كم ينطبق قول ‘جلال الدين الرومي’ هذا (والذي قاله قبل 750 سنة) على العصر الحاضر، حيث نبحث عن حلول سطحية في مظاهر الأمور، بين الأغصان، ونهمل النظر في بواطن الأمور، في الجذور. معظم الأبحاث حول التعليم يتعلق بالأغصان، بأمور ترتبط بالنمط الاستهلاكي في الفكر والعيش: تدريب المعلمين، تطوير المناهج والمواد التعليمية، الاتجاهات الحديثة في التدريس، تنمية مهارات التفكير، مراعاة الاتجاهات العالمية في بناء المناهج، وكلمات وتعابير مثل تنمية مستدامة وجودة التعليم والإبداع والتميّز والتفوّق وتعليم التفكير والإنجاز وتغيير المجتمع والتفكير النقدي… جميعها يعكس جهودا تبحث بين الأغصان. نلتهي بالمظهر وننسى الجوهر؛ نقضي وقتا طويلا في تحسين القفص ونهمل ما يحدث لمن هم داخل القفص؛ نحسب مكاسب ضحلة أو رمزية وننسى الثمن الذي ندفعه في العمق نتيجة تلك المكاسب؛ نتعلق بأمور تلهينا عن وعي الوسيط الذي نتبعه للتعلم والمنطق الخفي للظواهر التي نعيشها بما في ذلك القيم التي تحكم إدراكنا وأفكارنا وعلاقاتنا وسلوكنا، والتي تعمينا عن رؤية جذور ما نراه على السطح. نتقن مهارات آلية وتقنية ونخسر القدرة على الفهم ورؤية الصورة الكلية وعواقب ما نفعله…
المرحلة المدرسية، التي يشار لها بالأساسية، تنطلق من تغييب الحياة وشرذمة الفكر والمعرفة، إذ يبدأ المنهاج المدرسي بمواد قررتها لجنة من عشرة مهنيين وأكاديميين عام 1892 كما يبدأ بكتب مقررة تستعمل لغة رسمية تستمد معانيها وإيحاءاتها وأهميتها من مؤسسات ومهنيين وأكاديميين وخبراء همّهم الرئيسي هو الإيحاء بأن الماضي متخلف وولّى زمانه، ويصفون ما يقدمونه للناس بأنه عالمي وحديث. ادعاء العالمية هو أخطر أنواع الأصولية وسبب كثير من الخراب الذي نشهده في معظم نواحي الحياة حاليا. أما ادعاء الحداثة (مثل أساليب حديثة ونظريات حديثة والمدنية الحديثة وما بعد الحداثة) فيقدمونه وكأنه مرجع وأنه الأفضل. عندما كنت أُسْأَل: ماذا درست؟ أُجيب: رياضيات. الآن أجيب ‘رياضيات القبيلة الأورو-أمريكية’. الجواب الأول يوحي بأن الرياضيات عالمية. كل الحضارات التي سبقت مدنية القبيلة الأورو-أمريكية كان لها أسماء: المصرية الهندية الصينية الفارسية العربية الإسلامية. تسمية مدنية القبيلة الأورو-أمريكية بالحديثة هو لإضفاء العالمية والأفضلية عليها. الإشارة إليها بالقبيلة الأورو-أمريكية تعيد الإدراك إلى نصابه. الأداة الرئيسية في هيمنة هذه المدنية، كما ذكرت بمدونة سابقة، هي لغة رسمية تحكمها سلطة تقرر وتكافئ، وتعاقب من يخرج عن قواعد وحدود استعمالها وعن معانيها الصادرة من سلطة مرخّصة. هذه اللغة الرسمية هي السلاح الهادئ الأنجع في السيطرة على البشر. عندما وضَعْتُ والدتي الأمية والدجاجة الفلسطينية ودودة الأرض كمراجع معرفية في الصيغة الأولى لرسالة الدكتوراه التي قدمتها للجنة المشرفة، طار صوابهم. لجأوا إلى ناحية أخرى لتقليل أهمية ما كتبته، حيث ذكر أحدهم أن المنهجية التي اتبعتها غير واضحة، قلت ‘بل لا توجد منهجية؛ هي كلمة اخترعتوها على مقاسكم ولها معنى لكم لكن بالنسبة لي لم أستعملها في حياتي ولا حاجة لي بها في معرفتي؛ أرجو أن لا تقحموها عليّ، إذ لو فعلتم ذلك تقوموا بإجباري على استعمال مفهوم ليس له معنى في حياتي وفكري”. ثم أضفت: “ما استعملته منذ 1971 في توليف معنى ومعرفة وفهم كأساس كان التأمل بخبراتي وتجاربي وقراءاتي وتحادثاتي، واجتهادي في توليف معنى لها، وهو معنى يتغير مع خبرات جديدة وتأمل جديد واجتهاد جديد.” لم يَرُقْ ما قلته لهم واختلفنا وتركت الجامعة مدة سنة عدت إلى بيرزيت عام 1986 وعملت عميدا لشؤون الطلبة. ثم قررت أن أعود وتوصلنا إلى حلّ وسط.
