أكتب يوميا عما يتكون لديّ عبر تأمُّلٍ واجتهاد فيما أمرّ به. انتبهتُ حديثا أن ما أكتبه يرتبط (دون قصدٍ أو تخطيط) بما فيه أمل وعافية وشفاء من أوهام وخرافات، خاصة الحديثة منها. يتوافق هذا مع ما ذكرتُه أكثر من مرة حول حقيقة أن الجزء السليم بجسم مريض هوالذي يشفي ذلك الشخص. من هذا المنطلق، التحادث في المجاورات هو ليس فضفضة وتفريغ بل استعادة لعافية الإنسان والمجتمع. الفضفضة تُشْعِر الشخص براحة مؤقتة لا تلبث أن تزول دون أن تُغيّر شيئا في الجذور. ما أكتبه يوميا منذ 1971 هو مثل الأكل الذي آكله يوميا ليغذي جسمي، إذ ما أكتبه يغذيني على صعيد الفكر والثقافة والعلاقات والوجدان.
أمرٌ يبدو غريبا لكن لا مفر منه، يتعلق بتدريس اللغة العربية والدين بالمدارس. أعتقد بقوة بضرورة أن لا يدرّس اللغة العربية إلا من يعشقها، وأن لا يدرّس الأديان إلا من يظهر إيمانُه بها في نمط حياته وتعامله. لن يصلح التعليم طالما نتعامل مع اللغة الحية كمادة دراسية بدلا من التعامل معها (كالدم بجسم الإنسان) حيث تمنحنا الحياة. نَصِف الإنسان بالعربية ب‘حيوان ناطق؛ أصبح في الوقت الحاضر مُشاهدًا للغة على شاشات! لا تصلح اللغة العربية بدون نطقٍ وإصغاء. إذا حشرناها بكتب وشاشات نقتل روحها، وتصبح معرفة تقتصر على أبجدية وصرف ونحو وقواعد، وتفقد الحكمة والغنى والمنطق وتعدُّد المعنى وتصبح لغة ميتة لا حياة ولا جمال ولا جاذبية فيها – وتفقد وَصْفَ الجاحظ لها بتبيُّن وبيان وتبيين. كذلك الحال مع الدين. تحويله من روح الحياة إلى مادة دراسية يُفْقِدُه جوهره: احترام الإنسان والمحبة بين الناس والتقوى في التعامل بين الشعوب والقبائل. “لِنَفِقْ”.
أسوأ سنة عشتها في حياتي كانت 93-1994 حين أصبح البنك الدولي الممثل غير الشرعي لكن الوحيد لمصير الشعب الفلسطيني بالضفة وغزة؛ وحيث في تلك السنة تَحَوَّلْنا بين ليلة وضحاها من كوننا أهالي علاقتنا الأساسية بعضُنا مع بعض إلى مواطنين علاقتنا الأساسية مع أجهزة رسمية؛ كنا نعيش بأمل أصبحنا نعيش بتوقعات؛ كان برام الله ثلاثة بنوك صغار، تكاثروا بعدها كالأرانب؛ كنا ندبّر شؤوننا وندير أمورنا بأنفسنا، أصبحنا نتّكل على مهنيين وخبراء يقومون بما كنا نقوم به بأنفسنا؛ كانت الضيافة الجادل الرئيسي للنسيج المجتمعي، أصبحت المساعدة من الخارج ومن فوق السيد الجديد الذي نستجديه؛ كان الصبر رفيقنا، أصبحت الشكاوي وسيلة التعبير عن ضيق روحنا؛ كنا نعيش فيما بيننا بأمان، أصبح لدينا قوى أمن ليس بيدها حيلة أمام المستوطنين؛ كان من شبه المستحيل بيع أرض قبلها، أصبحنا نبيع دون أن نعرف الشاري؛ كانت المجاورة اللبنة الأساسية ببنية المجتمع، أصبحت المؤسسات تتدخل فينا بكل صغيرة وكبيرة. لِنَفِقْ!
