة للبيع، وأول مرة يعهّر فيها المتعلم نفسه لمن يدفع أكثر. هذه الظاهرة حصلت في كل بلد دخله “البنك الدولي” لل’مساعدة‘ في تنميته، والتي في الواقع أدت إلى هزيمته وتمزيقه ونهبه وقتل مناعته.
الحياة أغنى وأعمق مما يستطيع العقل إدراكه وما تستطيع اللغة التعبير عنه. خلافا لما هو سائد في الغرب بأن الحياة مكونة من مادة وفكر، وبالتالي يمكن التعبير عنها كليا من خلال مفاهيم وكلمات، فإن القناعة بأن ’الأهالي هم الأمل والحل‘ تشمل بُعدا ثالثا خفيا عن العقل واللغة بحيث يعجز الاثنان عن فهمه والتعبير عنه كاملا: البعد المتمثّل بالحكمة والعمق الحضاري، وأهمية استعادة مواطن القوة فينا وفي مجتمعاتنا وحضارتنا. بهذا المعنى، “العودة إلى الوراء” ليس تخلفا وإنما ضرورة للتحرر من هزيمتنا من الداخل. تتمثل هذه العودة مثلا بالعودة إلى شرب الماء بدل سوائل غازية، والتعلم الذي لا يحتاج إلى تدريس، ومأكولات لم تخربها العلوم. تتم العودة على صعيد المعرفة والفهم من خلال التأمل بخبرات، والاجتهاد في تكوين معنى لها. هذا ما حصل معي منذ 1971 حين وعيت ضرورة الشفاء من المعرفة المرتبطة بقيم السيطرة والفوز والإلهاء والافتخار بالعبودية. اختراع شهادات تشهد بنجاح أو فشل شخص، أو بتقدم أو تخلف مجتمع هو جريمة ضد الحكمة. لا توجد وحدة لقياس البشر والحضارات. كل إنسان كامل بشكل فريد، وكل حضارة عالَمٌ قائمٌ بذاته، بعلاقة تبادلية حيّة مع حضارات أخرى.
استعادة روح الأهالي يتطلب أمرين: انتزاع أنفسنا من أوهام المدنية الحديثة، واستعادة ما سلب منا من مقومات شخصية ومجتمعية وحضارية. قصة الغراب والحجلة بكتاب ‘كليلة ودمنة’ تنطبق على العصر الحاضر. منذ ‘محمد علي’ نحاول تقليد الغرب الذي اعتقدنا أنه أفضل؛ نجد أنفسنا في نفس مأزق الغراب: لم ننجح في تقليد الآخرين وفقدنا القدرة على استعادة مشيتنا.