كورونا خلقَتْ فرصة لقيامك برحلة مستمرة إلى داخلك، إلى ذاتك ومجتمعك وثقافتك وحضارتك. بدون هذه الرحلة، لا معنى لأي تجوال خارجك، حتى لو كان حول العالم، إذ عندها ستبقى تحوم بين الأغصان دون أن تلمس الجذور. المعرفة في الجذور جَدْلٌ مستمرٌّ لأنسجة بين الداخل والخارج، عبر اندماجٍ بالحياة وتأمُّلٍ واجتهاد – أمرٌ مُغَيّبٌ من المؤسسة التعليمية والأكاديمية مهما ادّعَتْ ’الجودة‘ و’التميز‘! في رحلتك إلى داخلك لن تشعر بوحدة في حياتك أبدا، إذ سيكون معك رفيق أينما كنت وأينما حللت… وتذكَّر دوما أنك مصدر معنى ومعرفة وفهم.
الاستدامة في الحياة تتناقض مع التنمية، مما يعني أن تعبير ’تنمية مستدامة‘ هو تناقض لا نلاحظه لأن عقولنا عبر12 سنة بالمدارس اعتادت لغة لا ترتبط بمعانٍ في الحياة بل ترتبط بعالم مصنّع تحكم معانيه مؤسسات ومهنيون وخبراء وأكاديميون حيث نصدّق ما نقرأه بكتب مقررة وكتب أكاديمية دون تحفُّظ وحذر. مثال أذكره دوما لتوضيح ما أقوله هو الادعاء بأن 1=1 حقيقة مطلقة عالمية بينما عندما نذهب لسوق الخضرة لا يوجد إنسان يطبقها بمعنى أن يصدق 1 تفاحة = 1 تفاحة (إلا إذا كان مريضا بأولزهايمر). فكما نعيد كالببغاء 1=1 كذلك نعيد كالببغاء تنمية مستدامة. لا يوجد شيء في الحياة ينمو باستدامة. ماينمو باستدامة يرتبط بتخريب الحياة؛ مثلا، ما نما باستدامة خلال القرون الثلاثة الماضية هو الأسلحة؛ والتعليم النظامي (الذي قضى على التعلم)؛ وتخريب الطبيعة (الفيزيائية والبشرية) عبر علوم القبيلة الأورو-أمريكية حيث لم ينجُ شيء بالحياة لم يُخَرَّب (التربة والماء والهواء والعلاقات…)؛ والتراكم الأسي لرأس المال… هذه النواحي نمت باستدامة. الاستدامة في الحياة تتجلى بدورة الحياة والقدرة على توليد الذات، واللتين خُرِّبَتا، بدءا بالتعلم والنباتات الطبيعية والتربة الثقافية وروح المجاورة وروح الضيافة.
التعليم ليس حق بل أداة/ وسيط لاكتساب معلومات ومهارات آلية ومعارف تقنية. الحق هو في توفير أجواء حية متنوعة يدخلها من يريد ويختار ما هو شغوف بتعلمه. التعلم قدرة فطرية موجودة لدى كل إنسان. لا علاقة للتعليم بالتعلم إلا بمعنى الاكتساب الذي أشرتُ له. إذا أهملنا هذا التمييز نخسر أهم ما يميز البشر: التعلم كقدرة عضوية تحدث طوال الوقت (مثلها مثل التنفس) دون الحاجة لمؤسسات ومهنيين ومناهج وتقييم. إذا أهملنا التمييز بين الاثنين سنبقى نسخًا عن آخرين نحتذي بأحذيتهم، وببغاوات نعيد ما يصدر عنهم. التعلم في الجذور يحدث عبر انغماسنا بالأتربة الأرضية والثقافية والمجتمعية والوجدانية. وهذا يتطلب حماية هذه الأتربة من التلوث والتخريب. لنتذكر قول الرومي قبل 750 سنة: ’لربما أنك تبحث بين الأغصان عما لا يظهر إلا في الجذور‘. التعليم ينتمي للأغصان؛ التعلم للجذور ضمن أتربة متعافية. المجاورة وسيط أساسي للتعلم، وللتغذية من الأتربة، ومكوِّن أساسي للتربة المجتمعية؛ التأمل والاجتهاد مكونان أساسيان للتربة الثقافية-المعرفية؛ العلاقة مع الطبيعة مكون أساسي للتربة الأرضية؛ المحبة والصدق والاحترام وروح الضيافة والشعور بالمسؤولية والعيش بعافية مكونات أساسية في التربة الوجدانية. بعبارة أخرى، ليس الحق في التعليم بل الحق على التعليم الذي يضع حول عقولنا، كالجلدتين اللتين نضعهما حول أعين الفرس حتى لا يرى إلا الطريق المرسوم له.
