لا حاجة لمؤسسات وخبراء وأكاديميين وعلماء ومهنيين وتقييم لتعليم الناس كيف يهضموا المأكولات، فالهضم قدرة بيولوجية كل ما تحتاجه هو تربة صالحة ومأكولات عضوية مغذية. كذلك الحال بالنسبة للتنفّس: لا حاجة لمؤسسات وخبراء وأكاديميين وعلماء ومهنيين وتقييم لتعليم الناس كيف يتنفسوا، فالتنفس قدرة بيولوجية كل ما تحتاجه هو جو نظيف وهواء نقي مغذي. لماذا إذن رغم أن التعلم/ التفكير قدرة بيولوجية (كل ما يحتاجه هو تربة ثقافية جذورها في الحياة، وأجواء حقيقية حيوية، ومصادر غنية متنوعة، وأفكار مغذية للعقل والفكر وملهمة للقلب والنفس والروح والعلاقات) إلا أننا نتعامل معه، أي مع التعلم، وكأنه يحتاج إلى وزارات ومؤسسات ومهنيين وخبراء ومناهج وكتب مقررة وتقييم وميزانيات ضخمة ودورات تدريب وورش عمل؟! لماذا عندما تصل الأمور إلى العقل الذي يمكن أن يتعلم الكثير – بيولوجيا دون تدريس – نتدخل بقوة ونمنع ذلك من أن يحدث؟! نتعلم كل ما هو هام دون الحاجة لما تدعيه المؤسسات والخبراء. أكبر مثال على ذلك أن كل طفل في مجتمع عربي يتقن العربية (والتي يعترف كثيرون أنها من أصعب الأمور) بعمر 3 أو 4 سنوات، دون مناهج وأساليب تدريس وكتب مقررة ومدرسين وتقييم وخبراء. هذه الحقيقة تصفع كل من يدعي أن التعلم خارج أقفاص غير ممكن أو أقل قيمة أو غير معترف به! نضع كل جهدنا في تغييب هذه الحقيقة. أمرٌ يدعو للتفكّر؛ وشغلني مدة طويلة. التفسير الوحيد الذي أراه يوضح السبب يكمن في أن تغييب وقمع التعلم كقدرة بيولوجية، واستبداله بالتعليم الرسمي، يشكّل الأداة الأكثر نجاعة في السيطرة على العقول، على صعيد الفرد والمجتمع. السيطرة على العقول تُعَبِّد الطريق للسيطرة على أصعدة أخرى. لهذا، مثلا، غزو بلاد الشام في القرن التاسع عشر لم يتمّ بغزو عسكري بل بغزو معرفي عبر التعليم الرسمي والأكاديمي، بدأ بالجامعة الأمريكية في بيروت عام 1869، واتبع إستراتيجية “ماكولي” البريطاني التي تنطلق من إقناع الأهالي بأن المعارف والثقافة المحلية ليست بذي شأن، وأن معارف وثقافة القبيلة الأورو-أمريكية أرقى بكثير، وأن خبراء تلك القبيلة على استعداد لمساعدة الناس في بلاد الشام ليصبحوا نسخا عن تلك القبيلة – التي بلا شك أبدعت في صنع أجهزة واختراع أدوات يرتبط أغلبها بالسيطرة والفوز والتراكم الأسي لرأس المال، ولكنها حوّلت المعرفة والمعلم والتلميذ إلى سِلَعٍ في عالم الاستهلاك، لهم سعر في السوق والذي يشكل سر انجذاب الناس لأيديولوجية تلك القبيلة. من الصعب ذكر أي ناحية في الطبيعة أو الحياة لم تُخَرَّب نتيجة معارف تلك القبيلة: الهواء والماء والتربة والمأكولات والعالم الداخلي للإنسان والنسيج الفكري الاجتماعي الاقتصادي الروحي في المجتمع.
هناك عدة تعليقات حول ما ذكرته بأعلاه: أولا، غزوة نابليون العسكرية لم تنجح عسكريا لكنها مهدت الطريق لغزو ثقافي معرفي عبر التعليم الرسمي والأكاديمي. ثانيا، نحتاج إلى مؤسسات عندما يتعلق الوضع بأمور ومهارات ومعارف تقنية ولكن ليس بأمور تتعلق بالحياة. ثالثا، إذا تدخّلت المؤسسات والعلماء ليعلمونا كيف نهضم وكيف نتنفس، سيصبح الهضم والتنفس – كما حدث للتعلم والتفكير – أمرين عسيرين، وسيكون دور المؤسسات والعلماء تخريب المأكولات عبر تصنيعها وتعليبها وعبر إضافة مواد ضارة لها، مما يتطلب تخريب التربة والهواء والمياه والبيئة بوجه عام.
