رقم 11: قصة اختراع التعليم النظامي الجزء الثالث… خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

(11 آب/ أغسطس 2020)

عام 1892عُيِّن عشرة أشخاص لِوَضْع قائمة بالمواد المدرسية في الولايات المتحدة، عُرِفوا ب‘لجنة العشرة’[6 رؤساء جامعات و3 مدراء مدارس ومسئول عن التعليم بواشنطن – ليس بينهم أُمّ ولا مزارع ولا فنان ولا شخص يتصف بالحكمة، وليس لأي منهم علاقة بالحياة والجذور، كل ما عرفوه في حياتهم هو مؤسسات تعليمية]. قررت اللجنة المواد المدرسية الحالية المشرذَمة والمشرذِمة للمعرفة والحياة. ما اقترحوه لا يكوّن صورة بالذهن ولا علاقة له بالحياة وبنوه وفق قناعات كان أسوأها برأيي أن المعرفة لا علاقة لها بسياق ولا فعل ولا ثقافة ولا قيم ولا مجتمع. نعيد المواد بالمدارس كالببغاء وكأنها معرفة نافعة. تصوّروا لو كانت العافية هي البوصلة للرؤية التي حكمت أفكارهم وأفعالهم! لكن هذا غير ممكن ببلدٍ تحكمه قيم السيطرة والفوز والتراكم الأسي لرأس المال، لكنه ممكن عندنا لو لم نكن مخدّرين، ولا يزال ممكنا إذا خرجنا من حالة التخدير. ما هو شكل ومضمون المعرفة وفق العيش بعافية؟ استعادة الحكمة مثلا عن طريق تَمَحْوُر المعرفة حول حقيقة أن الإنسان يتغذى من ثلاثة أنواع من التربة: تربة أرضية-طبيعية، تربة ثقافية-معرفية-روحية، تربة مجتمعية-اقتصادية – والتي تتوافق جميعا بالضرورة مع العيش وفق الوفرة لا الندرة التي تحكم عالم الاستهلاك. تصوروا لو كانت أنواع التربة هذه مضمون منهاج السنوات الثمانية الأولى بالمدارس حيث تدخل المواد المألوفة في المنهاج بشكل متكامل متداخل بدلا من مواد منفصلة. مكوِّنٌ جوهري في التربة الثقافية هو الحضارة العربية التي تكونت بوجود ثقافات عديدة متنوعة غنية. تشكل اللغة العربية بجماليتها ومنطقها وغناها والحكمة في ثناياها بوتقة المعرفة بدلا من مادة دراسية منفصلة عن المواد الأخرى والحياة. يصبح الأدب بشتى أشكاله ومعانيه هو بيان المعرفة كأساس. المعرفة التقنية يمكن أن تضاف دون أن تسلبنا ما فيه عافية. تصورا لو خلال المائة سنة الفائتة كانت الطبيعة والثقافات المتعددة هي بوتقة المعرفة والبيان الذي يبيّن ما يختلج داخل العقول والقلوب والنفوس، لكان وضعُنا مليئا بالعافية والحيوية على صعيد الجذور. تحويل اللغة العربية إلى مادة دراسية شكّل المستنقع الفكري الذي وقعنا فيه كأمة. لذا، من بين ما علينا فِعْلَه هو العودة للُغَةِ الأم، لغة الحياة والشعر والأدب والتحادث والحكايات ولغة القرآن؛ إلى اللّغة الحية كأساس. وكما ذكرتُ بخواطر سابقة، لغة الأم هي نقيض اللغة الأم (رغم تشابه الحروف). لنتوقّف عن أن نكون ببغاوات ونسخا عن آخرين.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة #قصة_التعليم_النظامي

رقم 10: قصة اختراع التعليم النظامي الجزء الثاني… خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

(10 آب/ أغسطس 2020)

تكلمت في الخاطرة السابقة عن جذور فكرة التعليم النظامي والشخصين اللذين صمماها. في هذه الخاطرة سأحكي عن انتقال هذا الفيروس إلى بلادنا… أرسلت الحكومة البريطانية ‘ثوماس ماكولي’ ليضع إستراتيجية حول كيف يمكن للانكليز حكم ملايين الهنود. قدَّمّ ‘ماكولي’ اقتراحه يوم 2 شباط/ فبراير 1835 والذي جاء فيه (أضعه بكلماته الأصلية):

