رقم 10: قصة اختراع التعليم النظامي الجزء الثاني… خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

(10 آب/ أغسطس 2020)

تكلمت في الخاطرة السابقة عن جذور فكرة التعليم النظامي والشخصين اللذين صمماها. في هذه الخاطرة سأحكي عن انتقال هذا الفيروس إلى بلادنا… أرسلت الحكومة البريطانية ‘ثوماس ماكولي’ ليضع إستراتيجية حول كيف يمكن للانكليز حكم ملايين الهنود. قدَّمّ ‘ماكولي’ اقتراحه يوم 2 شباط/ فبراير 1835 والذي جاء فيه (أضعه بكلماته الأصلية):

“I have conversed both here and at home with men distinguished by their proficiency in the Eastern tongues. I am quite ready to take the Oriental learning at the valuation of the Orientalists themselves. I have never found one among them who could deny that a single shelf of a good European library was worth the whole native literature of India and Arabia. The intrinsic superiority of the Western literature is, indeed, fully admitted by those members of the Committee who support the Oriental plan of education [in India]… We must at present do our best to form a class who may be interpreters between us and the millions whom we govern; a class of persons, Indian in blood and colour, but English in taste, in opinions, in morals, and in intellect… We have to educate [them]…”. From Thomas Macaulay, “Minute of 2 February 1835 on Indian Education, by G. M. Young (Cambridge MA: Harvard University Press, 1957), pp-721-24.

باختصار، تشمل إستراتيجية ماكولي عدة مكونات: (1) إقناع الهنود بأنهم متخلفون (احتقار الذات) [في قوله مثلا ‘رفّ واحد بمكتبة أوروبية جيدة تفوق قيمتُه كل ما كُتِبَ من آداب باللغة الهندية والعربية’!]؛ (2) إقناعهم بأن المدنية الانكليزية طريق الخلاص (احتكار الحلّ)؛ (3) الانكليز على استعداد لمساعدة الهنود للسير على طريق أوروبا (شكّلت ‘المساعدة’ على مرّ السنين أداة أساسية للسيطرة الأوروبية على العالم)؛ (4) على الانكليز إنشاء طبقة وسطاء بينهم وبين الذين سيحكموهم؛ طبقة من أشخاص، هنود بدمهم ولونهم، لكن انكليز بأذواقهم وآرائهم وأخلاقهم وعقولهم – وذلك عبر التعليم! أي الأداة الرئيسية في إستراتيجيته لحُكْم الهند هي التعليم النظامي! استعمل الانكليز هذه الإستراتيجية في شتى البلدان التي احتلوها بما في ذلك بلادنا عبر أشخاص، عرب بدمهم ولونهم، لكن انكليز بأذواقهم وأفكارهم وأخلاقهم وعقولهم’، كنتُ أحدهم حتى حرب 1967، إذ ساهمتُ بقولبة عقول الطلبة الذين درّستهم بمدارس وجامعات، وقمت بذلك خاصة بمادة الرياضيات، بإخلاص ونيّةٍ حسنة، عبر خداعي وتخديري من خلال إستراتيجية احتقار-احتكار-مساعدة-خلق طبقة.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة #قصة_التعليم_النظامي

رقم 9: قصة اختراع التعليم النظامي الجزء الأول… خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

(9 آب/ أغسطس 2020)

ثلاثة أسابيع بعد موافقة ‘إيزابيلا’ ملكة اسبانيا (عام 1492) على دعم ‘كلمبس’ في رحلته للسيطرة على أراضٍ بعيدة، ذهب إليها ‘نبريها’ Antonia de Nebrija منبِّهاً أن من الصعب سيطرتها على أراضٍ بعيدة قبل السيطرة على عقول رعيتها. سألته: وكيف تقترح ذلك؟ أخبَرَها أن أخطر ما يحدث (في زمانه) هو أن الناس يقرؤون ما يحلو لهم من كتب ومن الضروري إيقافهم من المضيّ في هذا الطريق، وأضاف أنه عمل 25 سنة لتكوين لغة (خلطة من لغات حيّة متداولة باسبانيا) على الملكة أن تُدرّسها للأطفال بمملكتها، يتعلموها وفق كتابين ألّفهما (قاموس وقواعد) ويتمّ ذلك عبر أشخاصٍ يُوَظَّفون لذلك. رغم أن الفكرة لا تبدو غريبة لنا الآن إلا أنها لم تكن مقبولة لدى ‘إيزابيلا’ رغم شغفها بالسيطرة إذ رأت فيها احتقارا للناس وتخريبا للكلام فرفضت طلبه.

