انتزعتنا غزة – ولعله الانتزاع الأعمق – من الميوعة الذهنية والكسل الفكري والخواء الروحي المتمثلة جميعا بتحويلنا إلى ببغاوات نعيد ببلاهة ما نقرأه ونسمعه من مصادر موبوءة، وفي المقابل ساهمت باستعادة حيوية ووضوح وجرأة وانتباه شديد لما هو متوفر فينا وحولنا واعتباره أساسا للبناء عليه؛ وذكرتني بأكثر الحركات التي ألهمتني في العصر الحديث: حركة أهالي ولاية تشياباز الأصليين بجنوب المكسيك الذين بعد 500 سنة قاموا بحركة ملهمة إلى أبعد الحدود ضروري على كل من يشعر بيأس أن يقرأ قصتهم والتي يمكن الوصول لها عبر طباعة Zapatistas على غوغل.
ذكرت بخاطرة سابقة مظهر للانهيار تمثّل بالإنحدار من الحكمة (بيت الحكمة ببغداد) إلى ادعاء امتلاك الحقيقة (شعار جامعة هارفارد) والذي وصل بلادنا عبر ’دانيال بلس‘ حيث قال بخطابه يوم تدشين أول بناء بالجامعة الأمريكية ببيروت عام 1871:
‘…it will be impossible for anyone to continue with us long without knowing what we believe to be the truth’.
ليس ادعاء الحقيقة هو الخطر بل خَلْق أدوات لفرضها، وهذا ما نجحت فيه القبيلة الأورو-أمريكية. مأسسة الدين والتعليم ساهم بانهيار حضارات حيّة واستبدالها بدول قومية ذات حدود قاسية مزّقت الأنسجة في المجتمعات وبين الثقافات. اختراع أدوات للسيطرة، وطمس الحكمة والروحانيات، سَلَبَ القبيلة المناعة الذاتية فاعتمدت على قواعد عسكرية وعلى أحصنة طروادية في السيطرة على العالم. توجد حاليا أكثر من 800 قاعدة عسكرية أمريكية حول العالم، كما شكّل التعليم النظامي والتنمية أنجح الأحصنة الطروادية بيد القبيلة. عشتُ ببيتنا تخريب الدين الفطري والتعلم كقدرة عضوية اللذين تمثلا بشكل صارخ بعالم أمي التي لم تعرف الأبجدية ولا معارف مؤسسية بل تعلمت عبر أتربة حيّة حقيقية متعافية. ساعدها في ذلك أن الكنائس التي كانت لها علاقة بهم هي الارثوذكسية (حيث اليونانية كانت اللغة الرئيسية) والبروستانتية (حيث الانكليزية مرجع المعاني). أي، كانت أمي محصّنة ضد سلطة الاثنتين: المسيح الذي عرَفَتْهُ هو المسيح الفلسطيني، والرياضيات التي عرفتها (الهندسة المعقدة التي كانت تمارسها عبر خياطة ملابس للنساء) لا يمكن تعلمها عبر إقليدس وديكارت ورَسِلْ وغيرهم، بل عبر أصابعها التي كانت تربط عقلها ومخيلتها وجسم المرأة وقطعة القماش في عملٍ فنيٍّ رائع – خلطة من أتربة حيّة مغذّية. انتزعني عالمُها من حالة التخدير والوهم والعجرفة التي اكتسبتُها بمؤسسات تحكمها قيم السيطرة والفوز والكسب، وأعادني إلى علاقة حية مع الأتربة التي تغذي الإنسان. تنتزعني غزة اليوم، في صراعنا من أجل البقاء والعيش بكرامة، من حالة التخدير والوهم والعجرفة التي تشلّ البشر وتمنعنا من معرفة قَدْر أنفسنا، واستعادة الكرامة والصبر والإيمان والتعلم كجوهر الحياة، واستعادة إنسانية خارج إملاءات المدنية المهيمنة. شفاني عالم أمي من كوني جنديا كولونياليا سلاحي الرياضيات، وغذاني من أتربة حية متعافية. أول مقال كتبتُه حول الدين ونُشِرَ بكتاب القس ’نعيم عتيق‘ Faith and the Intifada, Orbis Books (1992)
وأول مقال كتبته عن رياضيات أمي نُشِر في Harvard Educational Review (Feb 1990)
في أيار 2021 عمّقت غزة انتزاعي من أمراض وأوهام وخرافات القبيلة الأورو-أمريكية وفتحت أبوابا ونوافذ كانت مخفية، امتدّت لتحتضن أفقنا الحضاري المغيّب.