يبرز سؤالان: لماذا كل هذا التخريب؟ وكيف يتم تخريب العقول؟
السبب الرئيسي في التخريب يكمن في الأرباح الهائلة التي يجنيها الرأسماليون والشركات والمؤسسات والخبراء والعلماء من جراء هذا التخريب. مثل هذا التخريب صعب إذا تمردت العقول عليه، لذا كان من الضروري السيطرة على العقول كتمهيد لهذا التخريب وهذه الأرباح. أما كيف يتم تخريب العقول والسيطرة عليها فقد كتبت عنه في مدونات سابقة، لعل أهمّها: احتلال لغة بلاستيكية مصنعة (لغة الكتب المقررة) محل لغات حية؛ لغة مصنّعة لها إيحاءات أكثر من دلالات، لغة لا تستمد معانيها من الحياة بل من خبراء جلّ همهم إقناع الناس بأن الماضي متخلف وولّى زمانه. عندما نقول مثلا معدل فلان في امتحان هو 90% فإن ذلك يوحي أن الشخص متفوق وأنه أكثر ذكاء؛ لكن لا يدلّ ذلك على أي شيء في الحياة. فمثلا، أستاذ رياضيات جامعي يدرّس مساق “المتغيرات المعقدة” أو “التحليل الرياضي” يوحي بذكاء ومعرفة عالية لكن من الصعب على ذلك الأستاذ أن يذكر سببا شخصيا لماذا يدرّس مثل تلك المساقات – سوى المعاش آخر الشهر، وأنه درسه في جامعة ‘مرموقة’. في المقابل، عندما نقول أن فلان يعزف على العود ويطرب له الناس فإن لذلك معنى ملموسا ودلالة واضحة. أي شيء يمكن تحويله لشيء يمكن قياسه حسابيا (مثل العلامات والتنمية) ضروري الحذر منه. روعة عبارة الإمام علي “قيمة كل امرئ ما يحسنه” تكمن في أن من المستحيل تخريبها عبر الرياضيات، عبر أرقام. أي ناحية تَمُتُّ إلى جوهر الحياة، إذا قيست بأرقام، تُخَرَّب وتفقد معناها المرتبط بالحياة. الضيافة مثلا لا يمكن قياسها رياضيا، وكذلك الصبر والجمال والذكاء والحكمة والكرامة.
اللغة الرسمية المرتبطة بسلطة، والاعتقاد بان التعلم يحتاج إلى تدريس، والتقييم العمودي تشكل جميعا أساس تخريب القدرة البيولوجية للتعلم. لذا، فإن استعادة إدراكنا للتعلم كقدرة بيولوجية يشكل أهم تحدٍّ نواجهه كبشر في الوقت الحاضر. (الحاجة إلى تدريس تعني جلوس الطالب على قفاه سنوات عديدة، لا ينطق خلالها ولا يتحرك ولا يستعمل يديه ولا ينغمس بأجواء حقيقية، بل يستبطن خلالها طبيعة غريبة على الإنسان ألا وهي الافتخار بالعبودية وأن يصبح عدو نفسه بالنسبة لما يدخل جسمه من مأكولات ومشروبات ضارة، وما يدخل عقله من مصطلحات مؤسسية وتصنيفات أكاديمية تنتزعه من الحياة. فالتعلم والتفكير ذو معنى يحدثان ضمن سياق وعبر أفعال وتفاعل وتأمل واجتهاد… ويفضّل ضمن مجاورات.
جدير بالذكر أن تخريب العقول عن طريق تخريب القدرة البيولوجية للتعلم سبق تخريب المأكولات بثلاثة قرون. لذا، من الضروري أن ينطلق أي تحرر من تحرير العقل من هيمنة المصطلحات المؤسسية المهنية والتصنيفات الأكاديمية والتي يصبح العقل عبدا لها دون أن يدري. ويتمثّل هذا التحرر باستعادة حق وواجب وقدرة كل إنسان أن يكون شريكا في توليف معنى وفهم مرتبطين بفعلٍ وسياق، ونابعين من تأمل واجتهاد ورؤيا واسعة.