الصراع الذي نعيشه حاليا صراعٌ في جوهره بين التعلُّم والتشرذُم. تبدأ الشرذمة بالمعرفة. هناك مثلا 7 مواد بالصف الأول و14 بالصف العاشر. معظم المواد معارف ميتافيزيقية لا علاقة لها بالحياة. يتخرج الطالب وبأحشائه جرثومة الشرذمة كجزءٍ من نمط حياته وفكره وتعبيره. الشرذمة ألدّ عدوٍّ للعيش بحكمة. التعليم والأكاديميا عاملان رئيسيان في نشر وتعميق التشرذم (منذ 4 قرون بأوروبا وقرن ونصف ببلادنا). ذكرتُ بخاطرة سابقة 10 مساقات رياضيات قضيتُ 25 سنة بدراستها وتدريسها ألهتني عن أمور هامة بالحياة. لكن، كنت محظوظا أكثر من غيري لوجودي بفلسطين ولحضارتي المليئة بالحكمة ولوجود أمي في حياتي التي لم تعرف حرفا أبجديا لكنها كانت تمارس معارف ترتبط بالرياضيات وتربية الأطفال والدين وتدبير شؤون الحياة – معارف حمتني من أصولية الفكر الحديث وانتزعتني من أوهامٍ اكتسبتهما عبر مؤسسات. أود أن أذكّر هنا الفرق الشاسع بين اختيار الحقيقة كشعار (كجامعة ‘هارفارد’) واختار الحكمة كبوصلة (كبيت الحكمة ببغداد قبل 1200 سنة). لنَفِقْ!
لا يوجد قانون يُجْبِر من هم بين 6 و 16 سنة أن يلبسوا نفس اللباس أو يأكلوا نفس المأكولات أو يستمعوا لنفس الأغاني أو يضحكوا على نفس النكات، أو يلعبوا نفس الألعاب. لكن عندما يصل الأمر للعقل تُجْبَر هذه الفئة العمرية على قراءة نفس الكتب، واستبطان نفس المعاني، واستعمال نفس الصيغ، والالتزام بمعارف تدّعي الأحادية والعالمية (أغلبها معارف ميتافيزيقية لا علاقة لها بالحياة). لم ينجح أي شيء في فرض نفسه عالميا قدر ما نجح التعليم النظامي، حيث احتكر الكتب التي يقرأها من هم بهذا العمر، ومنع قراءة الحياة وكتب بمثابة بيان وتبيين. لم تصل مدنية قبل الحديثة لدرجة استطاعت فرض كتب على مدى عشر سنوات يقرأها الجميع! غزو لغة مصنّعة جاهزة للعقول سبق غزو مأكولات مصنَّعة جاهزة للبطون بثلاثة قرون. إذا لم نَفِقْ، سيستمر تخدير العقول وستستمر المجتمعات والثقافات والحضارات بالتفتُّت والانهيار. لنَفِقْ ونتحكّم بما يدخل عقولنا وبطوننا وقلوبنا وعلاقاتنا وإدراكنا لأنفسنا. لنَفِقْ!
همجية القرن العشرين شملت في النصف الأول حربين عالميتين، تبع الحرب الأولى غزوٌ كثيف لبلاد عديدة بما فيها بلادنا حيث هُزِمْنا فيها من الخارج، وتبع الحرب الثانية غزوٌ كثيف ما زال قائما لكن هذه المرة من الداخل عبر برامج التنمية التي انطلقت من أمريكا عبر خطاب ترومان الذي ألقى قنبلتين على مدينتين وشعر بنشوة النصر وأعلن في خطاب تسلُّمه الرئاسة بأن أربع أخماس البشرية متخلفون وبحاجة إلى تنمية وأنه على استعداد لطيبة قلبه بأن يساعدنا أن نتبع خطاه! الهمجية التي نشهدها ببداية القرن الواحد وعشرين (خاصة مع تفاقم الوضع حول العالم نتيجة تفشي كورونا) تضعنا أمام السؤال: أين يكمن الأمل؟ شخصيا أرى الأمل بشكل رئيسي فيما غَيَّبَتْه المدنية المهيمنة، لكنه موجود ومتوفر لدينا أكثر من الدول التي يشار لها بمتقدمة. في منطقتنا بالذات، مثلا، ما زالت ذاكرتنا – كما تقول رغدة بطرس – موجودة في جيناتنا وما علينا إلا تذكُّرها واستخراجها. من بين ما هو هام ومتوفر ولكن مُغيَّب: اللغات الحيّة التي تطمسها لغة الكتب المدرسية والأكاديمية، والحكمة والعافية والمسؤولية وتعدد المعنى والأمل والإيمان وروح الضيافة. هناك مقولات حكيمة عمرها مئات وآلاف السنين (والتي ذكرتُ بعضها في خواطر سابقة) غيّبها كليا عصر التنمية منذ 72 سنة. ما أركّز عليه حاليا – وذكرتُ هذا في خواطر سابقة – حقيقة أن الإنسان يتغذى من 4 أنواع من التربة والموجودة في أنحاء العالم وتحتاج إلى حماية واستعادة وليس إلى تنمية وخبراء ودعم خارجي. كل ما تحتاج له هو استعادة المسؤولية – على الصعيد الشخصي والجمعي (وفق مجاورات) – للاهتمام بها والعيش وفقها. هذه الأنواع من التربة مغيبة من مدارس وجامعات النخبة وبرامج التنمية أكثر مما هي مغيبة من المجتمعات التي تشير لها التنمية بمهمشة. بعبارة أخرى، الخروج من همجية الاستهلاك بسيط (لكن ليس سهلا)، ومتوفر في كل المجتمعات من حيث العمل وفق مجاورات ووفق العافية. تشكل الأتربة الأربعة جوهر العيش بعافية. إلى جانب هذا، يكمن الأمل بأن من الممكن البدء به منذ الآن، مهما كانت البداية صغيرة دون الحاجة لأي شيء من خارج المكان كأساس. أما بالنسبة لمن يقولون بأن العالم وصل الآن إلى الجيل الخامس الخ من التقدم التكنولوجي، فأقول لهم: هنيئا لكم، كُلوا ما طاب لكم من مصنعات التكنولوجيا، واسعدوا بوضع رؤوسكم في مواعين الأجهزة على مدى ساعات كل يوم، وانعموا بالأمراض الناتجة عن كل ذلك… يقول المثل: ‘إذا شيء زاد عن حدّه ينقلب إلى ضدّه’ وهذا وضع المدنية المهيمنة – زادت عن حدها كثيرا.
قول للإمام علي: ’ما هَلَكَ امرؤٌ عرف قدرَ نفسه‘. في عالم مبني على تقييمات عمودية (عبر مقاييس ضحلة) تُشْعِر الأغلبية بدونية، لا يسعنا إلا أن يوطّد ويثبّت كل شخص ثقلَه كإنسان عبر قول الإمام علي: أن يعرف قَدَرَ نفسه، والذي يشمل إدراكه بأنه مصدر معنى ومعرفة وفهم، فيشارك في تكوين معانٍ للكلمات التي يستعملها في حياته عبر تأمل بالحياة والخبرات واجتهاد في تكوين معنى لها. يحررنا هذا من اعتبار مقاييس خبيثة (كعلامات وشهادات ومراكز وألقاب ومعاهد نخبة) مرجعا لقيمتنا. تشكل المجاورة رحم أمان وعافية تساعدنا في معرفة قدرَ أنفسنا. إشعار آخرين أنهم أدنى (كما فعل الأوروبيون عبر ما يقارب من خمسة قرون عبر مساحات شاسعة حول العالم بما في ذلك منطقتنا) ونجحوا في ذلك هو في رأيي الوباء الأعظم. ما ‘زاد الطين بلّة’ كما يقول المثل، هو الإدعاء بأنهم على استعداد لمساعدتنا حتى نصبح مثلهم! إبليس لم يصل إلى درجة الخبث والتحقير التي وصلت إليها المدنية المهيمنة التي أقنعتنا بتفوقها أخلاقيا! ما يجعل الأمر أسوأ أن الذي يصدر حكم الدونية عليك، لا يعرفك بل يعيش بمكان بعيد عنك، في قارة أخرى وسياق آخر لكن يعطي لنفسه الحق أن يصنّفك ويقيّمك ويوهمك أنه أفضل منك ذهنيا وأخلاقيا – ونقع ضحايا بسهولة! صديق كان يدرس معي بهارفارد (1985) اختير أن يكون ضمن فريق للذهاب إلى مصر لتطوير التعليم فيها. سألتُه: هل زرت مصر قبل اليوم؟ قال: لا. قلت ألا تجد هذا غريبا؛ لا تعرف مصر لكن تعرف ما هو مناسب ونافع لها؟! قال: سيدفعون مبلغا كبيرا!… نقطة، وأول السطر.