بعد 150 سنة (حوالي 1650)، صمّم ‘كومينيوس’ John Amos Comenius (من مورافيا، ‘التشيك’ حاليا) أداة لفرض فكرة شبيهة بفكرة نبريها والتي نطلق عليها الآن التعليم النظامي. لهذا يشار لكومينيوس ب‘أبو التعليم الحديث’. كانت الظروف مهيأة أكثر لتلقُّف ما طرحه كومينيوس وتمّ تطبيقه في فرنسا ثم إنكلترة والسويد. شملت هذه الظروف نشوء ‘دول قومية nation states’ وفكرة مواطنين ضروري أن يطيعوا تعليمات السلطة بباريس. وجدت هذه الدول في فكرة كومينيوس مبتغاها. تجمّعت ثورة صناعية وإنشاء دولة قومية وبدء تراكم رأس المال مما تطلّب إيجاد أداة للسيطرة على عقول الناس وإدراكهم وسلوكهم وعلاقاتهم. بعد السيطرة على عقول شعوب أوروبا انتقلت إلى مناطق أخرى كمنطقتنا بعد حوالي 200 سنة. لعل احتلال لغة رسمية مصنعة محل لغات حيّة أنجح فكرة عبر التاريخ وأكثرها تخريبا للحياة على صعيد الجذور؛ هي بمثابة ‘حصان طروادة’ على صعيد الفكر إذ نجحت في هزيمة الشعوب من الداخل، بدءا بالشعوب الأوروبية، ثم انتقلت عبر جاليات واستعمار إلى شتى أنحاء العالم. غزو لغة مصنعة محل لغات حية يمثّل جذور التخريب الذي نشهده في مجالات شتى في الحياة؛ احتلالٌ حوّل المعرفة والإنسان إلى سلعٍ يحدِّد السوق قيمتهما. احتلال شعب لآخر ليس جديدا، واحتلال لغة أجنبية محل لغة محلية ليس جديدا. ما هو جديد بفكرة ‘نبريها’ وفكرة ‘كومينيوس’ واللتين تَمَثَّلَتا عندنا باحتلال لغة تستعمل حروفا عربية لكن معانيها ومرجعيتها مستمدة من القبيلة الأورو-أمريكية محل لغة تنبع معانيها من الحياة والحضارة والتحادث والتأمل والاجتهاد. يُمكن تلخيص هذا باحتلال ‘اللغة الأم’ محل ‘لغة الأم’. عندما زرت اسبانيا قبل 15 سنة، سألت عما إذا ‘نبريها’ معروف حاليا. دُهِشْتُ عندما قالوا أن له اعتبار كبير جدا باسبانيا. اللغات الحيّة التي استقى منها اللغة المصنّعة. من هذا المنطلق، وضعُنا أفضل، إذ لغاتُهُم الحية اندثرت، بينما بالنسبة لنا رغم تخريبهم للغة الحيّة عبر لغة المؤسسات والكتب المقررة، إلا أن بإمكاننا العودة إلى كتب ومصادر (كالقرآن وكتب حية أخرى كأدب وحكمة) نرى عبرها العالم خارج الفكر المؤسسي، مثل ما فعلتُ بالنسبة لقيمة المرء: فقيمة المرء ما يحسنه وليس رقما لا معنى له.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة

رقم 8: لغتان لا واحدة 3… خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

(8 آب/ أغسطس 2020)

لغتان لا واحدة الجزء الثالث

لفهم احتلال اللغة الأم محل لغة الأم (قبل 4 قرون) [سأحكي بخاطرة قادمة تارخ نشوئه] يمكننا النظر لما حدث للمأكولات منذ 100 عام حين بدأ احتلال مأكولات مصنعة تحتاج لشركات ومهنيين وخبراء محل مأكولات لا تحتاج لأيٍّ من هذه الأمور، وتولّد ذاتها وتستمد قيمتها الغذائية من تربة حية سليمة. أسهل أن نفهم ما حدث على صعيد الأكل، غذاء الجسم، مما حدث على صعيد اللغة، غذاء العقل. يعي أغلب الناس حاليا التخريب على صعيد مأكولات مزيفة مليئة بما هو ضار تحتل محل مأكولات تنمو ضمن تربة سليمة مليئة بما هو مغذي للجسم. لكن تخريب العقول (الذي هو أقدم بكثير) قلائل هم الذين يعونه ويحسون به. احتلال لغة مصنّعة محل لغات حية تنمو ضمن تربة مجتمعية ثقافية غنية متنوعة يمثّل الفيروس الأعمق والأكثر تخريبا للحياة. بعبارة أخرى، وعي التخريب نتيجة مأكولات مصنعة لا يوازيه وعيُ التخريب نتيجة لغات مصنعة. دور قلب الأم في تغذية التربة المجتمعية-العاطفية-الثقافية لنمو الطفل دورٌ هائل. دور دودة الأرض (ذات الخمسة قلوب) في تغذية التربة الأرضية دورٌ هائل. حماية التربتين مسؤولية لعلها الأهم. المدنية المهيمنة تسعى بكل قوتها لتخريب التربتين.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة

رقم 7: لغتان لا واحدة 2… خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

(7 آب/ أغسطس 2020)

لغتان لا واحدة الجزء الثاني

كما ذكرتُ في الخاطرة السابقة، عشتُ لغتين: لغة لا تحتاج إلى تدريس، نتعلمها كأطفال كقدرة عضوية، لغة الحياة والتحادث والأهل والحي، كما نتعلمها عبر كتبٍ هي بيان يبيّن ما يختلج وينضج بالعقول والصدور وتشمل حكايات وأدب. أما اللغة الأخرى التي عشتها فتحتاج إلى تدريس وسيطرة وخداع وإلهاء وتقييم، لا تكوّن صورا بالذهن ولا فَهْمًا بالفكر، لغة الكتب المقررة أكبر مثال لها. بعبارة أخرى، عشت لغة مؤسسية ولغة حيّة؛ لغة مؤذية مشوّهة ملهية ترتبط بسلطة وسيطرة وفوز ومراكز قوة، ولغة مغذية للعقل والقلب والروح والعلاقات وترتبط بالعيش بحكمة وعافية. اللغة الأولى تنتمي للأغصان بينما الثانية للجذور. أمثلة أخرى: التعليم ينتمي للأغصان، التعلم ينتمي للجذور؛ مواطنون للأغصان، أهالي للجذور؛ العلوم للأغصان، الحكمة للجذور؛ المحاورة للأغصان، المجاورة للجذور؛ بحث كرديف research للأغصان، بحث كرديف search للجذور؛ منهجية ودراسات للأغصان، تأمل واجتهاد للجذور؛ اللغة الأم للأغصان، لغة الأم للجذور؛ الملاهي للأغصان، اللعب للجذور. لا يعني أن يقبل القارئ ما أقوله هنا بل عليه أن يتفكر ويتأمل بحياته ويكوّن إدراكه وفق ذلك.