“I have conversed both here and at home with men distinguished by their proficiency in the Eastern tongues. I am quite ready to take the Oriental learning at the valuation of the Orientalists themselves. I have never found one among them who could deny that a single shelf of a good European library was worth the whole native literature of India and Arabia. The intrinsic superiority of the Western literature is, indeed, fully admitted by those members of the Committee who support the Oriental plan of education [in India]… We must at present do our best to form a class who may be interpreters between us and the millions whom we govern; a class of persons, Indian in blood and colour, but English in taste, in opinions, in morals, and in intellect… We have to educate [them]…”. From Thomas Macaulay, “Minute of 2 February 1835 on Indian Education, by G. M. Young (Cambridge MA: Harvard University Press, 1957), pp-721-24.

باختصار، تشمل إستراتيجية ماكولي عدة مكونات: (1) إقناع الهنود بأنهم متخلفون (احتقار الذات) [في قوله مثلا ‘رفّ واحد بمكتبة أوروبية جيدة تفوق قيمتُه كل ما كُتِبَ من آداب باللغة الهندية والعربية’!]؛ (2) إقناعهم بأن المدنية الانكليزية طريق الخلاص (احتكار الحلّ)؛ (3) الانكليز على استعداد لمساعدة الهنود للسير على طريق أوروبا (شكّلت ‘المساعدة’ على مرّ السنين أداة أساسية للسيطرة الأوروبية على العالم)؛ (4) على الانكليز إنشاء طبقة وسطاء بينهم وبين الذين سيحكموهم؛ طبقة من أشخاص، هنود بدمهم ولونهم، لكن انكليز بأذواقهم وآرائهم وأخلاقهم وعقولهم – وذلك عبر التعليم! أي الأداة الرئيسية في إستراتيجيته لحُكْم الهند هي التعليم النظامي! استعمل الانكليز هذه الإستراتيجية في شتى البلدان التي احتلوها بما في ذلك بلادنا عبر أشخاص، عرب بدمهم ولونهم، لكن انكليز بأذواقهم وأفكارهم وأخلاقهم وعقولهم’، كنتُ أحدهم حتى حرب 1967، إذ ساهمتُ بقولبة عقول الطلبة الذين درّستهم بمدارس وجامعات، وقمت بذلك خاصة بمادة الرياضيات، بإخلاص ونيّةٍ حسنة، عبر خداعي وتخديري من خلال إستراتيجية احتقار-احتكار-مساعدة-خلق طبقة.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة #قصة_التعليم_النظامي

رقم 9: قصة اختراع التعليم النظامي الجزء الأول… خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

(9 آب/ أغسطس 2020)

ثلاثة أسابيع بعد موافقة ‘إيزابيلا’ ملكة اسبانيا (عام 1492) على دعم ‘كلمبس’ في رحلته للسيطرة على أراضٍ بعيدة، ذهب إليها ‘نبريها’ Antonia de Nebrija منبِّهاً أن من الصعب سيطرتها على أراضٍ بعيدة قبل السيطرة على عقول رعيتها. سألته: وكيف تقترح ذلك؟ أخبَرَها أن أخطر ما يحدث (في زمانه) هو أن الناس يقرؤون ما يحلو لهم من كتب ومن الضروري إيقافهم من المضيّ في هذا الطريق، وأضاف أنه عمل 25 سنة لتكوين لغة (خلطة من لغات حيّة متداولة باسبانيا) على الملكة أن تُدرّسها للأطفال بمملكتها، يتعلموها وفق كتابين ألّفهما (قاموس وقواعد) ويتمّ ذلك عبر أشخاصٍ يُوَظَّفون لذلك. رغم أن الفكرة لا تبدو غريبة لنا الآن إلا أنها لم تكن مقبولة لدى ‘إيزابيلا’ رغم شغفها بالسيطرة إذ رأت فيها احتقارا للناس وتخريبا للكلام فرفضت طلبه.

