كلمة ‘بلطجة’ تصف شخصا أو شيئا ليس له قيمة لكن يفرض سطوته على الناس. أكثر لغة عبر التاريخ جسّدت ضحالة وبلطجة هي لغة الكتب المقررة، فهي بمثابة مرض على صعيد اللغة والبيان والإدراك والفكر والمجتمع، وأصبحت بقدرة قادر ‘اللغة الأم’، يتفانى الناس في نشرها، وفي مقاومة أي محاولة للتعرف على لغات فيها جمال وغنى وحكمة وعمق ومعنى وإلهام. مثلا، إذا رأوا أولادهم يقرأون كتبا غير مقررة يوبخونهم ويحثونهم على تركها والاهتمام فقط بالكتب المدرسية.
الحياة المعاصرة مليئة باحتلالات من شتى الأنواع: احتلال مأكولات ومشروبات مصنعة ومؤذية محل مأكولات ومشروبات طبيعية عضوية مغذية، واحتلال مؤسسات محل مجاورات، واحتلال مواطنين محل أهالي، واحتلال أنواع من الترفيه تقتصر على مشاهدة (عبر شاشات أو عروض الخ) بدلا من ترفيه مليء بالحيوية والحركة والتفاعل. لكن كما ذكرت في أكثر من مدونة، أخطر الاحتلالات وأقلها وضوحا هو احتلال لغة مصنّعة لا تستمد معانيها من الحياة بل من سلطة رسمية، لغة مؤسسية مهنية لعل أخطرها التصنيفات الأكاديمية، محل لغات حيّة مليئة بالحكمة وغنية بالمعاني. التحرر من لغة المؤسسات ومن التصنيفات الأكاديمية كأساس ومرجع هو أساس كل تحرر. أي تحرر على أصعدة أخرى إذا لم يشمل تحررا على صعيد اللغة والفكر والمعرفة لا يلبث أن يعود بنا إلى حالة العبودية.
وُلِدَ ابني الثاني ‘تامر’ يوم 20 / 12 / 1977. فاجأني وهو بعمر 9 سنوات (عام 1986 وكان بالصف الرابع الابتدائي بمدرسة الفرندز برام الله) إذ قال: لا أريد الذهاب إلى المدرسة. قلت: “ما شاء الله، وعيتُ هذا عندما كان عمري 30 سنة. أنا سعيد أنك اكتشفت حقيقة التعليم الرسمي وأنت بعمر 9 سنوات. لا يوجد لدي اعتراض لترك المدرسة لكن البديل ليس التلفزيون وإخوانه وأولاده وأحفاده بل أمران أساسيان: نذهب كل شهر إلى مكان لشراء كتب حقيقية (لا مقررة) وتختار، والأمر الثاني أُطْلُب أي شيء تستعمل فيه أصابعك”. فالكتب الحقيقية والتحادث وجها لوجه والأصابع هي التي تربط العقل والفكر بالواقع والحياة، وبالتالي تكوّن فَهْمًا ومعرفة. وافق تامر؛ ترك المدرسة. فاجأني بعد يومين بسؤال: ألم تقل لي أي شيء أستعمل فيه أصابعي؟ قلت نعم. قال: أرغب في أن يكون عندي معزة حلوب أحلبها كل يوم. قلت فليكن. اتصلت مع الصديق ‘هشام الخطيب’ (توفي شابا رحمه الله) والذي عرفته طالبا بجامعة بيرزيت ثم عملنا معا ضمن “مجموعة التنمية الاقتصادية”. قلت له: أريد شراء معزة حلوب ل‘تامر’. قال: لنذهب إلى منطقة الخليل. ذهبنا، أنا وهشام وتامر. وجدنا معزة حلوب، اشتريتها ب 75 دينارا وعُدْنا بها بالسيارة. جلسنا أنا وهشام في المقعدين الأماميين وجلس تامر في المقعد الخلفي محتضنا المعزة. في تلك الليلة حلبها! سخّنا الحليب وشربناه. لم أذق في حياتي أطيب منه. لم يحتاج تامر إلى تدريس وكتب مقررة وتقييم وشهادة ليحلب المعزة، تماما كما لم يحتاج إلى كل ذلك وهو بعمر 3 سنوات ليتعلم ويتقن اللغة العربية. التعلم قدرة بيولوجية تتم إذا وُجِدَ جوٌّ حقيقي وتوفرت حرية وجرأة وشغف. “المريد خير المتعلمين” قولٌ للإمام علي. نحتاج إلى تدريس في نواحٍ تقنية، لا في أمور تتعلق بالفهم والناحية الروحية والعيش بعافية وحكمة.
بقي تامر خارج المدرسة ثلاث سنوات، اشتاق بعدها إلى رفاق وطلب أن يعود إلى المدرسة. لم أشجعه على ترك المدرسة ولم أشجعه على العودة لها. فالمهم هو ليس وجوده أو عدم وجوده بمدرسة بل عدم اعتبار المدرسة مرجعا وسيّدًا بل أداة يستعملها كما يشاء. عاد إلى المدرسة عام 1989 ليس برام الله (فالمدارس كانت مغلقة بأمرٍ عسكري إسرائيلي نتيجة الانتفاضة، وأيضا لأنني لم أستطع الحصول على لمّ شمل لتامر). دخل مدرسة قرب بوسطن. طلب المدير أوراق المدرسة السابقة قلت: لم يذهب إلى مدرسة مدة 3 سنوات. قال كيف أدخله الصف السابع دون المرور بالرابع والخامس والسادس؟ قلت: “جرّبه. قرأ وعمل وتعلم أشياء كثيرة، لا أعتقد أنه سيجد صعوبة”. قال: سأجربه مدة فصل، ونرى. دخل الصف السابع وكان على لائحة الشرف، لكن ذلك لم يجعله يحب المدرسة، ظلّ يشعر بأنها مكان إذلال وقولبة. اختار المسار المهني وتخرج من المدرسة لكنه لم يرغب بالذهاب إلى جامعة. اندمج في نواحٍ عديدة بالحياة ورسا في النهاية على قناعة تفرَّغ لها: المأكولات المتوفرة في السوق مزورة وغير مغذية. اندمج مع مجموعات تسعى لتعيش وفق العافية بالنسبة للمأكولات، وتبلورت لديه قناعة أن المأكولات المتوافقة مع عافية الإنسان هي المحلية العضوية الطازجة غير المطبوخة. أنشأ مطعم صغير في بلدة صغيرة اسمها “طاوُسْ” في ولاية “نيو مكسيكو” بالولايات المتحدة، أسماه Raw to Go . كان ذلك عام 2009.
يمكن تلخيص مسار التعلُّم الذي سلكه تامر بما يلي: تحرُّر من كتب مقررة وتخصصات، وتَعَرُّف على كتب حقيقية اختارها وفق ما كان يبحث عنه في حياته، وانطلاق من نواحٍ ومكوّنات حقيقية في الحياة. لم ينطلق من نظريات ثم تطبيقات ضحلة سخيفة ملهية (كما في الكتب المقررة) بل من أمور واقعية حياتية. لم يحدث عبر التاريخ في أي مجتمع أن أُجْبِرَ الصغار في أعمار محددة على قراءة نفس الكتب على مدى 12 سنة – سوى القبيلة الأوروبية ثم الأمريكية، ثم انتقلت العدوى عبر مدارس وجامعات أنشأوها في بلادنا. ثم استفحل المرض في مجتمعاتنا حيث نقوم حاليا بأنفسنا بنشر أوهام وخرافات تلك القبيلة، مثل أن بالإمكان حشر المعرفة بين دفّتَيْ كتاب، ومثل مسخ قيمة الطالب إلى رقم، ومثل أن المعرفة تقتصر على معلومات مشرذمة ومهارات آلية، ومثل الاقتناع أن بالإمكان قياس ذكاء الطلبة وفق مقياس (وضعه فرنسي وتلقفته جامعة ستانفورد وعُرِفَ بمعامل الذكاء IQ، غير آبهين بالتشويه والاحتقار الذي يسببه ذلك). عندما كنت في الهند عام 2001 سمعت عبارة: ‘كل إنسان كامل بشكل فريد’. وقبل ذلك كنت قد قرأت (عام 1997) في كتاب ‘البيان والتبيين’ للجاحظ عبارة للإمام علي ‘قيمة كل امرئ ما يحسنه’. شكلت تلك العبارة منذ قرأتها بوصلة تشير إلى قيمة المرء مليئة بالاحترام. ننسى حكمة الهند وحكمة الإمام علي، ونحتضن مقياسا يميّز بين الناس على خط عمودي وهمي بهدف احتقارهم والسيطرة عليهم.
المشكلة الجوهرية في التعليم ليست التلقين كما هو شائع بل احتلال لغة كتب مقررة لا تنبع معانيها من الحياة محل لغات حيّة؛ احتلال لغة رسمية بلاستيكية محل جنائن الكلام التي تتمثل بلغة الأم مع أطفالها ولغة العائلة والجيران ولغة الأدب والشعر ولغة التحادث وجها لوجه. هذا الاحتلال في نظري أخطر احتلال حصل تاريخيا. هو احتلالٌ انطلق من فرنسا قبل حوالي 350 سنة، تبعتها السويد ثم انكلترا، ثم جاءت إلى بلادنا عبر قواعد معرفية – مدارس وجامعات – مهّدت الطريق لقواعد عسكرية ومالية وسياسية. ربما ليس من السهل التخلص من وباء الكتب المقررة لكن (كما هو الحال بالنسبة للمأكولات) علينا وعي أن المعارف التي تنشرها هي مصنّعة وفق قيم السيطرة والفوز؛ ربما نُجْبَر عليها لكن ضروري أن نتغذى من خارجها.
ما زال ‘تامر’ يسير وفق طريق العافية. كان أول المستفيدين أنا وأمّه بالنسبة لما نأكله. إلى جانب ذلك، هناك ناحيتان أخريان أود ذكرهما، ناحية ترتبط بأمّه، وناحية ترتبط بي. عندما تقاعدت زوجتي من شركة الطيران، ووجدت نفسها بدون شيء تعطيه وقتها وطاقتها ويعطيها معنى لحياتها، بدأت تندمج مع تامر في مسعاه لتوفير مأكولات عضوية غير مطبوخة. يشكل هذا الاندماج منذ 8 سنوات عاطفتها الرئيسية في الحياة والتي تعطيها حيوية ومعنى. أما بالنسبة لي، حصل أن ذهبت عام 2012 إلى مختبر طبي لفحص الكولسترول؛ أخبرني الفاحص أنه 284 وأن عليّ أن آخذ حبوبا طبية للتقليل منه. ذهبت إلى البيت وذكرت ما حصل لزوجتي وتامر، وعليّ أن أشتري حبوبا لعلاج ذلك. فما كان من تامر إلا أن قال لي محتدا: “كيف تصدّق رقما خارج سياق وفعل ونمط حياة؟ الأمور لا تُحْكَم برقم بحت. غيِّر نمط أكلك وزِدْ حركتك ثم افحص الكولسترول بعد فترة”. فعلت ذلك وذهبت إلى نفس المختبر بعد 3 أشهر؛ كان المقياس 224. سأل الفاحص إذا أخذت حبوب. قلت: لا. قال: مستحيل، لا يمكن أن يهبط ذلك دون حبوب. ذكرت له ما قاله تامر وما فعلته؛ لم يصدّق… المهني في أي مجال لا يعي عادة قدرات الإنسان البيولوجية، وأن علينا أن نحترمها ونبني عليها. حتى الآن لم آخذ حبّة ضد الكولسترول. عندما صدّقت ذلك المخبري، وكنت على وشك أن أشتري حبوبا، كنت مخدّرا بالعالم المهني الأكاديمي والمؤسسة الصحية ونسيت الحكمة والعافية. أيقظني تامر وذكّرني بما كنت دوما أقوله له عن كيف تُسْتَعْمَل الأرقام في خداع الناس بحيث يكونوا أعداء أنفسهم في طرق عيشهم.