تعبيران يبدوان بريئين، بل يوحيان بتقدم وتطوّر. لكنهما في الواقع يغلّفان تخريبا خفيّا كأدوات سيطرة على العقول، أدوات تنطوي على خبث بحيث لا نراها بسهولة. اللغة تقع في صلب الحضارة العربية. كيف نفسّر إذن عدم استعمال العرب لتعبير ‘اللغة الأم’ عبر تاريخهم وكتاباتهم وآدابهم، وأنهم بدأوا باستعماله فقط بعد سماع الرديف بلغات أجنبية ك mother tongue ؟ كذلك الحال مع تعبير ‘كتاب مقرر’ الذي استعملناه فقط كترجمة ل textbook والذي يعني حرفيا كتاب نصوص. التعبير الذي نستعمله بالعربية يفضح حقيقة الكتب المدرسية إذ ينصّ على أنها مقررة من قبل سلطة، وليست كتبا نابعة من الحياة.
استعمل العرب تعبير ‘أمهات الكتب’ لكن لم يستعملوا تعبير ‘اللغة الأم’. يجب أن ينبّهنا هذا إلى أن في الأمر شيئا مريبا في أقل تقدير. إذن أول ملاحظة حول الموضوع هي أن تعبير ‘اللغة الأم’ لم يتكون عبر التفاعل مع الحياة بل ناتج من سلطة حديثة لغرضٍ في نفس يعقوب. هو تعبير مصطنع وليس أصيلا. نشأ تاريخيا مع قيام الدولة القومية ضمن القبيلة الأوروبية، وكانت فرنسا أول بلد احتاج إلى هذه اللغة الرسمية، لغة السلطة والسيطرة، وعلى جميع الأطفال أن يدرسوها، ويعاقَبوا (أو يُسْتَهْزَأ بهم) إذا لم يجيدوها كما تملى عليهم [سأحكي قصة احتلال ‘اللغة الأم’ محل ‘لغة الأم’ في مدونة أخرى]. الهدف الرئيسي من اللغة الأم هو السيطرة على العقول والإدراك؛ هي لغة ترتبط بالدراسة لا بالتعلم؛ هي لغة المناهج والكتب المقررة ولغة المؤسسات عامة والتي تحكمها قيم السيطرة والفوز والاستهلاك، لا لغة الحياة. انتقل التعبير إلى بلداننا كجزء من الهجمة الكولونيالية عبر إنشاء ‘قواعد معرفية’ (مدارس وجامعات) مهّدت الطريق لإنشاء قواعد عسكرية وسياسية ومالية فيما بعد. أُطْلِقَ على هذه اللغة المصنّعة اسم ‘اللغة الأم’ للتمويه ولإعطائها إيحاءات إيجابية لكنها في الواقع كانت بمثابة احتلال لغة رسمية محل لغات حية يتعلمها كل طفل بعقله الفطري الحدسي إذ كل ما تحتاجه هو العيش في أجواء حقيقية تستعملها مثل اللغة في البيت واللغة التي يكتسبها الطفل عبر تعرضه لكتب أدب وشعر وقصص؛ كتب هي بمثابة بيان يبيّن ما نما ونضج لدى الكاتب أو ما زال يغلي بداخله.