’فرانكنشتاين‘ عنوان كتاب ’ماري شيلي‘ (نُشِرَ عام 1818) حول عالِمٍ مجنون خلق وحشاً على شكل إنسان (ويشار للعالِم والمخلوق ب’فرانكنشتاين‘) أدى بنهاية الأمر إلى قتل صاحبه. أجد القصة تفسّر ظاهرة ترامب وآخرين (كهتلر وإينشتين) الذين خلقتهم المدنية المهيمنة بعلومها الفاقدة للحكمة. لكن هناك مظاهر أخرى كثيرة تجسد نفس المنطق لكن لا نراها مثل تصرُّف الأطفال الذين يعيشون بمدن، حيث الكلمة التي يعيدوها بعالم الاستهلاك أكثر من غيرها هي ’بدي‘’بدي‘ ’بدي‘ ’بدي‘… كل ما يراه الطفل على شاشات او في مولات أو عند أطفال الجيران يريد أن يحصل على مثلها. المنطق الذي يحكم تصرف هؤلاء الأطفال والطريقة التي نتعامل فيها معهم حيث نعاقبهم إذا لم يفعلوا ما نمليه عليهم، هو نفس المنطق الذي يحكم تصرف ترامب: منطق التملك والامتلاك ومعاقبة من لا يفعل ما يُمْلَى عليه. بعبارة أخرى، ترامب ليس حالة فريدة بل نتيجة المنطق المهيمن. ما علينا محاربته والشفاء منه هو المنطق وليس الأشخاص.
نسمع باستمرار: ما هو البديل للتعليم؟ هو مثل الذي يسأل: ما هو البديل للكولا؟ البديل للكولا واضح: الماء. البديل للتعليم أيضا واضح: التعلم. المدنية المهيمنة تغيّب هذه الحقيقة عن طريق إلحاق التعلم بالتعليم، وقبول التعلم الذي ينتج فقط عن تعليم. وهذا يجعلني أذكّر مرة أخرى أن واجبي أن أتعلم أهم بكثير من واجبي أن أدرس – زمن كورونا وبعدها.
زمن الميوعة والخبث على صعيد الفكر يجب أن ينتهي، إذا أردنا استمرار الحياة على الأرض. التعليم النظامي والأكاديمي كما صمِّمَا ضمن القبيلة الأورو-أمريكية وانتشرا حول العالم، عفا عليهما الزمن. بقاء البشر يتطلب وعي مساهمتهما بالمصائب والأزمات والدمار والتخريب التي نشهدها جميعا حول العالم. علينا أن نتوقف عن حساب ما نجنيه من مكاسب عبرهما دون طرح ما ندفعه من ثمن على الصعيد الشخصي والجمعي والثقافي وصعيد الطبيعة، إذ نكون عندها كالتاجر الذي يحسب ما يدخله دون أن يطرح ما يدفعه من ثمن، مما يجعله يعتقد أنه دوما رابح. التحولات التي عشناها خلال العام الفائت لم تحدث اعتباطا بل نتيجة مفاهيم وإدراك وتصميم وتنفيذ سادوا جميعا عبر قرون، والتي شملت ’فيروس‘ الثورة العلمية وفق ممارسة القبيلة لها، وفيروس التعليم النظامي وفق مفهوم ’كومينيوس‘ (أبو التعليم الحديث): “فقط عبر التعلُّم الذي ينتج عن تدريس يمكن للأشخاص أن يرتفعوا لأوج إنسانيتهم؛ الذين يتعلمون دون تدريس هم أقرب للحيوانات مما للبشر”:
Only if learning is the result of teaching can individuals be raised to the fullness of their humanity. People who learn without being taught are more like animals than men.
لم تكن الحكمة رفيقة الرياضيات والثورة العلمية اللتين انطلقتا من القبيلة الأورو-أمريكية، التي توّجت تخريبها للحياة والفكر والإدراك والعلاقات عبر ’التنمية‘ كما صاغها ’ترومان‘ عام 1949 في خطاب تسلّمه رئاسة أمريكا والتي بناها على الفرضية بأن أربع أخماس البشر متخلفون، وأنه هو ودول أوروبا الغربية مستعدون لتنميتنا! وصدّقنا ذلك لأن عقولنا قَوْلَبَها تعليم وأكاديميا القبيلة على مدى عقود.
كلمة تناقُش من أجمل الكلمات بالعربية والتي تختلف كليا عن حوار وجدال وغيرهما. ’نقش‘ باللغة العربية تعني جمّل، مما يعني حرفيا أن المتناقشين يخرجوا من التناقش أجمل مما كانوا عليه قبل النقاش – أي يتم عبر التناقش تجميل تبادلي بينهم. هدف الحوار والجدال عادة أن يبرهن كل شخص أن فكرته أفضل من الآخرين.
