(19 نيسان / أبريل 2021)
ما أود أن أقدمه كهدية في عيد ميلادي الثمانين للصغار والكبار هو تذكيرهم بأهمية استعادة ’التربة‘ كأهم مكوّن في حياة البشر، في الفكر والقول والفعل. كلمة ’تربة‘ مغيّبة من المدنية المهيمنة التي تضعنا بقوالب قاسية فاقدة للحياة. يذكّرنا هذا بقولٍ لشمس التبريزي: ’عندما أخبرتُه أن قلبي من طين سخر مني لأن قلبه من حديد؛ قريبا ستمطر، سيزهر قلبي وسيصدأ قلبه‘. نسعى ونفتخر بمنتوجات ثقافية والتي يمكن أن تنبع من تربة ثقافية كما يمكن أن تنبع من مؤسسات ثقافية. في الأولى تكون مكونة من طين حيث تزهر مع أول قطرة؛ في الثانية تموت لحظة ولادتها. هذا الفرق يشبه الفرق بين منتوجات زراعية وتربة زراعية، إذ يمكن إنتاج خضروات بكميات كبيرة تظهر مبهرة لكنها تقتل دود الأرض وتسهم بتخريب التربة مما يتطلب إضافة كيماويات ضارة. إذا ركّزنا على منتوجات ثقافية لا تنبع من تربة حية، ستسهم في الأغلب بتخريب التربة الثقافية. المعارف التي تنتج من مؤسسات تعليمية لا ترتبط بأتربة، لذا في أغلبها معارف تقنية أو ميتافيزيقية لا ترتبط بالحياة. الأتربة بشتى أنواعها (الأرضية-الطبيعية، الثقافية-المعرفية، المجتمعية-الوجدانية) مغيّبة من المؤسسات، التعليمية والأكاديمية خاصة. هذه الأتربة مرتبطة عضويا بالعيش وفق مبدأ الوفرة (لا الندرة كما هو الحال بعالم الاستهلاك). ما نحتاج له (في عصر اجتياح ليس فقط كورونا بل أيضا اجتياح همجية الأيديولوجية المهيمنة التي يصفونها بالحداثة والتقدم) هو العيش وفق مبدأ الوفرة، ما متوفر لدينا كأشخاص ومجتمعات وثقافات وحضارات وطبيعة متمثلة بمقومات وقدرات لا تحتاج لمؤسسات ومهنيين وخبراء ومواد جاهزة. لعل أهم ما متوفر لدينا التعلُّم كقدرة موجودة فينا بالخليقة. ما هو أيضا متوفر لدينا: التحادث والمحبة والتقوى والتكافل والصلاة والأمل والضيافة والصبر والإيمان وأتربة متعافية وتكوين معنى عبر تأمُّلٍ واجتهاد، وتكوين مجاورات من مريدين ومرادين. تجنُّب (في حياتنا قدر الإمكان) ما هو مصنّع واستعادة ما هو عضوي وحيّ يشكل تحدّيا جوهريا نواجهه حاليا: التواصل مصنع، التحادث عضوي؛ المؤسسات مصنعة، المجاورات عضوية؛ التقييم العمودي مصنع، ما يحسنه الشخص كمصدر قيمته عضوي؛ الصحة مصنعة تحتاج لمؤسسات ومهنيين وأدوية، العافية عضوية كل ما تحتاجه هو أجواء حيّة سليمة مغذية غنية متنوعة. كل ما سبق لا يكتمل دون رحلة مستمرة إلى الداخل لتنظيف ما يعلق بها من بكتيريا ضارة واستعادة بكتيريا حميدة. فترتان صارختان عشتهما جسّدتا العيش وفق الوفرة كانتا عقد السبعينيات (بالضفة الغربية وقطاع غزة) والفترة الثانية الانتفاضة الفلسطينية الأولى (أواخر 1987 حتى أواخر 1991). تجلى العيش وفق الوفرة خلال الفترتين في مجالات شتى، حيث سَرَتْ الحيوية في شرايين الحياة بالضفة الغربية وقطاع غزة. تمّ لجم تلك الروح في الانتفاضة عبر اتفاقيات أوسلو حين أصبح البنك الدولي الحاكم بأمره بالضفة الغربية. لم يكن بالفترتين سوى ما هو متوفر لدينا كأشخاص ومجتمع وثقافة وعلاقات. وعينا مقومات وقدرات غيبها خبراء التقدم والأيديولوجية المهيمنة. إغلاق كل المنافذ حَوْلَنا أدى إلى وعينا بأن بقاءنا يعتمد على العيش بما هو متوفر. تكوّنت لجان أحياء تلقائيا في العديد من المواقع حيث قام الشباب بتدبير شؤون الحي وعمل ما ضروري عمله. لجأوا للزراعة الجماعية والتعليم الشعبي. على الصعيد الشخصي، استقلتُ من جامعة بيرزيت وأنشأتُ ’مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي‘ أوائل 1989 التي كان جوهرها أجواء تعلمية (بدون تدريس) متوفرة في المجتمعات، تمثلت في أحد مظاهرها بحملة القراءة والتعبير (التي ما زالت قائمة حتى الآن). ذكّرني اجتياح جائحة كورونا بالاجتياحات الإسرائيلية على مدى عقود وعلى أصعدة شتى وكيف اضطررنا للعيش وفق الوفرة والتقليل من العيش وفق جائحة الاستهلاك بسبب قلة المال. أغلقت إسرائيل المدارس والجامعات والمؤسسات الاجتماعية والثقافية بالضفة الغربية خلال الانتفاضة الأولى ظنًّا منها أن ذلك سيؤدي لانهيار المجتمع. ما حصل كان العكس: اكتشفنا الغنى الهائل فينا وفي ما حولنا حيث نمت حيوية أدهشتنا جميعا. الوضع الحالي حول العالم وفي بلاد الشام خاصة يضطرنا للعيش وفق الوفرة. لا يستطيع اللبنانيون مثلا (الذين تحاول دول كثيرة تركيعهم) أن يعيشوا بالليرة اللبنانية مما سيضطرهم لاستعادة نمط حياة يتناقض مع نمط الاستهلاك. الطريق الذي سلكته القبيلة الأورو-أمريكية يتناقض مع استدامة الحياة وعافية الإنسان والمجتمعات والطبيعة. معالجة كثير من الأزمات يتم عبر تغيير نمط حياتنا. العيش وفق الوفرة ليس ضمانة كاملة (فالمدنية المهيمنة خلقت أدوات سيطرة وتدمير قادرة على إفناء الحياة على الأرض بفضل ما فعله إينشتين الذي نعتبره قدوة!) لكنها الأساس الذي بدونه نكون كورقة في مهب الريح. معظم شعوب العالم لا تحتاج لخلق امبراطوريات بل العيش بعافية، وهذا متوفر في كل مكان عبر ثلاثي مقدَّس: العافية والمجاورة والأتربة المغذية.
#Munir_fasheh #منير_فاشه #مجاورة #خواطر #الطبيعة_الشافية #احتلال_و_عودة #العيش_بأمل #تعلم #mujaawarah # تنمية_مستدامة #الحكمة #التعلم_قدرة_عضوية #التعلم_خارج_المدرسة