مقابل ‘اللغة الأم’ توجد لغة الأم، وهي لغة عشناها جميعا وارتوينا منها؛ هي لغة الحياة يتعلمها كل طفل وهو بعمر 3 أو 4 سنوات (مما يدل بشكل صارخ أن الناس متساوون في الذكاء). لغة الأم هي بمثابة اللغة الشاعرية الأولى التي يسمعها ويستمتع بها الطفل، هي لغة تخرج من القلب فتصل ليس فقط أذني الطفل بل أيضا قلبه ومشاعره. هي لغة تعبّر عن حب وعاطفة صادقة، تهيّئ الطفل لاستقبال لغة الشعر والأدب. لكن ما يحدث هو تدخّل ‘اللغة الأم’، اللغة الرسمية المصنعة التي تستعمل حروفا عربية لكن معانيها ومرجعيتها القبيلة الأورو-أمريكية التي تحكمها قيم السيطرة والفوز والاستهلاك. نهمل ونحتقر اللغة الحية وندرس وندرّس لغة ميتة لم تنبع من الحياة، بل لا حياة فيها. مثلا، لا يوجد في التاريخ العربي (ولا في تاريخ الشعوب عامة) كلمات رديفة ل‘ناجح’ و‘راسب’ بالمعنى الذي يصدر بشهادة رسمية من مؤسسات ومهنيين مرخصين. خطورة هذه الكلمات تكمن في أن هدفها هو تمزيق الإنسان والمجتمع والسيطرة على الاثنين من خلال الادعاء بأن معانيها علمية موضوعية حيادية. وهذا حدث فقط نتيجة احتكار القبيلة الأوروبية لتصنيع هذه الكلمات وإضفاء صفة ‘مصطلحات مؤسسية’ و‘تصنيفات أكاديمية’ عليها، مما يجعل من الصعب جدا على الإنسان المتعلم أن يتحدث عن حياته خارج هذه المصطلحات والتصنيفات. الكتب المقررة هي أدوات ذكية في تخريب العقل والإدراك والعلاقات والعالم الداخلي للإنسان. جدير بالذكر أن هذه السيطرة بدأت ضد شعوب الدول الغربية ثم انتقلت إلى بلادنا. أي، تمّ تخدير شعوب القبيلة الأورو-أمريكية لتكون أداة في تخدير الشعوب الأخرى. وفيما بعد أصبحنا نحن الذين درسنا على شيخ تلك القبيلة الأداة في السيطرة على شعوبنا.
الكتب المقررة سلعة غريبة لا يحتاج البائع (المدرّس) أن يقنع الزبون (الطالب) باقتنائها.، إذ كل طالب بأمرٍ من السلطة القائمة يجب أن يقتنيها ويقرأها مكرها دون سؤال ودون قناعة بأنها مفيدة. كل طالب حول العالم يدرس المنطق الثنائي في الرياضيات الذي له أهمية في صنع أجهزة وآلات وأهمية في السيطرة على الإنسان والمجتمعات وإذلالهم، لكن ليس له فائدة إيجابية بالنسبة لعافية الإنسان والمجتمع والطبيعة. تصوروا لو خلال 12 سنة التي يقضيها الطالب في المدرسة يتعرف على اللغة العربية عبر كتب أدب وشعر وكتب تعكس تأمّل الكاتب في حياته وخبراته، واجتهاده في تكوين معنى لكل ذلك – بدلا من إعراب ما تحته خط! جدير بالذكر أن هذا المسار عمل بموجبه ‘خليل السكاكيني، في تعامله مع الأطفال ونشر كتابه “وعليه قس” (إذ رأى أن اللغة العربية منطقية تتبع أنماطا)، كما أنه كان مولعا بقراءة كتب أدب مليئة بالجمال وغنية بالحكمة… هنا بالضبط تكمن أهمية وجود مكتبة غنية ومتنوعة في مقتنياتها في المدرسة أو في مكتبة عامة في البلد وتصبح مورد اللغة الرئيسي بالنسبة للطفل.
أعود لألخّص: تعبير ‘اللغة الأم’ هو تعبير خبيث إذ عبره يتم إدخال كلمات لها إيحاءات أكثر مما لها دلالات، كلمات تلهينا عما هو هام وفيه غذاء للفكر والتعبير والفهم. الهجمة الثقافية المعرفية على منطقتنا لم تتم عبر لغة أجنبية محل عربية وإنما بطريقة أخبث بكثير: لغة تستعمل أحرف عربية لكن معانيها ومرجعيتها هي القبيلة الأورو-أمريكية. من هنا المشكلة الجوهرية في التعليم لا تكمن في التلقين كما هو سائد بل في استبدال لغات حية بلغة رسمية مصنعة، لغة الكتب المقررة، مما يعني ضرورة ممارسة حقنا في أن نكون شركاء في تكوين معانٍ للكلمات التي نستعملها – حق مغيّب من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومن وثيقة حقوق الطفل! لكن يمكننا ممارسته دون إذن، إذ يشكل قدرة بيولوجية.