أكثر ما يهدد البشرية والحياة والطبيعة هو ليس فيروس كورونا بل ‘فيروس’ العيش بترف وفيض وجشع والذي يتضمن الهدر. الترف هو الخطر الأكبر على المناخ والمُسَبِّب الرئيسي للحروب وتخريب كل ما هو طبيعي وقادر على توليد ذاته. أعني بالترف ما نشهده في معظم الدول حول العالم حيث نسبة ضئيلة جدا تعيش بترف غير مسبوق بينما الباقون بالحضيض، والذي نبّهت له حركة ‘احتل وول ستريت’ occupy wall street التي ألهمها ميدان التحرير بالقاهرة، فرفعوا في ‘نيويورك’ لافتة the maydan is here، لخّص مكونوها حركتهم ب”نحن ال 99%”. أود أن أؤكد مرة أخرى: الترف والجشع يشكلان العدو الأكبر للحياة والطبيعة. أُومِن بكل قوة وقناعة أن الحل يكمن ليس في لقاحات مزيفة سطحية (مثل تنمية مستدامة وتقدُّم) بل بالعودة إلى دورة الحياة والقدرة على توليد الذات، إذ هناك تكمن الاستدامة الحقيقية في الجذور – تكمن حول حماية واستعادة الأنواع الأربعة من التربة التي تغذينا والتي ذكرتُها في الخاطرة رقم 68. حماية أنواع التربة والعيش وفقها ما يمكن أن ينقذ البشرية. العيش وفقها يشكّل نقيض العيش بترف وفيض وجشع. يتطلب هذا قلب الأمور في عقولنا وإدراكنا وأفعالنا وعلاقاتنا وفي القيم التي تحكم حياتنا. مما يعني بالضرورة تحوُّلا في نظرتنا وتعاملنا مع الاقتصاد بوجهٍ خاص، والذي ربما يكون الأصعب. ربما ينظر البعض إلى ما أقوله كأنه عودة إلى الوراء. في الحقيقة، ما أقوله هو عودة إلى عمق ما يحمي الحياة والبشر من الفناء. كتبتُ عام 2008 مقالا بجريدة ‘الحال’ بجامعة بيرزيت بعنوان ‘نموّ رام الله… هل فيه حكمة؟’ حيث كان من الواضح أن البنك الدولي كان يحفر ترفا زائفا يخلخل ما فيه عافية للناس والمجتمع، بما في ذلك تخريب أنواع التربة المذكورة.
جَدَل ترتبط في أغلب استعمالاتها بعقلٍ ذكي لا ترافقه حكمة بالضرورة، فالهدف عادة هو أن يتفوق رأيٌ على آخر. بالمقابل، جَدْل ترتبط بجدْل أنسجة على أصعدة شتى، صعيد القلب والعقل والحكمة والعافية والوجدان والطبيعة الشافية، وأيضا مع من وما حوله.
تكلّمتُ في الخاطرة 67 عن كيف تعبير ‘جودة التعليم’ يتعامل مع التعليم كسلعة. في هذه الخاطرة أود أن أذكر التخريب الخفي في النظرة للمعلم حيث يتضمن دونية في إدراكنا له. عندما كان عمري 11 سنة (1952)، كان خالي يعمل ميكانيكي سيارات في مركز مفوضية هيئة الأمم بالقدس. في يوم، جاء ومعه شخص أمريكي من المفوضية، وكان معه كلبٌ ضخم. خفت من الكلب وهربت بعيدا. ناداني صاحب الكلب وقال: لا تَخَف، فالكلب مدرَّب (بالإنكليزية trainingلا زلت أذكر الكلمة لأني اعتقدت أنه أحضر الكلب في قطار). لكن سرعان ما فسّر ذلك برمي قلم وطلب من الكلب أن يُحْضِره، ففعل. ثم قال للكلب: انبطح؛ انبطح. ثم أمره برفع رجلتيه بالهواء؛ رفع. ثم استعمل كلمة لا أذكرها لوصف الكلب، ترجمها خالي بأنه كلب مربى. غابت كلمة تدريب لفترة طويلة ثم عادت للظهور في أوائل عقد السبعينيات لكن بعلاقتها بالمعلمين. كلمة ‘معلم’ تشير إلى شخص يتأمل فيما يفعله ويكوّن معنى له، ويشارك آخرين به. من هذا المنطلق، أقرب كلمة بالانكليزية لكلمة ‘معلم’ هي professor بمعناها الحرفي a person who professes what is within him/ her أي، شخص يقول جهارة ما يشعر به في داخله. فَقَدَتْ الكلمة الانكليزية معناها الجميل وأصبحت تشير إلى رتبة، حيث لا يعني الشخص ما يقوله ولا يقول ما يعنيه بل يقول ما هو متوقع منه أن يقوله والذي لا يعكس بالضرورة ما يشعر به في داخله.