عشت العقود الثلاثة الأولى من حياتي دون أن أنتبه أني أعيش لغتين. بدأ تحرري من ذلك الوهم نتيجة حرب 1967. عام 1971 بدأ تحرري من اللغة المصنعة وعودتي للغة النابعة من الحياة والتأمل والاجتهاد؛ عودة كان أول مظهر لانتزاعي من الاحتلال المعرفي عبر تكويني مع بعض الأصدقاء حركة العمل التطوعي بالضفة الغربية التي استمرت على مدى عشر سنوات، استعدتُ عبرها دور الأرجل والأيدي والأصابع في التعلم والتعرف على مجتمعات ذات جذور بالحياة، حيث كنا كل يوم جمعة وأحد نمشي إلى قرية أو مخيم أو حي في مدينة ونعمل مع الأهالي.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة

رقم 6: لغتان لا واحدة ,1 ’لغة الأم‘ و’اللغة الأم‘… خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

٦ لغتان لا لغة واحدة ١ خواطر الطبيعة الشافية

(6 آب/ أغسطس 2020)

لغتان لا واحدة  الجزء الأول

 ’لغة الأم‘ و’اللغة الأم‘… أخطر احتلال والأكثر خُبْثًا وخفاءً، وهو الأقدم زمانًا، هو احتلال ’اللغة الأم‘ محل ’لغة الأم‘. تتمثّل ’اللغة الأم‘ بلغة الكتب المقررة والكلمات المؤسسية والمصطلحات المهنية والتصنيفات الأكاديمية؛ لغة المؤتمرات والمنظمات الدولية، ولغة الدولة القومية. بالمقابل ’لغة الأم‘ هي اللغة الحية الأولى التي يتعلمها الطفل، ولغة التحادث والشعر والحكايات والأدب والقرآن الكريم. اللغتان، رغم تشابُه الحروف، تمثلان عالمين مختلفين جذريا. حصل هذا الاحتلال قبل حوالي 400 سنة نتيجة تصميم وتخطيط وتنفيذ [سأحكي بخاطرة قادمة تارخ نشوئه]، وكوّن أهم ركن بالدول القومية الناشئة بأوروبا (فرنسا وانكلتره والسويد ثم دول أوروبية أخرى، ثم انتقل إلى بلداننا عبر جاليات واستعمار). مزّق هذا الاحتلال النسيج الثقافي الفكري الاجتماعي الغني المتعدد وأصبحنا نَتَعاطَ مع ’لغة بلاستيكية‘ مخدِّرة: اللغة الأم، التي توحي بإيجابية لكنها بالجذور كانت وما زالت فيروسا رئيسيا في غزو العقول والسيطرة عليها واستلاب مناعتها؛ فيروس بمثابة حصان طروادة يهزمنا من الداخل. لو بقيت ضمن حدودها (بمعنى أنها بقيت ترتبط بنواح مثل أجهزة ولم تقتحم الحياة الحية) لا ضيم في ذلك، لكنها اقتحمت الحياة وغيَّبت اللغات الحيّة. لم يستعمل العرب عبر تاريخهم تعبير ’اللغة الأم‘ قبل غزو الغرب لنا. أقرب تعبير استعملوه هو أمهات الكتب. ‘اللغة الأم’ لغة حروفها عربية لكن معانيها ومرجعيتها مؤسسات وأكاديميو وخبراء القبيلة الأورو-أمريكية. [أستعمل ’قبيلة‘ لحماية الأجيال الصغيرة والمستقبلية من خرافة أن معارف وعلوم القبيلة المهيمنة أحادية عالمية.] اللغة العربية الحيّة – البيان والتبيين – مغيّبة كليا من الكتب المقررة والأكاديمية. أمثلة لكلمات شائعة تستعملها ’اللغة الأم‘: نجاح رسوب تقدُّم تخلُّف ذكاء تنمية منافسة تميُّز تفوُّق إبداع ‘مجتمعات معرفة’ ’هجرة عقول‘ ’عصف ذهني‘ ’تغذية راجعة‘ ’تنمية مستدامة‘ ’تعليم نظامي‘ ’تعليم عالي‘ ’تمكين المرأة‘ ’تعليم الكبار‘ – جميعها نما ضمن عالم الاستهلاك الذي تحكمه لغة الدعاية وقيم السيطرة والفوز. تشمل الكلمات الحيّة: محبة كرامة ضيافة تقوى أمل حكمة إيمان احترام مثنى عافية مجاورة. حتى تعرف شخصيا الفرق بين اللغتين، حاول أن تكتب صفحة عن حياتك دون استعمال أي كلمة مؤسسية/ مصطلح  مهني/ تصنيف أكاديمي. صعب جدا. ستجد كم نحن بعيدين عن أنفسنا ومعرفة ذاتنا وعن لغات حية تستمد معانيها من الحياة.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة

رقم 5: التعلم في الجذور، مشاهدة وملاحظة حركة القمر مدة شهر كمثال… خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

(5 آب/ أغسطس 2020)

من أهم الأقوال التي قرأتها، قولٌ للرومي: “لربما أنك تبحث بين الأغصان عما لا يظهر إلا في الجذور”. ضروري أن نسأل دوما فيما إذا ما نقوله ونفكر فيه ونفعله ينتمي للأغصان أم للجذور. فيما يلي سأذكر مثالا يعكس التعلم في الجذور، جامعا أبعاد عدة تنظر إلى الحياة ليس كمواد دراسية مشرذمة ولا معلومات ومهارات ونظريات جاهزة بل تنطلق من مفهوم العلم في عز روحه. مثال يمكن استعماله أينما كنا، ومناسب لشتى الأعمار، وكان بالإمكان استعماله وقت الحجر، على الأقل كإضافة للتدريس عبر شاشات، كما يمكن استعماله خلال العطلة الحالية، ألا وهو مشاهدة كل شخص حركة القمر مدة شهر ويكتب ملاحظاته عنها؛ ومن ثم يتحادثوا عبر مجاورات فيما بينهم حول ملاحظاتهم. سيعيشون بهذه الطريقة عدة أبعاد جوهرية في الحياة والمعرفة: معنى علم وتعلُّم في الجذور؛ وأن خطوة أساسية في التعلم هي المشاهدة والملاحظة كنقطة بداية وليس نظريات ومفاهيم؛ وأن العلوم والمعارف تنطلق من العلاقة مع الطبيعة كأساس ومرجع ومعيار؛ وأن التدريس والتقييم والمنافسة والبيداغوجيا معيقة في هذه المرحلة، وتأتي لاحقا عند الحاجة لها؛ وأن وجودهم وتفاعلهم وتحادثهم وتبادلهم ما لاحظوه هو وعي أن التعلم على الصعيد الشخصي لا يكتمل إلا إذا كان في نفس الوقت تعلما على الصعيد الجمعي؛ وأن تكوين معنى ومعرفة وفَهْم يتطلب صبرا وتأملا واجتهادا وجهدا؛ وأن التعلم هو كالتنفس والهضم يحدث داخل الشخص؛ وأن العلم بالأساس هو التعرف على الطبيعة للعيش وفقها لا لقهرها وإخضاعها وخلخلة أسسها (كتعريف ’فرانسيس بيكن‘ له). في نفس الوقت، يشكل القمر بُعْدًا مركزيا في العالم الإسلامي، فهو أساس التقويم وعلاقته بالأعياد جوهرية. فملاحظة حركة القمر وتسجيل تفاصيل الحركة (مثل وقت ومكان البروز…) وشكله وحجمه… كذلك، يعيش الطلبة أهمية المجاورة في التعلم وتكوين معرفة، والتحرر من تراتبية، ومن الشعور بفوقية ودونية، ومن منافسة دنيئة. الخلل في التعليم لا يكمن في التلقين بل أعمق من ذلك بكثير: استعمال اللغة الأم المصنعة كوسيط، وتغييب التعلم كقدرة عضوية  والتعامل معه كأنه ينتج عن التعليم النظامي.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة

رقم 3: حشو الأدمغة والعقول … خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

(3 آب/ أغسطس 2020)

رفع حكيمٌ نايًا أمام جمْعٍ من الناس ببغداد قبل ألف سنة وحشاه بقِطَع قماش وحاول العزف. لم يخرج صوت أو خرج مشوشا. أخرَجَ قطع القماش وعزف، خرجت أنغام جميلة. قال: هذا ما يحدث للعقل عندما نحشوه بمعلومات ومعارف كثيرة، يفقد قدرته على تكوين معنى وفهم. إلى جانب هذا، يتناقض الحشو مع حقيقة أن الحياة أخذ وعطاء. العطاء المسموح به في المؤسسات التعليمية هو الأجوبة في الامتحانات وهو عطاء ليس من الذات بل عطاء مثل عطاء الببغاء، يعيد ما يسمعه. في التعليم نعيد ما نسمعه أو نقرأه. المناهج حول العالم حشوٌ يمنع الفهم، كما يمنع العطاء بمعنى بيان يبيّن ما بداخل الشخص. علينا تشجيع الطلبة أن يبدؤوا بقصصهم وخبراتهم والمعاني التي كونوها من خلال تأملاتهم والفهم الذي تبلور لديهم. حشو الأدمغة بحجة أن هناك كمًّا هائلا من المعارف على الطلبة معرفتها، تشبه الحجة أن هناك كمّا هائلا من الأطعمة الجاهزة علينا حشو أمعدة الأطفال بها! حشو العقل يؤدي إلى تخمة يفقد معها الطفل القدرة على الفهم وتكوين معنى، هذا إلى جانب أن معظم المأكولات الجاهزة والمعارف الجاهزة ليست مغذية.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة

رقم 𝟭: ’التعليم عن بعد ‘ و’التعلم عن بعد ‘… خواطر مستلهمة من الطبيعة الشافية

الخاطرة رقم 1 (1 آب/ أغسطس) 2020 – ’التعليم عن بعد‘ و’التعلم عن بعد‘

ما أود الحديث عنه بهذه الخاطرة (و خواطر أولى أخرى) أمور ذات علاقة بكورونا – بما أننا نعيش في وسط الجائحة. سأبدأ بظاهرة التعلم عن بعد/ التعليم عن بعد (واللذين سأكتب عنهما بتفصيل أكثر بخواطر قادمة). لكن قبل التكلم عن التعليم، أود أن أحكي قصتي مع الدجاج “المعاصر”. عام 1978 كنتُ أعمل بجامعة بيرزيت. بدأ البعض يتحدث بانبهار عن مزرعة دجاج حديثة على الطريق بين بيرزيت ورام الله. ذهبت مع أصدقاء لنتفرج ونشتري بيض. ما شاهدته كان مثيرا: صفوف من المواعين، حول كل منها حوالي 10 دجاجات جنبا لجنب لا يستطعن الحركة، رؤوسهم داخل الماعون يأكلون ما فيه من علفٍ جاهز ‘مقرّر’ ومصنّع – نفس العلف للجميع. كان هناك مراقب يملأ المواعين حين تفرغ، كما أشار إلى أضواء بالسقف حتى تستمر الدجاجات بالأكل في الليل، ثم أكمل: إذا توقفت دجاجة يومين أو ثلاثة عن إنتاج بيض، تُأْخَذ خارجا وتلقى مصيرها. كنت وقتها منشغل جدا بإعادة النظر بالتعليم وأرى فيه مصائب كثيرة، والتي بدأتُ أعيها بعد حرب 1967. لذا كان إدراكي جاهزا لملاحظة وجه الشبه بين المزرعة والتعليم النظامي. أول ما خطر ببالي أن هذه المزارع الحديثة سرقت فكرتها من التعليم النظامي! ما رأيته بالنسبة للدجاج هو بالضبط ما نفعله للطلبة: الماعون هو الدرج؛ العلف هو الكتب المقررة؛ عدم إنتاج بيض هو رسوب بامتحان؛ المراقب هو المدرّس؛ وَضْع الدجاجات رؤوسها بالماعون كوضع الطلبة رؤوسهم بالكتب المقررة (أو شاشات كما ’التعليم عن بعد‘)؛ الإضاءة لمساعدة الدجاج يأكل علف كالإضاءة للطلبة لعمل فروض مدرسية! ’صفوف‘ المزرعة تشبه صفوف المدرسة إذ لا يتحرك الطلبة سوى ساعات يوميا على مدى 12 سنة حيث يبلعوا نفس الكلمات “ويبيضون” نفس الإجابات. إذا تخلف طالب عن إنتاج جواب يعاقَب.

تذكَّرْتُ هذه القصة لأني أشعر بقلق كبير نتيجة ’الهيصة والزنبليطا‘ التي قامت في العالم حول ’التعليم والتعلم عن بعد‘. تَغَيَّر العالم جذريا بشكل متسارع في الجذور خلال الخمسة أشهر الفائتة، ما عدا في المدارس والجامعات الصامدة كالصخر لا علاقة لها بما يحدث حول العالم ساجدةً أمام معبد المنهاج تلبي طلباته! نسمع باستمرار ضرورة إحداث تغيير بالتعليم النظامي وعندما لاحت فرصة (وهي فرصة حقيقة ونادرة لإعادة النظر بالتعليم) اختار المسئولون أن يبقي الطلبة أنوفهم في مواعين الكتب المقررة وسوط العلامات فوق رؤوسهم. يشبه هذا عائلة موجودة في بيت يحترق ويتكلمون عما يطبخوه تلك الليلة! إن دلّ هذا على شيء فإنما يدلّ على جفاف بالعقول وضحالة بالفكر وتخدير بالإدراك. [سأذكر في خواطر قادمة ما كان وما زال يمكن أن نفعله التي هيأتها هذه الفرصة النادرة.] ما يحدث فرصة نادرة لانتزاع أنفسنا من الميوعة الذهنية وعنجهية مدارس وجامعات النخبة ونستعيد مقوماتنا الذاتية، والعافية والحكمة في حياتنا والعيش وفق الطبيعة الشافية كبوصلة، كما نستعيد التعلم كقدرة عضوية والفهم كأهم مكوِّن للتعلم. نحتاج إلى جرأة في الذهن ووضوح في الرؤية، وإلى أمل  وصبر وإيمان وتكافل وروح ضيافة وعطاء للخروج من حالة التخدير السائدة.

#منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة

مجاورة أريحا

عمّقت فيّ القناعة بأن كل مجاورة لها شخصيتها. روح الضيافة – على شتى الأصعدة – كانت صارخة فيها، بدءا باستضافة سميرة وسعد لنا، واستضافة كل منا للآخرين: لأفكارهم وأقوالهم وما يَبانُ بحركاتهم وابتساماتهم وعيونهم. كل شخص مُرَحَّب به بعقول وقلوب الآخرين. كل شخص كان بمثابة هدية للآخرين. حتى الأشخاص الذين جمعت فيحاء قصصهم كانوا موجودين.

ما يجمع الناس هو جَدْل وليس جَدَل؛ جَدْل نسيج على أصعدة شتى. الجَدَل في كثير من الأحيان يفرّق، وإذا جَمَع فإنه يجدل عادة على صعيد الفكر. وهو جيد ومُغْنِي كإضافة لا كأساس. لعل أهم مكون بأي علاقة هو الاحترام والذي كان متوفرا بقوة وغزارة.

