:بالانكليزية “civilization” هناك كلمتان باللغة العربية مقابل
مدنية وحضارة. كلمة ‘مدنية’ مرتبطة بمدينة، وكلمة ‘مدينة’ تعني حرفيا ‘مديونة’؛ وهي كلمة تعكس الواقع، إذ أن المدن تأخذ ما تنتجه الأرياف من خير ولا تعيد لهم أي خير بل على العكس تعيد لهم نمط حياة غارق في الاستهلاك والتمزيق وكل أنواع المخدرات والإدمان، بما في ذلك المخدِّر الأخطر ألا وهو إدمان الشباب والصغار على المشاهدة، إذ يقضي سكان المدن حاليا معظم وقتهم في مشاهدة شاشات – لا ينطقون خلالها ولا يتحركون ولا يتأملون ولا ينتبهون إلى ما يدخل أمعدتهم وعقولهم وإدراكهم وعواطفهم، إذ يستهلكون دون معرفة ودون وعي ما تنتجه مؤسسات وشركات كل همّها الربح. حياة المدن مبهرة، وفيها أضواء تخطف النظر والإدراك وتوحي بإيحاءات تقدمية متطورة. كلمة ‘مدنية’ تعني السير على طريق المدن، وهذا بالضبط ما حذّر غاندي تلميذه ‘نهرو’ منه إذ قال له: “لنضع جهودنا بالريف لا بالمدن، إذ أن التركيز على تطوير المدن سيؤدي إلى تخريب المدن والريف معا”. لكن للأسف لم يتبع ‘نهرو’ هذه النصيحة بل اتبع مسار التنمية الذي نرى نتيجته حاليا حيث 10 مدن في الهند تئنّ من التطور الذي حصل فيها، وحيث الأرياف تدفع ثمنا باهظا نتيجة مشاريع التنمية. التنمية بمفهومها الذي انطلق في عقد الخمسينيات من القرن الماضي أضرّت بالبلدان التي صدّرته، مما جعل حتى شخص مثل الأمير شارل ولي عهد بريطانيا يقول بأن التنمية خربت طبيعة لندن أكثر مما فعلته الحرب العالمية الثانية.
كلمة ‘حضارة’، في المقابل، تعكس معنى جميلا إذ تنطلق من الحاضر، بحضور الماضي والمستقبل، وحضور الآخرين، كما تشمل معنى الجهوزية لعمل ما هو ضروري عمله. بعبارة أخرى، تشير كلمة حضارة إلى أنه من غير الممكن السير نحو المستقبل دون الانتباه الشديد للحاضر ودون البحث في الماضي لمعرفة جذور الحاضر، ودون التفكّر في عواقب ما نفعله في الوقت الحاضر على الأجيال المستقبلية. ما كتبته من معنى ل ‘حضارة’ هو نتيجة اجتهاد، والاجتهاد في رأيي من أجمل الكلمات من حيث معناها باللغة العربية: ‘البحث، بشكل مستقل، عن المعنى’. ويعكس هذا المعنى للاجتهاد عدة أمور: حرية وتأمل وتعددية واحترام ومسؤولية. كلمة ‘حضارة’ بهذا المعنى تشير إلى أهمية وجود رؤيا أكثر بكثير من نظريات واستراتيجيات وأهداف. وكما قال النفّري قبل ألف سنة: “كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة”. فمهمتنا إذن أن نتحدث عن رؤيا بكلمات قليلة. والرؤيا كما أستعمل الكلمة هنا تشمل معرفتنا وإدراكنا للواقع وجذوره، وإدراكنا لموقعنا ودورنا فيه، والقيم والقناعات والمبادئ التي نتفق ألا نخالفها في أفعالنا. وأرى شخصيا أن ‘استعادة الحكمة في الحياة’ تعبّر بكلمات قليلة عن الرؤيا/ البوصلة التي يمكن أن نستهدي بها في سيرنا نحو المستقبل. كانت الحكمة البوصلة التي سارت وفقها حضارات كثيرة سابقة للمدنية المهيمنة حاليا، وبوجه خاص الحضارة العربية الإسلامية، مما يجعل استعادة هذه البوصلة في الوقت الحاضر استمرارا طبيعيا لما عشناه في الماضي. هناك عوامل غيّبت الحكمة من بلادنا كان منها تأثير الجامعات والمدارس التي أنشأتها القبيلة الأورو-أمريكية، بدءا بالجامعة الأمريكية في بيروت عام 1869 والتي تبعتها جامعات ومدارس أخرى. احتل محل الحكمة علومٌ هدفها السيطرة وإخضاع الطبيعة (وفق تعبير ‘فرانسس بيكن’ أبو العلم الحديث)، كما احتلت لغة مصنعة، حروفها عربية لكن معانيها ومرجعيتها القبيلة المذكورة، محل اللغات الحية التي تستمد معانيها من الحياة.
من هنا، يشكل الشفاء من المدنية التي لم تُبْقِ شيئا في الحياة لم تخرِّبه، واستعادة حضارة كان شريانها الرئيسي هو الحكمة، البوصلة التي علينا وضع جهودنا للعيش وفقها.