بعد 150 سنة (حوالي 1650)، صمّم ‘كومينيوس’ John Amos Comenius (من مورافيا، ‘التشيك’ حاليا) أداة لفرض فكرة شبيهة بفكرة نبريها والتي نطلق عليها الآن التعليم النظامي. لهذا يشار لكومينيوس ب‘أبو التعليم الحديث’. كانت الظروف مهيأة أكثر لتلقُّف ما طرحه كومينيوس وتمّ تطبيقه في فرنسا ثم إنكلترة والسويد. شملت هذه الظروف نشوء ‘دول قومية nation states’ وفكرة مواطنين ضروري أن يطيعوا تعليمات السلطة بباريس. وجدت هذه الدول في فكرة كومينيوس مبتغاها. تجمّعت ثورة صناعية وإنشاء دولة قومية وبدء تراكم رأس المال مما تطلّب إيجاد أداة للسيطرة على عقول الناس وإدراكهم وسلوكهم وعلاقاتهم. بعد السيطرة على عقول شعوب أوروبا انتقلت إلى مناطق أخرى كمنطقتنا بعد حوالي 200 سنة. لعل احتلال لغة رسمية مصنعة محل لغات حيّة أنجح فكرة عبر التاريخ وأكثرها تخريبا للحياة على صعيد الجذور؛ هي بمثابة ‘حصان طروادة’ على صعيد الفكر إذ نجحت في هزيمة الشعوب من الداخل، بدءا بالشعوب الأوروبية، ثم انتقلت عبر جاليات واستعمار إلى شتى أنحاء العالم. غزو لغة مصنعة محل لغات حية يمثّل جذور التخريب الذي نشهده في مجالات شتى في الحياة؛ احتلالٌ حوّل المعرفة والإنسان إلى سلعٍ يحدِّد السوق قيمتهما. احتلال شعب لآخر ليس جديدا، واحتلال لغة أجنبية محل لغة محلية ليس جديدا. ما هو جديد بفكرة ‘نبريها’ وفكرة ‘كومينيوس’ واللتين تَمَثَّلَتا عندنا باحتلال لغة تستعمل حروفا عربية لكن معانيها ومرجعيتها مستمدة من القبيلة الأورو-أمريكية محل لغة تنبع معانيها من الحياة والحضارة والتحادث والتأمل والاجتهاد. يُمكن تلخيص هذا باحتلال ‘اللغة الأم’ محل ‘لغة الأم’. عندما زرت اسبانيا قبل 15 سنة، سألت عما إذا ‘نبريها’ معروف حاليا. دُهِشْتُ عندما قالوا أن له اعتبار كبير جدا باسبانيا. اللغات الحيّة التي استقى منها اللغة المصنّعة. من هذا المنطلق، وضعُنا أفضل، إذ لغاتُهُم الحية اندثرت، بينما بالنسبة لنا رغم تخريبهم للغة الحيّة عبر لغة المؤسسات والكتب المقررة، إلا أن بإمكاننا العودة إلى كتب ومصادر (كالقرآن وكتب حية أخرى كأدب وحكمة) نرى عبرها العالم خارج الفكر المؤسسي، مثل ما فعلتُ بالنسبة لقيمة المرء: فقيمة المرء ما يحسنه وليس رقما لا معنى له.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة

رقم 8: لغتان لا واحدة 3… خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

(8 آب/ أغسطس 2020)

لغتان لا واحدة الجزء الثالث

لفهم احتلال اللغة الأم محل لغة الأم (قبل 4 قرون) [سأحكي بخاطرة قادمة تارخ نشوئه] يمكننا النظر لما حدث للمأكولات منذ 100 عام حين بدأ احتلال مأكولات مصنعة تحتاج لشركات ومهنيين وخبراء محل مأكولات لا تحتاج لأيٍّ من هذه الأمور، وتولّد ذاتها وتستمد قيمتها الغذائية من تربة حية سليمة. أسهل أن نفهم ما حدث على صعيد الأكل، غذاء الجسم، مما حدث على صعيد اللغة، غذاء العقل. يعي أغلب الناس حاليا التخريب على صعيد مأكولات مزيفة مليئة بما هو ضار تحتل محل مأكولات تنمو ضمن تربة سليمة مليئة بما هو مغذي للجسم. لكن تخريب العقول (الذي هو أقدم بكثير) قلائل هم الذين يعونه ويحسون به. احتلال لغة مصنّعة محل لغات حية تنمو ضمن تربة مجتمعية ثقافية غنية متنوعة يمثّل الفيروس الأعمق والأكثر تخريبا للحياة. بعبارة أخرى، وعي التخريب نتيجة مأكولات مصنعة لا يوازيه وعيُ التخريب نتيجة لغات مصنعة. دور قلب الأم في تغذية التربة المجتمعية-العاطفية-الثقافية لنمو الطفل دورٌ هائل. دور دودة الأرض (ذات الخمسة قلوب) في تغذية التربة الأرضية دورٌ هائل. حماية التربتين مسؤولية لعلها الأهم. المدنية المهيمنة تسعى بكل قوتها لتخريب التربتين.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة

رقم 7: لغتان لا واحدة 2… خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

(7 آب/ أغسطس 2020)

لغتان لا واحدة الجزء الثاني

كما ذكرتُ في الخاطرة السابقة، عشتُ لغتين: لغة لا تحتاج إلى تدريس، نتعلمها كأطفال كقدرة عضوية، لغة الحياة والتحادث والأهل والحي، كما نتعلمها عبر كتبٍ هي بيان يبيّن ما يختلج وينضج بالعقول والصدور وتشمل حكايات وأدب. أما اللغة الأخرى التي عشتها فتحتاج إلى تدريس وسيطرة وخداع وإلهاء وتقييم، لا تكوّن صورا بالذهن ولا فَهْمًا بالفكر، لغة الكتب المقررة أكبر مثال لها. بعبارة أخرى، عشت لغة مؤسسية ولغة حيّة؛ لغة مؤذية مشوّهة ملهية ترتبط بسلطة وسيطرة وفوز ومراكز قوة، ولغة مغذية للعقل والقلب والروح والعلاقات وترتبط بالعيش بحكمة وعافية. اللغة الأولى تنتمي للأغصان بينما الثانية للجذور. أمثلة أخرى: التعليم ينتمي للأغصان، التعلم ينتمي للجذور؛ مواطنون للأغصان، أهالي للجذور؛ العلوم للأغصان، الحكمة للجذور؛ المحاورة للأغصان، المجاورة للجذور؛ بحث كرديف research للأغصان، بحث كرديف search للجذور؛ منهجية ودراسات للأغصان، تأمل واجتهاد للجذور؛ اللغة الأم للأغصان، لغة الأم للجذور؛ الملاهي للأغصان، اللعب للجذور. لا يعني أن يقبل القارئ ما أقوله هنا بل عليه أن يتفكر ويتأمل بحياته ويكوّن إدراكه وفق ذلك.

عشت العقود الثلاثة الأولى من حياتي دون أن أنتبه أني أعيش لغتين. بدأ تحرري من ذلك الوهم نتيجة حرب 1967. عام 1971 بدأ تحرري من اللغة المصنعة وعودتي للغة النابعة من الحياة والتأمل والاجتهاد؛ عودة كان أول مظهر لانتزاعي من الاحتلال المعرفي عبر تكويني مع بعض الأصدقاء حركة العمل التطوعي بالضفة الغربية التي استمرت على مدى عشر سنوات، استعدتُ عبرها دور الأرجل والأيدي والأصابع في التعلم والتعرف على مجتمعات ذات جذور بالحياة، حيث كنا كل يوم جمعة وأحد نمشي إلى قرية أو مخيم أو حي في مدينة ونعمل مع الأهالي.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة

رقم 6: لغتان لا واحدة ,1 ’لغة الأم‘ و’اللغة الأم‘… خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

٦ لغتان لا لغة واحدة ١ خواطر الطبيعة الشافية

(6 آب/ أغسطس 2020)

