المسيح الفلسطيني يوصف بالفادي (مما دعا منظمة التحرير إطلاق كلمة ’فدائيين‘ على المقاتلين). الفادي يسكن بين الناس ومعهم. أصبح في أوروبا مخلّصا؛ المخلص يجسد عنجهية.
أكتب يوميا عما يتكون لديّ عبر تأمُّلٍ واجتهاد فيما أمرّ به. انتبهتُ حديثا أن ما أكتبه يرتبط (دون قصدٍ أو تخطيط) بما فيه أمل وعافية وشفاء من أوهام وخرافات، خاصة الحديثة منها. يتوافق هذا مع ما ذكرتُه أكثر من مرة حول حقيقة أن الجزء السليم بجسم مريض هوالذي يشفي ذلك الشخص. من هذا المنطلق، التحادث في المجاورات هو ليس فضفضة وتفريغ بل استعادة لعافية الإنسان والمجتمع. الفضفضة تُشْعِر الشخص براحة مؤقتة لا تلبث أن تزول دون أن تُغيّر شيئا في الجذور. ما أكتبه يوميا منذ 1971 هو مثل الأكل الذي آكله يوميا ليغذي جسمي، إذ ما أكتبه يغذيني على صعيد الفكر والثقافة والعلاقات والوجدان.
قبل أكثر من 500 سنة، كانت توضع قوائم بالكتب الممنوعة. الوضع حاليا أخبث؛ لا حاجة لوضع مثل هذه القوائم، الكتب المقررة تقوم بهذه المهمة، إذ هذه الكتب تسلب الطلبة معظم أوقاتهم بحيث لا يتبقى وقتٌ لقراءة كتب فيها غذاء للعقل والقلب والروح؛ كتب عبارة عن أدب، فيها متعة وحكمة، كتب عبارة عن بيان وتبيين – عكس الكتب المقررة التي يشمل أغلبها لغة ميتافيزيقية لا علاقة لها بالواقع ولا تبين ما بداخل الكاتب، لغة دعائية لا دلالات لها بل إيحاءات؛ كتب، أفضلها يحتوي على معلومات متفرقة أو مهارات آلية أو معارف تقنية ترتبط بعالم الاستهلاك.
أرى شخصيا أن من الأفضل أن نستعمل مجاورات بدل مجموعات داعمة ودورات تدريب وورش عمل، وبرامج دعم نفسي وصحة نفسية فجميعها ينطلق من حاجات ونواقص وأمراض. المجاورات فيها احترام وارتباط بسياق وفعل وعلاقات ووجدان.
ماذا تعني لي كلمة ’ترف‘؟ اقتناء شيء أو الاندماج على مدى سنوات بما لا معنى ولا حاجة ولا قيمة له سوى ما يحمله من إيحاءات ورموز براقة، بينما في الواقع هو إلهاء وأوهام وخرافات ومضيعة وقت. مثلا، عائلة تشتري مقتنيات لا ضرورة لها بالحياة، لكنها تُعْطي انطباعا بأن تلك العائلة تنتمي من طبقة أعلى. عشتُ هذا الترف (دون أن أدري) بمجال الرياضيات، حيث درستُ ودرّستُ مساقات لا علاقة لها بحياتي ولا حاجة ولا معنى، لكنها تعكس قيمة وهمية يدفع كثيرون الغالي والرخيص من أجل حصول شهادة فيها! هذا بالضبط ما تعنيه لي كلمة ’ترف‘: اندماج بأشياء لها إيحاءات إيجابية ورموز براقة مثل ذكاء.
رياضيات أمي نمت ضمن تربة حقيقية؛ رياضياتي نمت بمستنقع الاستهلاك والسيطرة ووفق مقاييس ممزِّقة محقِّرة تُشْعِر الإنسان بدونية أو فوقية مزيفة. رياضيات أمي مثل ماء من نبع صاف فيه كل العافية؛ رياضياتي مثل ماء معبأة بقناني بلاستيكية.
النظريات تقتل الفهم والحكايات، والكيماويات تقتل التغذية والنباتات. مصدر الشر واحد: معارف وعلوم لا ترافقها حكمة (ينطبق هذا على علوم القبيلة الأورو-أمريكية).
شعوب تزور القبور تأخذ معها زهورا تضعها على القبر؛ وشعوب أخرى تزور القبور تأخذ معها طعاما تضعه على القبر. يسخر البعض: هل ستقوم الجثث لتشم الزهور؟ وبعضٌ آخر: هل ستقوم الجثث لتهضم الطعام؟ المنطق الخفي بالحالتين هو منطق جميل: إبقاء العلاقة مع الأجداد قائمة.
… من الكلمات القليلة التي أحبّها بالانكليزية (إذ أجد فيها حيوية وعمقا، وملهمة بمعانيها) هي كلمة culture التي تُسْتَعمل بمعنى ثقافة وأيضا بمعنى رائب يخمّر الحليب وينتج لبن عبر بكتيريا فيها عافية؛ هي كلمة تجمع بين ناحيتين في الواقع والطبيعة: ’تخمير‘ الثقافة وتخمير الحليب، بحيث تخلق حيوية فيهما ناتجة عن بكتيريا نافعة (عضوية أو فكرية).