وكالعادة، أفضل بوتقة للمجاورة هي الطبيعة بكل مكوناتها. شكرا لكم جميعا، ولسيرين وسميرة وسعد بشكل خاص.

تأمل واجتهاد حول تجربتنا مع النساء في حيّ النزهة

منير فاشة مع النساء في حيّ النزهة

قصة رواها لي “أسعد عكة” مدرّس الأحياء بكلية بيرزيت عام 1962 (حيث كنت أدرّس الفيزياء) كيف أن الصَدَفَة التي تبقى في مياه راكدة لا يتكون فيها لؤلؤ، بينما الصَدفة التي تصطدم بهذه الصخرة وتلك وتدفعها المياه في شتى الاتجاهات يتكون فيها لؤلؤ. قلت: كم ينطبق هذا على البشر، فالشخص الذي يبقى محميا من الحياة لا يمر بمعاناة وظروف حقيقية بل نشاطات مصنّعة ومبرمجة تُشْرِف عليها مؤسسات ومهنيون، لا يتكوّن ‘لؤلؤ’ بداخله. يستطيع أن يحصل على لآلئ يضعها حول عنقه أو إلى جانب اسمه (مثل دكتوراه) لكن لا تتكون داخله لؤلؤة تتمثل بتكوين معنى وبحكمة وفَهْم ونضج وصقل وتهذيب لنواحي .حياته

لم تعش النساء في حي النزهة حياةً راكدة بل عاشت كلٌّ منهن حياةً صاخبة في خضمّ الحياة

مما يعني أن في داخل كلٍّ منهن لؤلؤة جاهزة للصقل والبيان. عَمِلْنا (‘ميس عوده’ وأنا) مع نساء مركز النزهة قرابة السنة ضمن ‘مشروع المجاورة على طريق الحكمة’. كانت المجاورة عبارة عن لقاءات أسبوعية لمدة ساعتين. عَمَلُنا معهنّ مبنيٌّ على قيام كلٍّ منهن بصقل اللؤلؤة الكامنة فيها. أي، المشروع ليس مبنيا على تلبية وتأمين احتياجات (كما في المنطق السائد) بل البناء على ما هو متوفر لديهن وحولهن من مواطن قوة ومقومات كأساس، ننطلق منها لنعالج احتياجات؛ هذا هو طريق الحكمة. ما فعلناه يختلف جذريا عما يشار له بِوِرَش عمل وبرامج تدريب وتوعية وتمكين ومواد جاهزة وتقييم عمودي؛ كما يختلف عما هو سائد بالنسبة لكتابة تقارير إذ نركّز بالمشروع  على الانطلاق من خبرات والتأمل فيها والاجتهاد بتكوين معنى وفَهْم لها ومشاركة ذلك مع من لهم علاقة بالمركز ومع مراكز جُهُد (وآخرين) عبر ‘قواميس’ وفيديوهات، بهدف جَدْل أنسجة على الصعيد المعرفي الاجتماعي الروحي. يتمّ تكوين معانٍ عبر قصص وحكايات. الشراكة في تكوين معنى (دون استعمال مصطلحات مؤسسية مهنية وتصنيفات أكاديمية) تشكّل قدرة بيولوجية وواجب وحق لدى كل إنسان. هذه الشراكة أحد رُكْنَي المشروع وتشكّل مناعة ضرورية لحماية العقل والفكر مما يمكن أن يؤذيهما. أما الرُكْن الثاني بالمشروع فهو المجاورة كوسيط أساسي للتعلم وكاللبنة الأساسية بِبُنْيَة المجتمع، وتشكّل مناعة أساسية للشخص والمجتمع ضد ما يمكن أن يضر بهما. لا نحتاج في المشروع لنظريات وكلمات مثل تميُّز وتفوق وإبداع وإنجاز وابتكار وجودة (والمرتبطة جميعا بنمط الاستهلاك)، بل نعمل وِفْقَ عبارة الإمام علي: ‘قيمة كل امرئ ما يحسنه’ بشتى معاني يحسن بالعربية: الإتقان والعطاء والجمال والنفع والاحترام.