لغتان لا واحدة  الجزء الأول

 ’لغة الأم‘ و’اللغة الأم‘… أخطر احتلال والأكثر خُبْثًا وخفاءً، وهو الأقدم زمانًا، هو احتلال ’اللغة الأم‘ محل ’لغة الأم‘. تتمثّل ’اللغة الأم‘ بلغة الكتب المقررة والكلمات المؤسسية والمصطلحات المهنية والتصنيفات الأكاديمية؛ لغة المؤتمرات والمنظمات الدولية، ولغة الدولة القومية. بالمقابل ’لغة الأم‘ هي اللغة الحية الأولى التي يتعلمها الطفل، ولغة التحادث والشعر والحكايات والأدب والقرآن الكريم. اللغتان، رغم تشابُه الحروف، تمثلان عالمين مختلفين جذريا. حصل هذا الاحتلال قبل حوالي 400 سنة نتيجة تصميم وتخطيط وتنفيذ [سأحكي بخاطرة قادمة تارخ نشوئه]، وكوّن أهم ركن بالدول القومية الناشئة بأوروبا (فرنسا وانكلتره والسويد ثم دول أوروبية أخرى، ثم انتقل إلى بلداننا عبر جاليات واستعمار). مزّق هذا الاحتلال النسيج الثقافي الفكري الاجتماعي الغني المتعدد وأصبحنا نَتَعاطَ مع ’لغة بلاستيكية‘ مخدِّرة: اللغة الأم، التي توحي بإيجابية لكنها بالجذور كانت وما زالت فيروسا رئيسيا في غزو العقول والسيطرة عليها واستلاب مناعتها؛ فيروس بمثابة حصان طروادة يهزمنا من الداخل. لو بقيت ضمن حدودها (بمعنى أنها بقيت ترتبط بنواح مثل أجهزة ولم تقتحم الحياة الحية) لا ضيم في ذلك، لكنها اقتحمت الحياة وغيَّبت اللغات الحيّة. لم يستعمل العرب عبر تاريخهم تعبير ’اللغة الأم‘ قبل غزو الغرب لنا. أقرب تعبير استعملوه هو أمهات الكتب. ‘اللغة الأم’ لغة حروفها عربية لكن معانيها ومرجعيتها مؤسسات وأكاديميو وخبراء القبيلة الأورو-أمريكية. [أستعمل ’قبيلة‘ لحماية الأجيال الصغيرة والمستقبلية من خرافة أن معارف وعلوم القبيلة المهيمنة أحادية عالمية.] اللغة العربية الحيّة – البيان والتبيين – مغيّبة كليا من الكتب المقررة والأكاديمية. أمثلة لكلمات شائعة تستعملها ’اللغة الأم‘: نجاح رسوب تقدُّم تخلُّف ذكاء تنمية منافسة تميُّز تفوُّق إبداع ‘مجتمعات معرفة’ ’هجرة عقول‘ ’عصف ذهني‘ ’تغذية راجعة‘ ’تنمية مستدامة‘ ’تعليم نظامي‘ ’تعليم عالي‘ ’تمكين المرأة‘ ’تعليم الكبار‘ – جميعها نما ضمن عالم الاستهلاك الذي تحكمه لغة الدعاية وقيم السيطرة والفوز. تشمل الكلمات الحيّة: محبة كرامة ضيافة تقوى أمل حكمة إيمان احترام مثنى عافية مجاورة. حتى تعرف شخصيا الفرق بين اللغتين، حاول أن تكتب صفحة عن حياتك دون استعمال أي كلمة مؤسسية/ مصطلح  مهني/ تصنيف أكاديمي. صعب جدا. ستجد كم نحن بعيدين عن أنفسنا ومعرفة ذاتنا وعن لغات حية تستمد معانيها من الحياة.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة

رقم 5: التعلم في الجذور، مشاهدة وملاحظة حركة القمر مدة شهر كمثال… خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

(5 آب/ أغسطس 2020)