انحدار البشرية بدأ بمأسسة المسيح قبل 17 قرنا وفق الادعاء أن من غير الممكن فهم رسالة المسيح ودخول الجنة إلا عبر مؤسسات ومهنيين مرخّصين. هذا المنطق انتقل بتفاصيله بعد 1200 سنة إلى التعلم حيث ادعى االذي يُعْتَبَر أبو التعليم النظامي ’كومينيوس‘ أن “من يتعلم دون تدريس هو أقرب للحيوان منه للإنسان”، أي لا يستطيع دخول ’جنّة‘ المعرفة! بعبارة أخرى، لا مجال لأحد أن يصبح مؤمنا أو متعلما دون بوابة المؤسسات. قُضِيَ على الإيمان والتعلم كقدرتين فطريتين بالإنسان وهبهما الله لكل مخلوق. لهذا استعملتُ تعبير ’انحدار البشرية‘ في بداية هذه الخاطرة. ملخّص مكونات الانحدار: مأسسة نواحٍ جوهرية بالحياة يؤدي إلى تخريبها؛ نشر الادعاء بأن هناك مسارا أحاديا عالميا للتعلم والتقدم ووجود معنى أحادي عالمي للكلمات تحكمهما مؤسسات مرخصة (ادعاءٌ يشكل الأصولية الأخطر والأكثر تخريبا‘). في أيار شطبت غزة هذه المكونات وساهمت بقوة في شفاء البشر من خرافات القبيلة الأورو-أمريكية – عبر التعلم الهائل الذي لاحظناه بغزة، وعبر الصبر والإيمان اللذين تجسدا فيها، وعبر العيش بأمل وما هو متوفر، طريقنا للمستقبل.
على الأغلب، سارت عائلتي طريق المسيح منذ وطِأت قدماه أرض فلسطين الطيبة وانتقلت روح رسالته عبر ألفي سنة من جيل إلى جيل حتى وصل العائلة التي ولدتُ فيها وعشت في كنفها، ولم تنقطع إلا عندما احتلت بريطانيا ’المسيحية‘ فلسطين وشرّدت أهلها. أنا آخر ذكر من عائلة ’فاشه‘ بفلسطين. لي أخت وابنة عم تحملان اسم ’فاشه‘. بموتنا تختفي العائلة من فلسطين؛ تمّ ذلك عبر بريطانيا وأمريكا. أولادي ممنوعين من العيش بفلسطين. لكني أشعر وبعمق أن شبان وشابات غزة بمثابة أبنائي وبناتي الذين سيكملون المشوار وتستمر العائلة بفلسطين عبرهم. أود هنا أن أذكَر بثلاثة أمور ترتبط بالمسيح الفلسطيني. الأول، يصف الفلسطينيون المسيح بالفادي، واختارت منظمة التحرير هذه الصفة للمقاومين: فدائيون. يطلق الغرب صفة ’المخلص‘ والذي يتوافق مع الصورة التي سعوا لنشرها بأنهم مُخَلِّصوا البشرية! هكذا رأى ’دانيال بْلِسْ‘ نفسه عندما قَدِمَ إلى لبنان بالأربعينيات من القرن 19 ليخلّص أهلها عبر تبنيهم مسيحيته؛ لكن فشل. عاد إلى أمريكا وبعد 20 سنة عاد إلى لبنان يحمل ’دين‘ الغرب الأكثر أصولية: التعليم بشقيه النظامي والأكاديمي، ونجح نجاحا باهرا؛ وما زلنا نعتبره مخلّصًا!! الأمر الثاني حدَثَ حين كان تلامذة المسيح يتكلمون بالقدس عن الظلم القائم مما دعا موالين للسلطة بإسكاتهم، إذ قالوا له: يا معلم انتهر تلاميذك. أجاب: أقول لكم ’إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ!‘ صرخت الحجارة مرة أخرى بعد ألفي سنة خلال الانتفاضة الأولى ولم يُسْكِتْها إلا أوسلو والبنك الدولي. الأمر الثالث حدَثَ عندما اقترب المسيح من القدس ونظر إليها وبكى قائلا: ’أنك لو علمت أنت ايضا حتى في يومك هذا ما هو لسلامك. ولكن قد اخفي عن عينيك. أنه ستأتي أيام يحيط بك أعداؤك ويحاصرونك ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون حجرا على حجر لأنك لم تعرفي زمان افتقادك‘. ثم دخل المسيح الهيكل ووَجَدَ فيه الصيارفَ جلوسا. صنع سوطا من حبالٍ وطرد الجميع من الهيكل وكبَّ دراهم الصيارف وقلب موائدهم؛ قائلا: بيتي بيت الصلاة؛ جعلتموه مغارة لصوص.
ما أشبه اليوم بالأمس! مثّل المسيح قبل ألفي سنة ضمير البشرية، وتُمَثِّلُ غزة اليوم ضمير البشرية – لهذا تتكالب عليها اليوم امبراطوريات تسعى إلى صلبها.
رافق صعودَ مدنية القبيلة الأوروبية قبل 5 قرون انهيارٌ حضاري بقاراتٍ داست أوروبا أراضيها. بين روما (التي اختطفت في القرن الرابع المسيح الفلسطيني من قلوب وبيوت الناس ووضعته على قاعدة تمثال بخدمة الامبراطورية) وحتى هيمنة واشنطن الحالية، اقتَرفَت أوروبا باسم المسيح جرائم لا تُعَدّ ولا تُحصى، تَمَثَّل آخرها ببوش وترامب وبومبيو الذين بكل وقاحة ادّعوا أن حروبهم من وحي الانجيل!
Bush claimed he was told by God to invade Iraq
أسوأ الجرائم التي اقتُرِفت تحت راية الصليب كانت غزو القارات الأمريكية وأستراليا ونيوزيلندا وقضاء شبه تامّ على شعوبها وحضاراتها؛ سُفِكَت دماء ملايين البشر. الوحيد الذي كتب عما رآه من همجية وجرائم بأمريكا خلال الستين سنة الأولى من الغزو (هام جدا قراءة الكتاب):
Bartolome de Las Casas, A Short Account of the Destruction of the Indies (published in 1552)
لم تسلم آسيا وأفريقيا من الغزو الأوروبي إذ تمّ قتل وتدمير ونهب ما استطاعت أوروبا إليه سبيلا. عادت بريطانيا نهاية 1917 إلى فلسطين ومهّدت الطريق لتشريد أهاليها، كنت أحدهم وأنا بعمر 7 سنوات. ما زالت همجية القبيلة الأورو-أمريكية تجتاح العالم باسم المسيح، حيث وصل الدمار والقتل والتهجير إلى درجة لا تُحْتَمل، وما زال قائما حتى الآن.
في أيار 2021 انتزَعَتْنا غزة من حدود دويلات هزيلة مصنعة، واستعادت الأفق الحضاري كأساس ومرجع ومعيار، حيث هبّت شعوبٌ من بلدان مختلفة لنصرة غزة ضمن أفق حضاري مركزه فلسطين. لذا، ضروري انتزاع أنفسنا كمسيحيي بلاد الشام من قبضة الامبراطورية والسعي لإعادة جدل نسيج مع أفقنا الحضاري، الذي وسّعته غزة ليشمل بلدانا بأمريكا الوسطى والجنوبية.
