الفرق بين شخص وآخر لا يكمن في التصنيف (مسيحي، مسلم، يهودي، كنفوشي، بوذي، متدين، علماني، تقدمي، رجعي، خبير، دكتور، أكاديمي، باحث…) بل فيما إذا كان الشخص مع ’جورج فلويد‘ المدعوس عليه أو مع الداعس على رقبته. المسيح الفلسطيني مع’جورج فلويد‘؛ المسيح الذي اختطفته روما من بين الناس وجعلته خادما للامبراطور (’المسيح‘ الأوروبي-الأمريكي) مع الداعس على رقبة ’جورج فلويد‘. كذلك الحال بالنسبة للمسلم أو الماركسي أو أي شخص آخر: هل هو مع المدعوس عليه أو مع الداعس. صرخة ’الله أكبر‘ دعاء المدعوس عليهم وملاذهم (أمثال ’جورج فلويد‘).
تعلُّم خارج تربة ثقافية وتربة أرضية هو كطَيْر بلا جناحين. التعلم الوحيد الذي لا يرتبط بالضرورة بهاتين التربتين هو اكتساب معلومات ومهارات آلية ومعارف تقنية؛ اكتسابٌ يبقى بين الأغصان بأفضل الأحوال. لا أعني بالتربة الثقافية كسلع لها سعر بسوق الاستهلاك، بل ما يُدْخِل البهجة بالفكر والقلب والروح والوجدان والعلاقات. هذا ما فعله السود بأمريكا على مدى مائتي سنة من العبودية؛ كان ملاذهم وسر بقائهم وحيويتهم، حيث كانوا عندما يجتمعوا (بالبيوت والشوارع والكنائس) يحتفلوا بعضُهم مع بعض، ويغنوا ويأكلوا ويضحكوا ويلعبوا مع أطفالهم. وجودهم مع بعض كان مصدر عافيتهم وقدرتهم على الاستمرار رغم الاضطهاد الشنيع الذي يعيشوه يوميا. وأعني بالتربة الأرضية ما يغذي عافية الجسم. تصوروا لو بدلا من زجّ أنوف الطلبة في مواعين الكتب المقررة (المسمّى بالتعليم عن بعد) تحولت الأشهر الخمسة الفائتة إلى مجاورات فنية أدبية ثقافية معرفية روحية وجدانية زراعية؛ لو حدث هذا على الصعيد العربي بثقافاته المتنوعة الحيّة لأضافَ أبعادا غيّبَتْها المستوطنات المعرفية (مدارس وجامعات تحكمها قيم الفوز والسيطرة)، ولكانت المنطقة اليوم تعجّ بحيوية وأمل ولانتعشت العقول والقلوب والعلاقات والروح والوجدان. ما يشار له ببعض المدارس بفن وثقافة هي عادة بمثابة مهارات ومواضيع وليس تربة. التربة الثقافية تنشأ في تفاعل الناس بعضهم مع بعض ومع الطبيعة والحضارة بكل تنوعها. ما يعيق هذا الأمر أننا عبر مئة سنة على الأقل كنا ببغاوات نعيد ما يأتينا ’معلّبا ‘بكتب مقررة وأكاديمية تَرَكَّز سعيُنا فيها أن نكون نسخا واهية عن أصلٍ مخرِّب. لماذا نسمح لآخرين أن يعرّفونا؟ أسوأ ما يمكن أن يحدث لشخص أن يقبل بأن يُعَرَّف من مهنيين ومؤسسات ومقاييس. بقاؤنا يتطلّب انتزاع أنفسنا من الميوعة المعرفية واستعادة مقوماتنا وما فيه وفرة. كل مجتمع بدون استثناء له مقوماته وما يحتاجه. أي إضافات بعد ذلك، فليكن. تصوروا لو ملايين احتضنوا التربتين كغذاء ضمن مجاورات مكونة من مريدين ومرادين! هذا ما بدأنا به ب52 مركز بمؤسسة جُهُد بالأردن قبل الجائحة على مدى سنة ونصف. الثقافة والطبيعة الشافية هما مقوماتنا الأساسية – والباقي إضافة ضروري أن نستعملها بحكمة.
هذه الخاطرة هي عن النساء الذين عملتُ معهنّ بمخيم ‘شعفاط’. أود هنا أن أذكر دور الأمل في حياتهن. سأحكي قصة ‘صندوق بندورا’ – بطريقتي الخاصة وعلاقتها بنساء شعفاط – وليس كما جاءت في الأسطورة. ظروف مخيم شعفاط لعله الأسوأ بين المخيمات الفلسطينية التي زرتها بلبنان وسورية والأردن والضفة الغربية وقطاع غزة. ما يجعلها الأسوأ تراكُمُ عدة أمور: كونُها داخل حدود القدس مما يجعل اقتحام الجيش لها بكثافة كبيرة؛ كما أن قربها من القدس يجعل دخول المخدرات لها سهلا؛ بعد تسليم منطقة ‘بيرنبالا’ والقرى حولها للسلطة الفلسطينية انتقل عدد كبير من هذه القرى إلى مخيم شعفاط للحفاظ على هوية القدس مما جعل عدد سكان المخيم إلى ضعفين أو أكثر بينما بقيت المساحة والخدمات كما هي؛ هذا إلى جانب نواحٍ أخرى كثيرة مثل “زوجٍ بالفراش” بسبب التعذيب أو ابن مستشهد وآخر معتقل… قدرة الأمهات على بقاء الأمل حيًّا والمحبة حية والعلاقات بينهن حية ضمن الظروف السائدة هي قدرة بمثابة أعجوبة بشرية. كنتُ أقول لهنّ دوما: أنتن أعجوبة الحياة، والعمود الفقري للشعب الفلسطيني؛ بدونكن سينكسر ظهر هذا الشعب. تَقُمْنَ بما هم ضروري كل يوم دون يوم راحة بالسنة بما لا يمكن لخمسة من حملة شهادات عالية (في التربية وعلم الاجتماع وعلم النفس والإدارة والمالية) القيام به. ذكرتُ لهن قصة صندوق بندورا على طريقتي الخاصة النابعة من حياتهنّ [يمكن أن نشير لها بأسطورة بندورا الفلسطينية] حيث كلٌّ منهن آخر النهار تسمح لكل شرور اليوم بالخروج من الصندوق، وعندما يهمّ الأمل بالخروج تغلق الصندوق، إذ يشكّل الرفيق الأهم في حياتها باليوم التالي.