من أهم الأقوال التي قرأتها، قولٌ للرومي: “لربما أنك تبحث بين الأغصان عما لا يظهر إلا في الجذور”. ضروري أن نسأل دوما فيما إذا ما نقوله ونفكر فيه ونفعله ينتمي للأغصان أم للجذور. فيما يلي سأذكر مثالا يعكس التعلم في الجذور، جامعا أبعاد عدة تنظر إلى الحياة ليس كمواد دراسية مشرذمة ولا معلومات ومهارات ونظريات جاهزة بل تنطلق من مفهوم العلم في عز روحه. مثال يمكن استعماله أينما كنا، ومناسب لشتى الأعمار، وكان بالإمكان استعماله وقت الحجر، على الأقل كإضافة للتدريس عبر شاشات، كما يمكن استعماله خلال العطلة الحالية، ألا وهو مشاهدة كل شخص حركة القمر مدة شهر ويكتب ملاحظاته عنها؛ ومن ثم يتحادثوا عبر مجاورات فيما بينهم حول ملاحظاتهم. سيعيشون بهذه الطريقة عدة أبعاد جوهرية في الحياة والمعرفة: معنى علم وتعلُّم في الجذور؛ وأن خطوة أساسية في التعلم هي المشاهدة والملاحظة كنقطة بداية وليس نظريات ومفاهيم؛ وأن العلوم والمعارف تنطلق من العلاقة مع الطبيعة كأساس ومرجع ومعيار؛ وأن التدريس والتقييم والمنافسة والبيداغوجيا معيقة في هذه المرحلة، وتأتي لاحقا عند الحاجة لها؛ وأن وجودهم وتفاعلهم وتحادثهم وتبادلهم ما لاحظوه هو وعي أن التعلم على الصعيد الشخصي لا يكتمل إلا إذا كان في نفس الوقت تعلما على الصعيد الجمعي؛ وأن تكوين معنى ومعرفة وفَهْم يتطلب صبرا وتأملا واجتهادا وجهدا؛ وأن التعلم هو كالتنفس والهضم يحدث داخل الشخص؛ وأن العلم بالأساس هو التعرف على الطبيعة للعيش وفقها لا لقهرها وإخضاعها وخلخلة أسسها (كتعريف ’فرانسيس بيكن‘ له). في نفس الوقت، يشكل القمر بُعْدًا مركزيا في العالم الإسلامي، فهو أساس التقويم وعلاقته بالأعياد جوهرية. فملاحظة حركة القمر وتسجيل تفاصيل الحركة (مثل وقت ومكان البروز…) وشكله وحجمه… كذلك، يعيش الطلبة أهمية المجاورة في التعلم وتكوين معرفة، والتحرر من تراتبية، ومن الشعور بفوقية ودونية، ومن منافسة دنيئة. الخلل في التعليم لا يكمن في التلقين بل أعمق من ذلك بكثير: استعمال اللغة الأم المصنعة كوسيط، وتغييب التعلم كقدرة عضوية  والتعامل معه كأنه ينتج عن التعليم النظامي.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة

رقم 4: حول الكتب المقررة … خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

حول الكتب المقررة … خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية لمنير فاشه

(4 آب/ أغسطس 2020)

عندما وُوجِهَ العرب أول مرة بتعبير textbooks ، لا شك أنهم وقعوا بحيرة: كتب نصوص؟! تعبيرٌ ضحل، فالكتب تشمل نصوصا بطبيعتها؛ تعبيرٌ لا وجود له رديف بالعربية. تفكروا بالموضوع واختاروا ما رأوه أقرب ما يمكن لحقيقة هذه الكتب فأسموها: كتب مقررة. كتابة أسماء مؤلفين على الغلاف يغطي ويغيّب مَن قررها. ملاحظتان في هذا المقام. الأولى: هل سمع أحدكم عن شخص ذهب إلى وزارة تربية وتعليم ليشتري كتبا مقررة لأنه يجد فيها متعة أو فائدة؟ لا أعتقد. الملاحظة الثانية: لدينا منذ 1200 سنة كلمتان – البيان والتبيين – عنوان كتاب الجاحظ. لا يوجد تفسير واحد (سوى حالة تخدير عميقة) لجعل العرب يتبنّوا textbooks ويهملوا كتبا هي في جوهرها بيان وتبيين. لا يوجد كتاب مقرر ولا حتى جملة واحدة فيه تجسد بيانا وتبيينا! وضّح الجاحظ عنوان كتابه بهذه الكلمات: “بيانٌ لدى الشخص يبيّن المعاني القائمة في صدره والمتكونة في فكره. ما يُحْيي تلك المعاني، ذكرُهُ واستعمالُه لها مما يقرِّبُها من الفهم ويجلّيها للعقل ويجعل الخفي منها ظاهرا. وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة وحسن الاختصار ودقة المدخل يكون إظهار المعنى. وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح وكانت الإشارة أبين وأنور كان أنفع وأنجع. والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان؛ اسمٌ جامعٌ لكل شيء كشف قناع المعنى. فبأي شيء بلغتَ الإفهام وأوضحتَ عن المعنى، فذلك هو البيان. من هنا، المعاني ليس لها حدود، بينما الألفاظ معدودة محدودة”…