هناك حربٌ عشواء عبر العصور ضد العنصرية بشتى أشكالها. واكتسبت مؤخرا زخما جديدا عبر أحداث حديثة مثل مقتل ’جورج فلويد‘ دعسا على رقبته. جميعها أشكالٌ مرئية واضحة من العنصرية. هناك أشكال أخرى خفية خبيثة تدّعي أن هدفها مصلحة الإنسان وأنها تسعى لمصلحته وتنميته وتطويره لكنها في الواقع تتضمن عنصرية من أبشع الأنواع تُشْعِر الشخص بأنه أدنى من غيره رتبة، بانيةً ذلك على مقاييس مصنعة كالعلامات ومعدّلات الذكاء ومؤشرات التنمية. شفاؤنا من هذه الفيروسات يتم عبر معرفتنا لقدر أنفسنا.
دراسة مجتمع… عنجهية مريضة! من أنا حتى أعطي لنفسي الحق بأني قادر على دراسة مجتمع؟ احتجتُ لعقود من الزمن بدراسة نفسي لأعرف نفسي، وما زلت أسعى لمعرفة نفسي بشكل أعمق. تعرّفتُ على ذاتي عبر رحلة مستمرة لداخلي منذ 50 سنة! العالم المعاصر يحتاج إلى تواضع. إيهام شخص أن باستطاعته دراسة مجتمع بمجرد الحصول على شهادة مبنية على معرفة اكتسبها عبر النظر في كتب وشاشات هي عنجهية من النوع المخدِّر حيث يفقد الشخص معرفته بقدر نفسه في الجذور ويبقى تائها بين الأغصان معتقدا ومدعيا أنه قادر على فعل أشياء لا يعرف كنهها. كذلك الحال بالنسبة لكلمات مثل مساعدة وخدمة المجتمع ’من فوق‘ وليس عبر علاقات تبادلية. كذلك الحال أيضا بالنسبة لنواحٍ مثل التمكين وتعليم الكبار، إذ جميعها يتضمن عنجهية وفوقية مبررة بقدرات وشهادات مزورة. حمايتنا من العنجهية تتطلب معرفة قدر أنفسنا.
ديمقراطية التصويت في الدول الغربية لا تحمي الأهالي في نواحٍ تنتمي للجذور (لا ببلادهم ولا بلاد غيرهم؛ تحميهم في نواحٍ تنتمي للأغصان في أحسن الأحوال) من مجرمين يسعون للسيطرة والكسب، إذ على العكس، تحمي المجرمين من غضب الناس الذين يشعرون بالظلم في شتى نواحي حياتهم. لذا أمارس منذ 1971 ما أشير له هذه الأيام ب’ديمقراطية المعنى‘ التي ترتكز على القناعة بأن كل إنسان مصدر معنى يتكون عبر تأمل واجتهاد واللذين يتطلبان قيام الشخص برحلة إلى داخله وحكاية سيرة حياته دون استعمال مصطلحات مؤسسية وتصنيفات أكاديمية. إدراك المرء لقدرته في تكوين معانٍ للكلمات التي يستعملها يشكل جزءا هاما من معرفة قدر نفسه وبالتالي حمايته من أن يهلك.
إحدى المرات التي سَجَنَ الانكليز فيها غاندي، بعثوا ب 14 خبيرا بمجالات عدة للسجن ليجدوا نقطة ضعف يسيطروا عبرها عليه. بعد لقاءات عديدة، كتبوا في تقريرهم أن من الصعب التأثير عليه لأن مرجعيته بداخله. صعبٌ السيطرة عليه لأنه عرف قدر نفسه. يتمثّل هذا أيضا برفض أي مظلوم اعتبار الظالم حاكما شرعيا، حيث يرفض الدفاع عن نفسه. من أهم توصيات غاندي في كتابه ’هند سواراج‘ عام 1909 لخلاص الهند: إبعاد، مدى الحياة، كل شخص يقوم بنشر المدنية الأوروبية في الهند.