من أبرز وأخطر ما تفعله المدنية الحديثة المهيمنة هو تدمير قدرتنا على عيش إنسانيتنا خارج إملاءات السوق وعالم الاستهلاك ورأس المال والتفكير المهني الأكاديمي؛ إذ يتم تدمير الإنسانية التي لا يمكن التعبير عنها وفق هذه الإملاءات. ركّزنا في عملنا على انتباه كلٍّ من النساء للعالم الداخلي فيهن والعالم من حولهن، وللعلاقة الحية بين العالمين. فعلنا ما يفعله الفلاح مع حبوب القمح: نَذُرُّ حكاياتنا كما يذرّ الزارعُ القمحَ: ينقّيه في الريح، يأَخْذُها بأطراف أصابعه وينثرهافيالأَرْضِلِتَنْبُتَ. هذا ما فعلته النساء في اللقاءات حيث ذَرّوا حكاياتهن النابعة من أعماق قلوبهن عبر أطراف ألسنتهن، وبَذَروها في الحياة لتنبت؛ نثروها فأنبتت خيرا عليهم وعلينا. نبّهني العمل مع النساء ووضّح وعمّق لدي معاني وأبعاد ونواحي للمجاورة كنت أعيها لكن لم تدخل في أعماقي كما دخلت نتيجة العمل معهن. مثلا، لم نحتاج طوال العمل معهنّ لكلمات مترجمة أو كلمات لا تنبع معانيها من حياتهن. أمرٌ آخر توضّح لي أن المجاورات حتى “تغوص” في أعماق الحياة، وتتبلور عملية نضج، فإنها تحتاج إلى فترة طويلة. كانت السنة التي قضيناها معا عاملا هاما في صقل كل امرأة للؤلؤة بداخلها، والذي احتاج إلى وقت وتأمل واجتهاد لتصبح جزءا حيا من تعبيرها ونمط حياتها. أمرٌ ثالث تعمّقَ لدي هو أهمية أن تكون العلاقة تبادلية حيث الكل يعطي ويأخذ، يغذي ويتغذى. لم تكن هناك مواد جاهزة، بل كانت المادة التي تعاملنا معها تتمثل بحياتهن وحكاياتهن عنها عبر كلمات تستمد معانيها من الحياة. كان التركيز كاملا على استخراج ما بدواخلهن. أمرٌ رابع تعمّق هو أن التعلم خلطة ضمن سياق حقيقي ويرتبط عادة بفِعْل. إذ إنْ لم يكن هكذا، يكون عبارة عن معلومات ومهارات آلية ومعارف تقنية متفرقة لا تتطلب بالضرورة فهما وربطا بين ظواهر ومكونات بل التعامل معها كسلع. يتمثل الأمر الخامس بجدل نسيج مع الذات ومع آخرين عبر المجاورة والذي يشكل جزءا هاما من المناعة لدى الشخص والمجموعة. ويكمن الأمر السادس بأهمية تحلّي القائمات على المركز (سواء رسميا أو تطوُّعا) بعطاء وحبّ وروحٍ رحبة (والتي كانت متوفرة بقوة لدى السيدة نجوى مديرة المركز ولدى السيدة سميرة وغيرهما عبر سنين طويلة، مما مهّد الجو الملائم للمجاورة). أما الأمر السابع فكان وعيي لأول مرة عبر إصغائي لقصصهن بأن ما قُلْنَهُ هو أدب؛ هو أدب وفق ما كتبه شيخ الأدباء ‘الجاحظ’ قبل 1200 سنة ولخّصه ب‘البيان والتبيين’، عبر ثلاثة أقوال:

(1) اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن كما نعوذ بك من العُجب بما نحسن ونعوذ بك من السلاطة والهذر كما نعوذ بك من العي والحصر. (2) بيانٌ لدى الشخص يبيّن المعاني القائمة في صدره والمتكونة في فكره. ما يُحْيي تلك المعاني، ذكرُهُ واستعمالُه لها مما يقرّبها من الفهم ويجلّيها للعقل ويجعل الخفي منها ظاهرا. وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة وحسن الاختصار ودقة المدخل يكون إظهار المعنى. وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح وكانت الإشارة أبين وأنور كان أنفع وأنجع. والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان؛ اسمٌ جامعٌ لكل شيء كشف قناع المعنى. فبأي شيء بلغتَ الإفهام وأوضحتَ عن المعنى، فذلك هو البيان. من هنا، المعاني ليس لها حدود، بينما الألفاظ معدودة محدودة. (3) قولٌ نقله الجاحظ عن أعرابي: ما يخرج من القلب يصل إلى القلب، وما يخرج من اللسان يصل الآذان. [جديرٌ بالذكر أن من الصعب إيجاد كلمة في الكتب المقررة خارجة من القلب مما يُبْقي القلب معطلا مدى 12 سنة والذي يفسّر وجود أمراض نفسية عاطفية اجتماعية في الحياة المعاصرة.]

ذُهِلْتُ عندما لاحظتُ مدى توافق حكايات النساء بمركز النزهة مع أقوال الجاحظ، مما جعلني أُطْلِق عليهن صفة أديبات. فبيانُهُنّ بيّنَ معاني قائمة في صدورهنّ ومتكونة في أفكارهن؛ خرجت من القلب ووصلت قلوب السامعين. لم تحتوِ أقوالهن وأعمالهن على فتنة ولم يكن فيها زيفٌ ولا تكلّف ولا إعجاب ولا سلاطة وهذر ولا عيّ وحصر. ما أحيى تلك المعاني ذكرُهُن لها مما قرّبها من الفهم وجلّاها للعقل وجعل الخفي منها ظاهرا. ظهرت معانيهن بوضوح الدلالة وحسن الاختصار ودقة المدخل. كانت دلالاتهن الظاهرة على المعنى الخفي هو بيانهن الذي كشف قناع المعنى. فرغم أن ألفاظهن كانت معدودة محدودة، إلا أن معانيهن ليست لها حدود. لذا أقول: وِفْقَ أقوال الجاحظ، هُنَّ أديبات. فالأدب مرتبط بصقلٍ وتهذيب مستمرَّيْن للتعبير والمعنى وجَدْل أنسجة على صعيد الفكر والوجدان والروح والمجتمع. حكاياتهن في القاموس يجسّد معنى وروح ما كتبه الجاحظ: بيان وتبيين يتوافق مع الرؤيا التي نسير وفقها في مشروع المجاورة. جذر كلمة قاموس هو ‘قَمَسَ’ التي أحد معانيها: قَمَسَ الشخصُ في الماء إذا غاص فيه ثم ظهر،انغطَّ ثم ارتفع. القاموس هوأبعدموضعبأعماق البحر يغوص نحوها المرء ثم يظهر. نستطيع وصف ما نفعله في القواميس التي نسعى لتوليفها بالمشروع: غوصٌ في محيط الحياة، في أبعدأعماقها، عبر تأمُّلٍ فيما نمر به من خبرات حيث نخترق السطح ونغوص نحو الجذور، ونجتهد، ومن ثم نَظْهَر بمعانٍ وفهم. هذه القواميس مبنية على القناعة بأن كل إنسان مصدر معنى وفهم، قدرة بيولوجية لا تحتاج لَوِرَش وتدريب؛ وهي حق (مغيب من الإعلانات العالمية للحقوق)، وهي واجبٌ على كل إنسان، ففيها تتجسّد المساواة والكرامة والتعددية وديمقراطية المعنى (أعمق أنواع الديمقراطية). تُمَثِّل الشراكة في تكوين معنى مناعة تحمينا على صعيد التعلم والفكر، وتمثل المجاورة مناعة تحمينا على صعيد المجتمع. الشراكة تمثل ديمقراطية المعنى، والمجاورة تمثل ديمقراطية جدل نسيج مجتمعي. ضمن هذين النوعين، نضمن العيش بحكمة وعافية.

قلت لهنّ محمود درويش أديب، وهنّ أديبات. نوعان من الأدب لا يمكن مقارنتهما إذ ينتميان لعالمين مختلفين. تماما كما وعيتُ عام 1976 أن ما كانت تفعله والدتي الأمية عبر خياطة ملابس للنساء هو رياضيات لا يمكن التعبير عنها بمفاهيم ونظريات الرياضيات المؤسسية. ملاحظة وجه الشبه بين الأدب والرياضيات قدرة رياضية مغيبة. مصدر قيمة أدب النساء يختلف عن مصدر قيمة أدب درويش، تماما كما مصدر قيمة رياضيات والدتي يختلف عن مصدر قيمة رياضياتي.

إلى جانب أنهن يجسّدن أدبًا، فهُنَّ أيضا يجسّدن إنسانية تختلف جذريا عن الإنسانية التي تتماشى مع متطلبات وإملاءات نمط الاستهلاك في العيش والتي تتعامل مع البشر والمعارف والفنون والأدب كسلع. أدبهن أدبٌ إنساني لا علاقة له بمتطلبات السوق. أعود لأؤكد أن أخطر ما يحدث بالعالم المعاصر هو تدمير قدرتنا لعَيْشِ إنسانيتنا خارج إملاءات ومتطلبات الاقتصاد ورأس المال. الإنسانية التي تتماشى مع إملاءات السوق تخريبٌ للطبيعة والبشر. إنسانية النساء تجسدت بأمور كالكرامة والاحترام وروح الضيافة والأمل والتعاطف والعناية والرعاية وليس بحقائق مجردة تقنية مبهرة بالمظهر ومؤذية بالجوهر.

أنجع أداة في تدمير الإنسانية مقاييس تقيس ما لا يمكن قياسه، بهدف السيطرة؛ مما جعلني أفكر بأهمية أن تشمل المجاورات في المستقبل تحادث المتجاورين حول خبرات عاشوها جسّدت إنسانية حيّة حيوية متوافقة مع الحكمة والعافية، وخبرات شعروا أنها دمّرت قدرتهم على عيش إنسانية خارج إملاءات ومتطلبات إنسانية سلبية سائدة تسلبنا إنسانيتنا الحية. تحدٍّ جوهري نواجهه في منطقتنا هو قلب هذه الظاهرة بحيث ننتزع أنفسنا من الإنسانية السلبية التي اكتسبناها منذ مائة سنة على الأقل، ونستعيد الإنسانية المغذية المرتبطة بالعافية. هناك عاملان لاستعادة إنسانيةٍ حيّة: التأمل وتكوين معنى؛ والعيش ضمن مجاورات.

في القواميس التي تصدر عن مشروع المجاورة، نركّز على خبرات وحكايات كبيانٍ للمعاني. في عالمٍ يركّز على أهمية القراءة والكتابة وتواصل تكنولوجي، ويهمل التحادث، نخسر أعمق فن بحياة البشر: التحادث وجها لوجه. كلمة “حديث” بالعربية تجمع في معناها بين التفاعل الشفهي وما هو جديد، وبالتالي تمثل إبداعا تلقائيا مستمرا. التحادث جوهر وروح المجاورات، وأحلى وسيط للحكاية وأعمق بيان لتبادل المعرفة؛ فيه جمالية وحيوية وتلقائية وجدل أنسجة؛ علاقة وجدانية لا تهدف إلى إقناع الآخرين ولا التأثير والحكم عليهم ولا تصنيفهم ولا توجد تراتبية. التحادث بأحلى تجلياته تعانقُ روحين يغذّي أحدهما الآخر. لا يسير التحادث وفق متتالية خطية منطقية بل وفق تدفُّق عفوي فطري وجداني. لا يمكن في التحادث التنبؤ كيف سينتهي. كل متجاور ينطق ويصغي دون تعصُّب. جوهر مشروع المجاورة هو التغذية. بذرة السبانخ حتى تنمو وتعطي، ضروري نرويها؛ حكاية شخص حتى تنمو وتعطي، ضروري نرويها. هذا ما نسعى له عبر دمج ما يجري بالنزهة وما يجري بالمبرة.