(9 آب/ أغسطس 2020)
ثلاثة أسابيع بعد موافقة ‘إيزابيلا’ ملكة اسبانيا (عام 1492) على دعم ‘كلمبس’ في رحلته للسيطرة على أراضٍ بعيدة، ذهب إليها ‘نبريها’ Antonia de Nebrija منبِّهاً أن من الصعب سيطرتها على أراضٍ بعيدة قبل السيطرة على عقول رعيتها. سألته: وكيف تقترح ذلك؟ أخبَرَها أن أخطر ما يحدث (في زمانه) هو أن الناس يقرؤون ما يحلو لهم من كتب ومن الضروري إيقافهم من المضيّ في هذا الطريق، وأضاف أنه عمل 25 سنة لتكوين لغة (خلطة من لغات حيّة متداولة باسبانيا) على الملكة أن تُدرّسها للأطفال بمملكتها، يتعلموها وفق كتابين ألّفهما (قاموس وقواعد) ويتمّ ذلك عبر أشخاصٍ يُوَظَّفون لذلك. رغم أن الفكرة لا تبدو غريبة لنا الآن إلا أنها لم تكن مقبولة لدى ‘إيزابيلا’ رغم شغفها بالسيطرة إذ رأت فيها احتقارا للناس وتخريبا للكلام فرفضت طلبه.
بعد 150 سنة (حوالي 1650)، صمّم ‘كومينيوس’ John Amos Comenius (من مورافيا، ‘التشيك’ حاليا) أداة لفرض فكرة شبيهة بفكرة نبريها والتي نطلق عليها الآن التعليم النظامي. لهذا يشار لكومينيوس ب‘أبو التعليم الحديث’. كانت الظروف مهيأة أكثر لتلقُّف ما طرحه كومينيوس وتمّ تطبيقه في فرنسا ثم إنكلترة والسويد. شملت هذه الظروف نشوء ‘دول قومية nation states’ وفكرة مواطنين ضروري أن يطيعوا تعليمات السلطة بباريس. وجدت هذه الدول في فكرة كومينيوس مبتغاها. تجمّعت ثورة صناعية وإنشاء دولة قومية وبدء تراكم رأس المال مما تطلّب إيجاد أداة للسيطرة على عقول الناس وإدراكهم وسلوكهم وعلاقاتهم. بعد السيطرة على عقول شعوب أوروبا انتقلت إلى مناطق أخرى كمنطقتنا بعد حوالي 200 سنة. لعل احتلال لغة رسمية مصنعة محل لغات حيّة أنجح فكرة عبر التاريخ وأكثرها تخريبا للحياة على صعيد الجذور؛ هي بمثابة ‘حصان طروادة’ على صعيد الفكر إذ نجحت في هزيمة الشعوب من الداخل، بدءا بالشعوب الأوروبية، ثم انتقلت عبر جاليات واستعمار إلى شتى أنحاء العالم. غزو لغة مصنعة محل لغات حية يمثّل جذور التخريب الذي نشهده في مجالات شتى في الحياة؛ احتلالٌ حوّل المعرفة والإنسان إلى سلعٍ يحدِّد السوق قيمتهما. احتلال شعب لآخر ليس جديدا، واحتلال لغة أجنبية محل لغة محلية ليس جديدا. ما هو جديد بفكرة ‘نبريها’ وفكرة ‘كومينيوس’ واللتين تَمَثَّلَتا عندنا باحتلال لغة تستعمل حروفا عربية لكن معانيها ومرجعيتها مستمدة من القبيلة الأورو-أمريكية محل لغة تنبع معانيها من الحياة والحضارة والتحادث والتأمل والاجتهاد. يُمكن تلخيص هذا باحتلال ‘اللغة الأم’ محل ‘لغة الأم’. عندما زرت اسبانيا قبل 15 سنة، سألت عما إذا ‘نبريها’ معروف حاليا. دُهِشْتُ عندما قالوا أن له اعتبار كبير جدا باسبانيا. اللغات الحيّة التي استقى منها اللغة المصنّعة. من هذا المنطلق، وضعُنا أفضل، إذ لغاتُهُم الحية اندثرت، بينما بالنسبة لنا رغم تخريبهم للغة الحيّة عبر لغة المؤسسات والكتب المقررة، إلا أن بإمكاننا العودة إلى كتب ومصادر (كالقرآن وكتب حية أخرى كأدب وحكمة) نرى عبرها العالم خارج الفكر المؤسسي، مثل ما فعلتُ بالنسبة لقيمة المرء: فقيمة المرء ما يحسنه وليس رقما لا معنى له.