مَثَل صيني قديم: “من يعرّف الكلمات يكسب الحجج”. لذا أركّز منذ 1971 على أن أهم فِعْل يحرر الإنسان من المصطلحات المهنية وغطرسة التصنيفات الأكاديمية هو ممارسة حقّه وواجبه وقدرته البيولوجية ليكون شريكا في تكوين معنى للكلمات التي يستعملها. الدليل على أهمية هذا الحق أنه مُغَيَّب من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان!! الشراكة في توليف معنى هو أهم تعبير عن حرية الإنسان وبالتالي أهم حق، لذا تغييبه هو ضد كرامة الإنسان وضد التنوع في الحياة. لحسن الحظ، هو حق لا يحتاج إلى مطالبة بل ممارسة؛ هو حق يكمن في الجذور. أعود لأذكّر بأن ‘خليل السكاكيني’ (نتيجة انتباهه الشديد لما كان يجري بمدارس منطقة القدس التي كانت أجنبية) ربما كان الوحيد الذي نبّه أن المشكلة تكمن في جذور التعليم الرسمي حيث رآه إذلالا واحتذاءً بحذاء الغير، إذ يمزق عالم الأطفال الداخلي والنسيج المجتمعي. لم يبحث السكاكيني (كما نفعل الآن) بين الأغصان عن المشكلات وحلولها، بل نظر في الجذور وترجم وَعْيَهُ ذاك بالمدرسة التي أنشأها بالقدس عام 1909 إذ اختار ‘إعزاز التلميذ لا إذلاله’ شعارا لها، وترجم الشعار عمليا من خلال ‘لا علامات ولا جوائز ولا عقاب’ فيها، كما ركّز على أهمية التعرف على المكان مشيا على الأقدام، والتعرف على اللغة من خلال القصص والأدب. هذا ما عشته في المدرسة التي درست فيها – الكلية الوطنية – التي أنشأها ‘خليل أبو ريا’ الذي كان يغلق المدرسة كل يوم سبت ويأخذنا مشيا على الأقدام في تلال ووديان وقرى حول رام الله والتي تعرفنا خلالها على الأهالي وعلى أنواع كثيرة من النباتات والينابيع. لم يحاول السكاكيني تحسين التقييم بل رفض فكرة تقييم الطلبة على خط عمودي، أي رأى العلة والحل في الجذور. رفض أي شيء فيه إذلال للتلميذ. ما غيّب ذلك الوضوح ودمّر ذلك المسار كان احتلال الانكليز لفلسطين عام 1917 الذين نشروا نظامهم التعليمي المبني على الاحتذاء بحذاء الغير؛ تعليمٌ تحكمه قيمتا السيطرة والفوز، واللتان تمزقان الإنسان والمجتمع من الداخل. ما يعمينا عن رؤية هذه الحقيقة هو أننا ما زلنا ننظر بين الأغصان ونرى تقدما وتحسينا هناك. نحكم عبر إيحاءات وادعاءات تعمينا عن رؤية الخراب الذي يحدث في العمق. العلوم بشكلها السائد مثلا حلّت كثيرا من المشكلات لكن ما خلقته من أزمات وتخريب وتدمير يفوق محاسنها أضعافا مضاعفة. لا يوجد كتاب مدرسي في أي دولة يذكر الخراب الذي أحدثته العلوم والرياضيات بالمفاهيم والممارسات السائدة. من الصعب ذكر ناحية في جوهر الحياة لم تُخَرَّب أو تُلَوَّث: الهواء والماء والتربة والأنهار والبحار والعلاقات والأفكار والمشاعر وحتى الجينات! يمثّل اختراع ‘إنسان فاشل’ بشهادة رسمية مختومة من وزارات التربية حول العالم انحطاطا فكريا وإدراكيا، بل وجريمة، لم تصله البشرية