تصوروا لو كانت الكتب بالمدارس بيانا وتبيينا بدلا من اللغة البلاستيكية السائدة. صعبٌ علينا، كما يظهر، أن نستعيد هذه الرؤية للكتب لأن عقولنا تجفّ عبر 12 سنة نمر بها دون إرواء. الكتب المقررة المصنعة بالنسبة للعقل تشبه المأكولات والمشروبات السريعة المصنعة بالنسبة للمعدة؛ كلاهما يوحي بفائدة لكن فعليا يضر أكثر مما ينفع. جدير بالذكر أن العرب لاحظوا العلاقة بين ما يغذي الجسم وما يغذي العقل إذ قالوا: نروي حكايات ونروي نباتات. نادر إيجاد حكايات مروية بالكتب المقررة، أو نباتات مروية بحديقة. التكنولوجيا أداة يمكن أن تضيف نواحي بحياتنا لكنها إذا سَلَبَتْ ما هو موجود فينا بالخليقة، ضروري عندها أن نسأل عما نخسره، وأيضا فيما إذا كنا نحوم بين الأغصان أم نغوص في الجذور.

ما أودّ قوله باختصار: ويلٌ لأمة تعتمد على كتب مقررة كمصدر معرفتها.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة

رقم 3: حشو الأدمغة والعقول … خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

(3 آب/ أغسطس 2020)

رفع حكيمٌ نايًا أمام جمْعٍ من الناس ببغداد قبل ألف سنة وحشاه بقِطَع قماش وحاول العزف. لم يخرج صوت أو خرج مشوشا. أخرَجَ قطع القماش وعزف، خرجت أنغام جميلة. قال: هذا ما يحدث للعقل عندما نحشوه بمعلومات ومعارف كثيرة، يفقد قدرته على تكوين معنى وفهم. إلى جانب هذا، يتناقض الحشو مع حقيقة أن الحياة أخذ وعطاء. العطاء المسموح به في المؤسسات التعليمية هو الأجوبة في الامتحانات وهو عطاء ليس من الذات بل عطاء مثل عطاء الببغاء، يعيد ما يسمعه. في التعليم نعيد ما نسمعه أو نقرأه. المناهج حول العالم حشوٌ يمنع الفهم، كما يمنع العطاء بمعنى بيان يبيّن ما بداخل الشخص. علينا تشجيع الطلبة أن يبدؤوا بقصصهم وخبراتهم والمعاني التي كونوها من خلال تأملاتهم والفهم الذي تبلور لديهم. حشو الأدمغة بحجة أن هناك كمًّا هائلا من المعارف على الطلبة معرفتها، تشبه الحجة أن هناك كمّا هائلا من الأطعمة الجاهزة علينا حشو أمعدة الأطفال بها! حشو العقل يؤدي إلى تخمة يفقد معها الطفل القدرة على الفهم وتكوين معنى، هذا إلى جانب أن معظم المأكولات الجاهزة والمعارف الجاهزة ليست مغذية.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة

رقم 2: التعلم عن قُرب … خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

(2 آب/ أغسطس) 2020

عشتُ يوم الثلاثاء 28/ 7 بمدينة ’السلط ‘ مع ما يقارب من 20 طفلا وطفلة بعمر 5  و  6 سنوات خبرة أستطيع أن أصفها (في عالمٍ مهووس بالتعلم عن بعد) ’بالتعلم عن قرب‘ – بالقرب من كل ما هو حول الشخص/ الأشخاص: القرب من الذات أولا، ومن الطبيعة والمجتمع والثقافة والتقاليد التي فيها عافية. بدَأَت القصة مع ’مبادرة ذكرى‘. ذهبت ’لمى الخطيب‘ و’ربيع زريقات‘ ببداية موسم بذر بذور القمح إلى مدينة ’السلط‘ وفتشوا عن أرض يسمح صاحبها لهم بزراعتها قمحا. وجدوا الأرض ووجدوا من لديه حبوب بلدية وبذروا الحبوب. بسبب كورونا لم يستطيعوا زيارة الأرض وينظفوها من أشواك وغيرها. عندما زاروا المكان بعد فك الحجر بُهِروا بما رأوه: حقل مليء بالسنابل وعندما بدؤوا بالحصاد تطوع العديد من الجيران ومناطق أخرى بالعمل. جلب ربيع ولمى (إلى لقاء ’السلط‘ سنابل وطحين (من منتوج الأرض) وبدأ ربيع يسأل مَنْ مِنَ الأطفال أهاليهم ما زالوا يزرعون القمح. وضع ربيع سنابل على الأرض وبدأ يخبط برجله على السنابل ودعا الأطفال أن يفعلوا نفس الشيء كما هي العادة لفصل الحب عن القشور. بدأ خبيط أرجل الأطفال على الأرض يُخْرِجُ نوعا من نمط في الأصوات مع حركة متناغمة بأجسام الأطفال مما دعا ربيع أن يذكر لهم كيف أن مثل هذا الخبط أكيد ساهم في أن تصبح الدبكة جزءا من الحصاد. ثم حمل نايًا صنعها بيديه وبدأت أنغام جميلة تخرج وبدأ الأطفال يصفقون وفق النغم. إحدى المشرفات بالروضة عجنت الطحين وأعطت كل طفل كرة صغيرة منها على صحن. اندماج الأطفال بالعجينة بين أصابعهم حيث شكّل كلٌّ منهم ما يحلو له كان أكثر ما ألهمهم. هذا هو التعلم الحقيقي الذي لا يحتاج إلى تدريس ولا يوجد ’شرطي معرفة‘ فوق رؤوسهم يصححهم باستمرار. أود أن أعيد ما قلته: تلك الخلطة فجأة ألهمتني بأن أصف ما شاهدته ب’التعلم عن قرب‘: القرب مع الذات والطبيعة والأصابع والعجين ومع الثقافة الحيّة. لا شك أنهم لأول مرة شعروا أن ’اللعب‘ مع الطبيعة والثقافة والعجين يختلف جذريا عن ألعاب بلاستيكية وكمبيوتر. في هكذا جو، الأبجدية ونظريات تتعلق بالطفولة المبكرة تشكل عوائق وملهيات. تصوروا لو كان هناك ‘تعلم عن قرب’ إلى جانب ‘تعليم عن بعد’ خلال فترة الحجر! لا أتكلم عن الأطفال فقط بل أيضا عمن هم أكبر سنّا بما في ذلك الجامعات: قرب من الطبيعة ومن أصابعهم ومن ثقافةٍ تغذيهم… هذه فرصة نادرة لمعرفة الذات ليس عبر CV بل عبر اندماج بالحياة وتأمّل فيها واجتهاد في غور كنهها؛ فرصة لقراءة كتب بيان وتبيين وليس فقط كتب مقررة وأكاديمية. تصوروا بوجه خاص لو كان موضوع الصفوف الستة الأولى هو الطبيعة الشافية، والتي تدخل فيها بطبيعة الحال مواد مدرسية بشكل طبيعي لا منفصل. جدير بالذكر في هذا المجال أن أهم معرفة بالوقت الحاضر هي معرفة مصدر ومحتوى ما يدخل المعدة والعقل والقلب والعلاقات. التركيز على الطبيعة الشافية تشفيهم من سموم التقييم العمودي والمنافسة المُمَزِّقة وعنجهية التميز التي جميعا تشكل مصادر أمراض نفسية واجتماعية وإدراكية. كذلك، عشنا جميعا روح الضيافة كجادلٍ للنسيج على مستويات عدة والتي تشكل أهم مكونات العافية في أي مجتمع. لا يمكن للحياة أن تستقيم دون استعادة روح الضيافة في شتى نواحي الحياة.

كل ما هو جميل بالطبيعة وبمجتمعاتنا وثقافتنا عاد حيًّا منعشًا أسْعَدَنا جميعُنا خلال الساعات التي قضيناها معا بمدينة ’السلط‘.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة