(4 تشرين أول / أكتوبر 2020)
فلاحو بلاد الشام عبر آلاف السنين يزرعون شجر ‘لوز مُرّ’ ثم يركّبون عليه ما يحلو لهم من أشجار الفاكهة إذ عندها يضمنون توفّر مناعة ذاتية (متمثلة بساق الشجرة وجذورها) قادرة على حماية ما يركّبون عليها من أشجار الفاكهة ضد أي تسوس أو عطب. كما كانوا يعتمدون على دودة الأرض في تغذية الجذور لضمان عافية التربة والشجر. تربة الأرض الحاضنة الأساسية لعافية الإنسان مما يعني حمايتها يجب أن تكون أولى الأولويات. تنطبق هذه الحكمة على الفكر والمعرفة بمعنى ضرورة الاهتمام بالتربة الثقافية وحمايتها من التلوث والتخريب إذ تمثّل المناعة الذاتية لحماية الأهالي والمجتمعات من أمراض وأوهام وخرافات على صعيد العقل والإدراك، خاصة الحديثة منها التي مظهرُها مبهر لكن جوهرها مليء بفيروسات خفية. ما يشكل ‘الساق والجذور’ بالنسبة لمناعة الطفل هو اللغة الحيّة التي تتمثل بلغة الأم. لغة الأم لا تتكون من أبجدية بل هي خلطة حاضنة لمكونات جوهرية في الحياة: التحدث وجها لوجه مع الرضيع، والتحادث عبر العينين واليدين والأصابع. لغة الأم هي البيان الأول الذي يبيّن للطفل مشاعر حُبٍّ وحنان تُشْعِره بالأمان. جوهرُ بيان الأم هذا روحٌ ووجدان عصيٌّ على العقل أن يستوعبهما كليا، وعلى اللغة أن تعبّر عنهما كليا. هذه الخلطة هي ساق وجذور ‘شجرة اللوز المرّ’ على الصعيد الثقافي المعرفي الذي يمكننا فيما بعد أن نركّب ‘فواكه’ فكرية تعبيرية من حضارات أخرى، توسّع مداركنا دون أن تسلبنا مقوماتنا. يعي الفلاح أن التركيز على تحسين الأغصان وإهمال الجذور لا يلبث أن يؤدي لعطبٍ بالجذور يودي بحياة الشجرة. كذلك الحال بالنسبة للفكر والمعرفة: التركيز على ما ينتمي للأغصان كالأبجدية وإهمال الخلطة لا يلبث أن يُقَلِّص تعاملنا مع الحياة على صعيد الأغصان فقط مما يؤدي إلى خلخلة أسسها في الجذور. جدير بالذكر هنا أن الكلمات المؤسسية المهنية والتصنيفات الأكاديمية تنتمي للأغصان. كما جديرٌ بالذكر أيضا أن مظاهر النهضة ببلاد الشام (نهاية القرن التاسع عشر) كانت الشعر والأدب؛ أي شكّلت اللغة والثقافة ‘ساق وجذور’ تلك النهضة، ثم أضافوا ما لذّ لهم أن يضيفوه. غيّب احتلال الانكليز والفرنسيين (نهاية الحرب العالمية الأولى) ‘الساق والجذور’ وركّز على الأغصان: على ‘نهضة’ مبنية على كتب وكلمات مترجمة، حيث أصبح من الصعب التحدُّث عن أنفسنا خارج مصطلحات مهنية وتصنيفات أكاديمية إذ أصبحت عقولنا وتعابيرنا أسيرة لها وأصبحت CV مربط خيولنا. اختفت اللغة الحيّة، لغة البيان والتبيين حيث نقول ما نعنيه ونعني ما نقوله، وأصبحنا نسخا عن آخرين كقول الخديوي إسماعيل حاكم مصر (1879): ‘إن بلدي لم تعد في إفريقيا، نحن الآن أصبحنا جزءا من أوروبا’. بعد ذلك ب 17 سنة (1896)، كتب شاب مقدسي، خليل السكاكيني، كتابا بعنوان ‘الاحتذاء بحذاء الغير’ كوَصْفٍ لحالنا نتيجة ما جلبته الجاليات الغربية لبلادنا. ما زلنا نحتذي أحذية الغير؛ الفرق الوحيد أن الأحذية الحديثة أصبحت أكبر ونضعها على رؤوسنا.
#Munir_fasheh #منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة #العيش_بأمل #تعلم #التعلم_قدرة_عضوية #التعلم_خارج_المدرسة