من قبل، ونمارسه يوميا دون شعور بالذنب! كذلك الحال بالنسبة للعبودية التي وُجِدت في شتى المجتمعات عبر التاريخ، لكن لم ينجح أيٌّ منها بأن يجعل الناس يفتخرون بعبوديتهم – باستثناء القبيلة الأورو-أمريكية. أذكر دوما أني درَسْتُ ودرَّسْتُ الرياضيات كما أمليت عليّ دون سؤال ودون معرفة لماذا؛ أي كنت عبدا في الحالتين. لم أَعِ ذلك لأني كنت أعيش بين الأغصان، لا أعي ما يحصل في الجذور.
* * *
تصوروا لو انطلقنا في التعامل مع الأطفال (من عمر 6 سنوات وحتى 13 سنة) بالتركيز على ثلاثة مجالات هامة في الحياة مغيبة من التعليم الرسمي (بدلا مما هو موجود) ألا وهي الطبيعة والثقافة والمجتمع. لو فعلنا ذلك، نكون نبحث في الجذور، إذ تُكَوِّن هذه المجالات ما يغذي أو يؤذي الإنسان، مما يعني أن تغييبها يحوّل التركيز في التعليم على الاهتمام بالأغصان وإهمال الجذور؛ الاهتمام بالقفص وإهمال الروح. ارتباط التعلم والمعرفة والفهم بالمجالات الثلاثة يعيد الحكمة كقيمة جوهرية في التعلم. والحكمة هي ما يميّز بين معرفة مغذية ومعرفة مؤذية؛ بين معرفة لها قيمة نفعية ومعرفة لها قيمة تبادلية. يتطلب الانطلاق من هذه المجالات انتباها شديدا لما يجري داخل الأطفال وحولهم، وعلاقة داخلهم بخارجهم؛ كما يتطلب توليف معانٍ وفهم بناءً على خبرات وتجارب ضمن سياقات وأوضاع حقيقية مما يخلق صورا حيّة في المخيلة عن الواقع. الطبيعة مصدر غذاء الطفل وحواسه وخبراته؛ هي البوتقة التي تعكس دورة الحياة وتحمي قدرتها على توليد ذاتها. والمجتمع مصدر تكوين الطفل إدراكه لذاته ولعلاقته بمن وما حوله وجدل نسيج مع الآخرين بدلا من المنافسة حول مكاسب رمزية ضحلة. أما الثقافة فترتبط بما يقوله الجاحظ: “الدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان”؛ ويقول في مقدمة “البيان والتبيين”: “اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل”. مثل هذه الأقوال تتعلق بالجذور. في المقابل، تعبير مثل ‘معدل فلان 90’ أو ‘الأول على الصف’ لا يعنيان شيئا بل يمزقان ويفرقان ويخلقان شعورا بالفوقية أو الدونية، ومنطقهما الداخلي هو ‘فرّق تسد’. هذان التعبيران ليس لهما معنى بالحياة ولا يمثلان بيانا يدل على معنى خفي، بل تعبيران يعكسان فتنة في القول وفتنة في العمل في نفس الوقت. الطبيعة والمجتمع والثقافة ينتمون إلى الجذور؛ الأبحاث بمفهومها السائد تبحث بين الأغصان، بينما قول الرومي “أنت ما تبحث عنه” ينتمي إلى الجذور. التقييم على خط عمودي يبحث بين الأغصان، بينما قول الإمام علي “قيمة كل امرئ ما يحسنه” ينتمي للجذور؛ المؤسسات تنتمي للأغصان بينما المجاورات تنتمي للجذور؛ المنطق الثنائي ينتمي إلى الأغصان بينما ملاحظة المنطق الخفي في ظاهرة ما تنتمي إلى الجذور؛ فلسطين كهوية تنتمي إلى الأغصان بينما فلسطين كأفق حضاري تنتمي إلى الجذور.
هل يعني ما سبق أن ننتظر حتى يتغير التعليم ويصبح مهتما بما يحدث للبشر والحياة في العمق؟ بالطبع لا. فكما نتعامل مع المأكولات الجاهزة، لا نستطيع منعَ المصانع والشركات من صنع مأكولات مؤذية، وربما لن يكون بإمكاننا تجنبها كليا. لكن يمكننا إلى حد كبير أن نتحكم فيما يدخل أمعدتنا. كذلك الحال بالنسبة للمعرفة. لا يمكن منع الجامعات ومراكز الأبحاث والخبراء من تصنيع كلمات ومفاهيم مؤذية للإنسان، لكن يمكننا إلى حد كبير أن نتحكم فيما يدخل عقولنا وحماية أنفسنا. تشكل الشراكة في تحضير مأكولات، والشراكة في توليف معانٍ، حماية أساسية لنا ولمناعتنا الداخلية. وتشكل المجاورة أفضل وسيط لهذا التحكم وهذه الحماية. ربما يسأل البعض: لماذا كل هذا التخريب وعدم القدرة على إيقافه؟ لسبب بسيط: لأن التراكم الأسي لرأس المال يتناسب طرديا مع التخريب. لم يكن بإمكان رأس المال أن يتراكم أسّيا عبر 300 سنة دون تخريب شتى نواحي الحياة.
المشكلة في التعليم لا تكمن كما هو شائع في التلقين (والذي هو جزء من الأغصان) بل في الجذور. المشكلة تكمن في جعل قلة تفتخر بعبوديتها وأغلبية تغار من هذه القلة لأنه لم يتسنّ لها أن تفتخر! التعليم الرسمي والأكاديمي يركّز على اكتساب مهارات ومعارف ونواحٍ تقنية ويغيّب الحكمة. ترتبط المعرفة في العصر الحاضر بالسيطرة والفوز، لذا تركّز المعارف (خاصة العلوم والرياضيات) على مهارات ونظريات ومعلومات تغذي السيطرة والجشع وليس على الحكمة التي كانت عبر التاريخ هدف التعلم والمعرفة؛ كانت مسعى رئيسيا ضمن الحضارة العربية الإسلامية كما تجسدت في بيوت الحكمة من أصفهان شرقا وحتى قرطبة غربا. التفاعل الحيوي الذي انتشر عبر تداخل حضارات شتى شكل جذور الجو الذي انتعشت فيه الحكمة وضروري استعادتها. لا أمل للبشرية إذا بقيت الحكمة مغيبة. لا أرى أن بإمكان شعوب القبيلة الأورو-أمريكية أن يقوموا بهذا الدور حاليا. تقع المهمة على أكتاف شعوب آسيا وأفريقيا ومن تبقى من أهالي القارات التي دمرتها القبيلة المهيمنة. عنوان هذه المدونة يجسّد حكمة علينا أن نأخذها بعين الاعتبار. علينا أن نتوقف عن الاهتمام بالأغصان وأن نهتم مرة أخرى بالجذور.
مرحبا, لا املك اي تعليق على مقالتك, امها اكثر من رائعة. ولاكنني كنت اتسائل اذا كان هناك ايا من المصادر التي استعملتها لكي تكمل المقالة وتكتب افكارك. او هل هناك كتلاب الذي قراته يثبت قول وافعال واقوال خليل السكاكيني مثلا. بماذا استعنت باي مقالات او كتب. كنت اريد ان اعرف؟؟؟
غير ذلك ان المقالة اكثر من رائعة قد اتبهرتني بافكارك والتي تشبه بنحو كبير افكار ادوارد سعيد بكتابه “الاستشراق”.
اتمنى ان احصل على جوابك..
شكرا جزيلا وبالتوفيق.
نادين طلوزي