مثالٌ صارخٌ على لغة مستعملة بمؤتمرات وإعلانات دولية هو لغة الإعلان العالمي حول ’أهداف التنمية المستدامة‘ التي جاء فيها: ’اعتمَدَت جميع الدول الأعضاء بالأمم المتحدة عام 2015 أهداف التنمية المستدامة باعتبارها دعوة عالمية للعمل على إنهاء الفقر وحماية الكوكب وضمان تمتع جميع الناس بالسلام والازدهار بحلول عام 2030. أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر متكاملة – أي أنها تدرك أن العمل في مجال ما سيؤثر على النتائج في مجالات أخرى، وأن التنمية يجب أن توازن بين الاستدامة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. من خلال التعهد بعدم ترك أي شخص في الخلف، التزمت البلدان بتسريع التقدم لأولئك الذين في الخلف…‘. لغة دعائية بامتياز، ظاهرها جميل وبرّاق لكن باطنها كلمات مُخَدِّرة تلهينا عن رؤية الواقع بوضوح وعن المعيقات لتغييره – حقيقة كما يظهر لم تلاحظها أي دولة! قراءتي للإعلان كانت من المرات النادرة في حياتي التي شعرت فيها بيأس وأن لا أمل للبشرية. صعبٌ تصديق أن 193 دولة وقّعت على أهدافٍ لا علاقة لها باستدامة الحياة على الأرض، بل باحتقار من هم خارج عالم الاستهلاك ومساعدتهم للانضمام له، وأيضا بإلهائنا للبقاء بين الأغصان وعدم الاكتراث بما يحدث بالجذور. ما هو مثير للانتباه عدم ذكر نواحٍ بجوهر الحياة التي لا تحتاج إلى تنمية بل إلى حماية من أيديولوجية التنمية المهيمنة بالذات، كالحكمة والعافية والكرامة والمحبة والأمل والإيمان والتقوى وروح الضيافة – والتي بدونها لا أمل لاستدامة الحياة وبقاء البشر وقدرة الطبيعة على توليد ذاتها. تساءلتُ: هل من المعقول لم توجد دولة واحدة على الأقل قرأت الإعلان بتمعُّن قبل التوقيع عليه؟ هل من المعقول أن 193 دولة كانوا غارقين بسبات عميق؟ كيف لنا أن نثق بدول وقَّعَتْ على شيء من هذا القبيل؟! الله يكون بعوننا. يوقظنا هذا لضرورة أن نكون بعون بعضنا البعض. قبل ألف سنة حدّد ’ابن سينا‘ استدامة وعافية الحياة بكلمتين: الطبيعة الشافية. عشرات الدول العربية والإسلامية كان بإمكانها أن تعود لجذورها (كقول ابن سينا)، كما كان بإمكان دول أخرى لديها حضارات عريقة مليئة بالحكمة، لتنبيه من وقّعوا على وثيقة تتكلم، مثلا، عن محاربة الفقر (وترك الجشع يصول ويجول)؛ ومثلا، عدم ذكر أهمية حماية قدرة الطبيعة على توليد ذاتها، قدرة يتناقض معها مفهوم التنمية السائد؛ ومثلا، حماية اللغات الحيّة من احتلال ‘اللغة الأم’المصنَّعة محلها؛ ومثلا، حماية التعلم من احتكار التعليم النظامي له وإلحاقه به؛ ومثلا، حمايتنا من النظر إلى الحياة عبر أبجدية ومفاهيم ونظريات تعيق قدرتنا على قراءة الحياة، بدلا من اختيار كلمات وتكوين معانٍ لها عبر خبراتنا وتفاعلنا مع الحياة. الحياة هي الأساس وليس لغة الكتب المقررة والأكاديميا والإعلانات. لنتذكّر: لا يمكن تحسين قدرة طفل على تعلم لغة أهله أفضل من تفاعل يومي مع أكبر عدد من الأشخاص بأجواء حقيقية غنية متنوعة خلال السنوات الأولى من حياته؛ ولا يمكن تحسين ماءٍ من نبعٍ صافٍ حتى لو أحضرنا أفضل الهيدرولوجيين وأعطيناهم ما يحتاجون له، لن يكون باستطاعتهم تكوين ماء أفضل من ماء نبعٍ لم تصله المدنية. كذلك بالنسبة للنباتات البرية التي كل ما تحتاجه هو ليس تنمية بل حماية. حماية مكونات الحياة هذه أهملها الإعلان. جدير بالذكر أن مثل هذه النواحي لا يمكن للعقل أن يفهمها ولا اللغة التعبير عنها؛ ويفوق عددها وأهميتها ما يمكن للعقل أن يستوعبه واللغة أن تعبر عنه؛ الحياة أوسع بكثير. وهذا يعني أن الانتباه لهذه الأمور هو بأيدينا ومسؤوليتنا.
