من أهم ما انتبهت له بحياتي أني عشت لغتين: لغة لا تحتاج لتدريس، يتعلمها الطفل كقدرة بيولوجية بعقله الفطري، لغة الحياة والتحادث والأهل والحي، نتعلمها عبر كتبٍ هي بيان يبيّن ما يختلج وينضج بالعقول والصدور والتي تشمل حكايات وأدب. أما اللغة الأخرى التي عشتها فتحتاج إلى تدريس وسيطرة وخداع وإلهاء وتقييم، لا تكوّن صورا بالذهن ولا فَهْمًا بالفكر، لغة كتب مقررة وكتب أكاديمية. بعبارة أخرى عشت لغة مؤسسية ولغة حيّة؛ لغة مؤذية مشوّهة ملهية ترتبط بسلطة وسيطرة وفوز ومراكز قوة، ولغة مغذية للعقل والقلب والروح والعلاقات وترتبط بالعيش بحكمة وعافية. اللغة الأولى تنتمي للأغصان بينما الثانية للجذور. أمثلة: التعليم ينتمي للأغصان، التعلم ينتمي للجذور؛ مواطنون للأغصان، أهالي للجذور؛ العلوم للأغصان، الحكمة للجذور؛ المحاورة للأغصان، المجاورة للجذور؛ بحث كرديف researchللأغصان، بحث كرديف searchللجذور؛ منهجية ودراسات للأغصان، تأمل واجتهاد للجذور؛ اللغة الأم للأغصان، لغة الأم للجذور؛ الملاهي للأغصان، اللعب للجذور. بالطبع، لا يعني أن يقبل القارئ الأمور كما صنفتها بأعلاه بل عليه أن يتفكر ويتأمل بخبراته وحياته ويكوّن إدراكه وفقا لذلك. الحرية والمسؤولية والتعددية وحكم الذات والكرامة والحق في الشراكة بتكوين معنى هي جوهر الإنسان.
عشت احتلال لغة مصنّعة محل لغة حيّة خلال العقود الثلاثة الأولى من حياتي. بدأ تحرري منها نتيجة حرب 1967. في العام 1971 بدأ تحرري من اللغة المصنعة وعودتي للغة النابعة من الحياة والتأمل والاجتهاد؛ عودة كان أول مظهر لانتزاعي من الاحتلال المعرفي عبر تكويني مع بعض الأصدقاء حركة العمل التطوعي بالضفة الغربية واستعادة الأصابع كوسيط للتعلم.
لفهم التمييز بين اللغتين (المصنعة والحية، المؤذية والمغذية) يمكننا النظر لما حدث للمأكولات منذ 100 عام حين بدأ احتلال مأكولات مصنعة محل مأكولات لا تحتاج لمؤسسات ومهنيين وخبراء وعلماء، تولّد ذاتها وتستمد قيمتها الغذائية من تربة حية سليمة. أسهل أن نفهم ما حدث على صعيد الأكل (غذاء الجسم) مما حدث على صعيد اللغة (غذاء العقل). يعي أغلب الناس حاليا التخريب على صعيد مأكولات مزيفة مليئة بما هو ضار تحتل محل مأكولات تنمو ضمن تربة أرضية حيّة حيويّة مليئة بمواد عضوية مغذية للجسم. هذا ما حدث للعقول منذ 350 سنة حيث الأمر أخطر إذ لا نعيه ولا ندركه ولا نحس به بنفس السهولة التي نعيها بالنسبة للمأكولات. احتلال لغة مزيّفة محل لغات حية تنمو ضمن تربة مجتمعية ثقافية مغذية للعقل يمثّل الجرثومة الأكثر تخريبا للحياة. بعبارة أخرى، وعي تخريب المأكولات لا يوازيه وعيٌ مشابه بالنسبة لتخريب اللغة الذي يؤدي لتخريب العقل. اللغة الحيّة تبدأ مع الأم والأهل والحي عبر تحادثات شفهية، وعبر أدب وشعر وحكايات وتربة ثقافية-مجتمعية سليمة. فاعل رئيسي في التربة الثقافية التي تنمو فيها اللغة العضوية هو الأم؛ وفي التربة الأرضية التي تنتج أطعمة عضوية دودة الأرض. أقوى ما يحرك .الأم قلبُها. دودة الأرض لها خمسة قلوب تضخ الغذاء في التربة – نتغذى كبشر من تربة أرضية وثقافية.
ما حدث عبر تصميم وتخطيط وتنفيذ هو تحويل جنائن الكلام إلى كتب مقررة، وتحويل اللغة كمصدر فَهْم وتحرُّر إلى اللغة كمصدر وَهْم وسيطرة. لا تكمن مشكلة المناهج في التلقين وما شابه، بل بفكرة خبيثة قاتلة على صعيد الفكر: احتلال لغة تستعمل حروفا عربية لكن مرجعيتها ومعانيها واستعمالاتها مستمدة من القبيلة الأورو-أمريكية. خبيثة لأننا لا نعيها إلا بعد فوات الأوان كمرض السرطان ومرض الإيدز اللذين يقتلان مناعة العقل ونصبح دون وعي عبيدا وأسرى لمصطلحات وتصنيفات توحي لنا كأنها تنبع من الحياة مثل تعريف الشخص لنفسه عبرCV[التي من الصعب تخيُّل أي شيء أكثر احتقارا للإنسان]. المصيبة تكمن في أن عقولنا تُفْقِد الشخص قدرته على معرفة نفسه سوى عبر لغة بلاستيكية مهينة مهيمنة. احتلال لغة حروفها عربية لكن معانيها مستمدة من أيديولوجية هدفها السيطرة: مرض فكري-اجتماعي-إدراكي-نفسي خبيث، بمثابة فيروس ضد بالإنسان والمجتمع. أهم ما يميز لغة ليس حروفها بل مصدر معانيها.عشت لغتين طوال حياتي، لغة حيّة ترسم صورا بالذهن وتستمد معانيها من الحياة، ولغة بلاستيكية تحكمها مؤسسات وخبراء. الأبجدية ليست أداة محايدة: يمكن أن تكون أداة فَهْمأ وأداة وَهْم. اللغة المهيمنة (بشكل غير مسبوق مثيل) أداةوَهْم. سأختار3 كلمات: تعليم وتنمية وإستراتيجية. تعابيريمكن تكوينها منها:
- إستراتيجية التعليم في التنمية
- إستراتيجية التنمية في التعليم
- التعليم وإستراتيجية التنمية
- تنمية التعليم الاستراتيجي
- الإستراتيجية في التعليم التنموي
- تنمية استراتيجيات تعليمية
- التعليم في التنمية الإستراتيجية
- الإستراتيجية في تنمية التعليم
- تنمية استراتيجيات تعليمية
يمكن إضافة تعابير أخرى تحتوي على نفس الكلمات، كما يمكن إضافة كلمات أخرى (كتطوير وتخطيط) ونحصل على تعابير بالمئات تلهي وتخدع وتخدّر. ألا يذكّرنا هذا بالرياضيات؟ بالتباديل من جهة، ومتغيرات جبرية (س ص ع) من جهة أخرى التي يمكن وضعها بأي ترتيب دون حرج إذ ليس لها معنى ولا ترسم صورة بالمخيلة. العبارات عبر التاريخ كانت دائما ذات معنى،والمعنى مرتبط بسياق.وفق منطق أرسطو، كلعبارة إما صائبة أو خاطئة ولا بديل ثالث. أما شيخنا الحكيم ‘جلال الدين الرومي’ فقد تعمّق بالجذور، وذهب أبعد من أرسطو بكثير، إذ قال: ‘ما وراء الصواب والخطأ، يوجد حقل؛ لنلتقي هناك’.
في المدنية المهيمنة، خاصة منذ إعلان عصر التنمية (1949)، بدأت تظهر لغة متمثلة بتعابير كالمذكورة بأعلاه؛ لغة تبدو على السطح علمية أكاديمية مهنية، ذات معان عميقة ومعارف متقدمة تحتاج إلى خبراء لتوضيحها، لكن عندما نتمعّن فيها نجد أنه يمكن وضع مفرداتها بأي ترتيب دون أن يؤثر ذلك على أحد، لأنها لا تقول شيئا، ليست صائبة ولا خاطئة ولا تقع ما وراء الصواب والخطأ، ولا تخلق صورة بالخيال ولا معنى بالذهن، ولا تشير لأي شيء بالواقع ولا تعكس خبرة ولا يمكن ترجمتها لأسلوب حياة، ولا تاريخ لها ولا مرجعية ولا دلالات. كلمات هي أداة رئيسية بأيدي المهنيين والأكاديميين والسياسيين والخبراء يتم عبرها تخريب العقول والسيطرة عليها. المؤتمرات والجامعات والوزارات والمنظمات الدولية مليئة بها، كلمات تعكس طغيان التجريدات الحديثة، تهزمنا كحصان طروادة من الداخل. ما سرّ انتشار هذه الترّهات ولماذا أصبحت هامة، وكيف نسترد لغة تستمد معانيها من الحياة والحضارة؟ أهمية هذه الكلمات يكمن بدورها في احتلال العقول. مقابل هذه الكلمات البلاستيكية (التي تشمل التقييم العمودي)، لدينا كمثال قول الإمام علي: ‘قيمة كل امرئ ما يحسنه’. هذه الأقوال تشفينا من أمراض فكرية إدراكية حديثة كثيرة. كيف نفسّر احتضان تعابير مريضة وإهمال أقوال فيها كل الحكمة؟!مختصر الكلام: المعرفة فِعْلٌ ضمن سياق ووفق قيم. من أجمل ما يميز اللغة العربية أن جذر كل كلمة فعل. ضروري الحذر من كلمات ليس لها فعل كجذر.
الخديعة الكبرى وكيفية انتزاع أنفسنا منها
أول شعوب خُدِعَت الشعوب الأوروبية. انتقلت الخديعة لنا ولغيرنا عبر جاليات غربية. الأوروبيون والأمريكيون غير محميين إذ من الصعب العودة إلى نقطة يستعيدوا عندها عافيتهم وسلامتهم الذهنية. نحن محميون ومحصنون بالشعر والأدب والقرآن. محميون بلغة متنوعة غنية بالمعاني والأنماط ومنطقية ومفعمة بالحكمة. محميون بالمثنى الذي لا رديف له بأي لغة أوروبية إذ يجسد منطقا يختلف عن منطق أرسطو ومنطق هيجل والمنطق الثنائي ومنطق ديكارت، فحيث أن ديكارت قال ‘أنا أفكر فأنا موجود’، المثنى يجسد منطق ‘أنت موجود فأنا موجود’. المثنى علاقة بين شخصين لا هي قانونية ولا اقتصادية ولا أي شيء من هذا القبيل بل علاقة بمثابة وليد مشترك. ‘أنت موجود فأنا موجود’ تتوافق مع مفهوم الهُوِيّة المرتبطة بِهُوَ (لا بأنا كما هي بالانكليزية Identityالتي تبدأ ب I) مما يجعل ترجمتها ب أنوية وليس هوية. المثنى يختلف عن منطق أرسطو بمعنى هو لا يكافئ ‘ليس أنا’ ويختلف عن المنطق الجدلي حيث يكوّن الاثنان ‘وحدة’ أعلى بل يبقى كل شخص على حاله لكن وجود الآخر يغني ويغذي. أي لا يكتمل وجودي دون وجودك. كذلك محميون عبر كلمات أخرى كثيرة مثل كلمة ‘أهالي’ التي تختلف جذريا عن ‘مواطنين’ إذ العلاقة الأساسية بين الأهالي تكمن بعلاقتهم بعضهم ببعض وعلاقتهم بالمكان والمجتمع والحضارة والذاكرة الجمعية، بينما العلاقة الرئيسية في مجتمع مواطنين هي مع الدولة ومؤسساتها. كذلك، نحن محميون بكلمة ‘بحث’ كما بقول الرومي: ‘أنت ما تبحث عنه’، والتي تختلف جذريا عن بحث بالمعنى المصنع في الأكاديميا والمؤسسات عامة حيث الباحث ونتيجة البحث بمثابة سلع في السوق. ونحن محميون بكلمة يحسن التي تتعامل مع المرء باحترام قلّ نظيره فقيمة المرء ما يحسنه (تتضمن إلى جانب الاحترام كرامة وتعددية ومساواة – بمعنى استحالة مقارنة قيمة شخص بشخص آخر). محميون في إتباعنا لرؤيا لا لأهداف. محميون بأن طريق التعلم وتثقيف الذات هو التأمل والاجتهاد وليس منهجية بلطجية كما في الأكاديميا. محميون بلغتنا وحضارتنا بطريقة تقوّي المناعة الذاتية على صعيد الفكر وحماية القدرة على توليد الذات. قول آخر يحمينا هو دعاء لإمام: أللهم أخرجني من ظلمات الوهم وأكرمني بنور الفهم’؛ قولٌ يشفينا من أوهام حديثة كالتمييز بين المتعلم والأمي، أو بين العالم والجاهل. الصفة الفارقة هي بين الواهم والفاهم وهو وصف ليس فيه احتقار وشعور بالفوقية والدونية.
الخطوة الأولى يجب أن تكون تنظيف عقولنا عبر تنظيف لغتنا وصقل معانينا وعافيتنا وتهذيب تعاملنا. تنظيف لغتنا من التلوث بكلمات مثل فاشل ومتخلف وتنمية وتميز… نعي تلوث الماء والهواء والتربة والمأكولات ولكن تلوث اللغة والفكر يبقيان قابعين بحيث لا نراهما. مشكلة التعليم الرسمي إذن لا تكمن في التلقين ولا في الحاجة إلى تطويره وتحسينه ولا في أنه تقليدي يحتاج لنظريات وأساليب حديثة، بل يكمن في تصميمه: أداة للتحكم والسيطرة عبر احتقار أنفسنا وحضارتنا واعتبار الغرب طريق الخلاص. جدير بالذكر تأكيد غاندي (لإنقاذ الهند) بكتابه “هند سوارج” (1909) ضرورة إبعاد (مدى الحياة) كل من ينشر المدنية الأوروبية في الهند وهذا غير كافٍ للتكفير عن ذنوبه!… …