آن الأوان لاستعادة التعلم بعد أن صادره التعليم مدة تزيد عن مائة سنة في بلادنا عبر الوهم بأن التعليم يؤدي إلى تعلم! أعود لأؤكد أن التعليم يؤدي إلى تعلم بالنسبة لمعلومات ومهارات آلية ومعارف تقنية وليس بمعنى أن تصبح المعرفة جزءا من أسلوب حياة الشخص. يمكننا مثلا التعامل مع العلوم بحكمة، وفق إدراك ابن سينا المتمثل بالطبيعة الشافية، بدلا من تعريف ’فرانسيس بيكن‘ بأن العلم هو قهر وإخضاع الطبيعة. استعادة الحكمة في الحياة أمرٌ أساسي في التعلم. الركيزة الأساسية في التعلم وفق العافية والحكمة تكمن في الأتربة التي يتغذى منها الإنسان ويغذيها: الأرضية والثقافية والمجتمعية والوجدانية. هذه فرصة نادرة لقيام الطلبة بقراءة كتب هي بمثابة بيان وتبيين، لغتها ومعانيها مستمدة من التأمل فيما يمر به الناس والاجتهاد لتكوين معنى؛ وقيامهم أيضا بأنفسهم بالتأمل والاجتهاد لتوليف بيانٍ يبين بصدق وبلاغة ما ينضج بدواخلهم. من هذا المنطلق، ’التعليم عن بعد‘ جائحة اجتاحت العالم، مما يتطلب إعادة النظر بكثير من أوهامٍ وخرافات وأمراض حديثة. سؤال: لماذا (عبر التعليم عن بُعد) نعتبر إنهاء المنهاج أهم من حماية عيون الأطفال من النظر في شاشات، عدة ساعات باليوم؟ وحماية عقولهم من لغة ميتافيزيقية لا تستمد معانيها من الحياة؟ وحماية أجسادهم من الخمول جلوسا لا يتحركون؟ وحماية وجدانهم وقلوبهم من جفافٍ عاطفي وروحي؟ ينطبق هذا أيضا على أهالي الطلبة. كيف نفسر مقدار وعمق وسهولة التخدير الذي نصل إليه كبشر؟ تفسيري الشخصي: تغييب الحكمة من الحياة، ووضع العقل على العرش، حيث يصول ويجول دون وازع أو ضابط. غياب الحكمة يفسر حالات حديثة متطرفة ضمن هذا المسار، لعل أوضحها ترامب وهتلر وإينشتاين؛ فعقولهم متربعة على عروش تحكمها قيم السيطرة والفوز والكسب. أُذكّر: من أهم ما يميز التعلم الشراكة بتكوين معنى. جذر كلمة قاموس هو ’قَمَسَ‘ التي أحد معانيها: قَمَسَ الشخصُ في الماء إذا غاص فيه ثم ظهر، انغطَّ ثم ارتفع. القاموس هو أبعد موضع بأعماق البحر يغوص نحوها المرء ثم يظهر. هذا ما علينا فعله في سعينا للتعلم: غوصٌ في محيط الحياة، في أبعد أعماقها، حيث نَظْهَر ببلورة جديدة للمعاني والفهم.
المجاورة ليست فكرة حديثة ولا مستوردة ولا مترجمة. لم تصدر من أيديولوجية القبيلة الأوروبية التي تكونت منذ قرون بل هي أقدم اللَبْنات في بنية المجتمعات وأكثرها ارتباطا بالحياة وسياق وفِعْل وقِيَم؛ لكن مغيبة من الحياة المعاصرة. لا نجدها ضمن مكونات المجتمع المدني (تعبيرٌ أجده، إما عن قصد أو غير قصد، يطمس المجاورة) بل نجدها ضمن مجتمعاتٍ حيّة. نبعت المجاورة تاريخيا على الأغلب عندما انتبه الإنسان أن حياته ستكون أجمل وأريح وأكثر نشاط وحيوية عندما يكون ضمن مجموعة، التي كانت العائلة أهم مظاهرها. فقدت العائلات الحديثة، خاصة بالمدن، هذه الروح مما يفسّر تكاثر أمراض نفسية وعاطفية واجتماعية ووقوع اليافعين في حالة يأس وإحباط وملل وغياب معنى وقيمة.